تراث الشيعة الفقهي والأصولي - ج ١

مهدي المهريزي ومحمد حسين الدرايتي

تراث الشيعة الفقهي والأصولي - ج ١

المؤلف:

مهدي المهريزي ومحمد حسين الدرايتي


الموضوع : الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-21-8
الصفحات: ٦٣٢

الإجماع هؤلاء : الإجماع عليه أيضا ؛ فتفطّن.

وربما يلوح أو يظهر من شيخنا الشهيد الثاني في جهاد الروضة (١) ، والمنسوب إلى ظاهر الذكرى ومجمع الفائدة الصحّة (٢) ، اختاره بعض الأعاظم من المشايخ ـ طاب ثراه ـ وعزاه إلى المشهور ؛ لأصالة حجّيّة الظنّ ؛ ومقبولة عمر بن حنظلة (٣) ، وما يقرب منها (٤).

وهذا كما ترى ، سيّما بعد ما مضى وسيأتي.

وهل يختصّ بصورتي التمكّن من المفتي الجامع للشرائط ، والعمل بالفتوى ابتداء ، أم لا ، بل يعمّهما وصورتي عدم التمكّن منه والاستدامة أيضا ؟ فيه إشكال وكلام ، تأتي الإشارة إلى وجهه مع ما هو الصواب فيما بعد.

هذا ، والمراد بالفقاهة هو البلوغ إلى درجتها ، بحيث صار فقيها في الاصطلاح ، أي:

عالما ـ ولو بالقوّة القريبة ـ بالأحكام وموضوعاتها الشرعيّة الفرعيّة التفصيليّة ، بالاستنباط عن أدلّتها المعتبرة ، بشرائطه المعتبرة المعروفة ، ومقدّماته ومباديه الملحوظة المذكورة في محلّها.

فما لم يحصل جميع ذلك واختلّ بشيء منه ، لم تحصل الفقاهة كما هو واضح على من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

[ السابع ] : العلم ـ ولو بواسطة حال الإفتاء ـ بكون ما أفتى به هو حكم الله وما قاله الشارع تعالى في الواقعة ، فلا يصحّ فتوى غير العالم كذلك به ، بلا خلاف ، بل عليه الإجماع القاطع ، كما يظهر أو يلوح من كلماتهم وعباراتهم في مقام نقل الإجماع على اشتراط كونه مجتهدا (٥) ، وفي غيره.

__________________

(١) الروضة البهيّة ، ج ٢ ، ص ٤١٨.

(٢) ذكرى الشيعة ، ج ١ ، ص ٤٣ ؛ مجمع الفائدة والبرهان ، ج ٧ ، ص ٥٤٧.

(٣) الكافى ، ج ١ ، ص ٦٧ ، ح ١٠. وقطعة منه أيضا في الكافي ، ج ٧ ، ص ٤١٢ ، ح ٥ ؛ الفقيه ، ج ٣ ، ص ٥ ، ح ١٨ ؛ التهذيب ، ج ٦ ، ص ٣٠١ ، ح ٨٤٥ ؛ وسائل الشيعة ، ج ٢٧ ، ص ١٣٦ ، ح ٣٣٤١٦.

(٤) انظر وسائل الشيعة ، ج ٢٧ ، ص ١٣٦ ، أبواب صفات القاضي ، الباب ١١.

(٥) انظر على سبيل المثال مفاتيح الاصول ، ص ٥٧١.

١٢١

وهو الحجّة ، مضافا إلى الأصل والاستصحاب ، والعمومات الدالّة على عدم جواز نقض اليقين إلّا باليقين ، والدالّة على عدم جواز التقليد والعمل بغير العلم وعدم حجّيّتهما ؛ وما دلّ على عدم صحّة فتوى غير المسلم والعادل ؛ فتأمّل.

مضافا إلى الآيات الدالّة على أنّ من لم يحكم بما أنزل الله : ﴿ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١) و: ﴿ الْفاسِقُونَ (٢) ، و: ﴿ الْكافِرُونَ (٣) ، وعلى المنع من القول والافتراء على الله سبحانه بما لا يعلم (٤) ، وفي الحلال والحرام (٥) .

والنصوص الكثيرة المتظافرة ، بل المتواترة معنى ، الدالّة على عدم جواز الفتوى بغير العلم وحرمته ، كالدالّة على التوقّف والوقوف عن القول عند عدم العلم (٦) ؛ فتدبّر.

ولا فرق في ذلك بين أن تكون الفتوى مطابقة للواقع ، أم لا ؛ ولا بين أن يكون جاهلا بالحكم أو ناسيا له ، أو عالما ولكن أفتى بخلافه عالما عامدا ؛ لعموم هذه الأدلّة.

[ الثامن ] : طهارة المولد ، فلا يصحّ فتوى ولد الزنى مطلقا ، كما صرّح به في كتاب قضاء الروضة (٧) ، وقوّاه سيّدنا الاستاد ـ دام ظلّه ـ في المفاتيح (٨) ؛ للإجماع المنقول عليه في الروضة.

مضافا إلى الأصل والاستصحاب ، وجملة من العمومات المشار إليها ، وما دلّ على اشتراط الإسلام في المفتي لو قلنا بكفره ، وما دلّ على اشتراط الإيمان والعدالة فيه لو لم نقل به (٩) ؛ لدلالة الأخبار الكثيرة المعتبرة على عدم دخوله في الحقيقة في الإيمان وأهله ، وخروجه عنه ؛ لعدم حبّه أو لبغضه قلبا لأهل بيت العصمة عليهم‌السلام.

ويلزمه أيضا العدالة في الواقع بالإضافة إليه.

__________________

(١) المائدة (٥) : ٤٥.

(٢) المائدة (٥) : ٤٧.

(٣) المائدة (٥) : ٤٤.

(٤) كما في الآية ٥٩ من سورة يونس (١٠) .

(٥) كما في الآية ١١٦ من سورة النحل (١٦) .

(٦) انظر وسائل الشيعة ، ج ٢٧ ، ص ٢٠ ، ح ٣٣١٠٠.

(٧) الروضة البهيّة ، ج ٣ ، ص ٦٢.

(٨) مفاتيح الاصول ، ص ٦١٣.

(٩) أي : لو لم نقل بكفر ولد الزنى.

١٢٢

وربما يلوح أو يظهر من كثير من العبائر عدم الاشتراط ، وهو على تقدير ثبوته لا وجه له ، عدا عموم بعض ما سيأتي ، وهو أيضا على فرض تسليمه بحيث يشمل ما نحن فيه مخصّص بما مضى جدّا.

وهل يختصّ بصورتي التمكّن من المفتي الجامع للشرائط ، والعمل الابتدائي بالفتوى ، أم لا ، بل يعمّهما وغيرهما أيضا ؟ فيه إشكال ، تأتي الإشارة إلى وجهه مع ما هو الصواب فيما بعد إن شاء الله سبحانه.

[ التاسع ] : الذكورة ، فلا يصحّ فتوى المرأة ، ولا الخنثى الملحق بها والمشكل مطلقا ، كما صرّح في قضاء الروضة (١) ، وجعله السيّد السند الاستاد ـ دام ظلّه ـ في المفاتيح في غاية القوّة (٢) ، ولعلّه اللائح من منية المريد وغيرها من العبائر (٣) ، بل في الروضة الإجماع عليه (٤) .

وهو الحجّة ، مضافا إلى الأصل والاستصحاب ، وجملة من العمومات المشار إليها ، مع عدم الدليل المعتبر الدالّ على التخصيص ؛ لاختصاص ما دلّ على الجواز والصحّة من الآيات والأخبار الآتية بالرجل.

ويؤيّده أو يعضده قوله سبحانه : ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى (٥) وعدم العبرة بشهادتهنّ في كثير من الموارد ولو في حقّهنّ (٦) ؛ فتأمّل.

وربما يلوح أو يظهر من جماعة من الأصحاب عدم الاشتراط ، وهو كما ترى غير واضح الوجه.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون العامل بالفتوى ذكرا أم انثى أم خنثى مطلقا ؛ لعموم ما مضى.

وهل يختصّ بالصورتين المشار إليهما ، أم لا ، بل يعمّهما وغيرهما أيضا ؟ فيه

__________________

(١) الروضة البهيّة ، ج ٣ ، ص ٦٢.

(٢) مفاتيح الاصول ، ص ٦١٣.

(٣) منية المريد ، ص ٢٨٩.

(٤) الروضة البهيّة ، ج ٣ ، ص ٦٢.

(٥) آل عمران (٣) : ٣٦.

(٦) انظر شرائع الإسلام ، ج ٤ ، ص ١٣٦.

١٢٣

إشكال تأتي الإشارة إلى وجهه مع ما هو الصواب فيما بعد بعون الله سبحانه.

[ العاشر ] : الحياة ، فلا تصحّ فتوى الميّت والعمل بها ابتداء مع التمكّن من فتوى الحيّ الجامع للشرائط على الأصحّ ، وفاقا للأكثر كما في الجعفريّة (١) ، وعن مجمع الفائدة وغيره (٢) .

بل المشهور كما في صريح بعض العبائر (٣) ، وعن صريح جماعة بل المعظم كما قيل (٤) ، بل لا خلاف يعتدّ به فيه يظهر ، بل ولعلّه عليه الإجماع كما في صريح كلام جماعة (٥) ، وظاهر اخرى (٦) .

ففي الذكرى : ظاهر العلماء المنع (٧) .

وفي شرح الألفيّة للمحقّق الشيخ عليّ ـ على ما حكي ـ : ويكون فيه إيماء [ لطيف ] إلى اعتبار كون المجتهد المأخوذ عنه حيّا ، فإنّ ذلك مذهب أصحابنا الإماميّة قاطبة ، وقد نادوا به في مصنّفاتهم الاصوليّة والفقهيّة (٨) .

وفي المسالك كذلك : وقد صرّح الأصحاب في هذا الباب في كتبهم المختصرة والمطوّلة وفي غيره ، باشتراط حياة المجتهد في جواز العمل بقوله ، وأنّ الميّت لا يجوز العمل بقوله ، ولم يتحقّق لي إلى الآن في ذلك خلاف ممّن يعتدّ بقوله من أصحابنا ، وإن كان للعامّة في ذلك خلاف مشهور (٩) .

__________________

(١) الجعفريّة ( مجموعة حياة المحقّق الكركي وآثاره ) ، ج ٤ ، ص ١٣٣.

(٢) حكاه عنه في مفاتيح الاصول ، ص ٦١٨ ، وهو في مجمع الفائدة والبرهان ، ج ٧ ، ص ٥٤٩.

(٣) قال به في منية المريد ، ص ٣٠٥.

(٤) قال به في مفاتيح الاصول ، ص ٦١٨.

(٥) انظر مفاتيح الاصول ، ص ٦١٨ ؛ وجواهر الكلام ، ج ٢١ ، ص ٤٠٢.

(٦) انظر تهذيب الوصول ، ص ٢٨٩.

(٧) ذكرى الشيعة ، ج ١ ، ص ٤٤.

(٨) حكاه عنه في مفاتيح الاصول ، ص ٦١٨ ؛ وهو في شرح الألفيّة ( مجموعة حياة المحقّق الكركي وآثاره ) ، ج ٧ ، ص ٢٥٣. وما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٩) مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٠٩.

١٢٤

وفي المقاصد العليّة كذلك : وفيه إشارة لطيفة إلى اشتراط حياة المجتهد المأخوذ عنه ، فإنّ ذلك هو المعروف من مذهب الإماميّة ، لا نعلم فيه مخالفا منهم وإن كان الجمهور قد اختلفوا في ذلك (١) .

وفي منية المريد قال : في جواز تقليد المجتهد الميّت مع وجود الحيّ أو لا معه ، للجمهور أقوال ـ إلى أن قال ـ : لا يجوز مطلقا ؛ لفوات أهليّته بالموت ، ولهذا ينعقد الإجماع بعده ـ ولا ينعقد في حياته ـ على خلافه ، وهذا هو المشهور بين أصحابنا ، خصوصا المتأخّرين منهم ، بل لا نعلم فائدة بخلافه صريحا ممّن يعتدّ بقوله (٢) .

وفي الرسالة المنسوبة إلى شيخنا الشهيد الثاني في عدم جواز تقليد الميّت ـ على ما حكي ـ : إنّا نتنزّل عن جميع ما تقدّم من الوجوه ، ونجوّز العمل بقول الفقيه الميّت ، بأن نجعله ممكنا بالإمكان الخاصّ ، بل نفرض قيام الدليل على صحّته ، وذلك كلّه غير مجوّز للعمل به بدون قائل من أصحابنا السابقين وعلمائنا الصالحين به ، كما هو الشرط في كلّ مسألة إذا لم تكن من الامور المتجدّدة التي يغلب على الظنّ أنّها ما خطرت للعلماء السابقين ، ولا بحثوا عنها ، وهذه المسألة ليست كذلك ، بل هي على طرف النقيض له ، فإنّهم قد ذكروها في كتبهم الاصوليّة والفقهيّة قاطعين فيها بما ذكرناه ، من أنّ النقل لا يجوز عن الميّت ، وأنّ قوله يبطل بموته من غير نقل خلاف واحد منهم فيها ، ونحن بعد التتبّع الصادق لما وصل إلينا من كلامهم ما علمنا بأحد من أصحابنا ممّن يعتبر قوله ويعوّل على فتواه خالف في ذلك ، فعلى مدّعي الجواز بيان القائل به على وجه لا يلزم منه خرق الإجماع (٣) .

وفي المعالم : ظاهر الأصحاب الإطباق على عدمه ، ثمّ قال : والعمل بفتاوى الموتى

__________________

(١) المقاصد العليّة في شرح الرسالة الألفيّة ، ص ٥١.

(٢) منية المريد ، ص ٣٠٥.

(٣) حكاه عنه في مفاتيح الاصول ، ص ٦١٩ ؛ وهو في رسالة في تقليد الميّت ( رسائل الشهيد الثاني ) ، ج ١ ، ص ٤٤.

١٢٥

في غيرها بعيد عن الاعتبار غالبا ، مخالف لما يظهر من اتّفاق علمائنا على المنع من الرجوع إلى فتوى الميّت مع وجود الحيّ ، بل قد حكي الإجماع فيه صريحا (١) .

وفي شرح الألفيّة لوالد شيخنا البهائي ـ على ما حكي ـ ففيه إيماء إلى اشتراط كونه حيّا كما عليه أصحابنا.

وفي شرحه الآخر لابن أبي جمهور الأحسائي كذلك قال : ولا كذلك المأخوذ من قول المفتي ، بل لا بدّ في جواز العمل بقوله من بقائه ، فلو مات بطل العمل بقوله ، ووجب الرجوع إلى غيره ؛ إذ الميّت لا قول له ، وعلى هذا انعقد إجماع الإماميّة ، وبه نطقت مصنّفاتهم الاصوليّة ، لا أعلم فيه مخالفا منهم (٢) .

وفي تعليقات السيّد الداماد على الذكرى ـ على ما حكي ـ عند قوله : وجوّز بعضهم ، يعني بعضا من علماء العامّة على ما في كتب الاصول ، فإنّا لا نعرف إلى الآن مخالفا في ذلك من أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ وفي كلام بعض الأصحاب الإجماع على عدم جواز العمل بقوله.

وفي موضع من كلام المحقّق البهبهاني ـ طاب ثراه ـ : بل هو وسائر المجتهدين اتّفقوا في ذلك ، حتّى إنّهم ادّعوا إجماع الشيعة على ذلك ، بل وعدّوا ذلك من ضروريّات مذهب الشيعة ، مثل حرمة العمل بالقياس ، وقياسهم بين الحيّ والميّت (٣) .

وفي آخر : وأمّا الإجماع فقد نقل الإجماع على منع حجّيّة قول الميّت ، وهذا هو الظاهر في فتاوى المعظم ، ونسب ذلك إلى الشيعة ، بل وعدّ من ضروريّات دينهم (٤) .

وفي آخر : وهنا نقلوا الإجماع على عدم الجواز ، بل وربما جعل من المعلوم من مذهب الشيعة (٥) .

__________________

(١) معالم الاصول ، ص ٢٧٩ ـ ٢٨٠.

(٢) حكاه عنه في مطارح الأنظار ، ص ٢٨٠ ، ص ١٢.

(٣) رسالة في عدم جواز تقليد الميّت ( الرسائل الفقهيّة ) ، ص ٧ وص ١٤.

(٤) المصدر.

(٥) المصدر.

١٢٦

وفي آخر : وأعجب من هذا أنّ الفقهاء لمّا قالوا بأنّ الفقيه إذا مات لا يكون قوله حجّة بل يموت قوله أيضا (١) .

وفي آخر : مع أنّهم نقلوا إجماع الشيعة على عدم الجواز ، أي جواز تقليد الميّت (٢) .

وفي آخر : وأيضا قد عرفت أنّ الشيعة بحسب الظاهر متّفقون على عدم جواز تقليد الميّت من المجتهد ، عكس العامّة (٣) .

وفي آخر : والفقهاء لا يجوّزون تقليد الميّت ، مع أنّه ادّعي إجماع الشيعة على المنع (٤).

وفي هداية الأبرار : وأمّا المتأخّرون من أصحابنا فحيث رأوا كثرة المجتهدين من الموتى ـ إلى أن قال ـ فحكموا بوجوب تقليد الحيّ وطرح قول الميّت ، وصار عندهم قول الميّت كالميّت من جملة الأمثال المشهورة ، وادّعوا على ذلك الإجماع (٥) .

وفي كلام بعض السادة الأجلّة من المشايخ طاب ثراه ـ على ما حكي ـ أنّ القول بالجواز لبعض العامّة ، بناء على أصلهم الفاسد ، وأمّا الأصحاب فمذهبهم المنع ، كما نصّ عليه غير واحد.

وفي المفاتيح للسيّد السند العلّامة الاستاد ـ دام ظلّه ـ ظهور الاتّفاق عليه (٦) .

وفي بعض العبائر : لنا عليه أوّلا الإجماعات المنقولة عن القدماء والمتأخّرين على عدم جواز العمل بقول الميّت مطلقا مع وجود الحيّ ، بل لا قائل به من القدماء والمتأخّرين. انتهى.

وهو الحجّة في هذا الباب ؛ مضافا إلى غيره من الوجوه :

منها : الأصل ، وتقريره : أنّ الحكم بجواز تقليد الميّت وصحّته ـ كوجوبه ـ حكم

__________________

(١) الفوائد الحائريّة ، ص ٢٦٠ ، ص ٣٩٧ وص ٥٠٠.

(٢) المصدر.

(٣) المصدر.

(٤) رسالة في عدم جواز تقليد الميّت ( الرسائل الفقهيّة ) ، ص ٤٥.

(٥) هداية الأبرار إلى طريق الأئمّة الأطهار ، ص ٣٠٣.

(٦) مفاتيح الاصول ، ص ٦١٩.

١٢٧

شرعيّ ، فتوقّف على دليل شرعيّ ، وهو مفقود ؛ فيجب حينئذ على من وجب عليه التقليد الاقتصار على تقليد الحيّ الجامع للشرائط مع الإمكان بسهولة ، كما هو المفروض ؛ لحصول العلم بالبراءة من التكليف الثابت يقينا معه ، دون غيره ؛ لعدم الدليل على اعتباره وحصول البراءة منه ، عدا ما توهّم الخصم ممّا سيأتي ، وستقف عن قريب على عدم صلاحيته للدلالة.

وكيفما كان ، فلا شبهة في أنّ الأصل هنا هو الفساد ، وعدم الصحّة ، وعدم المشروعيّة والحجّيّة ، وهو المدّعى.

ومنها : الاستصحاب ؛ إذ لا شكّ ولا شبهة في أنّ كلّا من الحجّيّة والمشروعيّة والصحّة من الأحكام الشرعيّة ، ولا شكّ في كونها حادثة مسبوقة بالعدم الأزلي ، فلا بدّ من الحكم ببقائها على الحالة السابقة اليقينيّة في هذا الحال ، عملا بالاستصحاب ؛ لعدم ثبوت الرافع اليقيني ، ولا القائم مقامه له.

ومنها : العمومات الدالّة على عدم جواز نقض اليقين إلّا باليقين ؛ بناء على مغايرتها للاستصحاب ، بالتقريب المشار إليه ، خرج المجتهد الحيّ الجامع للشرائط بالإجماع وغيره من الأدلّة ، وبقي الباقي ـ ومنه محلّ البحث ـ تحت العموم.

ومنها : العمومات الدالّة على عدم جواز التقليد والعمل بغير علم ، وعلى عدم حجّيّته وعدم مشروعيّته وعدم صحّته من الكتاب والسنّة ، خرج منها المجتهد الحيّ الجامع لشرائط الفتوى ؛ بالإجماع وغيره من الأدلّة المعتبرة ، ولا دليل على خروج ما نحن فيه عنها ، فيبقى مندرجا تحتها.

ومنها : قوله سبحانه في سورة الملائكة : ﴿ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ (١) فإنّه يدلّ على عدم التسوية بين الأحياء والأموات ، ويلزمه عدم صحّة فتوى الميّت ، وإلّا لكان فتواه مساوية لفتوى الحيّ ، وهو خلاف مفاد هذه الآية الشريفة.

__________________

(١) فاطر (٣٥) : ٢٢.

١٢٨

ومنها : قوله سبحانه : ﴿ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى (١) بناء على أنّ المستفاد منه : أنّ الهادي إلى الحقّ أحقّ بالاتّباع من غيره ، ولا شكّ في كون المفتي الحيّ هاديا إلى الحقّ ، وكون غير الحيّ منه غير هاد ، فيكون الأوّل أحقّ بالاتّباع من غيره بمنطوق الآية أو بفحواها ؛ فافهم.

ومنها : ما سيأتي إليه الإشارة في بيان عدم جواز تقليد الميّت استدامة ، من استلزام القول بالجواز التناقض أو الدور أو غيرهما من المفاسد ، بالتقريب الآتى إليه الإشارة ثمّة.

منها : العمومات ، من الأخبار المتكثّرة المعتبرة الدالّة على لزوم الأخذ بما خالف العامّة (٢) ، وعلى صحّة الأخذ بما وافق الخاصّة ولو بالالتزام ، الملزومة لعدم مشروعيّة تقليد الميّت ، وعدم صحّته وعدم حجّيّته ، لكونه (٣) [ قول ](٤) جمهورهم أو مشهورهم ، على ما مرّت إليه الإشارة ؛ فتدبّر.

منها : رواية يعقوب بن السرّاج الآتية.

ويؤيّد المختار أو يعضده امور :

منها : فحوى ما دلّ على عدم العبرة بفتوى المجتهد بعد صيرورته مجنونا أو مرتدّا أو فاسقا أو منحطّا عن درجة الاجتهاد (٥) ؛ إذ الموت أسوأ حالا من الجنون والارتداد والفسق والانحطاط ؛ فتأمّل.

منها : قوله سبحانه : ﴿ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦) بناء على أنّ المستفاد منه وجوب السؤال عن أهل الذكر عند عدم العلم ، ومن المعلوم أنّ الميّت ليس محلّا

__________________

(١) يونس (١٠) : ٣٥.

(٢) انظر وسائل الشيعة ، ج ٢٧ ، ص ١١٨ ، ح ٣٣٣٦٤ ، ح ٣٣٣٦٧.

(٣) أي : لكون جواز تقليد الميّت قول جمهورهم أو مشهورهم.

(٤) أضفناه لاستقامة المتن.

(٥) انظر حاشية الشرائع للمحقّق الكركي ( حياة المحقّق الكركي وآثاره ) ، ج ١١ ، ص ١١٤.

(٦) النحل (١٦) : ٤٣.

١٢٩

للسؤال ولا أهلا له ؛ فتأمّل.

ومنها : ما دلّ ـ من المعتبرة وغيرها ـ على عدم العبرة والفتوى بما لا يعلم ، وعلى اشتراط كون الفتوى بما يعلم ، ويلزمه عدم العبرة بفتوى الميّت ؛ لعدم العلم حينئذ بكونه فتوى بما يعلم ، والشكّ في الشرط يوجب الشكّ في المشروط ؛ فافهم.

ومنها : ما قاله جماعة ، من أنّه لا عبرة بقول الميّت ، وأنّه لا قول له (١) ؛ لانعقاد الإجماع بعده مع العلم بمخالفته ، فلو كان له قول لم ينعقد الإجماع ؛ فتأمّل.

ومنها : أنّه لو جاز تقليد الميّت لما وجب العمل بظنّ المجتهد ، وجاز العمل بما لا يظنّه ؛ والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

وأمّا الملازمة فلانعدام ظنّ المجتهد بموته ، كما صرّح به جماعة من الأصحاب ، ويلزمه ما ذكر من الملازمة.

وأمّا بطلان التالي فلعدم شمول ما دلّ على حجّيّة ظنّ المجتهد لصورة فقدان الظنّ ، واختصاصه بصورة وجدانه وبقائه ولو حكما ؛ فتأمّل.

ومنها : ما أشار إليه جماعة ، من أنّه لو جاز تقليد الميّت والعمل بفتواه ، لما وجب تقليد الأعلم من المجتهدين ، والتالي باطل ، فكذا المقدّم (٢) .

أمّا بطلان التالي ؛ فلما دلّ على وجوب تقليد الأعلم. وأمّا الملازمة فلتعذّر الوقوف لأهل العصر على الأعلم أو تعسّره ؛ فتأمّل.

ومنها : ما أشار إليه بعض الأعاظم من المشايخ ـ طاب ثراه ـ بقوله : وأيضا كما قال الميّت : إنّ الحكم كذا ، قال : إنّ الميّت لا قول له ، فإن كان قوله حجّة فقوله ليس بحجّة (٣) ؛ فتأمّل.

__________________

(١) انظر مبادي الوصول إلى علم الاصول ، ص ٢٤٨ ؛ تهذيب الوصول إلى علم الاصول ، ص ١٠٤ ؛ مفاتيح الاصول ، ص ٦٢٢.

(٢) انظر مفاتيح الاصول ، ص ٦٢١.

(٣) قال به الوحيد البهبهاني في رسالته : عدم جواز تقليد الميّت ( الرسائل الفقهية ) : ص ٧.

١٣٠

خلافا (١) للمحكيّ في بعض العبائر عن ظاهر فخر المحقّقين (٢) .

وفي آخر عن جمع من متأخّري المتأخّرين (٣) ، ولعلّهم الأخباريّون ، وإلّا فصدق الحكاية محلّ التأمّل.

وفي آخر عن جمع كثير من المتأخّرين من الأخباريّين ، كالمحدّث الكاشاني ، والسيّد نعمة الله الجزائري في منبع الحياة (٤) ، فيصحّ ويجوز العمل بفتواه ، وربما يستظهر من السيّد في الميافارقيّات (٥) ، ولعلّه عند التأمّل ليس بشيء.

وعزاه في الوافية إلى الصدوق أيضا في الفقيه ، ولا يخلو هذه النسبة ـ خصوصا عند التأمّل ـ عن شيء (٦) .

وفي الذكرى عزاه إلى بعضهم (٧) ، أي العلماء ، ولعلّه من العامّة ، كما استظهره جماعة (٨) وإن تأمّل فيه بعضهم ؛ (٩) فتأمّل.

وفي ظاهر هداية الأبرار عزاه إلى جماعة ، منهم السميّ : ابن فهد الحلّي (١٠) ، ولعلّ هذه النسبة أيضا عند التأمّل ليست بشيء.

وعزاه في بعض الكلمات إلى المولى السميّ : المقدّس في مجمع الفائدة (١١) ، ومال إليه بعض الفضلاء في رسالته في المسألة.

وصار إليه بعض الأعاظم من مشايخ العصر ـ طاب ثراه ـ في جملة من تحقيقاته ،

__________________

(١) يرجع إلى قوله : وفاقا للأكثر كما في الجعفريّة ...

(٢) حكاه عنه المحقّق الكركي في حاشية الشرائع ( حياة المحقّق الكركي وآثاره ) ، ج ١١ ، ص ١١٥.

(٣) انظر مطارح الأنظار ، ص ٢٨٠.

(٤) حكاه عنهم في مطارح الأنظار ، ص ٢٥٢ ؛ وانظر مفاتيح الشرائع ، ج ٢ ، ص ٥٢.

(٥) يأتي تخريجه.

(٦) الوافية ، ص ٣٠٥.

(٧) ذكرى الشيعة ، ج ١ ، ص ٤٤.

(٨) انظر مفاتيح الأصول ، ص ٦١٩ ؛ مطارح الأنظار ، ص ٢٥٣.

(٩) انظر مفاتيح الأصول ، ص ٦٢٠ ، حيث أجاب عن أدلّة القائلين بعدم الجواز.

(١٠) هداية الأبرار إلى طريق الأئمّة الأطهار ، ص ٣٠٣.

(١١) حكاه عنه في مفاتيح الاصول ، ص ٦١٩ ؛ وهو في مجمع الفائدة والبرهان ، ج ٧ ، ص ٥٤٧.

١٣١

وأصرّ عليه غاية الإصرار (١) .

وهذا القول مع ما فيه من الشذوذ ـ كما ترى ، سيّما بعد ما مضى ـ لا وجه له ، عدا وجوه ضعيفة قاصرة عن الدلالة عليه :

منها : أنّه لو لم يصحّ ولم يجز ذلك لزم الحرج ؛ واللازم باطل ، فكذلك الملزوم.

أمّا بطلان اللازم فظاهر بعد قيام الدليل من الكتاب والسنّة المعتبرة والإجماع ، بل العقل أيضا ـ ولو في الجملة ـ على نفي الحرج في الشريعة.

وأمّا الملازمة فلما نقل عن بعض من أنّ كثيرا من الأزمنة والأمكنة خال عن المفتي وعن التوصّل إليهم ، ولو لم يجز ذلك لزم الحرج.

وفيه ما لا يخفى من المنع المتوجّه إلى كلّ من الملازمة وبطلان اللازم ، خصوصا بعد ملاحظة كون المفروض إمكان الوصول إلى المفتي الحيّ الجامع للشرائط بسهولة ، ومعارضة العموم الدالّ على نفي الحرج في الشريعة بالمثل ، بل بالأرجح منه ممّا دلّ على المختار من العمومات ، فضلا عن الخصوص الدالّ عليه ، المؤيّد أو المعتضد بما مرّت إليه الإشارة.

مضافا إلى عدم انحصار المخلّص من الحرج في تقليد الميّت والعمل بفتواه ؛ لإمكان الاحتياط وغيره لو لم نقل بسقوط التكليف حينئذ رأسا ، فتفطّن.

مضافا إلى انتقاضه بما إذا لم يتمكّن من تقليد الميّت أيضا ومعارضته به ، وورود جميع ما ذكر حينئذ حرفا بحرف ، فكلّ ما هو المخلّص عن هذا ، فهو المخلّص عن ذاك ؛ فتأمّل.

ومنها (٢) : أنّه لو لم يصحّ ولم يجز ذلك لما أجمعوا على النقل عن السلف ، وعلى وضع الكتب ؛ والتالي باطل ، فكذا المقدّم.

__________________

(١) ولا يبعد أن يراد به المحقّق القمّي حيث ذهب إلى جواز تقليد الميّت وأصرّ على هذا ، انظر ما حكاه عنه في مطارح الأنظار ، ص ٢٥٧.

(٢) انظر هذه الأدلّة في مفاتيح الاصول ، ص ٦٢٠ ؛ مطارح الأنظار ، ص ٢٥٣.

١٣٢

أمّا بطلان اللازم فلإجماعهم ـ كما ترى ـ على ذلك. وأمّا الملازمة فلأنّه لا فائدة في الأمرين سوى التقليد ، ويلزمه الملازمة المدّعاة.

وفيه منع واضح يتوجّه على الملازمة من وجوه عديدة غير خافية.

ومنها : أنّه لو لم يجز تقليد الميّت ولم يصحّ العمل بفتواه لكان مساويا للجاهل.

والتالي باطل ، فكذا المقدّم.

أمّا الملازمة فظاهرة ، وأمّا بطلان اللازم فلقوله تعالى : ﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١) .

وفيه أيضا ما لا يخفى ، من المنع المتوجّه إلى بطلان اللازم من وجوه شتّى لا تكاد تخفى على المتأمّل.

ومنها : العمومات الدالّة على جواز التقليد وصحّة العمل بفتوى المفتي مطلقا.

وفيه منع واضح لا يخفى على المتأمّل فيها ، ولئن سلّم العموم فهو مخصّص بما مرّ جدّا ، ومع الغمض عنه فلا بدّ من التوقّف والرجوع إلى الأصل ، ومقتضاه المنع ، كما مرّ.

ومنها : الأصل والعمومات الدالّة على الإباحة.

وفيه أيضا ما لا يخفى ، سيّما على اولي النّهى.

ومنها : الاستصحاب ؛ إذ لا شبهة في صحّة التقليد والعمل بفتواه حال الحياة ، فكذا بعد الوفاة ؛ عملا بالاستصحاب.

وفيه أيضا ما لا يخفى ، أمّا أوّلا : فلأنّ الموضوع هو إمّا المفتي الحيّ الجامع للشرائط ، أو المفتي الجامع للشرائط بشرط الحياة ، والمفروض صيرورته ميّتا ، وبانتفاء الشرط يتغيّر الموضوع ، وانتفى المشروط ، فلا معنى للاستصحاب حينئذ.

وأمّا ثانيا : فلمعارضة هذا الاستصحاب بالاستصحاب الدالّ على الخلاف ،

__________________

(١) الزمر (٣٩) : ٩.

١٣٣

ولا شكّ في أنّ الترجيح مع هذا دون ذاك ؛ فتأمّل.

وأمّا ثالثا : فلأنّ الاستصحاب لا يعارض الدليل ، كما تقرّر في محلّه ؛ فتدبّر.

وأمّا رابعا : فلمعارضته ـ مع الغمض عمّا مرّ ـ بما هو أقوى وأرجح ممّا مرّ من وجوه شتّى لا تكاد تخفى ؛ فتأمّل.

ومنها : العمومات المانعة من نقض اليقين بغير اليقين على تقدير مغايرتها للاستصحاب ، بالتقريب المشار إليه.

وفيه أيضا ما لا يخفى ، سيّما بعد ما مضى آنفا وسابقا.

ومنها : أنّ الإنسان إذا علم أنّ جواز استفتاء المقلّد من المفتي إنّما لأجل كونه مخبرا عن الله تعالى ، يحصل له القطع بأنّ حياته ومماته ممّا لا يحتمل أن يكون مؤثّرا في ذلك.

وفيه ما لا يخفى من المنع ، وكونه مصادرة على المطلوب.

ومنها : عموم النبوي المرسل : « علماء امّتي كأنبياء بني إسرائيل » (١) إذ قضيّة عموم التشبيه والمنزلة صحّة العمل بفتوى الميّت ، وجواز العمل بقوله ، كما يجوز ويصحّ العمل بقول هؤلاء الأنبياء بعد الموت.

وفيه ما لا يخفى.

ومنها : ما قاله بعض الأعاظم من المشايخ طاب ثراه : من أنّه لا ريب أنّ الحياة والموت لا مدخليّة لهما في الظنّ بحكم الله الواقعي ، بل إنّما هو تابع للمأخذ ، فمتى يحصل الظنّ للمستفتي بحكم الله الواقعي ، تعيّن عليه الأخذ به ، سواء كان حيّا أو ميّتا.

وفيه ما لا يخفى ، أمّا أوّلا : فلأنّ هذا إنّما يتمّ لو كان التقليد والعمل بفتوى المفتي للمستفتي من باب الظنّ بالحكم الواقعي ، وهو أوّل الدعوى ، بل ممنوع. كيف ؟

__________________

(١) رواه العلّامة في كتاب تحرير الأحكام ، ج ١ ، ص ٣٨ ؛ وابن أبي جمهور في عوالي اللآلي ، ج ٤ ، ص ٧٧ ، ٦٧ والشهيد الثاني في منية المريد ، ص ١٨٢ ؛ والعلّامة المجلسي في بحار الأنوار ، ج ٢ ، ص ٢٢ ، ح ٦٦ ، و٢٤ ، ص ٣٠٧. وهذا الحديث لم يرد في المجاميع الحديثيّة القديمة.

١٣٤

والمفروض كون ذلك من باب التعبّد المحض ، أو الظنّ المخصوص بحكم ما ستقف عليه ، ومعه فلا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقّن والمجمع عليه فتوى ودليلا.

وأمّا ثانيا : فلتوقّف صحّة العمل للمستفتي ـ بالظنّ الحاصل له بالحكم الشرعي الواقعي ولو من فتوى الميّت ـ على قيام الدليل المعتبر على الصحّة كذلك ، وهو أوّل الدعوى ، بل عين المدّعى ، بل المفروض عدمه ، وقيام الدليل بل الأدلّة على عدم صحّته كذلك.

وأمّا ثالثا : فلأنّ غاية ما يلزم من ذلك إنّما هو الظنّ بالحكم الواقعي الشرعي ، لا نفسه ، والمكلّف به على تقدير كونه هو الحكم الواقعي الشرعي إنّما هو نفسه ، لا الظنّ به ، وهو غيره جدّا ، وقيام الظنّ من حيث هو مقامه إنّما يتمّ ويتّجه لو لم يكن هناك ما يقوم مقامه شرعا غير الظنّ ولو تعبّدا ، وأمّا لو كان هناك ذلك ـ كما هو المفروض بحكم ما مرّت إليه الإشارة وستعرفه مفصّلا ـ فلا ، كما لا يخفى على اولي النّهى.

وأمّا رابعا : فلأنّه لو كان المناط والمتّبع ـ بالإضافة إلى المستفتي ـ هو الحكم الشرعي الواقعي ، أو الظنّ به ، فليكن في هذه المسألة ـ أي مسألة عدم صحّة العمل بفتوى الميّت ـ أيضا كذلك ؛ ضرورة كونها أيضا من المواضع التي يكون المستفتي فيها مكلّفا بحكمها الواقعي الشرعي ، ومن البيّن أنّه لو قطع النظر عن كون المنع وعدم الصحّة مقطوع الثبوت بلا واسطة أو معها ، فلا أقلّ من الظنّ بأنّه الحكم الواقعي الشرعي ؛ نظرا إلى الشهرة العظيمة المحصّلة والمحكيّة في المسألة.

مضافا إلى الإجماعات المتكثّرة المنقولة ، وغيرها من الأدلّة ، فيتعيّن عليه الأخذ به حسبما مرّ ، ويلزمه عدم جواز العمل بفتوى الميّت وعدم صحّته ، بالإضافة إلى سائر الأحكام الشرعيّة لما عدا هذه الواقعة ؛ لعدم إمكان الصحّة والجواز هنا مع عدمهما ثمّة ، كما لا يخفى ؛ فافهم.

وأمّا خامسا : فلأنّه لو صحّ ذلك لزم جواز العمل بفتوى الصبيّ والمجنون والكافر والفاسق ومجهول الحال والجاهل ، حيثما يحصل له الظنّ بالحكم الشرعي الواقعي ،

١٣٥

مع أنّه لا يصحّ ولا يجوز قطعا بحكم ما عرفت ، فكلّ ما هو الجواب عن هذا فهو الجواب عن ذلك.

وأمّا سادسا : فلأنّه لو صحّ ذلك لزم التفصيل في المسألة ، واللازم باطل ، فكذا الملزوم.

أمّا الملازمة : فلأنّ مقتضى ذلك تعيّن الأخذ بأقوى الظنّين مع وجوده ، والتخيير مع عدمه ، سواء كان الفتوى من الحيّ أو الميّت ، وهذا عين التفصيل في المسألة.

وأمّا بطلان اللازم فلأنّه خلاف المفروض ، فإنّه من الجواز ـ بعنوان الإطلاق لا الوجوب ـ بالإضافة إلى بعض الصور ، والجواز بالإضافة إلى الاخرى ، والمنع بالإضافة إلى الثالثة.

مضافا إلى كونه خرقا للإجماع المركّب على الظاهر ، كما صرّح به السيّد السند الاستاد ـ دام ظلّه العالي ـ في المفاتيح (١) .

ومنها : ما قاله البعض أيضا ، من أنّ التتبّع يحكم بأنّ مراد الشارع هو تحصيل الأقرب إلى نفس الأمر ، لا مجرّد ما يقتضيه الدليل ، وفي مقبولة عمر بن حنظلة وما في معناها من الأخبار (٢) دلالة على ذلك بالنسبة إلى المجتهد والمقلّد كليهما.

وفيه أيضا ما لا يخفى من وجوه شتّى لا تكاد تخفى بعد ما مضى.

ومنها : أنّ قول الميّت يفيد الظنّ ، فيجب ويصحّ العمل به ؛ لعموم ما دلّ على حجّيّة الظنّ.

وفيه ما لا يخفى بعد ما مضى في الجواب عن الوجه العاشر ؛ لإرجاعه إليه ، وقربه منه لو لم يكن عينه.

مضافا إلى أنّه يتوجّه عليه أيضا أنّ المراد بإفادة قول الميّت للظنّ إمّا إفادته للمجتهد والمفتي ، وإمّا إفادته للمقلّد والمستفتي.

__________________

(١) مفاتيح الاصول ، ص ٦٢٣.

(٢) انظر وسائل الشيعة ، ج ١ ، ص ٣٤ ، ح ٥١.

١٣٦

فإن كان المراد هو الأوّل فالصغرى ممنوعة جدّا ، ولئن سلّمت الصغرى مماشاة فالكبرى ممنوعة ؛ لعدم الدليل الدالّ على حجّيّة هذا الظنّ في حقّ المجتهد والمفتي لا بالعموم ولا بالخصوص ، بل الدليل على عدمها بالعموم والخصوص ـ من الإجماع وغيره ـ قائم موجود كما لا يخفى.

وإن كان المراد هو الثاني ، فالصغرى وإن كانت مسلّمة ولو في الجملة ، إلّا أنّ الكبرى حينئذ ممنوعة جدّا ، فإنّ المراد بالعموم الدالّ على حجّيّة الظنّ إن كان ما دلّ على حجّيّة الظنّ في حقّ المجتهد والمفتي بعمومه ، فهو وإن كان مسلّما ، إلّا أنّه غير نافع كما ترى ؛ لعدم ارتباطه بما نحن فيه ؛ إذ مقتضاه إنّما هو حجّيّة الظنّ الحاصل للمجتهد والمفتي بالحكم الشرعي في حقّه من الدليل الشرعي ، فلا يشمل هذه الصغرى ، ولا تكون مندرجة تحت الكبرى ؛ إذ مقتضى الصغرى حصول الظنّ للمقلّد والمستفتي ، ومقتضى الكبرى حجّيّة ظنّ المجتهد والمفتي خاصّة ، فلا يتكرّر الأوسط ، فلا يحصل النتيجة.

وإن كان المراد ما دلّ على حجّيّة الظنّ في حقّ المقلّد والمستفتي ، فشمول الكبرى للصغرى واندراجها تحتها وتكرّر الأوسط وإن كان مسلّما ، إلّا أنّ الدليل الدالّ على حجّيّة ظنّ المستفتي والمقلّد من حيث هو ظنّ ممنوع ، فضلا عن عمومه وكلّيّته بحيث يشمل هذا الظنّ أيضا.

كيف ؟ والأدلّة المشار إليها دالّة على صحّة المختار وبطلان هذا القول وعدم حجّيّة هذا الظنّ ، ومع الغمض عن هذا فهو فرع بطلان القول المختار وصحّة هذا القول ، وهو عين المتنازع فيه والمدّعى ؛ فيلزم الدور المحال أو المصادرة ، وما هذا حاله فلا يصحّ للدلالة.

فإن قيل : الدليل الدالّ على صحّة أصالة حجّيّة ظنّ المجتهد وتماميّتها ـ كدليل الانسداد ، وقاعدة لزوم ترجيح الراجح وبطلان ترجيح المرجوح ، ولزوم دفع الضرر المظنون ، ونحو ذلك ـ كما يدلّ على حجّيّة ظنّ المجتهد والمفتي الحيّ وصحّة

١٣٧

العمل بفتواه بالإضافة إليه وإلى المقلّد له ، فكذلك يدلّ على حجّيّة ظنّ الميّت منه والعمل بفتواه بالإضافة إلى المقلّد أيضا.

قلت : هذا كما ترى بيّن البطلان ؛ لعدم انسحاب هذه الأدلّة هنا بالتقريب المشار إليه ، والقياس أيضا غير معتبر عندنا ، سيّما إذا كان مع الفارق كما هنا ؛ إذ لا يقول به أحد حتّى العامّة أيضا ؛ فافهم.

وكيف ما كان ، فهذا القول ضعيف.

وأضعف منه القول بعدم جواز التقليد والاستفتاء والعمل بفتوى المفتي إذا لم يكن مستنده الكتاب والسنّة مطلقا حيّا كان أو ميّتا ، وبالجواز والمشروعيّة والصحّة إذا كان مستنده ذلك ، كما هو مختار المحدّث محمّد الطاهر القمّي في حجّة الإسلام (١) .

والقول (٢) بأنّ كلّ قول يستند إلى كلام الأئمّة عليهم‌السلام فهو باق لا يموت بموت قائله ، سواء كان حيّا أو ميّتا ، وما يستند إلى الظنون التي تخطئ وتصيب فمردود على قائله ، سواء كان حيّا أو ميّتا ، كما اختاره في هداية الأبرار (٣) .

والقول (٤) بالجواز والصحّة بالإضافة إلى فتوى من علم من حاله أنّه لا يفتي إلّا بمنطوقات الأدلّة ومدلولاتها الصريحة أو الظاهرة الواضحة دون الأفراد الخفيّة للعمومات واللوازم الغير البيّنة اللزوم للملزومات ـ كالصدوقين ومن شابههما من القدماء ـ حيّا كان أو ميّتا. وعدم الجواز والصحّة بالإضافة إلى فتوى من يعمل باللوازم والأفراد الخفيّة حيّا كان أو ميّتا ، كما اختاره في الوافية (٥) .

__________________

(١) حجّة الإسلام في شرح تهذيب الأحكام ، للمولى محمّد طاهر بن محمّد حسين الشيرازي النجفي القمي ، المتوفّى والمدفون بها خلف مرقد زكريّا بن آدم في سنة : ١٠٩٨ ، ويروي عنه الشيخ الحرّ العاملي والعلّامة المجلسي ، وقبل شروعه في شرح أحاديث تهذيب الأحكام قدّم مقدّمة في اصول الفقه والكلام. انظر الذريعة ، ج ٦ ، ص ٢٥٧ ، الرقم ١٤٠٦. ولم نعثر على هذا الكتاب.

(٢) أي : وأضعف منه القول بأنّ ...

(٣) هداية الأبرار ، ص ٣٠٤.

(٤) أي : وأضعف منه القول بالجواز ...

(٥) الوافية ، ص ٣٠٧.

١٣٨

إذ الجميع كما ترى ، مع أنّه قول بالفصل في المسألة ، لا دليل عليه يعتدّ به ، بل الدليل المعتبر ـ كما عرفته ـ على فساده قائم ؛ فقول (١) هزل لا يعبأ به ، ولا يلتفت إليه جدّا.

وكيف ما كان ، فالمعتمد هو القول المختار ، كما لا يخفى على اولي الأبصار والأنظار.

وهل يختصّ هذا الحكم هنا بالصورتين المشار إليهما ، أم لا ، بل يعمّهما وغيرهما أيضا ؟

فيه خلاف وإشكال يأتي إليه الإشارة مع ما هو الصواب فيما بعد إن شاء الله سبحانه.

[ الحادي عشر ] : أن لا يكون هناك مفت آخر ـ جامع للشرائط يتمكّن المستفتي من الرجوع إليه والعمل بفتواه بسهولة ـ أعلم من هذا المفتي ، فلو كان لم يصحّ له العمل ابتداء بفتواه على الأظهر الأشهر بين أصحابنا ، كما عن المسالك (٢) ، بل المشهور ، بل المعظم ، بل لا خلاف يعتدّ به فيه يظهر ، بل ولعلّه عليه الإجماع ، كما في صريح كلام جماعة (٣) ، وظاهر اخرى (٤) .

ففيما يحضرني الآن من نسخة حاشية الشرائع للمحقّق الشيخ عليّ ـ طاب ثراه ـ :

لو جاز العمل بقول الفقيه بعد موته ، امتنع في زماننا هذا ؛ للإجماع على وجوب تقليد الأعلم والأورع من المجتهدين ، والوقوف لأهل العصر على العلم والورع بالنسبة إلى الأعصر السابقة كاد أن يكون ممتنعا (٥) .

وفي تمهيد القواعد لشيخنا الشهيد الثاني طاب ثراه : فإن سأل جماعة فاختلفت فتاواهم ، فقال قوم : لا يجب عليه البحث عن أورعهم وأعلمهم ، وقال آخرون : يجب

__________________

(١) خبر لقوله : « القول بأنّ كل قول ... » وقوله : « والقول بالجواز والصحّة ... »

(٢) مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٠٩.

(٣) منهم المحقّق الكركي في حاشية الشرائع ( حياة المحقّق الكركي وآثاره ) ، ج ١١ ، ص ١١٣ ؛ والشهيد الثاني في مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٠٩ ، تمهيد القواعد ، ص ٣٢١ ، قاعدة ١٠٠.

(٤) كما في زبدة الأصول ، ص ١٢٠.

(٥) حاشية شرائع الإسلام ( حياة المحقّق الكركي وآثاره ) ، ج ١١ ، ص ١١٤.

١٣٩

عليه ذلك وهو الحقّ عندنا ، وهو مرويّ في مقبولة عمر بن حنظلة المشهورة (١) .

وفي منية المريد له : إذا اجتمع اثنان فأكثر ممّن يجوز استفتاؤهم ، فإن اتّفقوا في الفتوى أخذ بها ، وإن اختلفوا وجب عليه الرجوع إلى الأعلم الأتقى ، فإن اختلفوا في الوصفين رجع إلى أعلم الورعين وأورع العالمين ، فإن تعارض الأعلم والأورع قلّد الأعلم ، فإن جهل الحال أو تساووا في الوصف تخيّر وإن بعد الفرض ، وربما قيل بالتخيير مطلقا ؛ لاشتراك الجميع في الأهليّة ، وهو قول أكثر العامّة ، ولا نعلم به قائلا منّا ، بل المنصوص عندنا هو الأوّل (٢) .

وفي الرسالة المنسوبة إليه في عدم جواز تقليد الميّت ـ على ما حكي ـ : لو جاز العمل بقول الفقيه بعد موته ، امتنع في زماننا هذا ؛ للإجماع على وجوب تقليد الأعلم والأورع من المجتهدين (٣) .

وفي مجمع الفائدة ـ على ما حكي ـ : وقد ادّعي الإجماع عليه (٤) .

وفي المعالم : وهو قول الأصحاب الذين وصل إلينا كلامهم ، ثم قال : والاعتماد على ما عليه الأصحاب (٥) .

وفي الزبدة لشيخنا البهائي ـ طاب ثراه ـ : وتقليد الأفضل متعيّن عندنا ، وهم مختلفون (٦) .

وفي كلام بعض الفضلاء : الإجماع منعقد على وجوب تقليد الأعلم والأورع من المجتهدين (٧) .

وفي كلام بعض الأعاظم من المشايخ ـ طاب ثراه ـ : فالمعروف من مذهب أصحابنا

__________________

(١) تمهيد القواعد ، ص ٣٢١.

(٢) منية المريد ، ص ٣٠٤.

(٣) انظر رسائل الشهيد الثاني ، ج ١ ، ص ٢٠ وهذه العبارة بعينها موجودة في الوافية ، ص ٣٠١ ، أيضا.

(٤) حكاه عنه في مفاتيح الاصول ، ص ٦٢٧ ؛ وهو في مجمع الفائدة والبرهان ، ج ٢ ، ص ٢١.

(٥) معالم الاصول ، ص ٢٧٨.

(٦) زبدة الاصول ، ص ١٢٠.

(٧) وهو الشهيد الثاني ، قال به في كتابه حقائق الإيمان ، ص ٢٠١.

١٤٠