تراث الشيعة الفقهي والأصولي - ج ١

مهدي المهريزي ومحمد حسين الدرايتي

تراث الشيعة الفقهي والأصولي - ج ١

المؤلف:

مهدي المهريزي ومحمد حسين الدرايتي


الموضوع : الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-21-8
الصفحات: ٦٣٢

لا يعرف نسبه ، حتّى يكون هو الإمام. وفرض ذلك لا يكاد يكون محالا ، مع أنّه لا يلزم منه كونه الإمام كما لا يخفى.

وتارة يقولون : لا بدّ من العلم بدخول قول الإمام.

وتارة يقولون : إذ اختلف الامّة في مسألة فلا بدّ للإمام أن يظهر قوله فيهم ، إمّا بظهوره لهم وإعلامهم بالحقّ ، أو بإعلام من يوثق بقوله ممّن له معجز يدلّ على صدقه حتّى يزول عنهم الاختلاف. ولا يخفى أنّ هذا أوضح فسادا وأظهر بطلانا.

وتارة يقولون : لا يجب ظهور الإمام ؛ لأنّا كنّا نحن السبب في استتاره.

وتارة يقولون : لو لم يجب دخوله فيهم لما أمكن الاحتجاج بالإجماع. وكلّ ذلك كما ترى لا يمكن التعويل عليه.

ولا بأس بنقل كلام رئيس الطائفة الشيخ الطوسي في كتاب العدّة ليتبيّن (١) بعض ما ذكرناه من الاختلاف والاضطراب ، قال قدس‌سره ما هذا لفظه :

فصل : في كيفيّة العلم بالإجماع ، ومن يعتبر قوله فيه :

إذا كان المعتبر في كونه حجّة قول الإمام المعصوم ، فالطريق إلى معرفة قوله شيئان :

أحدهما : السماع منه والمشاهدة لقوله.

والثاني : النقل عنه وما يوجب (٢) العلم ، فيعلم بذلك قوله.

هذا إذا تعيّن لنا قول الإمام ، فإذا لم يتعيّن ولم ينقل نقلا يوجب العلم ، ويكون قوله في جملة أقوال الامّة غير مميّزة عنها ، فإنّه يحتاج إلى أن ينظر في أحوال المختلفين : فكلّ من خالف ممّن يعرف نسبه ـ ويعلم منشأه وعرف أنّه ليس هو الإمام الذي دلّت الدلائل على عصمته وكونه حجّة ـ وجب إطراح قوله وأن لا يعتدّ به ، وتعتبر أقوال الذين لا يعرف نسبهم ؛ لجواز أن يكون كلّ واحد منهم هو الإمام الذي هو الحجّة ، وتعتبر أقوالهم في [ باب ] كونهم حجّة ـ إلى أن قال : ـ

__________________

(١) الف ، ب : لتبيين.

(٢) في المصدر : بما يوجب ؛ بدل : وما يوجب.

٤٢١

[ فإن قيل : ] فما قولكم إذا اختلفت الإماميّة في مسألة ، كيف تعلمون أنّ قول الإمام داخل في جملة بعضها دون بعض ؟

قلنا : إذ اختلفت الإماميّة في مسألة ، نظرنا في تلك المسألة : فإن كان عليها دلالة توجب العلم من كتاب أو سنّة مقطوع بها تدلّ على صحّة بعض تلك الأقوال المختلفة ، قطعنا أنّ قول المعصوم موافق لذلك القول ، مطابق له ، وإن لم يكن على أحد الأقوال دليل يوجب العلم ، نظرنا في حال المختلفين : فكلّ من عرفناه بعينه ونسبه قائلا بقول والباقون قائلون بالقول الآخر ، لم نعتبر قول من عرفناه ؛ لأنّا نعلم أنّه ليس فيهم الإمام المعصوم الذي قوله حجّة.

فإن كان في الفريقين أقوام لا تعرف أعيانهم ولا أنسابهم ، وهم مع ذلك مختلفون ، كانت المسألة من باب ما نكون فيها مخيّرين بأيّ القولين شئنا أخذنا ، ويجري ذلك مجرى الخبرين المتعارضين اللذين لا ترجيح لأحدهما على الآخر على ما مضى القول فيما تقدّم.

وإنّما قلنا ذلك لأنّه لو كان الحقّ في أحدهما لوجب أن يكون ممّا يمكن الوصول إليه ، فلمّا لم يكن دلّ على أنّه من باب التخيير.

ومتى فرضنا أن يكون الحقّ في واحد من الأقوال ، ولم يكن هناك ما يميّز ذلك القول من غيره ، فلا يجوز للإمام المعصوم حينئذ الاستتار ، ووجب عليه أن يظهر ويبيّن الحقّ في تلك المسألة ، أو يعلم بعض ثقاته الذين يسكن إليهم الحقّ من تلك الأقوال حتّى يؤدّي ذلك إلى الامّة ، ويقترن بقوله علم معجز يدلّ على صدقه ؛ لأنّه متى لم يكن كذلك لم يحسن التكليف.

وفي علمنا ببقاء التكليف وعدم ظهوره أو ظهور ، من يجري مجراه دليل على أنّ ذلك لم يتّفق. (١)

ثمّ بالغ في وجوب إظهار الحقّ على الإمام بكلام طويل إلى أن قال :

وقال السيّد المرتضى عليّ بن الحسين الموسوي أخيرا : إنّه يجوز أن يكون

__________________

(١) العدّة في اصول الفقه ، ج ٢ ، ص ٦٢٨ ـ ٦٣١.

٤٢٢

الحقّ فيما عند الإمام والأقوال الأخر يكون كلّها باطلة ، ولا يجب الظهور ؛ لأنّا كنّا نحن السبب في استتاره ، وكلّ ما يفوتنا من الانتفاع به وبتصرّفه وبما معه من الأحكام يكون قد اتينا من قبل نفوسنا ، ولو أزلنا سبب الاستتار لظهر وانتفعنا به ، وأدّى إلينا الحقّ الذي عنده.

وهذا عندي غير صحيح ؛ لأنّه يؤدّي إلى أن لا يصحّ الاحتجاج بإجماع الطائفة أصلا ؛ لأنّا لا نعلم دخول الإمام فيها إلّا بالاعتبار الذي بيّنّاه ، فمتى جوّزنا انفراده وقلنا لا يجب ظهوره ، منع ذلك من الاحتجاج بالإجماع.

انتهى كلام الشيخ قدس‌سره. (١)

ولا يخفى قوّة كلام المرتضى رضي الله عنه وأنّه هو الذي يجب المصير إليه هنا ، ولا بدّ من تحقيق دخول الإمام بما ذكرناه سابقا ، ولو وجب ظهور الإمام عند وجود الاختلاف لظهر واشتهر ووجد له أثر ؛ إذ الاختلاف بين الاصوليّين وأخباريّين واقع في أكثر المسائل اصولا وفروعا ، والأدلّة متعارضة ، والأقوال متباينة ، وفي عدم ظهوره عليه‌السلام وإزالة الاختلاف عنهم دليل واضح على صحّة كلام السيّد المرتضى رضي الله عنه هنا ؛ والله الموفّق.

الفصل العاشر

في بيان الأحاديث المجمع عليها عموما أو خصوصا

أقول : تحقيق الإجماع هنا سهل ، وأمره واضح ؛ فإنّا نقطع بالتتبّع وتصريح علمائنا أنّ الاصول الأربعمائة قد أجمعوا على صحّتها (٢) ، وكانت في زمن الكليني والشيخ والصدوق في غاية الشهرة والظهور ، وصرّح بذلك جمع كثير من المحقّقين ،

__________________

(١) المصدر ، ص ٦٣١. ولم نعثر على قول السيّد المرتضى ولكن انظر الذريعة إلى اصول الشريعة ، ج ٢ ، ص ٦٠٥ و٦٠٦.

(٢) انظر الرعاية في علم الدراية ، ص ٧٢ ، وبه صرّح الأسترآبادي في فوائد المدنيّة ، ص ١٧٨. منهم الشهيد الثاني في شرح البداية في علم الدراية ، ص ١٧ ، والشيخ البهائي في مشرق الشمسين ، ص ٢٦.

٤٢٣

ولم يظهر من أحد منهم طعن في شيء منها ، وأكثرها عرضت على الأئمّة ، ومعلوم بالتتبّع أيضا أنّها كتبت في حضور الأئمّة بأمرهم ، والأخبار الواردة في هذا المعنى متواترة لا تقبل التشكيك ، ولو أردنا جمعها أو ذكر بعضها لأدّى إلى الإطناب ، وكون الحديث موجودا في كتاب خاصّ ظاهر جدّا.

وقد أخبر وصرّح الأئمّة الثلاثة بصحّة أحاديث كتبهم (١) ، ونقلها من تلك الاصول المجمع عليها ، وهذا الإجماع قد علم دخول المعصوم فيه ؛ لما ذكرنا أنّهم أمروا بكتابتها ، ثمّ عرضت عليهم ، وأمروا بالعمل بها وأثنوا على مصنّفيها.

وكذلك أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عن ثمانية عشر رجلا من رواة الحديث ، الذي رووا أكثر أحاديثنا الموجودة في الكتب الأربعة ونحوها.

وهذا الإجماع أيضا قد تلقّاه الأصحاب بالقبول ، ولم يطعن فيه أحد منهم ، ومستنده هو الأحاديث الواردة عن الأئمّة عليهم‌السلام بالأمر بالرجوع إلى الرواة المذكورين (٢) ، والعمل برواياتهم في أحاديث كثيرة جدّا قد مضى بعضها.

وقد ذكر الجماعة المشار إليهم ونقل الإجماع على تصحيح ما يصحّ عنهم الشيخ الجليل أبو عمرو الكشّي في كتاب الرجال ، حيث قال :

قال الكشّي : أجمعت العصابة على تصديق هؤلاء الأوّلين من أصحاب أبي جعفر وأصحاب أبي عبد الله عليهما‌السلام وانقادوا لهم بالفقه ، فقالوا : أفقه الأوّلين ستّة : زرارة ، ومعروف بن خرّبوذ ، وبريد ، وأبو بصير الأسدي ، والفضيل بن يسار ، ومحمّد بن مسلم الطائفي. قالوا : وأفقه الستّة زرارة. وقال بعضهم مكان أبي بصير الأسدي : أبو بصير المرادي ، وهو ليث بن البختري.

حدّثنا الحسين بن الحسن بن بندار القمّي قال : حدّثني سعد بن عبد الله قال :

__________________

(١) انظر الكافي ، ج ١ ، ص ٨ ؛ الفقيه ، ج ١ ، ص ٣ ؛ تهذيب الأحكام ، ج ١ ، ص ٣ ؛ الاستبصار ، ج ١ ، ص ٢.

(٢) انظر رجال الكشّي ، ج ١ ، ص ٣٤٧ ، ح ٢١٦ ؛ وج ٢ ، ص ٧٧٩ وص ٧٨٤ ، ح ٩١٠ و٩٣٥ ؛ وبحار الأنوار ، ج ٢ ، ص ٢٤٦ ؛ وص ٢٥١ ، ح ٥٨ و٦٧ و٦٨.

٤٢٤

حدّثني محمّد بن عبد الله المسمعي قال : حدّثني عليّ بن حديد وعليّ بن أسباط عن جميل بن درّاج قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « أوتاد الأرض وأعلام الدين أربعة : محمّد بن مسلم ، وبريد بن معاوية ، وليث بن البختري المرادي ، وزرارة بن أعين » .

وبهذا الإسناد عن محمّد بن عبد الله المسمعي ، عن عليّ بن أسباط ، عن محمّد بن سنان ، عن داود بن سرحان قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « إنّي لأحدّث الرجل بحديث (١) وأنهاه عن القياس ، فيخرج من عندي ، فيتأوّل حديثي على غير تأويله ، إنّي أمرت قوما أن يتكلّموا ونهيت قوما ، فكلّ يتأوّل لنفسه ، يريد المعصية لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلو سمعوا وأطاعوا لأودعتهم ما أودع أبي أصحابه ، إنّ أصحاب أبي كانوا زينا ، أحياء وأمواتا ، أعني زرارة ومحمّد بن مسلم ، ومنهم ليث المرادي وبريد العجلي ، هؤلاء قوّامون بالقسط ، هؤلاء قوّالون بالصدق ، هؤلاء السابقون السابقون اولئك المقرّبون. (٢) انتهى.

ثمّ قال في موضع تسمية الفقهاء من أصحاب أبي عبد الله : أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء ، وتصديقهم لما يقولون ، وأقرّوا لهم بالفقه ، من دون اولئك الستّة الذين عدّدناهم وسمّيناهم ستّة نفر : جميل بن درّاج ، وعبد الله بن مسكان ، وعبد الله بن بكير ، وحمّاد بن عيسى ، وحمّاد بن عثمان ، وأبان بن عيسى ، قالوا : وزعم أبو إسحاق الفقيه ـ يعني ثعلبة بن ميمون ـ أنّ أفقه هؤلاء جميل بن درّاج ، وهم أحداث أصحاب أبي عبد الله. (٣)

ثمّ قال في موضع تسمية الفقهاء من أصحاب أبي إبراهيم عليه‌السلام وأبي الحسن الرضا عليه‌السلام : أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء وتصديقهم ، وأقرّوا لهم بالفقه والعلم ، وهم ستّة نفر آخر دون الستّة الذين ذكرناهم في أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام منهم : يونس بن عبد الرحمن ، وصفوان بن يحيى بيّاع

__________________

(١) في المصدر : + وأنهاه عن الجدال والمراء في دين الله تعالى.

(٢) رجال الكشّي ، ج ٢ ، ص ٥٠٧ ، ح ٤٣١ ـ ٤٣٣.

(٣) رجال الكشّي ، ج ٢ ، ص ٦٧٣ ، ح ٧٠٥.

٤٢٥

السابري ، ومحمّد بن أبي عمير ، وعبد الله بن المغيرة ، والحسن بن محبوب ، وأحمد بن محمّد بن أبي نصر. وقال بعضهم مكان الحسن بن محبوب : الحسن بن عليّ بن فضّال وفضالة بن أيّوب ، وقال بعضهم مكان ابن فضّال : عثمان بن عيسى. وأفقه هؤلاء يونس بن عبد الرحمن وصفوان بن يحيى. (١) انتهى.

وقد عرفت أنّ مستند هذا الإجماع هو النصوص عن الأئمّة ، فعلم دخول المعصوم فيه ، مع أنّه من إجماعات الأخباريّين الذين لا يجمعون بل لا يقولون إلّا بنصّ صحيح صريح.

ولذلك قال الشيخ في كتاب العدّة : أجمعت الطائفة على صحّة مراسيل جماعة من الرواة ، كما أجمعت على صحّة مسانيدهم ، كمحمّد بن أبي عمير ، وأحمد بن محمّد بن أبي نصر ، وغيرهما. (٢)

والظاهر أنّ مراده جميع أصحاب الإجماع الذين أجمعوا على تصحيح رواياتهم كما مرّ ، فإنّ ذلك أعمّ من كونها مسندة أو مرسلة ، وهذه الصحّة بمعنى الثبوت عن المعصوم بالقرائن التي من جملتها ثقة الراوي وجلالته.

وسند الإجماع هنا قد عرفته ، وليس المراد أنّه بالتتبّع علم أنّ المذكورين لا يرسلون إلّا عن ثقة كما قيل (٣) ؛ لأنّ ضعف الراوي لا ينافي الصحّة بهذا المعنى لكثرة القرائن غير ثقة الراوي.

وقال الشيخ أيضا في كتاب العدّة : أجمعت الطائفة على العمل بروايات السكوني

__________________

(١) رجال الكشّي ، ج ٢ ، ص ٨٣٠ ، ح ١٠٥٠.

(٢) العدّة في اصول الفقه ، ج ١ ، ص ١٥٤ ، كذا قال : « ولأجل ذلك سوّت الطائفة بين ما يرويه محمّد بن أبي عمير وصفوان بن يحيى وأحمد بن محمّد بن أبي نصر وغيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنّهم لا يروون ولا يرسلون إلّا عمّن يوثق به وبين ما أسنده غيرهم ، ولذلك عملوا بمراسيلهم إذا انفردوا عن رواية غيرهم » .

(٣) انظر ذكرى الشيعة ، ج ١ ، ص ٤٩ ، وشرح البداية في علم الدراية ، ص ٥١.

٤٢٦

وعمّار ومن ماثلهما من الثقات. (١)

أقول : استفاد بعض المتأخّرين توثيق السكوني من هذا الإجماع ومن الحكم بالمماثلة للثقات. (٢)

وفيه : أنّه يحتمل كون المماثلة في فساد المذهب لكنّ الإجماع على العمل برواياته أوثق من التوثيق ، إذ لم يحصّل مثله إلّا للقليل من الثقات كما هو ظاهر.

وقد ذكر الشيخ في أوّل الاستبصار وغيرها أنّ كلّ حديث لا معارض له فهو مجمع عليه ؛ إذ لم ينقلوا ما يعارضه فقد أجمعوا على نقله ، وكأنّهم أجمعوا على وجوب العمل به ، وعدم إرادة غير ظاهره من تقيّة أو تأويل أو نحوهما. (٣)

وذكر في آخر التهذيب والاستبصار وغيرهما أنّ كلّ حديث عمل به فيهما أو في غيرهما أخذه من الاصول المجمع عليها. (٤)

وقد صرّح جماعة من العلماء والمحقّقين في كتب الرجال والحديث وغيرها بوقوع الإجماع على صحّة أحاديث كثيرة وكتب متعدّدة ، يعلم ذلك بالتتبّع ، وكلّ حديث ثابت موافق للإجماع معتبر فهو مجمع عليه خصوصا وهذا القسم أكثر من أن يحصى ، وأظهر من أن يخفى.

والذي يظهر أنّ قول السيّد المرتضى بعدم حجّيّة خبر الواحد ، واعتماده في جميع المسائل على الإجماع إنّما هو باعتبار أنّ أحاديث الاصول الأربعمائة وأمثالها ممّا كان

__________________

(١) لم نعثر على هذه العبارة في العدّة ، وعبارته فيها ( ج ١ ، ص ١٤٩ ) هكذا : « ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث وغياث بن كلوب ونوح بن درّاج والسكوني وغيرهم من العامّة عن أئمّتنا عليهم‌السلام فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه » . نعم حكى هذه العبارة عن بعض كتب الشيخ الطوسي المحقّق الحلّي في الرسالة العزية المطبوعة ضمن الرسائل التسع ، ص ٦٥ ، فراجع.

(٢) انظر المعتبر ، ج ١ ، ص ٢٥٢ ؛ وحاشية مجمع الفائدة والبرهان ( للوحيد البهبهاني ) ، ص ٥٤٦.

(٣) الاستبصار ، ج ١ ، ص ٤ ؛ العدّة في اصول الفقه ، ج ١ ، ص ١٢٦.

(٤) لم نعثر بهذا النصّ في التهذيب والاستبصار ، ولكن قال في التهذيب ، ج ٤ ، ص ١٦٨ ذيل الحديث ٥٨٢ ، وفي الاستبصار ، ج ٢ ، ص ٦٦ ذيل الحديث ٢١٥ : « وهذا الخبر لا يصحّ العمل به من وجوه : أحدها أنّ متن هذا الخبر لا يوجد في شيء من الاصول المصنّفة ، وإنّما هو موجود في الشواذّ من الأخبار » .

٤٢٧

مشهورا في زمانه غاية الشهرة قد خرجت بإجماع الطائفة على صحّتها من باب خبر الواحد ، وصار الاعتماد في الحقيقة على ذلك الإجماع الذي دخل فيه المعصوم بل المعصومون ، مع تواتر تلك الكتب في ذلك الوقت ، ولا ريب أنّ الكتب الأربعة المتواترة الآن منقولة من تلك الاصول بالنصوص الواضحة والأدلّة الكثيرة المذكورة في مواضعها ، مثل كتاب الفوائد المدنيّة (١) وغيره (٢) ؛ والله الموفّق.

الفصل الحادي عشر

في ذكر ما يمكن دعوى الإجماع فيه وإن لم يصرّحوا به

وذلك في مواضع متعدّدة قد صارت ظاهرة ممّا سبق :

الأوّل : ما كانت من ضروريّات الدين كما مرّ.

الثاني : ما كان من ضروريّات المذهب.

وهما يعلمان بالتتبّع ، ولكنّهما قد يختلفان بالنسبة إلى الأشخاص ، فيكون الضروري عند الأكثر نظريّا عند البعض.

الثالث : ما ظهر بالتتبّع اتّفاق الأخباريّين فيه ، وعدم مخالفة أحد منهم.

الرابع : ما ظهر بالتتبّع اتّفاق الاصوليّين فيه مع وجود نصّ عليه ، وعدم مخالفة أحد من الأخباريّين. وقد لا يصرّحون بنقل الإجماع في هذا وما قبله.

الخامس : ما وجد فيه حديث معتمد ثابت النقل لا معارض له كما مرّ.

السادس : ما وجد فيه حديث في أحد الكتب الأربعة وإن كان له معارض ؛ لأنّه مجمع على نقله.

السابع : ما ظهر فتوى جماعة من الأخباريّين به ، مع ظهور مخالف أو عدمه ، فإنّه هناك يعلم وجود نصّ في الاصول المجمع عليها بذلك المضمون.

وربّما يطلق على هذا القسم الشهرة ، وقد اشير إليها في حديث عمر بن حنظلة السابق.

__________________

(١) الفوائد المدنيّة ، ص ١٣١.

(٢) انظر الحدائق الناضرة ، ج ١ ، ص ١٧.

٤٢٨

الفصل الثاني عشر

في ذكر القرائن المقترنة بأحد الإجماعين المدّعيين وبالأحاديث

المجمع عليها وغيرها بحيث يتعيّن المصير إليها

قد ظهر لك أكثر أقسام القرائن من المرجّحات السابقة ، وعرفت بعض ما يدلّ عليها ، وأنا أذكر هنا جملة من قرائن الدالّة على صحّة الكتب المنقول منها الأحاديث المذكورة التي هي سند الإجماع ، وذلك وجوه قد أوردها صاحب الفوائد المدنيّة فقال :

الوجه الأوّل من الوجوه الدالّة على صحّة أحاديث الكتب الأربعة وأمثالها باصطلاح قدمائنا : أنّا نقطع قطعا عاديا بأنّ جمعا كثيرا من ثقات أصحاب أئمّتنا ـ ومنهم الجماعة الذين أجمعت العصابة على أنّهم لم ينقلوا إلّا الصحيح باصطلاح قدمائنا ـ أنّهم صرفوا أعمارهم في مدّة تزيد على ثلاثمائة سنة في أخذ الأحكام عنهم ، وتأليف ما يسمعونه منهم ، وعرض المؤلّفات عليهم ، ثمّ التابعون لهم تبعوهم في طريقتهم ، واستمرّ هذا المعنى إلى زمن الأئمّة الثلاثة قدس‌سرهم.

الثاني : أنّا نعلم أنّه كانت عند قدمائنا اصول في زمن أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى زمن الأئمّة الثلاثة كانوا يعتمدون عليها في عقائدهم وأعمالهم ، ونعلم علما عاديا أنّهم كانوا متمكّنين من استعلام حال تلك الاصول وأخذ الأحكام عنهم بطريق القطع واليقين ، ونعلم أنّهم كانوا عالمين بأنّه مع التمكّن من القطع واليقين في أحكام الله تعالى لا يجوز الاعتماد على ما ليس كذلك ، وأنّهم لم يقصّروا في ذلك ، واستمرّ هذا المعنى إلى زمن الأئمّة الثلاثة ، فعلم أنّ تلك الأحاديث كلّها صحيحة باصطلاح القدماء.

الثالث : أنّ مقتضى الحكمة الربّانيّة وشفقة سيّد المرسلين والأئمّة بالشيعة أن لا يضيع من كان في أصلاب الرجال منهم ، وتمهّد لهم اصول معتمدة يعملون بما فيها في زمن الغيبة الكبرى.

الرابع : تواتر الأخبار بأنّهم عليه‌السلام أمروا شيعتهم بتأليف ما يسمعونه منهم وضبطه

٤٢٩

ونشره ليعمل به الشيعة في زمن الغيبة وأخبروا بوقوعه.

الخامس : أنّ أكثر أحاديثنا موجودة في اصول الجماعة الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم ، أي على أنّهم لم ينقلوا إلّا الصحيح.

وللعلم بوجودها في تلك الاصول طرق ، منها : أن نقطع بقرينة المقام أنّ الطريق المذكور للحديث إنّما هو طريق إلى الأصل المأخوذ منه الحديث ، وتلك القرينة وافرة في كتابي الشيخ وكتاب من لا يحضره الفقيه ، بل في الكافي عند النظر الدقيق ، وقد ذكر الجماعة الكشّي في كتابه [ ... ] ومستند الإجماع الذي نقله الكشّي في حقّ هذه الجماعة الروايات الناطقة بأنّهم معتمدون في كلّ ما يروون [ ... ] .

السادس : توافق أخبار الأئمّة الثلاثة ـ قدّس الله أرواحهم ـ على صحّة أحاديث كتبهم.

ولا يقدح في ذلك اشتمال طرق كثيرة منها على من تغيّر حاله من الاستقامة ، إمّا بانتحال المذهب الفاسدة ، أو ظهور الكذب منه وطروّ الاختلال عليه بعد أن كان ثقة مستقيما.

السابع : أنّه لو لم يكن أحاديث كتبنا مأخوذة من الاصول المجمع عليها ، لزم أن يكون أكثر أحاديثنا غير صالحة للاعتماد عليها ، والعادة قاضية ببطلانه.

الثامن : أنّ كثيرا ما يطرح رئيس الطائفة الأحاديث الصحيحة باصطلاح المتأخّرين ويعمل بنقائضها الضعيفة باصطلاح المتأخّرين ، فلو لا ما ذكرناه لما وقع ذلك من مثل رئيس الطائفة عادة.

التاسع : أنّه كثيرا ما يعتمد رئيس الطائفة على طرق ضعيفة مع تمكّنه من طرق اخرى صحيحة ، فلو لا ما ذكرناه لما وقع من مثله ذلك عادة.

العاشر : أنّه صرّح في كتاب العدّة وفي أوّل الاستبصار بأنّ كلّ حديث عمل به مأخوذ من الاصول المجمع على صحّتها ، ونحن نقطع عادة بأنّه ما كذب.

الحادي عشر : أنّ شيخنا الصدوق قدس‌سره ذكر مثل ذلك بل أقوى منه في كتاب من لا يحضره الفقيه ، ونحن نقطع عادة بأنّه ما كذب ، وكذلك نقول في حقّ الكافي

٤٣٠

للإمام ثقة الإسلام.

الثاني عشر : أنّا قطعنا قطعا عاديا في حقّ أكثر رواة أحاديثنا بقرينة ما بلغنا من أحوالهم أنّهم لم يرضوا بالافتراء في رواية الحديث ، والذي لم نقطع في حقّه بذلك كثيرا ما نقطع بأنّه طريق إلى أصل الثقة الذي أخذ منه الحديث. والفائدة في ذكره مجرّد التبرّك باتّصال السلسلة المخاطبة اللسانيّة ، ولدفع تعيير العامّة.

ومن الدليل على ذلك أنّ ثقة الإسلام صرّح في أوّل الكافي بصحّة جميع أحاديثه ، وكثيرا ما يذكر في أوائل الأسانيد من ليس بثقة.

بقي احتمال السهو ، وهو يندفع تارة بتعاضد بعض الروايات ببعض ، وتارة بقرينة تناسب أجزاء الحديث ، وتارة بقرينة السؤال والجواب ، وتارة بقرائن اخرى [ ... ] .

وأمّا كون الكتب الأربعة وأمثالها متواترة النسبة إلى مؤلّفيها ، وأنّ هذا التواتر يفيد القطع الإجمالي ، وأنّ القطع التفصيلي بخصوصيّات الأحاديث يحصل بالقرائن المقاميّة كاتّفاق النسخ كما في كتاب الله ، فهو أظهر من أن يرتاب فيه لبيب منصف.

وقد صرّح بذلك صاحب المعالم حيث قال : إنّ أثر الإجازة بالنسبة إلى العمل إنّما يظهر حيث لا يكون متعلّقها معلوما بالتواتر ونحوه ، ككتب أخبارنا الأربعة ، فإنّها متواترة إجمالا ، والعلم بصحّة مضامينها تفصيلا يستفاد من قرائن الأحوال ، ولا مدخل للإجازة فيه غالبا ، وإنّما فائدتها حينئذ [ بقاء ] اتّصال سلسلة الأسناد بالنبيّ والأئمّة ، وذلك أمر مطلوب مرغوب إليه للتيمّن كما لا يخفى. (١)

انتهى كلام صاحب الفوائد المدنيّة في هذا المقام.

[ القرائن الدالّة على صحّة أحاديث الكتب الأربعة : ]

وقد عرفت منه القرائن العامّة الشاملة لأكثر الأحاديث الدالّة على صحّة أحاديث الكتب الأربعة ونحوها ، ولنذكر قرائن أخر ، ونقتصر على اثني عشر :

__________________

(١) الفوائد المدنيّة ، ص ٣٧١ ـ ٣٧٨ ؛ معالم الدين ، ص ٢١٢ ـ ٢١٣.

٤٣١

الأوّل : كون الراوي ثقة ، فإنّ ذلك قرينة على صحّة الحديث بمعنى ثبوته ، وكثيرا ما يحصل بذلك العلم حتّى لا يبقى شكّ أصلا ، خصوصا إذا انضمّ إلى ذلك جلالته.

وهذا أمر وجداني يساعده الأحاديث الواردة في الأمر بالعمل بخبر الثقة ، وهي أكثر من أن تحصى ، منها : ما ورد في الأمر بالرجوع إلى وكلاء صاحب الزمان عليه‌السلام لكونهم ثقات (١) ، وكذا كثير من الرواة.

وهذا ـ أعني الاعتماد على خبر الثقة ـ هو المتعارف في كلام قدمائنا وفي كلام أئمّتنا.

وقد صرّح الشهيد الثاني رحمه‌الله في بحث العمل بقول (٢) الثقة في استبراء الجارية أنّ بين الثقة وبين ظنّي العدالة عموما وخصوصا من وجه. (٣)

وقد صرّح الشيخ في الفهرست بأنّ كثيرا من أصحاب الاصول ينتحلون المذاهب الفاسدة وكانت كتبهم معتمدة. (٤) وقد صرّح في كتاب العدّة بأنّه يجوز العمل بخبر الثقة في الرواية وإن كان فاسد المذهب أو فاسقا بجوارحه ؛ (٥) بل يظهر منه اتّفاق الإماميّة على ذلك.

فإذا كان الرواة في جميع الطبقات ثقات ، فهو من الخبر المحفوف بالقرينة قطعا ، وقد تواترت الأحاديث بوجوب العمل بخبر الثقة ، وتواترت بعدم جواز العمل بالظنّ ، وذلك ينتج أنّ خبر الثقة يفيد العلم العادي ، وإذا كان كون الراوي ثقة قرينة ، فكونه أوثق أيضا قرينة كما تقدّم.

الثاني : كون الحديث موجودا في كتب أحد الثقات ؛ لما تقدّم من أنّه يفيد العلم ،

__________________

(١) انظر الكافي ، ج ١ ، ص ٣٢٩ ، ح ١ ، باب في تسمية من رآه عليه‌السلام ؛ وسائل الشيعة ، ج ٢٧ ، ١٣٨ / ٣٣٤١٩.

(٢) الف : بخبر.

(٣) انظر الروضة البهيّة ، ج ٣ ، ص ٣١٥ ؛ مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ٣٨٧ ؛ حكاه عن الشهيد الثاني المحدّث الأسترآبادي في الفوائد المدنيّة ، ص ١٠٦.

(٤) الفهرست ، ص ٤.

(٥) العدّة في اصول الفقه ، ج ١ ، ص ١٣٤ و١٥٢.

٤٣٢

ولما روي من الأحاديث الواردة عنهم عليهم‌السلام بوجوب الرجوع إلى تلك الكتب التي ألّفها الثقات (١) ، خصوصا وعموما ، مع كون أسانيدها كانت مشتملة على رواة ضعفاء قطعا. ولو أردنا نقل بعض الروايات لأدّى إلى الإطناب.

الثالث : كون الحديث موجودا في الكتب الأربعة ونحوها ؛ لما عرفت سابقا من تواترها ، وكونها منقولا من الاصول المجمع عليها ، وما هو معلوم من جلالة مؤلّفيها ، زيادة على ما هو المعتبر مع تصريحهم بصحّتها.

الرابع : كونه منقولا من كتاب بعض أصحاب الإجماع. وذلك يعلم بالتتبّع ، والقرائن ، والنصّ من علمائنا عليه ، عموما أو خصوصا ، كما تقدّمت الإشارة إليه.

الخامس : كونه موافقا للقرآن ، كما وردت الأحاديث الكثيرة الدالّة عليه. والمراد الآيات الواضحة كما مرّ.

السادس : كونه موافقا للأحاديث أخر ، فإنّ تعاضد الأحاديث وتوافقها على معنى واحد قرينة ظاهرة واضحة على ثبوتها واعتمادها ، ومثله تعدّد رواة الحديث (٢) ، فإنّه قرينة أيضا قد نصّ على كونه مرجّحا.

السابع : كون الحديث مكرّرا في كتب متعدّدة معتمدة (٣) . وهذا يستفاد من التتبّع ، بل كانوا يطعنون في الحديث إذا كان لا يوجد إلّا في كتاب واحد ، ويوجد ذلك في مواضع كثيرة من كلام المحقّقين من المتقدّمين.

الثامن : كون الحديث موافقا للضروريّات من الدين أو من المذهب.

التاسع : كونه موافقا للإجماع المعتبر من الأقسام السابقة لما تقدّم.

__________________

(١) ككتاب عبيد الله الحلبي لمّا عرضه على الإمام الصادق عليه‌السلام صحّحه وقال عند قراءته : « أ يرى لهؤلاء ( يعني المخالفين ) مثل هذا » انظر رجال النجاشي ، ص ٢٣٠ ، الرقم ٦١٢. وكتاب يوم وليلة ليونس بن عبد الرحمن حين نظر فيه الإمام العسكري عليه‌السلام وتصفّحه كلّه ، ثمّ قال : « هذا ديني ودين آبائي ، وهو الحقّ كلّه » انظر رجال الكشّي ، ج ٢ ، ص ٧٧٩ ـ ٧٨٠ ، ح ٩١٥.

(٢) الف : الأحاديث.

(٣) الف : ـ معتمدة.

٤٣٣

العاشر : عدم وجود معارض له مع ثبوته بقرينة اخرى ، فإنّه يدلّ على إجماعهم على صحّة نقله ، كما صرّح به الشيخ في كتاب الاستبصار (١) ، وإلّا لنقلوا له معارضا ، بل يدلّ على فتواهم بمضمونه أيضا.

الحادي عشر : عدم احتمال التقيّة لمخالفته للعامّة ، كما تقدّم بيانه وإثباته عموما وخصوصا مع ثبوته بقرينة اخرى.

الثاني عشر : موافقة الشهرة ، كما تقدّم في حديث عمر بن حنظلة.

وقد تقدّم أيضا قرائن أخر ، بعضها متداخلة بحسب مقتضى المقام ؛ والله الموفّق والهادي.

وقد ذكر الشيخ في كتاب العدّة جملة من القرائن ، ونحن ننقل عبارته ملخّصة ، فتقول : قال قدس‌سره هناك :

فصل : في ذكر القرائن التي تدلّ على صحّة أخبار الآحاد ، وهي أشياء :

منها : أن يكون موافقة لأدلّة العقل ومقتضاه من الحظر أو الإباحة على مذهب قوم ، أو الوقف على ما ذهبنا إليه.

ومنها : أن يكون مطابقا لنصّ الكتاب ، إمّا خصوصه أو عمومه أو دليله أو فحواه.

ومنها : أن يكون الخبر موافقا للسنّة المقطوع بها من جهة التواتر.

ومنها : أن يكون موافقا لما أجمع عليه الفرقة المحقّة.

فهذه القرائن كلّها تدلّ على صحّة متضمّن أخبار الآحاد ، ولا تدلّ على صحّتها أنفسها ؛ لجواز أن تكون (٢) مصنوعة وإن وافقت هذه الأدلّة ، فمتى تجرّد الخبر عن واحد من هذه الأدلّة ، فإن كان هناك ما يدلّ على خلافه من كتاب أو سنّة أو إجماع ، وجب إطراحه والعمل بما دلّ عليه الدليل ، وإن كان هناك خبر آخر يعارضه ، وجب ترجيح أحدهما على الآخر ، وإن لم يكن هناك خبر آخر يخالفه ، وجب العمل به ؛ لأنّ ذلك إجماع منهم على نقله ، فيكون العمل به

__________________

(١) الاستبصار ، ج ١ ، ص ٤.

(٢) في المصدر : أن تكون الأخبار.

٤٣٤

مقطوعا عليه.

وكذلك إذا كان فتاوى مختلفة من الطائفة وليس القول المخالف له مستندا إلى خبر آخر ، وجب العمل بالقول الموافق لهذا الخبر ؛ لأنّ القول لا بدّ له من دليل ، ولسنا نقول بالاجتهاد والقياس يستند ذلك القول إليه ، فوجب طرحه.

فأمّا الأخبار إذا تعارضت فإنّا نحتاج إلى الترجيح ، وهو يكون بأشياء :

منها : أن يكون أحد الخبرين موافقا للكتاب أو السنّة المقطوع بها ، فإنّه يجب العمل به ، وكذلك إن وافق أحدهما إجماع الطائفة المحقّة ، فما لم يكن شيء من ذلك نظر ، فما كان راويه عدلا وجب العمل به ، فإن كان رواتهما جميعا عدلين نظر في أكثرهما رواة ، فيعمل به ويترك الآخر ، وإن تساويا عمل بأبعدهما من قول العامّة ويترك العمل بما يوافقهم ، فإن كان الخبران يوافقانهم أو يخالفانهم ، فإن كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالآخر بتأويل دون العكس ، وجب العمل بما يمكن معه العمل بالآخر ؛ لأنّ الخبرين منقولان مجمع على نقلهما ، وإذا لم يمكن ذلك ، كان الإنسان مخيّرا في العمل بأيّهما شاء (١).

انتهى المقصود ملخّصا.

وقد ذكر نحو ذلك في الاستبصار أيضا. (٢)

وقال في موضع آخر من كتاب العدّة ـ موافقا لما ذكره هنا ـ عدم صحّة الاجتهاد عنده كما هو مذهب الأخباريّين ما هذا لفظه :

وأمّا الظنّ فعندنا وإن لم يكن أصلا يستند الأحكام عليه فإنّه تقف أحكاما كثيرة عليه نحو تنفيذ الحكم عند الشاهدين ونحو جهات القبلة وما يجري مجراها. (٣)

وقال في موضع آخر :

وأمّا القياس والاجتهاد فعندنا أنّهما ليسا بدليلين بل محظور استعمالهما ونحن

__________________

(١) العدّة في اصول الفقه ، ج ١ ، ص ١٤٣ ـ ١٤٨.

(٢) الاستبصار ، ج ١ ، ص ٣ ـ ٤.

(٣) العدّة في اصول الفقه ، ج ١ ، ص ١٧.

٤٣٥

نبيّن ذلك فيما بعد. (١) انتهى.

واعلم أنّ من جملة القرائن أيضا تعلّق الحديث بالاستحباب أو الكراهة ؛ للأحاديث الكثيرة الواردة فيمن بلغه شيء من الثواب ، وبعضها صحيح السند باصطلاح الاصوليّين أيضا ، وهو ما رواه البرقي في المحاسن ، وإن كان قد اشتهر أنّ أحسن تلك الطرق حسن ، فليس بصحيح لما قلنا ، والثواب يترتّب على فعل المستحبّ وترك المكروه ، وهو أعمّ أيضا من المذكور تفصيلا أو إجمالا.

وقد صرّح الشيخ في مواضع بأنّ كلّ حديث عمل به فهو محفوف بالقرينة ، ومأخوذ من الاصول المعتمدة المجمع عليها ؛ وكذلك صرّح جماعة من المحقّقين كما تقدّم بعضه (٢) .

ولا بدّ من قبول قولهم في ذلك ، فلو ردّت شهادتهم فيه ، لوجب ردّها إذا شهدوا بتوثيق راوي حديث أو مدحه بطريق الأولوية ؛ وذلك لأنّ أمر العدالة والضبط خفيّ جدّا بالنسبة إلى نقل الحديث من كتاب من تلك الكتب المجمع عليها التي كتبت بأمر الأئمّة وعرضت عليهم ، وكانت موجودة عند الشيعة ، وبقيت إلى زمان ابن إدريس كما يفهم من آخر السرائر (٣) ، إلى زمان المحقّق كما يظهر من أوّل المعتبر (٤) .

وإذا لم يقبل قولهم في التوثيق والمدح ، لم يبق حديث من الأحاديث صحيحا ولا حسنا ولا موثّقا ، بل يصير الجميع من القسم الضعيف. وذلك ظاهر البطلان ، ضروري الفساد اتّفاقا ؛ فتعيّن ما قلناه ، والله الموفّق.

__________________

(١) العدّة في اصول الفقه ، ج ١ ، ص ٨ ـ ١٠.

(٢) لمزيد التوضيح انظر مشرق الشمسين ، ص ٢٦ ـ ٣٠ ؛ رجال الخاقاني ، ص ٢١٤.

(٣) السرائر ، ج ٣ ، ص ٥٤٩ فما بعد ، حيث قال : « ممّا استنزعته واستطرفته من كتب المشيخة المصنّفين والرواة المحصّلين ، وممّا استطرفه من كتاب ابن محبوب وأمثاله » .

(٤) المعتبر ، ج ١ ، ص ٣٣ حيث قال فيه : « واقتصرت من كتب هؤلاء الأفاضل على ما بان فيه اجتهادهم وعرف به اهتمامهم وعليه اعتمادهم ، فمن اخترت نقله : الحسن بن محبوب ، ومحمّد بن أبي نصر البزنطي ، والحسين بن سعيد ، والفضل بن شاذان ، ويونس بن عبد الرحمن و... » .

٤٣٦

خاتمة

هي فذلكة الحساب ونتيجة مقدّمات الأبواب

[ وجوب الرجوع في جميع الأحكام إلى كلام اهل العصمة عليه‌السلام ]

اعلم أنّ طريقة الأخباريّين المأخوذة عن المأخوذين عليهم‌السلام أنّهم لم يكونوا يعتمدون في الاصول والفروع إلّا على ما ثبت عندهم عن أهل العصمة من الأحاديث المتواترة أو (١) المحفوفة بالقرائن ، ولا ريب في ذلك عند أحد من أهل التتبّع.

وممّن اعترف بذلك وجزم العلّامة في النهاية ، فقال : أمّا الإماميّة فالأخباريون منهم لم يعوّلوا في اصول الدين وفروعه إلّا على أخبار الآحاد المرويّة عن أئمّتهم (٢) . انتهى.

ولا يخفى أنّ ذلك حجّة قاطعة ، فإنّ قول المعصوم بعد العلم بدعواه والاطّلاع على معجزاته حجّة لا يبقى عندها شكّ ، وهو أوثق من جميع الأدلّة العقليّة الصرفة ، وما يتوقّف عليه حجّيّة الأدلّة السمعيّة واضح جدّا.

بل ورد في بعض الأحاديث أنّه بديهي ضروري موهبي (٣) ، وصرّح بذلك جماعة من العلماء ، بل الوجدان يشهد به. ولا خلاف بين المتقدّمين والمتأخّرين في حجّيّة قول المعصوم مطلقا إذا ثبت نقله كما هو المفروض ، والمستفاد من الأحاديث الكثيرة وجوب الرجوع في جميع الامور الدينيّة إلى كلام أهل العصمة عليهم‌السلام ، وعدم جواز القول والعمل بغير ما ثبت عنهم.

وأمّا ما ذكره بعض الحكماء من وجوب الرجوع إلى مجرّد العقل في المطالب ، فيردّه وجوه كثيرة عقليّة ، وأحاديث كثيرة نقليّة.

__________________

(١) الف : ـ أو.

(٢) نهاية الوصول إلى علم الاصول ( مخطوط ) ، الورقة ٢٠٩ ، البحث الرابع في وقوع التعبّد بخبر الواحد.

(٣) الف : مبرهن.

٤٣٧

ولنذكر ممّا يدلّ على ذلك وجوها اثني عشر :

أوّلها : ما هو معلوم من كثرة تناقضهم وشدّة اختلافهم ، مع دعوى كلّ واحد منهم كمال العقل.

وثانيها : أنّهم لم يقدروا أن يعرفوا حقيقة العقل حتّى اختلفوا فيها غاية الاختلاف.

وثالثها : ما هو معلوم من اختلاط الأفكار وفسادها ، واشتباه المقدّمات العقليّة بالجهليّة ، فلا يعلم المفكّر أنّ ما وقع في قلبه من العقل ، أو من وساوس الشيطان.

ورابعها : أنّ أكثر المشهورين بالعقل الذين يرجع الناس إلى كتبهم لم يحصّلوا اعتقادا ، ولم يهتدوا إلى الإيمان ، بل بقوا على الكفر والضلال ، فكيف يجوز حسن الظنّ بهم وسلوك طريقتهم.

وخامسها : أنّ المقدّمات العقليّة الصحيحة النافعة في الدين والدنيا ، كلّها قد صارت نقليّة مرويّة منصوصة عن أهل العصمة مستدلّا عليها في كلامهم بما لا مزيد عليه ، ولا يتطرّق احتمال الخطأ إليه.

وسادسها : ما هو معلوم من أنّ العقل الصحيح الكامل الذي لا يعتريه جهل ولا فساد مخصوص بأهل العصمة ، فمن رجع إلى كلامهم فقد تمسّك بالعقل والنقل.

وسابعها : جميع ما يدلّ على صحّة النبوّة والإمامة ووجوب طاعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام.

وثامنها : أنّه لو كان العقل كافيا ، لكان بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ونصب الإمام عبثا ، ولما وجب اتّباعهما على جميع الرعيّة ، ولجاز مخالفة الناس لاعتقاد النبيّ والإمام في الاصول ، فلا يجوز أن يكون الاعتقادات حقّا ولا باطلا ولا صحّة خلاف اعتقاد المعصوم وبطلان اعتقاده ؛ فتعيّن العكس.

وتاسعها : أنّه يلزم إفحام الأنبياء إذا قال لهم الإنسان : إنّي قد حصّلت ما يجب عليّ من الاعتقاد والاصول بالعقل ، فلا يجب عليّ اتّباع أحد في شيء من ذلك ، كما أجاب

٤٣٨

به بعض الحكماء المشهورين (١) عيسى عليه‌السلام ، ولم يؤمن به وبقي على كفره.

عاشرها : كثرة الشكّ والشبهات ووقوع أكثر الناظرين في كلام الحكماء والفلاسفة في الاعتقادات الباطلة ، كما لا يخفى على من تأمّل أحوالهم.

حادي عشرها : وقوع النهي الصريح عن ذلك في اصول الكافي وغيره (٢) ، ويفهم من هناك وجوب الرجوع في ذلك إلى أهل العصمة خاصّة.

ثاني عشرها : أنّ المستفاد من أحاديث العقل المرويّة في الكافي وغيره أنّ المعتبر منه هو ما عرف به حجّة الله من النبيّ والإمام (٣) ، وهو المميّز بين الصادق في تلك الدعوى والكاذب ، وذلك بعد الاطّلاع على العجز واضح قطعي لا يقبل التشكيك ، ولا يقدر الإنسان على دفعه عن نفسه ، ولا صرفه عن قلبه ، وإنّما يجب عليه الإظهار باللسان ، كما يفهم من قوله تعالى : ﴿ وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ (٤) وغير ذلك.

وفي الكافي عن أبي الحسن عليه‌السلام أنّه قيل له : ما الحجّة على الناس اليوم ؟ فقال : « العقل ، يعرف به الصادق على الله فيصدّقه ، والكاذب على الله فيكذّبه » . (٥)

وفي حديث آخر : « العقل ما عبد به الرحمن ، واكتسب به الجنان » . (٦)

وفي حديث آخر : « يا هشام ، نصب الحقّ لطاعة الله ، ولا نجاة إلّا بالطاعة ، والطاعة بالعلم ، والعلم بالتعلّم ، والتعلّم بالعقل يعتقد (٧) ، ولا علم إلّا من عالم ربّاني ، ومعرفة العلم بالعقل » (٨) إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة.

__________________

(١) الف ، ب : المشتهرين.

(٢) تقدّم تخريجه.

(٣) تقدّم تخريجه.

(٤) النمل (٢٧) : ١٤.

(٥) الكافي ، ج ١ ، ص ٢٥ ، كتاب العقل والجهل ، ح ٢٠ ؛ بحار الأنوار ، ج ٧٥ ، ص ٣٤٤ ، ح ٤٥.

(٦) الكافي ، ج ١ ، ص ١٠ ، كتاب العقل والجهل ، ح ٣ ؛ بحار الأنوار ، ج ٣٣ ، ص ١٧٠ ، ح ٤٤٧.

(٧) أي : يشدّ ويستحكم ، أو من الاعتقاد بمعنى التصديق والإذعان. بحار الأنوار ، ج ١ ، ص ١٣٨.

(٨) الكافي ، ج ١ ، ص ١٨ ، كتاب العقل والجهل ، ح ١٢ ؛ بحار الأنوار ، ج ١ ، ص ١٣٨.

٤٣٩

وفي الأبواب الثلاثة الأخيرة من كتاب التوحيد من الكافي (١) وفي كتاب التوحيد لابن بابويه أحاديث كثيرة ، من رجع إليها لم يبق عنده شكّ فيما قلناه. (٢)

وبهذا يظهر الجواب عن أحاديث العقل المطلقة ، فإنّها محمولة على هذا التقييد ، مع معارضتها بأحاديث الجهل ، وما يظهر من حديث جنود العقل من اختصاص العقل الكامل الجنود بالنبيّ والإمام (٣) ؛ فيجب الرجوع إليهما خاصّة لخلوّهما من الجهل وجنوده ؛ وهو المطلوب.

فصل

ولنذكر من الأحاديث الدالّة على ما ذكرنا في هذا المقام

الأخير اثني عشر حديثا تبرّكا بالعدد ، وإلّا فالأحاديث في ذلك أكثر من أن تحصى ، وأوفر من أن تستقصى :

الحديث الأوّل : ما رواه الحارث بن المغيرة كما رواه صاحب الفوائد المدنيّة في آخر كتابه قال : قلت : لأبي عبد الله عليه‌السلام أ رأيت لو أنّ رجلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : والله ما أدري أ نبيّ أنت أم لا ، كان يقبل منه ؟ قال : « لا ، ولكن كان يقتله إنّه لو قبل ذلك ما أسلم منافق أبدا » . (٤)

الثاني : ما رواه البرقي في المحاسن عن يعقوب بن يزيد [ عن رجل ] عن الحكم بن مسكين ، عن أيّوب بن الحرّ قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : « ما من أحد إلّا وقد يرد (٥) عليه الحقّ حتّى يصدع قلبه (٦) ، قبله أو تركه ، وذلك أنّ الله تعالى يقول في كتابه : ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (٧) » . (٨)

__________________

(١) الكافي ، ج ١ ، ص ١٦٤ ـ ١٦٧.

(٢) انظر على سبيل المثال التوحيد ، ص ٤٥ ، ح ٥ ؛ وص ٥١ ، ح ١٣ ؛ وص ٧٠ ، ح ٢٦.

(٣) انظر الكافي ، ج ١ ، ص ٢٣ ، كتاب العقل والجهل ، ح ١٤ ؛ علل الشرائع ، ج ١ ، ص ١١٣ ، ح ١٠ ؛ بحار الأنوار ، ج ١ ، ص ١١١ ، ح ٧.

(٤) الفوائد المدنيّة ، ص ٤٧٥ ؛ وسائل الشيعة ، ج ٢٨ ، ص ٣٣٣ ، ح ٣٤٨٨٨.

(٥) في المصدر : قد برز.

(٦) في المصدر : ـ قلبه.

(٧) الأنبياء (٢١) : ١٨.

(٨) المحاسن ، ج ١ ، ص ٢٧٦ ، ح ٣٩١ ؛ بحار الأنوار ، ج ٥ ، ص ٣٠٢ ، ح ٩.

٤٤٠