بلغة الفقيّة - ج ٢

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٩٥

ويسمى بالتعويض ، ومرة تكون من الجانبين وتسمى بالمعاوضة ، وعلقة البدلية الحاصلة بالبيع وان كانت من حيث هي بسيطة إلا أنها تنحل الى بدليين لتحقق بدلية كل منهما عن الآخر بالضرورة ، غير أن بدلية أحدهما ـ وهو المعوض ـ مضمحلة بالنسبة إلى بدلية الآخر وهو العوض ، فالمعوض متمحض للتبديل والعوض للبدلية وان صدق العكس عليهما في الحقيقة وهذه العلقة من حيث التحقق والتكوين فعل توليدي بين اثنين نسبته من حيث التكوين والعلية في الإيجاد الى كل من الفاعلين البائع والمشتري بالسوية إلا أنه من حيث الاستقلال بالانشائية والتبعية فيها ينسب الى من كان مستقلا بها لأنه الأصل في النسبة ، فيقال له : البائع ويقال للآخر : المشترى لكونه تابعا للبائع في قبول إنشائه فكأن البائع أصيل فيه والمشترى تابع له ولاختلاف الحيثيتين المزبورتين اختلفت نسبة البيع مرة إلى الموجب والقابل كليهما ، واخرى إلى الأول منهما مع صدق المبيع على المبذول من البائع خاصة والعوض على المبذول من المشترى كذلك وليس الا لتمحض الأول بالتبديل ، والثاني بالبدل لما عرفت من ملاك ذلك من الاستقلالية والتبعية في الإنشاء ولذا كان تعدى الفعل اليه بالباء المسماة عند النحويين بباء البدلية والباء الداخلة على الأعواض والأثمان.

ولتنقيح الكلام فيه محل آخر ، وعليه فالملكية للعين بالعوض أعم من البيع لافتراقه فيما لا يوجد فيه الملاك المزبور. وفيه ـ بعد تسليم عدم صدق البيع إلا على ما كان كذلك ومع الغض عما تقدم إنما يتم ما ذكره فيما لو وقعت المعاطاة من المتعاطيين لا بنحو الإيجاب والقبول الفعليين بل بنحو الاستقلالية في الإنشاء لكل منهما كالتفاسخ الحاصل من المتعاقدين بقول كل منهما :

تفاسخنا ، وهو على تقدير تحققه من الفروض النادرة ان لم نقل بكونه مجرد فرض امكانى لا يمكن تنزيل كلمات الأصحاب عليه وجعله محط أنظارهم في

٦١

هذا النزاع العظيم ولبس الاختلاف بينهم إلا فيما يليق بالبحت عنه من حكم ما هو المتعارف بين الناس من معاملاتهم بالمعاطاة الجارية على منوال عقود المعاوضات إلا في تحقق العقد اللفظي فإنه الجدير بالبحث عن حكمه لا ما يمكن فرض وقوعه في الخارج وهذا مما اشكال فيه كما لا اشكال ظاهرا في ان قصد المتعاطيين التملك بالمعاطاة غالبا كالبيع العقدي دون الإباحة المطلقة مع بقاء العين على ملك مالكها خلافا لشيخنا في (الجواهر) ولعل نظره مضافا الى التخلص عن المحاذير الآتية الى عدم الفرق في نظر العرف العام ولا سيما عند العوام بين الإباحة المطلقة ، وبين ملك الرقبة في النتيجة والغرض المقصود من صحة جميع التصرفات حتى المتوقفة على الملك سواء كان منبعثا عن ملكية العين والإباحة المطلقة ويتضح ذلك في المحقرات كدفع الدرهم من الشارب لحصول الغرض به من شرب الماء من غير تعلق غرض له بكون التسلط عليه منبعثا عن ملكية الماء دون إباحته ويشهد لذلك معاطاة من لا يقول بإفادتها الملك ، بل مفادها الإباحة اجتهادا أو تقليدا في المحقرات فكيف يقصد التمليك والتملك بمعاملته مع العلم بعدم وقوع المقصود منها مع وقوع المعاملات المعاطاتية في أغلب معاملاتهم؟ إلا ان الإنصاف دعوى وقوع معاملات الناس غالبا ، وما هو المتعارف بينهم بقصد الإباحة دون الملك مكابرة مما يشهد بخلافه الوجدان ، بل الذي عليه الناس عموما وخصوصا وهو قصد الملك في معاملاتهم المعاطاتية.

وكيف كان فالكلام الى هنا في موضوع المعاطاة.

وأما حكمها فجملة الأقوال فيها عدا ما هو منسوب الى المفيد (ره) من اللزوم كما تقدم ـ : أربعة ، لأن القول بكفاية مطلق اللفظ في اللزوم كما تقدم عن بعض متأخري المتأخرين ليس في الحقيقة (قولا) في حكم المعاطاة ، بل هو خلاف في موضوعها. وبالجملة (قول) وقيل : انه المشهور

٦٢

بإفادتها الإباحة المطلقة لجميع التصرفات حتى المتوقفة منها على الملك مع بقاء كل من العينين على ملك مالكه ، غير انه يحصل الملك بتلف احدى العينين وما بحكمه ، بل (عن المسالك) : «ان كل من قال بالإباحة يسوغ جميع التصرفات (وقول) بإفادتها لذلك الا ما يتوقف على الملك كالوطء والعتق وإخراجه في خمس أو زكاة وغير ذلك ، وهو المحكى عن حواشي الشهيد على القواعد ، يوافقه ما عن (المبسوط) من المنع عن وطء الجارية المهداة بالهدية المجردة عن الإيجاب والقبول و (قول) بلحوقها بالبيع الفاسد من عدم الملك وعدم جواز التصرف فيه ، وهو المحكى عن العلامة في (نهايته) وان حكى الرجوع عنه في كتبه المتأخرة ، بل قيل بعدم موافق له ومسبوق بالإجماع وملحوق به و (قول) بإفادتها الملك المتزلزل ويستقر بالتلف وما بحكمه ، وهو صريح الكركي في شرحه على القواعد والمحكى عنه في تعليقه على الإرشاد ، حتى أنه نزل الإباحة في كلام الأصحاب على ارادة الملك المتزلزل ، مع أن عباراتهم بين ظاهرة وصريحة بخلافه وعدم تحقق الملك بها وحملها على عدم اللزوم في غاية البعد : وعليك بالرجوع الى عباراتهم ليتضح لك حقيقة الحال ، وانما تركناها خوفا من الإطالة. وتبعه على هذا القول غير واحد ممن تأخر عنه وهو العمدة من الأقوال في المسألة بعد الأول منها ، بل هما ـ اى القول بالإباحة المطلقة والقول بالملك المتزلزل قد يدعى تكافؤهما في الشهرة بين متأخري المتأخرين.

قيل : ويبعد كل من القولين :

أما الأخير فيبعده ان حصول الملك وكون المعاطاة من النواقل له مما يتوقف على جعل أو إمضاء من الشارع ، وليس عليه دليل ، مع أن مقتضى الأصل هو العدم الا دعوى السيرة الممنوع قيامها على أزيد من جواز التصرف الذي هو قدر مشترك بين الملك والإباحة وفيه ما ستعرف من الدليل

٦٣

على الملك وقيام السيرة على ترتب آثاره على المأخوذ بالمعاطاة.

ويبعد الأول أيضا مخالفته للقواعد المسلمة التي منها قاعدة تبعية العقود للقصود ، لان الملك المقصود حصوله بالتعاطي غير واقع بالفرض والواقع وهو الإباحة المجردة غير مقصودة إذ الإباحة ان أريد بها الإباحة المترتبة على الملك ، فمع كونه خلاف الفرض يدفعه انها معلولة للملك ، والمعلول عدم عند عدم العلة ، وان أريد بها المقابلة للملك وما هو قسيم له فلم تكن مقصودة بالتعاطي حتى تكون واقعة بناء على ما عرفت من قصد المتعاطيين التمليك بالمعاطاة ، ومنها ما هو مسلم عندهم من عدم جواز التصرف في المقبوض بالبيع الفاسد الذي هو بمعنى عدم ترتب الأثر عليه شرعا بل مطلق المعاملات الفاسدة التي منها المعاطاة لعدم ترتب الأثر المقصود من الملك عليها ، وهو الوجه لما ذهب إليه العلامة في (نهايته) من المنع عن التصرف في المعاطاة ، ومنها ما هو المعلوم من ان العين المضمونة بالمسمى إذا لم يسلم ضمانها به كانت مضمونة ببدلها الواقعي من المثل أو القيمة ، ولذا كان المقبوض بالعقد الفاسد عندهم مضمونا بذلك دون المسمى ، وعليه فكيف يكون تلف احدى العينين موجبا لدخول الأخرى في ملك من هي في يده بل القاعدة تقتضي حينئذ بناء على الإباحة المجردة جواز الرجوع على العين الموجودة لمالكها ويغرم لصاحبه بدل التالف من المثل أو القيمة ، وهو خلاف ما هو كالمتفق عليه عندهم من اللزوم وعدم جواز الرجوع بالتلف وما بحكمه هذا كله مضافا الى استبعادات أخر ذكر لزومها على أهل هذا القول شيخ مشايخنا (كاشف الغطاء) في شرحه على القواعد ، تركناها جملة اقتصارا على ذكر العمدة منها.

هذا ويمكن الجواب عن ذلك :

إما عن الأول فبان مخالفة المقام لقاعدة تبعية العقود للقصود ، وان

٦٤

كانت مخالفة لكنا الكليتين الإيجابية منهما والسلبية ، لعدم وقوع المقصود هو الملك ووقع غير المقصود ، وهو الإباحة المجردة ، لكن الإيجابية الكلية انما تتم بعد اعتبار العقد وترتب الأثر عليه شرعا ، والا فعدم وقوع المقصود من العقود غير عزيز كالعقود الفاسدة ، فالعمدة هي المخالفة للكلية السلبية ، إذا العقد انما يتقوم بالقصد ووقوع غير المقصود منه غير معقول ، الا أن من المعلوم ان قاعدة التبعية لا تقتضي وقوع غير المقصود ، بل هو باق على حكم الأصل فيه ، لا أنها تقتضي عدمه بحيث لو فرض ثبوته بدليل كان معارضا لها ولو بنحو معارضة العموم والخصوص المطلق ، بخلافه على الأول ـ وحينئذ ـ فنقول : الواقع اما أن يكون مباينا للمقصود أو يكون جزء منه والثاني اما : ان يكون جزء خارجيا بأن يكون المقصود مركبا خارجيا والواقع جزء منه أو يكون جزء ذهنيا من مركب ذهني ـ وحينئذ ـ فإن كان الواقع مباينا للمقصود ، فلا ينافي ثبوته لو دل الدليل عليه ، لما عرفت من عدم المعارضة بينه وبين مفاد القاعدة ومنه ثبوت ضمان بدل التالف بالمثل أو القيمة لعموم «على اليد» عند بطلان المسمى ، وليس ذلك نقضا لعموم القاعدة ، ولا تخصيصا له ونسبة الضمان بذلك الى العقد عند بطلان المسمى لا يخلو من تسامح ، إذ الموجب له انما هو القبض عند العقد دون العقد نفسه ، وان كان جزء فان كان خارجيا كان مقصودا ولو بالتبع لان قصد الكل متضمن لقصد جميع أجزائه ، ولذا صح بيع ما يملك من الدار وما لا يملك صفقة فيما يملك بالاتفاق وان انجبر ضرر التبعض بالخيار ، وليس الا لكونه مقصودا ـ ولو ضمنا ـ ضرورة أن بيع الدار ينحل الى بيع كل جزء جزء منها ، فلا نقض من جهته ـ أيضا ـ وان كان ذهنيا كالمعاملة المشروطة بشرط فاسد وبيع الموصوف الشخصي مع انتفاء الوصف ، أمكن الحكم بالصحة مع انتفاء الشرط أو القيد

٦٥

لو استفيد من الدليل تعدد المطلوب دون الوحدة ، ولعل نظر من بنى على الصحة في نحو ذلك اليه وان انجبر أيضا بالخيار ، لكن الشأن في ثبوت الصغرى ، وهي كونه من التعدد في المطلوب وعليه ، فذات المطلق أو المشروط مقصودة أيضا ولو في ضمن المقيد ومنه يظهر ـ أيضا ـ عدم نقض القاعدة بذلك على القول به.

وأما النقض ببيع الغاصب لنفسه بناء على وقوعه للمالك مع أجازته كما عن كثير ، فلعله أجنبي عن المرام ، وليس نقضا على القاعدة أصلا لأن التبعية إنما هي بالنسبة إلى الأمور الداخلة في قوام العقد التي لا يتقوم بدون قصدها ، فقصد كونه لنفسه أو لغيره خارج عن مفاد العقد ، وقصد البيع لنفسه أو للمالك لا يضر في الأول ، كما لا ينفع في الثاني ، فإذا قاعدة (تبعية العقود للقصود) قاعدة مستقيمة سليمة عما أورد عليها من النقوض المتقدمة شيخنا المرتضى في (مكاسبه).

إذا عرفت ذلك ، فنقول : فيما نحن فيه ان الإباحة المجردة التي هي مفاد المعاطاة عند الأكثر يحتمل أن تكون من القسم الأول ، وهو كون الواقع مباينا للمقصود ، غير أنه ثبت بالدليل الخاص من قيام السيرة القطعية عليه ، ولكن يندفع بمنع قيامها على خصوص الإباحة المجردة ـ كما عرفت ـ أولا ولزوم كون الإباحة حينئذ شرعية مع ظهور كلماتهم في كونها مالكية ـ ثانيا ـ وكون الإباحة حاصلة عند المعاطاة لأنها مع تصريحهم بأن المعاطاة تفيد الإباحة ـ ثالثا ـ ويحتمل ان تكون من ثاني قسمي الثاني من باب تعدد المطلوب بتقريب : أن المعاطاة تسليط للغير على ماله قاصدا به الملك ، والتسليط المجرد عن الملك مفيد للإباحة بحكم العرف ، ولا ينافي قصد التمليك معه إن لم يكن مؤكدا له ، فهو قاصد للتمليك بما هو تسليط من الفعل وليست الإباحة المقصودة هي القسيمة للملك بل المجامعة معه التابعة له

٦٦

المقصودة ضمنا وبالتبع الا انها باقية مع عدم الملك أيضا بناء على التعدد في المطلوب ويشهد لذلك ما ذكره في (المسالك) من قوله : «وانما حصلت الإباحة باستلزام إعطاء كل منهما الآخر سلعته مسلطا له عليها الاذن في التصرف فيها بوجوه التصرفات» انتهى.

ولا كذلك في العقود الفاسدة لعدم التسليط فيها لا بالقول ولا بالفعل أما القول فلان الصيغة فيها لا تدل بمدلولها المطابقي الا على التمليك واباحة التصرف قد يدعى انها من الأحكام الشرعية المترتبة على الملك غير مقصودة للمالك بل هي مترتبة على الملك وان قصد عدمها ولو سلم كونها مقصودة فهي مقيدة بالملكية بنحو الوحدة في المطلوب دون تعدده ، فلا تسليط بالقول بوجه أصلا. وأما الفعل وهو دفع العين الى صاحبها ، فإنما هو أداء لمالكها بالعقد ولو بزعمه الفاسد ، فلا تسليط فيه على مال الدافع بقصد التمليك للمدفوع له ، ضرورة أن الملكية المقصودة المتخيل وقوعها حاصلة بالعقد سابقة على الدفع المقصود به دفع ملك الغير الى مالكه ، لا تسليط للغير على ماله بقصد التمليك له وهذا بخلاف المعاطاة فإن الملكية فيها متأخرة عن التسليط بالدفع طبعا وان اقترنت معه في الزمان.

توضيح الفرق بين المعاطاة والعقود الفاسدة مع تساويهما في قصد الملك وعدم إنشاء مستقل للإباحة : هو ان تبعية الإباحة للتمليك في العقد الفاسد كاد أن ينعكس أمرها في المعاطاة لسبق الملكية المفروضة على الدفع وعدم التسليط به لكونه من أداء المال الى مالكه في العقد الفاسد وسبق التسليط على الملكية المقصودة بالذات في المعاطاة فالملكية فيها يوشك ان تكون تابعة للتسليط لا متبوعة له كما في العقد الفاسد ، وبذلك ينقدح الوجه في تعقل التعدد في المطلوب في المعاطاة وعدم إمكانه في العقد الفاسد.

هذا أقصى ما يمكن أن يجاب به عن مخالفة قول المشهور لقاعدة التبعية

٦٧

ولكن مع ذلك لا يخلو عن تأمل لما عرفت سابقا من أن التسليط المقصود به التمليك في المعاطاة لا يبقى مع انتفاء الملك لذهاب الجنس بذهاب فصله ، فالإباحة الضمنية للملك منتفية والقسيمة له غير مقصودة ـ أصلا ـ وليست الإباحة هنا كالمطلق المقيد بقيد أو المشروط بشرط حتى يمكن فيه فرض تعدد المطلوب ، وان هو الا كالعقد الفاسد في وحدة المطلوب وان فرض الفرق بينهما في سبق الملك على الفعل ولحوقه به.

اللهم الا ان يتشبث للقول بإباحة التصرف بوجه آخر ، وهو إحراز الرضا من المالك بالتصرف وان لم يتحقق الملك بشاهد الحال الذي قد يدعى تحققه في خصوص المعاطاة المبنية على التسامح بخلاف العقود المبنية على المداقة من ضبط الألفاظ واجتماع الشروط وفقدان الموانع الكاشفة عن المداقة وعدم التسامح فيها ، فإحراز الاذن بالتصرف حينئذ ـ مع عدم سلامة المقصود من الملك ـ مفقود ، ويكفي في صحة التصرف إحراز الرضا القلبي من المالك ، وان بطل العقد أو المعاطاة في إفادة المقصود من الملك ويشهد لذلك قول العلامة في هبة (التحرير) بعد ان اعتبر الإيجاب والقبول فيها ما لفظه : «وهل يستغنى عن الإيجاب والقبول في هدية الأطعمة؟ الأقرب عدمه نعم يجوز التصرف عملا بالاذن المستفاد من العادة».

وأما الجواب عن الثاني وما فيه ، فيظهر مما ذكرنا في الجواب عن الأول إذ القاعدة الثانية ليست هي بنفسها قاعدة مستقلة بل هي من فروع قاعدة (تبعية العقود للقصود) ضرورة أن الوجه في عدم إفادة العقود الفاسدة للإباحة انما هو عدم كون الإباحة مقصودة الا في ضمن الملكية على وجه التبعية والفرعية فمتى لم يقع الملزوم بمقتضى فساد العقد لا يقع ما كان لازما له متفرعا عليه أيضا ، فلا يقتضي العقد جواز التصرف بل يبقى التصرف في مال الغير على حرمته الأصلية. واما المخالفة للقاعدة الثالثة فلا

٦٨

يكاد ينطبق معها قول الأكثر بوجه أصلا اللهم الا بدعوى ان بطلان الضمان بالمسمى من حيث البدلية بين العينين في الملك لا يستلزم بطلان الضمان به من حيث بدلية التسليط بالتسليط بمعنى بدلية السلطنة التي له على ماله بالسلطنة على مال صاحبه وكذا لصاحبه بالعكس ، وليس الإباحة المجردة على القول بها اباحة مجانية ، بل هي اباحة بعوض اباحة وسلطنة بإزاء سلطنة مع صحة البدلية المذكورة ، وتماميتها هنا في مقام البدلية ، وان لم تتم البدلية بين العينين ، ومن المعلوم جواز الرجوع بأحد البدلين وانتزاع السلطنة من صاحبه على ماله موقوف على إرجاع بدله المتعذر عند تلف العين التي هي بمنزلة الموضوع لتلك السلطنة ، والتبديل عنه بالسلطنة على المثل أو القيمة تبديل ببدل آخر غير بدله المسمى الذي تمت بدليته. ولعله هو مراد من استدل على اللزوم بالتلف من أهل هذا القول بعدم إمكان التراد معه.

هذا ولكن الدعوى المذكورة على عهدة مدعيها والمسألة عندي بعد لا تخلو عن اشكال.

ومما ذكرنا ظهر مستند قول العلامة في (النهاية) وهو قوي ، لولا قيام الإجماع بقسميه على اباحة التصرف ، وعدم جواز الرجوع عند التلف ونحوه ، وكذا مستند القول بالإباحة إلا فيما يتوقف على الملك كما تقدم عن حواشي الشهيد. ولكن الأقوى من الأقوال المتقدمة ، هو القول بإفادتها الملك المتزلزل ، ويستقر بالتلف وما بحكمه ـ كما عليه الكركي وجماعة ممن تأخر عنه ـ بل وهو ظاهر العلامة في (التحرير) حيث قال : «والأقوى عندي ان المعاطاة غير لازمة بل لكل منهما فسخ المعاوضة ما دامت العين باقية لظهور نفي اللزوم في ثبوت الملك مع ظهور التعبير بفسخ المعاوضة فيه أيضا ، ووجهه يتضح بعد بيان مقدمة متكفلة لبيان معنى الملك ومراتب الملكية.

٦٩

فنقول : ان من الاعراض ما لا يكون الخارج ظرفا لعروضه بل هو ظرف للاتصاف به وهذا هو المعبر عنه بالاعتبارى ووجوده انما هو بوجود منشأ انتزاعه على نحو ينتزع هذا العرض منه فمن ذلك المالية ، فإنها قد تدور مدار ما في الشي‌ء من الجهات الذاتية أو من الجهات الخارجية ولو بجعل جاعل بحيث يتعلق به ولو من تلك الجهة أغراض عموم الناس ، ويبذلون بإزائه الأموال ، ولا يعتبر في المنشأ كونه ذاتيا للشي‌ء وصفة من أوصافه الذاتية كالجواهر والمعادن وأمثال ذلك ، بل المدار في تحقق المالية للشي‌ء تعلق أغراض الناس عموما به والسعي في تحصيله لنيل الأغراض المقصودة منه ، ولو كان المنشأ امرا خارجيا ، ولعل من ذلك ما هو المتعارف في عصرنا من جعل السلاطين الأوراق المطبوعة المعبر عنها بالنوط والاسكناس المعدودة بحكم الأثمان في إجراء المعاملات بها فيما بينهم كالنقود المسكوكة فإن لها من حيث هي كذلك مالية متعلقة بها أغراض عموم العقلاء ولو كان ذلك بجعل السلاطين دون جهة في ذاتها ويحتمل قويا ان يكون حكم تلك الأوراق حكم (البروات والسجلات) فإنها لا مالية لها بنفسها وانما مطلوبيتها ليست الا لكونها وسيلة إلى تحصيل مال آخر وكم من فرق واضح بين كونها مالا وبين كونها وسيلة إلى تحصيل مال آخر وثمرات مرتبة عليه ، ومن ذلك الملكية أيضا وهي ربط خاص بين المالك والمملوك موجب لسلطنته عليه أو نفس السلطنة الحاصلة له عليه ، فبين المالية والملكية بحسب المورد عموم وخصوص من وجه ، يفترق الأول عن الثاني في الأموال المباحة ، والثاني عن الأول في مثل الحبة من الحنطة ، فإنها لا مالية لها مع بقائها على الملكية.

ثم ان للملكية بحسب اختلافها قوة وضعفا مراتب ثلث أضعفها ملكية الانتفاع ، وأقوى منها ملك المنفعة ، وأقوى منهما ملك الرقبة لأن

٧٠

السلطنة إنما تتعلق بالعين غير انها إن أحاطت بجميع جهاتها عبر عنها اصطلاحا بملك الرقبة وملك العين ، وان اختصت بجهة من جهاتها مع الاستقلالية فيها من تلك الجهة عبر عنها كذلك بملك المنفعة لاختصاص تعلق السلطنة بها من تلك الجهة الخاصة فالعين المستأجرة مملوكة للمستأجر من حيث تلك المنفعة ، وان كانت مملوكة للمؤجر بالملكية التامة ، وان كانت لا مع الاستقلالية فيها عبر عنها بملك الانتفاع كحق المارة والصلاة في الأراضي المتسعة مما كانت الإباحة فيه شرعية ، فإن العين فيها مملوكة للمباح له من جهة الانتفاع الخاص بها ، لا ان الانتفاع مملوك في الحقيقة وان وقع التعبير بذلك اصطلاحا ، أو كانت مالكية كالعارية فإن العين المستعارة مملوكة للمستعير من جهة المنفعة المباحة له بالملكية الضعيفة التي لا ينافيها كونها مملوكة للمعير بالملكية التامة ، وللاستقلالية في السلطنة الخاصة وعدمها افترقت في جواز النقل وعدمه ملكية المنفعة عن ملكية الانتفاع وبذلك دخل وطء الأمة المحللة في ملك اليمين إذ ليس من التزويج قطعا مع الحصر في قوله تعالى «إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ» بل الزوجة أيضا مملوكة للزوج من جهة الانتفاع ببعضها ، وان وقع التعبير عنه يملك البضع ، الا أن المقصود ملكيتها من جهة الانتفاع بالبضع ، فلا تنافي الحرية ، وإلا فلا معنى لملكية نفس البضع ويحتمل أن تكون ملكية البضع من قبيل ملكية المنفعة ، وان فارقته في بعض الآثار كعدم جواز النقل فأشبهت ملك الانتفاع لأن الملكية تدور مدار عنوان الزوجية الحاصلة بالعقد ، فالزوجة واسطة العروض يدور مدارها وجودا وعدما ، بخلاف المستأجر فإنه محل للملكية الحاصلة بالعقد يمكن فيه النقل والانتقال.

هذا ولا ينافي السلطنة القوية البالغة للمرتبة القصوى من الملكية : عدم نفوذها لمانع من أسباب التحجير كالصغر والسفه ونحو ذلك ، كما لا ينافي

٧١

تماميتها في مرحلة الملكية القوية نقصانها من جهة أخرى كالشركة التي معناها ملك كل من الشريكين أو الشركاء كل المال ملكية ناقصة بالنسبة إلى التمام وانبساطها على الكل بحيث لو تم نقصانها من هذه الجهة بالقسمة عبر عنه بأحد الكسور التسعة ، كالنصف والثلث ، وغير ذلك من غير حدوث ملكية جديدة ، وليس النقصان الا من جهة المتعلق وهو الكل والنسبة اليه ، ولذا كانت قسمة المشاع عندنا إفراز حق وتمييز حصص كما طفحت بذلك عباراتهم في تعريفها خلافا للعامة حيث ذهبوا الى أن القسمة معاوضة لانتقال شطر من حصة كل من الشريكين مثلا الى الآخر بعوض ما انتقل منه اليه ، وهذا هو الوجه للتخلص عن الاشكال الوارد على تعريف القسمة عندنا ، وانها ليست بمعاوضة ، لا ما ذكروا له من الوجوه المقررة في محله (١).

__________________

(١) توضيح الاشكال وحلة ، هو أن قسمة المشاع مطلقا ـ ولو الغير المشتمل منها على الرد لا تنفك عن تحقق المعاوضة فيها لأن بها تختص الحصة بأحدهما بعد ان كانت مشاعة بينهما مملوكة لكل منهما بعوض ما انتقل منه الى شريكه ، وهل المعاوضة إلا ما كان كذلك مع ان الأصحاب عرفوها بأنها تمييز الحصص وافرازها لا معاوضة نعم المشتملة منها على الرد لا تنفك عن المعاوضة بين المردود وعوضه.

وقد تصدى بعض للجواب عنه بما يرجع ملخصه الى أن معنى الشركة في المال بالإشاعة هو أن لكل من الشريكين نصفه مثلا على وجه البدلية فالمملوك لكل منهما النصف الكلي على وجه ينطبق على أفراد الإنصاف المتصورة له بحسب اختلاف الاجزاء والكيفية ، فالصبرة المشاعة بين الاثنين بالسوية مثلا تختلف قسمتها نصفين كيفية بحسب اختلاف اجزائها تبديلا وتتكثر إفراد الإنصاف بحسب ذلك الاختلاف ، فالمملوك لكل منهما كلي النصف المنطبق على كل واحد من تلك الإنصاف انطباق الكلي على الفرد

٧٢

وكيف كان إذا تبين ذلك ظهر لك ان الإباحة المطلقة من جميع وجوه التصرف التي هي مفاد المعاطاة عند الأكثر ترادف الملكية التي تجامع عدم اللزوم وجواز الرجوع من آثار بقاء العلقة للمالك الذي قد يقال هو مقتضى الأصل عند الشك فيه ، لا ما قيل : من ان الأصل يقتضي اللزوم في الملك ، فتأمل. غير أن من صرح بعدم الملك مع ذلك فمقصوده الملك اللزومي الذي لا يجوز فيه الرجوع دون مطلق الملكية ومن ذلك قولهم عليهم السلام : «ما هو لنا فقد أبجناه لشيعتنا» ولذا صح جميع التصرفات فيه حتى

__________________

فالمقبوض بالقسمة هو مصداق ما كان مملوكا له من الكلي ، غير انه تعين بعد ان كان لا على التعيين وهو معنى القسمة المفسرة بتعيين الحصص أيضا.

وفيه ـ مع ان ذلك ينافي الشركة بالإشاعة إذ الإشاعة في الكل لا بد وان تنتهي أجزائه إلى الجزء اللايتجزأ بناء على وجوده فذلك الجزء أما أن يكون لهما أو لأحدهما أولا لهما ولا لأحدهما ، لا سبيل إلى الأخيرين لمنافاتهما الملكية والشركة في الملكية ، فتعين الأول وحينئذ لا نصف له حتى يملك النصف منه والنصف الموهوم بناء على عدم وجوده لا تتعلق به الملكية.

أن ذلك يستلزم ان يختص كل واحد من النصفين المفروضين لا على التعيين بأحدهما دون الآخر وكذا للآخر النصف الآخر كذلك وهو ينافي الإشاعة التي معناها الشركة وعدم الاختصاص في كل ما يفرض جزء.

وآخر قد تصدى له بوجه آخر وهو ان الإشاعة من أشاع بمعنى انتشر ومعناه ان الملكية منتشرة في جميع اجزاء المال بحيث لو جزأت الكل فلا بد أن تنتهي أجزائه إلى الجزء اللايتجزأ بناء على وجوده متعلقة به ملكية واحدة قائمة بالشريكين فلكل منهما نصف الملكية لا ملكية النصف إذ لا نصف له بالفرض حتى يكون مملوكا وليس الكل الا عين تلك الأجزاء مجتمعة ولا فرق في الملكية بين ملكية الكل وملكية الجزء لان التفريق والاجتماع لا يوجبان

٧٣

المتوقفة على الملك ، بل ملك الشيعة لما أباحوه لهم كالجواري المغنومة بالغزو بغير اذن الامام ، بناء على الأقوى : من كونها من الأنفال ، وخمسهم في المغنومة بنحو الغيلة والسرقة كاد أن يكون من الضروريات ، وليس الا لليد على ما أباحه المالك إباحة مطلقة كما ستعرف.

ومنه أيضا الإباحة المستفادة ولو بالقرائن من إعراض المالك عموما

__________________

الفرق في معنى الملكية ، واما بناء على عدم وجوده فما كان دونه فهو موجود وهمي لا تتعلق به الملكية وقسمته قسمة وهمية وتلك الأجزاء الوهمية يفرض اجتماعها حتى إذا بلغت جوهر الفرد تعلقت به الملكية ، وحينئذ فيجري فيه الكلام المتقدم ، وعليه فمعنى الشركة هو ملكية واحدة متعلقة بالمال قائمة بالشريكين بمنزلة مالك واحد.

وفيه بعد تسليم فرض معنى لنصف الملكية انه لا يجدي ذلك فرقا في تحقق المعاوضة بين نصف الملكية وملكية النصف لتحقق التبديل فيهما معا اللهم الا ان يرجع ولو بتكلف الى ما نذكر.

فالأحسن في الجواب هو ان يقال ان الملكية في الشركة وان كانت تامة في مرحلة نفسها قوية في مرتبتها لكنها ناقصة من جهة نسبتها الى تمام المال بحيث لو تمت من هذه الجهة لكانت كسرا من الكسور ، وعليه فكل واحد من الشركاء مالك لتمام المال ملكا ناقصا يعبر عنه بالكسور كالنصف والثلث مثلا ، والغرض أن هذا الناقص على تقدير التمامية نصف أو ثلث والقسمة عبارة عن تتميم الملك في جزء خاص فملك رقبة المال مرتبة من السلطنة لا نقص فيها مطلقا والضعف الذي في الشركة ليس في نفس المرتبة وانما هو في تعلقها بتمام المال ولهذا تتم بالقسمة مع ان المالك لم يتغير ولم يحدث بالقسمة سلطنة جديدة والجوهر الفرد غايته لا تتم فيه الملكية من جهة الضعف الحاصل من الشركة لعدم إمكان القسمة فيه فافهم واغتنم (منه عفي عنه)

٧٤

أو خصوصا كنثار العرس فإنه يملكه الأخذ باليد بعد إعراض المالك عنه.

وحيث انجر الكلام إلى مسألة الاعراض ، فلا بأس بالتعرض لها ببيان حكمه ولو بنحو الإجمال.

فنقول : الاعراض بما هو إعراض حيثما يتحقق ويوجد هل يكون سببا لخروج المال عن ملك المعرض ، وبعبارة أخرى : هل يخرج المعرض عنه بمجرد الاعراض عن ملك المعرض أم لا؟ وعلى الثاني : فهل يملك بالقبض ووضع اليد عليه مع كونه معرضا عنه أم لا؟ وعلى الثاني فهل يجوز للآخذ التصرف فيه مطلقا أم لا كذلك ، أو يفصل بين التصرفات المتوقفة على الملك كالبيع ونحوه وغير المتوقفة عليه؟ احتمالات ، بل لعلها أقوال ذهب الى الأول جماعة منهم الشيخ في محكي المبسوط والقمي في (أجوبة مسائله) بل في (الكفاية) نسبته إلى الأشهر ، حيث قال «ولو أطلق الصيد من يده لم يخرج عن ملكه إذا لم ينو قطع ملكه عنه وان نوى ذلك ، ففي خروجه عن ملكه قولان : أشهرهما الأول ولعله الأقرب» ...» انتهى كلامه. وذهب غير واحد الى بقاء الملك وعدم الخروج عنه بمجرد الاعراض بل في (المسالك) نسبه الى الأكثر حيث قال في مسألة ما لو أطلق الصيد ما لفظه «وان قطع نيته عن ملكه» ففي خروجه عنه وجهان : أحدهما ـ وهو الذي اختاره المصنف والأكثر ـ عدمه لأنه ملك. وزواله يتوقف على أسباب شرعية ، فلا يحصل بمجرد الإرادة ، والأعراض عن الملك لم يثبت شرعا أنه من الأسباب الناقلة عنه والقول بخروجه بذلك عن ملكه للشيخ في (المبسوط)» وقال أيضا في مسألة غرق السفينة «والأصح ان جواز أخذ ما يتخلف مشروط باعراض مالكه عنه مطلقا ، ومعه يكون اباحة لآخذه ولا يحل أخذه بدون الاعراض مطلقا عملا بالأصل» انتهى.

٧٥

ووجه القول بجواز التصرف ، هو ظهور حال المعرض في الرضا به وقيام شاهد الحال عليه ، ووجه التفصيل هو توقف تلك التصرفات على الملك المفروض عدمه في المقام ، ووجه المنع مطلقا عدم الملك وعدم إحراز الإباحة المتوقفة على إنشائها منه ، مع منع قيام شاهد الحال عليه على وجه الكلية مع اقتضاء الأصل العدم في الجميع عند الشك فيه.

والأظهر عندي عدم الخروج عن الملك بمجرد الاعراض ، ولكن يملك بالقبض ووضع اليد عليه بقصد التملك : اما الأول ، فلعدم الدليل على خروجه من الملك بمجرد الإعراض إذ الخروج عنه كالدخول فيه متوقف على سبب شرعي ، ولم يقم دليل على سببية الاعراض له ، مع أن مقتضى الأصل هو البقاء على الملكية ، واما الثاني وهو التملك بالقبض فلصيرورة المعرض عنه بالاعراض ورفع اليد عنه بحكم المباح ، فيدخل تحت عموم «من سبق الى ما لم يسبق إليه أحد» الحديث (١) وقوله عليه السلام : «لليد ما أخذت وللعين ما رأت» (٢) خرج عنه الملك الغير المعرض عنه والمزاحم فيه المالك فتأمل ، فيبقى الباقي تحت العموم ، فاليد سبب للملك ما لم يسبق بيد وملكية مزاحمة ، سواء كان المال الموضوعة عليه اليد من المباحات الأصلية أو ما هو بحكمها ، مضافا الى صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه

__________________

(١) سبق الكلام على هذا الحديث النبوي في الجزء الأول من هذا الكتاب

(٢) في خبر السكوني : في رجل أبصر طائرا فتبعه حتى سقط على شجرة فجاء رجل آخر فأخذه فقال أمير المؤمنين (ع) للعين ما رأت واليد ما أخذت (كذا في الجواهر) هذا وفي استفادة سببية اليد للملكية ما أخذته من هذه الفقرة من الخبر بنحو الإيجاب الكلي وكون ذلك بنحو القاعدة تأمل ، فإنه مضافا الى خروج ما خرج منها يمكن كون الحكم المذكور منه عليه السلام من قبيل الحكم في واقعة خاصة لا عموم فيها ، ولعله لذا أمر بالتأمل.

٧٦

السلام قال : «من أصاب مالا أو بعيرا في فلاة من الأرض قد كلت وأقامت وسببها صاحبها لما لم تتبعه فأخذها غيره فأقام عليها وأنفق نفقة حتى أحياها من الكلال ومن الموت فهي له ولا سبيل له عليها ، وانما هي مثل الشي‌ء المباح» وليس المماثلة في الخروج عن الملكية ، بل مثله في التملك بالقبض وذكر البعير على جهة المثال سيما مع عطفه على المال. والى رواية الشعيري قال : «سئل أبو عبد الله عليه السلام عن سفينة انكسرت في البحر وفيها مال فأخرج بعضه بالغوص ، وأخرج البحر بعض ما غرق فيها؟ فقال : اما ما أخرجه البحر ، فهو لأهله الله أخرجه لهم ، واما ما أخرج بالغوص فهو لهم وهم أحق به» وقال في (السرائر) بعد ذكر الرواية ـ «قال محمد بن إدريس : وجه الفقه في هذا الحديث : أن ما أخرجه البحر ، فهو لأصحابه ، وما تركوه آيسين منه ، فهو لمن وجده وغاص عليه لأنه صار بمنزلة المباح ، ومثله من ترك بعيره من جهد من غير كلاء ولا ماء ، فهو لمن أخذه ، لأنه خلاه آيسا منه ورفع يده عنه فصار مباحا ، وليس هذا قياسا لأن مذهبنا ترك القياس ، وانما هذا على جهة المثال والمرجع فيه الى الإجماع ، وتواتر النصوص ، دون القياس والاجتهاد وعلى الخبرين إجماع أصحابنا منعقد.

قلت : تنزيل الرواية على تحقق الاعراض عن البعض باليأس ـ وهو ما اخرج بالغوص وعدمه في البعض الآخر وهو ما أخرجه البحر كما يظهر من عبارة السرائر تفكيك ركبك وحينئذ تشكل الرواية لأن الاعراض : ان كان متحققا ، فما أخرجه البحر كما اخرج بالغوص يملكه من سبق اليه ، وإلا فما اخرج بالغوص أيضا لمالكه ، وحملها على إرادة المال للمالك في الصورتين ، والتفصيل انما هو في المخرج ، والمقابلة بين ما أخرجه الغواص لهم وما أخرجه الله كما احتمله في (الجواهر) ضعيف جدا. فالأولى عندي بل هو المتعين حمل الرواية على الغالب من حصول الاعراض بالغرق وصيرورة المال بعده بحكم المباح ، يملكه من سبق اليه ولذا

٧٧

ما أخرج بالغوص ملكه الغواص ، غير أن ما أخرجه البحر لم يحرز بقاء الاعراض مع كونه ملقى في الساحل ، بل الظاهر رجوعه عنه ، فلا يملكه من سبق اليه لخروجه عن حكم المباح عند وضع اليد عليه ، وهو شرط في التملك باليد ويكفي في التوقف الشك فيه بعد منع جريان الاستصحاب في المقام (١) ويؤيد ما ذكرنا من التملك باليد رواية على بن ميمون الصائغ ، قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عما يكنس من التراب ، فأبيعه ، فما أصنع به؟ قال : «تصدق به ، فاما لك أو لأهله» الخبر. ومثله خبره الآخر : «سألته عن تراب الصواغين وإنا نبيعه؟ قال : أما تستطيع ان تستحله من صاحبه؟ قال قلت لا إذا أخبرته اتهمني ، قال : بعه ، قلت : فبأي شي‌ء نبيعه؟ قال بطعام ، قلت فأي شي‌ء نصنع به؟ قال تصدق به : إما لك أو لأهله» بناء على إرادة (اما) هو لك بالاعراض فالصدقة بملكك أو لصاحبه ، فالصدقة بملكه والأمر بالصدقة أخذ باطراق الاحتياط ، وتضمن الأخير لما لا يقول به أحد : من تسويغ خوف التهمة للتصدق بمعلوم المالك لا يضر في الاستدلال بفقرته الأخرى : واما على ارادة : لك ثواب الصدقة لو ظهر المالك ولم يرض بها ، أو هو له لو رضي بها كما هو أحد الاحتمالين فيهما بل لعله الظاهر منهما ـ فهي أجنبية عن مسألة الاعراض ، وضعف سند خبر الشعيري ، منجبر بما تقدم من كلام الحلي (في السرائر).

وكيف كان ، فالأظهر هو التملك باليد مطلقا سواء كان الاعراض اختياريا أو قهريا ، كما في صورة اليأس ، وفي المحقرات وغيرها ، والقول به في خصوص الاعراض القهري أو في المحقرات بالخصوص ، تفصيل من

__________________

(١) فان موضوع تملك ذي اليد لمال الغير كونه معرضا عنه ومباحا من مالكه عند وضع اليد عليه واستصحاب بقاء الاعراض منه وعدم رجوعه لا يثبت به موضوع التملك.

٧٨

غير دليل. ولعل نظر من اقتصر في الحكم على الأخير إلى دعوى عدم الدليل على تملك المعرض عنه الا السيرة الممنوع قيامها إلا في المحقرات كجلات الانعام والسنابل المتخلفة من الزرع وحطب المسافر ونحو ذلك من المحقرات التي يعاملون مع ملتقطها معاملة المالك من البيع والشراء وفيه ما عرفت من قيام الدليل عليه من النصوص المعتضدة بدعوى الإجماع المتقدم من السرائر عليه نعم ، يتحقق الاعراض فيهما ـ غالبا ـ فاليأس أو الحقارة محقق لموضوع الاعراض غالبا لا شرط في حكمه فافهم.

هذا ولو نوى المعرض الرجوع عن إعراضه فاما أن يكون ذلك قبل قبض الغير له أو بعده ، وعلى التقديرين ، فأما أن نقول بخروجه عن ملك المعرض بالاعراض أولا ، وعليه فاما أن نقول بتملك الغير بالقبض أولا وان جاز التصرف فيه ، فان نواه قبل القبض وقلنا بالخروج لم يرجع الى ملكه بالنية ، لأن الدخول فيه متوقف على سبب كالقبض مفقود في المقام بالفرض ، فلو تسابق المعرض وغيره على قبضه فهو لمن سبق اليه بالقبض بلا اشكال ، كما لا إشكال في جواز الرجوع عليه مع بقاء العين وان قبضه الآخر بناء على بقائه في ملكه وعدم تملك الغير له بالقبض. وأما بناء على التملك به فان كان الرجوع قبله ، فلا إشكال أيضا في عدم تملك القابض له لان المدار في التملك بالقبض على كون المال بحكم المباح عند القبض ووضع اليد عليه حتى يكون المحل قابلاً لتأثير اليد فيه بالملكية ، ولعله تشعر به بل ترشد إليه رواية الشعيري المتقدمة الحاكمة بان ما أخرجه البحر فهو لأصحابه ، بناء على ما ذكرنا من رجوع المعرض عن الإعراض حينئذ بحكم العادة.

وأما لو نوى الرجوع بعد قبض الغير له بناء على التملك به ، ففي جواز الرجوع على العين مع بقائها وعدمه وجهان : قد يقال : انهما مبنيان

٧٩

على أن الأصل في الملك هل هو اللزوم أو الجواز (١).

ذهب الى الأول جماعة ، منهم (شيخنا المرتضى) في مكاسبه ونظره مضافا الى كفاية استصحاب الكلي بالنسبة إلى الآثار المترتبة عليه لو سلم كون الاختلاف باللزوم والجواز من الاختلاف في ماهية الملك ، وحقيقته أن جواز الرجوع وعدمه باعتبار حكم الشارع له بذلك ومنشأ هذا الاختلاف اختلاف حقيقة السبب المملك لا اختلاف حقيقة الملك.

__________________

(١) توضيح ذلك : أن المختار لجماعة من الأصحاب ، ـ ومنهم شيخنا الأنصاري ـ كون الأصل العملي في الملك اللزوم ، وذهب سيدنا المصنف ـ قدس سره ـ الى أن الأصل فيه الجواز حتى يقوم دليل على اللزوم.

ومنشأ الخلاف : هو أن اللزوم والجواز منوعان للملك ، فالملكية اللازمة حقيقة ، والجائزة حقيقة أخرى. أو ان الملك حقيقة واحدة ، واللزوم والجواز حكمان يعرضان لسببه ، فالبيع المجعول فيه الخيار بالأصل أو بالشرط جائز جوازا حقيا بمعنى أن الشارع المقدس بدليل الخيار أو دليل الشرط جعل أمر العقد إقرارا وفسخا ـ بيد العاقد مثلا ، وحقا من حقوقه ، ان شاء أقره وان شاء فسخه ، والهبة المجانية لغير ذي الرحم جائزة جوازا حكميا ، لحكم الشارع بجواز الرجوع فيها ، بخلاف الهبة لذي الرحم أو المشروط فيها العوض ، فإنها لازمة لا يجوز الرجوع فيها ، فاللزوم والجواز حكمان شرعيان مجعولان نسبب الملك ، فاذا تحقق وشك في زواله للشك في أن سببه المقتضى له مما يجوز فسخه والرجوع فيه ، فمقتضى الاستصحاب وإبقاء ما كان على ما كان هو الحكم ببقاء ما تحقق من الملك وعدم تأثير رجوع مالكه السابق المنتقل منه الملك حتى يعلم أن سببه مما يجوز فسخه والرجوع به.

وبالجملة ، فالمدعى ان الملكية العرفية والجدة الاعتبارة لها حقيقة

٨٠