مفتاح الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-08-5
الصفحات: ٣٩٧

وفيه : أنّ نقض الغرض والتّفويت كما ربما يستندان إلى حكم العقل بالبراءة ، كذلك يستندان إلى التّعبّد بالأمارة عند الخطاء وعدم الإصابة.

هذا بناء على المختار من كون الأمارات حجّة على وجه الطّريقيّة.

وأمّا بناء على كونها كذلك على وجه الموضوعيّة ، فيندفع بعض المحاذير المتقدّمة ، كمحذورى التّفويت أو الإلقاء ، ونقض الغرض ؛ وذلك ، لانجبار ما يفوت من الواقع بما في الحكم الظّاهريّ من الملاك ، أو لاندفاع ما يقع فيه من مفسدة الواقع بما يحصّله من مصلحة الظّاهر.

وأمّا بعض آخر ، كمحذور اجتماع المثلين أو النّقيضين أو الضّدّين ، فيبقى على حاله.

وقد دفع المحقّق العراقي قدس‌سره محذوري التّفويت ونقض الغرض ، بناء على الموضوعيّة ـ أيضا ـ بعين ما قال في دفعهما ، بناء على الطّريقيّة ، والجواب عنه هو الجواب المتقدّم بعينه. هذا تمام الكلام في المقام الأوّل (دفع المحاذير بناء على الانسداد).

وأمّا المقام الثّاني (دفع المحاذير بناء على الانفتاح) فعلى طريقيّة الأمارة ، كما هو المختار ، يندفع محاذير تحريم الحلال وتحليل الحرام ، واجتماع المثلين والضّدّين والنّقيضين ، بخلاف محذور التّفويت ونقض الغرض ، فهو باق على حاله.

والوجه في اندفاع المحاذير ، أوّلا : هو ما حقّق في مبحث اجتماع الأمر والنّهي ، من أنّ تضادّ الأحكام ونحوه الّذي بنى عليه المحقّق الخراساني قدس‌سره في مسألة الاجتماع والامتناع واشتهر بينهم وصار مسلّما عندهم ، لا أساس له عند أرباب الفنّ ومهرة

١٦١

العلوم العقليّة أصلا ، ونتيجة ذلك ، عدم لزوم محذور اجتماع الضّدّين عند التّعبّد بالأمارة مع فرض مخالفتها للواقع.

وثانيا : أنّ الأحكام الواقعيّة في جميع موارد الاصول والأمارات تكون مشتركة بين العالمين والجاهلين ؛ لعدم تقيّد الخطابات الشّرعيّة بحال العلم وعدم اختصاصه بالعالم فقط.

نعم ، الأحكام بالنّسبة إلى العالم بها تكون فعليّة عالية ، ضرورة ، أنّ هذه الفعليّة منوطة عقلا بالعلم والاطّلاع ، كما أنّها منوطة بالتّمكّن والقدرة ـ أيضا ـ ولذا قلنا في غير موضع : أنّ تنجّز التّكليف منوط بأمرين : أحدهما : قيام الحجّة ؛ ثانيهما : وجود القدرة.

وأمّا بالنّسبة إلى الجاهل بالأحكام ، فهي تكون إنشائيّة أو فعليّة دانية ؛ وقد أشار الإمام الرّاحل قدس‌سره إلى هذا التّقسيم بقوله : «إنّ لفعليّة التّكليف مرتبتين ؛ إحداهما : الفعليّة الّتي هي قبل العلم ، وهي بمعنى : تماميّة الجهات الّتي من قبل المولى ، وإنّما النّقصان في الجهات الّتي من قبل المكلّف ، فإذا ارتفعت الموانع الّتي من قبل العبد يصير التّكليف تامّ الفعليّة وتنجّز عليه ؛ وثانيتهما : الفعليّة الّتي هي بعد العلم وبعد رفع سائر الموانع الّتي تكون من قبل العبد وهو التّكليف الفعليّ التّام المنجّز» (١).

وقد أشار ـ أيضا ـ شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره إلى هذا التّقسيم حيث عبّر عن الفعليّة الدّانية ، بالفعليّة بلا فاعليّة ومحرّكيّة ؛ وعن الفعليّة العالية ، بالفعليّة مع الفاعليّة والمحرّكيّة. (٢)

__________________

(١) أنوار الهداية : ج ١ ، ص ٢٠٠.

(٢) تقريرات بحوثه قدس‌سره القيّمة بقلم الرّاقم.

١٦٢

وكيف كان ، الأحكام الواقعيّة تكون إنشائيّة ، أو فعليّة دانية بالنّسبة إلى الجاهلين ، وإلى موارد الاصول والأمارة المخالفة للواقع ، ومعه لا مانع ولا محذور في التّرخيص الفعليّ على خلافها ، لا محذور اجتماع الضّدّين ، ولا محذور آخر ، كما لا يخفى.

فلا بدع في كون صلاة الجمعة حراما في موقف الجعل والإنشاء ، ومرحلة الفعليّة الدّانية ، وواجبة في موقف الظّاهر ومرحلة الفعليّة العاليّة.

وبالجملة : مفاد أدلّة اعتبار الاصول والأمارات ليس إلّا ترتيب الآثار حتّى آثار الطّهارة ، كما في قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر» (١) ، وآثار الحلّية كما في قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء هو لك حلال» (٢) ، فإن أصاب الواقع فهو ، وإلّا بقي الحكم الواقعيّ في موقف الجعل والإنشاء ، ومرحلة الفعليّة الدّانية ، ويصير مفاد الأمارات ، أو الاصول فعليّا تامّا في موقف العمل ، فلا يلزم محذور أصلا. هذا بالنّسبة إلى محاذير اجتماع المثلين أو الضّدّين أو النّقيضين.

وأمّا محذور التّفويت ونقض الغرض ، فقد عرفت : أنّه غير مندفع بناء على الانفتاح ، ووجهه واضح ، إلّا أنّ المحقّق النّائيني قدس‌سره قد دفعه بقوله : «إنّه لا يلزم عليه محذور التّفويت ؛ إذ المراد من الانفتاح هو إمكان الوصول إلى الواقع بالسّؤال عن شخص الإمام عليه‌السلام لا فعليّته ، حيث إنّ الانفتاح بهذا الوجه ممّا لا يمكن دعواه ، فقد يكون الشّخص متمكّنا من الوصول إلى الواقع ولكن لم يصل إليه ؛ لاعتماده على الطّرق

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ٢ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٣٧ من أبواب النّجاسات ، الحديث ٤ ، ص ١٠٥٤.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١٢ ، كتاب التّجارة ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤ ، ص ٦٠.

١٦٣

المفيدة للعلم مع خطأ علمه وكونه من الجهل المركّب ... فلا ملازمة بين الانفتاح وبين عدم الوقوع في خلاف الواقع ، وعلى هذا ، يمكن أن تكون الأمارات الظّنيّة في نظر الشّارع ، كالأسباب المفيدة للعلم الّتي يعتمد عليه الإنسان من حيث الإصابة والخطاء ... فلا يلزم محذور من التّعبّد بالأمارات الغير العلميّة ؛ لعدم تفويت الشّارع من التّعبّد ، مصلحة على العباد» (١).

وقد أورد عليه المحقّق العراقي قدس‌سره : بأنّ قياس الأمارات الظّنيّة بالعلم يكون مع الفارق ؛ إذ لا تفويت في موارد خطأ العلم ، بل هناك يفوت المصلحة من المكلّف قهرا ، لعدم التفاته حين قطعه إلى خطأ قطعه ، فالفوت مستند إلى الجهل المركّب من المكلّف وعدم التفاته إلى ما وقع فيه من الخطاء ، وهو أمر قهريّ غير اختياريّ ، هذا بخلاف التّعبّد بالأمارة مع احتمال خطائها ، حيث إنّه تفويت اختياريّ من ناحية الشّارع لو أمر به ، وهو أمر قبيح ، يستحيل صدوره منه ، فلا مجال لمقايسة أحدهما بالآخر. (٢)

هذا ، ولكن في كلتا المقالتين ما لا يخفى ، أمّا مقالة المحقّق النّائيني قدس‌سره ففيها ما مضى : من أنّ المخلّ بالنّظام أو الموجب للعسر والحرج ، المنافي للسّهولة هو الاحتياط التّام بخلاف النّاقص. وعليه ، فلا مانع من العمل بالاحتياط في الشّبهات ، والاعتماد في الموارد الأخر على القطع الحاصل من موجباته من الأمارات القطعيّات.

وأمّا مقالة المحقّق العراقي قدس‌سره ففيها : أنّ فوت المصلحة في موارد خطأ القطع

__________________

(١) فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ٩٠ و ٩١.

(٢) راجع ، نهاية الأفكار : ج ٣ ، ص ٦٠.

١٦٤

وعدم الإصابة ، يكون منشؤه عدم إيجاب الشّارع للاحتياط ، فكأنّه لعدم اهتمامه بالواقع ، وعدم تشديد أمر الواقع بطريق إيجاب الاحتياط ، فوّت المصلحة في موارد القطع مع عدم الإصابة ، كتفويته الاختياريّ في موارد الأمارة عند خطائها وعدم الإصابة.

وإن شئت ، فقل : إنّه لا فرق بين موارد القطع غير المصيب ، وموارد الأمارات غير العلميّة المخطئة ، في استناد فوت المصلحة والوقوع في المفسدة إلى الشّارع ، حيث إنّه لم يوجب الاحتياط ، ففوّت الواقع بعدم إيجابه له ، ولذا فاتت المصلحة ، أو وقع المكلّف في المفسدة. وعليه ، فالتّفويت في كلا الموردين اختياريّ.

ثمّ إنّه قد يتمسّك لدفع شبهة تفويت مصلحة الواقع من ناحية التّعبّد بالأمارة غير العلميّة ، بالمصلحة السّلوكيّة ، كما قال بها الشّيخ الأنصارى قدس‌سره ، وقد أوضح المحقّق النّائيني قدس‌سره هذه المقالة بعد ما قال : «فلنا أن نلتزم بالسّببيّة على وجه تتدارك المصلحة الفائتة على اصول المخطّئة من دون أن يلزم التّصويب الباطل» (١).

محصّل كلامه قدس‌سره أنّ سببيّة الأمارة لحدوث المصلحة الجابرة المتدارك بها المصلحة الفائتة عند خطائها ، على وجوه ثلاثة : (٢)

الأوّل : السّببيّة الأشعريّة ، بأن يكون قيام الأمارة عند الجاهل بالأحكام الواقعيّة سببا لحدوث مصلحة مستتبعة لجعل أحكام على طبقها ، وقضيّة ذلك ، اختصاص الأحكام الواقعيّة بالعالمين ولا يكون للجاهلين إلّا مؤدّيات الأمارة ، وهذه

__________________

(١) فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ٩٤.

(٢) راجع ، فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ٩٥ و ٩٦.

١٦٥

هي الأحكام الواقعيّة لهم الّتي تختلف باختلاف آرائهم ، تتعدّت بتعدّد أنظارهم فهي تابعة لآراء المجتهدين وجودا وعدما ، حدوثا وبقاء ، توحّدا وتعدّدا.

وواضح : أنّه على هذا المسلك ، ليس وراء مؤدّى الأمارة حكم آخر واقعيّ حتّى يلزم من ناحية التّعبّد بها والعمل على خلاف ذلك الحكم ، تفويت بالنّسبة إلى مصلحة الواقع ، وهذا هو التّصويب الأشعريّ الّذي قام على خلافه الضّرورة ، وعلى بطلانه الإجماع ، مضافا إلى دعوى تواتر الأخبار وتظافر الرّوايات على اشتراك الأحكام الواقعيّة بين العالم والجاهل ، أصابها من أصاب ، وأخطأها من أخطأ ، على أنّ الأماريّة لا تجامع السّببيّة المولّدة المحدّثة ، فافهم واغتنم.

الوجه الثّاني : السّببيّة المعتزليّة ، بأنّ الحكم الواقعيّ وإن كان متحقّقا في الواقع ، دائرا مدار المصلحة أو المفسدة النّفس الأمريّة ، مشتركا فيه العالم والجاهل ، إلّا أنّ قيام الأمارة موجب لحدوث مصلحة أقوى في المؤدّى (١) من مصلحة الواقع ؛ إذ مقتضى التّساوي هو التّخيير بينه وبين المؤدّى ، والمفروض ، أنّ الحكم الفعليّ ليس إلّا المؤدّى.

وواضح : أنّه على هذا المسلك ـ أيضا ـ تندفع شبهة التّفويت ؛ إذ مع قيام الأمارة على خلاف ما في الواقع ، يكون الحكم الواقعيّ الفعليّ هو مؤدّى الأمارة الّذي

__________________

(١) في هذا التّعبير تسامح ؛ إذ المصلحة لا تكون في المؤدّى وهو الحكم بل تكون في متعلّقه ، والمناسب أن يقال : قيام الأمارة موجب لحدوث مصلحة أقوى في نفس العنوان الذّاتي ، نظير أن يكون «صلاة الجمعة» مثلا ، مشتملة على مفسدة واقعا ، مستتبعة للحرمة ، لكنّ الأمارة قامت على وجوبها ، فصار قيامها عليه موجبا لحدوث مصلحة فيها أقوى من تلك المفسدة ، أو قامت على وجوب الظّهر ، فصار قيامها عليه موجبا لحدوث مصلحة أقوى من تلك المفسدة.

١٦٦

تكون المصلحة فيه أقوى ، فلا يلزم تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة ، وهذا هو التّصويب المعتزليّ الّذي يدلّ على بطلانه قيام الإجماع ودلالة الرّوايات على الاشتراك ، وأنّ الواقع لا يتغيّر عمّا هو عليه بقيام الأمارة ، مضافا إلى ما عرفت : من أنّ الأماريّة تنافي السّببيّة بأيّ وجه كانت ، فافهم.

الوجه الثّالث : السّببيّة السّلوكيّة ، بأن يكون قيام الأمارة موجبا لحدوث مصلحة في السّلوك على طبقها والتّطرق بها وتطبيق العمل على مؤدّاها والبناء على أنّه هو الواقع بترتيب آثاره عليه ، فعلى هذا المسلك ـ أيضا ـ تندفع شبهة التّفويت بل نقض الفرض ـ كما عن شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره ـ إذ يتدارك بهذه المصلحة ما فات على المكلّف من مصلحة الواقع بسبب قيام الأمارة على خلافه ، ولا يلزم التّصويب الباطل هنا ـ أيضا ـ بداهة ، أنّ الواقع والمؤدّى باقيان على ما هما عليه من المصلحة والمفسدة بلا حدوث مصلحة في المؤدّى بسبب قيام الأمارة غير ما كان عليه قبل قيامها.

هذا ولكن أورد على هذا المسلك بوجوه :

منها : ما عن الإمام الرّاحل قدس‌سره فقال ، ما حاصله (١) : أنّه يرد على المصلحة السّلوكيّة امور :

الأوّل : أنّه لا أساس لها أصلا ؛ إذ لا شأن للأمارات إلّا الطّريقيّة والإيصال إلى الواقع ، وهي طرق عقلائيّة إمضائيّة يعمل بها العقلاء ؛ لمكان مرآتيّتها وأمضاها الشّرع لأجل هذه الخصوصيّة ، فليست في سلوكها أيّة مصلحة.

الثّاني : أنّ السّلوك والتّطرّق والتّطبيق والبناء وأمثالها ، مفاهيم مصدريّة

__________________

(١) راجع ، أنوار الهداية : ج ١ ، ص ١٩٤ و ١٩٥.

١٦٧

نسبيّة ، لا حقيقة لها إلّا في عالم الاعتبار ، فلا تتّصف بالمصالح والمفاسد ، بل مصبّ المصلحة والمفسدة نفس العناوين الواقعيّة ، كالصّلاة والخمر.

الثّالث : أنّه لو كانت المصلحة في سلوك الأمارة وتطرّق الطّريق وراء ما في الواقع في الإخبار عن الامور الشّرعيّة ، لزم قيامها ووجودها في السّلوك والتّطرّق في الإخبار عن الامور العادية ـ أيضا ـ وهذا ، كما ترى.

والقول بقيامها في خصوص تطرّق الطّريق القائم على الحكم الشّرعيّ ، مجازفة.

الرّابع : أنّه يلزم من تدارك المصلحة الواقعيّة بالسّلوكيّة ، الإجزاء وعدم لزوم الإعادة والقضاء ، لسقوط الأمر رأسا بالتّدارك ، وهذا ـ أيضا ـ كما ترى.

ومنها : ما عن بعض الأعاظم قدس‌سره (١) من أنّ السّببيّة بهذا المعنى يستلزم تبدّل الحكم الواقعيّ بنوع من التّصويب. بتقريب : أنّ سلوك الأمارة لو كان مشتملا على مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع الفائتة ، لا يعقل تعلّق الإيجاب بالواقع تعيينا ، لكونه ترجيحا بلا مرجّح ، بل لا بدّ حينئذ من تعلّقه به ، وبالسّلوك تخييرا ـ مثلا ـ لو فرض أنّ مصلحة صلاة الظّهر تقوم بأمرين : أحدهما : نفس صلاة الظّهر ، وثانيهما : سلوك الأمارة الدّالّة على وجوب صلاة الجمعة لمن لم ينكشف له الخلاف ، فامتنع من الشّارع الحكيم تخصيص الوجوب الواقعي بخصوص صلاة الظّهر ؛ لقبح التّرجيح بلا مرجّح.

وعليه : فلا يكون الحكم الواقعيّ مشتركا بين العالم والجاهل بنحو واحد ، بل

__________________

(١) راجع ، مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٩٧.

١٦٨

في حقّ العالم تعيينيّ ، وفي حقّ الجاهل تخييريّ ، وهذا نوع من التّصويب ، يدلّ على بطلانه مضافا إلى الإجماع ، روايات اشتراك الأحكام.

وفيه ما لا يخفى : لأنّ الجاهل لا يجب عليه إلّا خصوص السّلوك ، كوجوب صلاة الظّهر على العالم. وعليه ، فلا يلزم في حقّ الجاهل كون الحكم الواقعيّ تخييريّا.

ومنها : ما عن المحقّق البروجرديّ قدس‌سره (١) فقال ، ما حاصله : أنّه يرد على المصلحة السّلوكيّة من جهتين :

الاولى : أنّ السّلوك ليس أمرا وراء العمل يوجده المكلّف ويكون محكوما بالحكم الواقعيّ ، وإذا لو فرض قيام الأمارة على وجوب صلاة الجمعة ـ مثلا ـ وكانت بحسب الواقع محرّمة ، فليس معنى سلوك الأمارة والعمل على طبقها حينئذ إلّا إتيان الجمعة والفرض كونها مشتملة على المفسدة ، ولا مناص إذا من أن تكون المصلحة في السّلوك أقوى بحيث تتدارك بها المفسدة الواقعيّة للجمعة ، ولازم ذلك هو انقلاب الحكم الواقعي ؛ إذ لا يعقل أن يوجد في موضوع واحد ملاكان مستقلّان يؤثّر كلّ منهما في حكم مستقلّ.

الجهة الثّانية : أنّ سلوك الأمارة لو سلّم كونه عنوانا مستقلّا مشتملا على ملاك مستتبع للحكم ، لكن ليس هذا الحكم ظاهريّا ، طريقيّا ثابتا لحفظ الواقع عند الجهل به ، بل يكون لأجل اشتماله على الملاك ، حكما واقعيّا في عرض سائر الأحكام الواقعيّة ، ولازم ذلك ، أن لا يتنجّز الواقع بقيام الأمارة وإن صادفته ؛ إذ العلم بحكم ثابت لعنوان ، لا يكون منجّزا لحكم آخر مجعول على عنوان آخر ، وهذا ، كما ترى.

__________________

(١) راجع ، نهاية الاصول ، ص ٤٤٦ إلى ٤٤٨. الطّبعة الجديدة.

١٦٩

هذه كلّها إشكالات من الأساطين على مقالة الشّيخ الأنصاري قدس‌سره ، ولكن التّأمّل في كلماته قدس‌سره يقتضي أن يقال : إنّه ليس في كلامه قدس‌سره ما يدلّ على كون قيام الأمارة سببا لحدوث مصلحة في نفس السّلوك ، كيف! وأنّ لازمه أن يكون أمر الشّارع بالتّعبّد بها ـ بأن يقول : مثلا ، اسلك الأمارة أو اعمل بها أو تعبّد بها ـ أمرا نفسيّا ، عرضيّا ، مولويّا ، نظير أمره بالصّلاة والصّوم والحجّ مع أنّ أمثال هذه الأوامر طريقيّة إرشاديّة صدرت لحفظ الواقع.

والموجود من كلامه قدس‌سره هنا ، ليس إلّا عبارتان : إحداهما : أن لا تكون مشتملة لعنوان المصلحة السّلوكية وهي هذه : «إنّ التّعبّد بالخبر يتصوّر على وجهين : أحدهما : أن يجب العمل به لمجرّد كونه طريقا إلى الواقع ... الثّاني : أن يجب العمل به لأجل أنّه يحدث فيه ـ بسبب قيام تلك الأمارة ـ مصلحة راجحه على المصلحة الواقعيّة الّتي تفوت عند مخالفة تلك الأمارة للواقع ، كأن يحدث في صلاة الجمعة بسبب إخبار العادل بوجوبها ، مصلحة راجحة على المفسدة في فعلها على تقدير حرمتها واقعا» (١).

فهذا الكلام ، كما ترى ، ناظر إلى الطّريقيّة المحضة وإلى السّببيّة المعتزليّة ، لا إلى المصلحة السّلوكيّة كما هو مورد البحث.

ثانيتهما : أن تكون مشتملة لعنوان المصلحة السّلوكية وهي هذه : «وحيث انجرّ الكلام إلى التّعبّد بالأمارات الغير العلميّة ، فنقول : في توضيح هذا المرام وإن كان خارجا عن محلّ الكلام ، إنّ ذلك يتصوّر على وجهين : الأوّل : أن يكون ذلك من باب

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ ، ص ١٠٨ و ١٠٩. الطّبعة الجديدة.

١٧٠

مجرّد الكشف عن الواقع ... الثّاني : أن يكون ذلك لمدخليّة سلوك الأمارة في مصلحة العمل وإن خالف الواقع ، فالغرض إدراك مصلحة سلوك هذا الطّريق الّتي هي مساوية لمصلحة الواقع أو أرجح منها» (١).

ولا يخفى : أنّه لا دلالة في هذا الكلام على إيجاد المصلحة السّلوكيّة بنفس قيام الأمارة ؛ إذ قوله قدس‌سره في ذيل الوجه الثّاني : «فالغرض إدراك مصلحة سلوك هذا الطّريق ...» يدلّ على أنّ طريق الأمارة إلى الواقع مشتمل على مصلحة لا تكون تلك المصلحة في طريق آخر من القطع والاحتياط ، فلو سلك سالك هذا الطّريق وعمل على طبقه لوصل إلى مصلحته ، لا أنّه يدلّ على كون قيام الأمارة بنفسه سببا لحدوث مصلحة في سلوك الأمارة.

نعم ، يستشكل على هذا القول (الّذي ذكره قدس‌سره في ذيل الوجه الثّاني) بأنّ الغرض من التّعبّد بالأمارات الغير العلميّة ليس إلّا الامتثال من فعل ما امر به وترك ما نهي عنه ، وتحصيل مصالح المأمور به وإدراكها ، والتّحرّز عن مفاسد المنهي عنه وإبعادها ، وأمّا الزّائد على هذا المقدار كإدراك مصلحة السّلوك ، فلا. غاية الأمر ، لو لم يصل إلى الواقع وفات منه مصلحته ، تتدارك تلك المصلحة الفائتة بمصلحة سلوك الأمارة ، هذا بالنّسبة إلى ذيل كلامه قدس‌سره في الوجه الثّاني.

أمّا صدره وهو قوله قدس‌سره : «أن يكون ذلك لمدخليّة سلوك الأمارة في مصلحة العمل بها» فلا دلالة فيه ـ أيضا ـ على ما ذكر من كون قيام الأمارة سببا لحدوث مصلحة في سلوكها ، بل قوله قدس‌سره : «في مصلحة العمل بها» يدلّ على اشتمال العمل

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ ، ص ١١٢.

١٧١

بالأمارة ، على مصلحة ، إلّا أنّ قوله قدس‌سره : «لمدخليّة سلوك الأمارة ...» يدلّ على دخل سلوك الأمارة في مصلحة العمل بها ، والمفروض ، أنّ السّلوك ليس إلّا العمل ، فيصير مضمون الكلام ، دخل العمل بالأمارة في مصلحة العمل بالأمارة ، أو دخل سلوك الأمارة في مصلحة سلوك الأمارة ، وهذا كما ترى.

اللهمّ إلّا أن يكون مراده قدس‌سره ، أنّ استيفاء مصلحة العمل بالأمارة وتحصيلها ، لا سبيل إليه إلّا العمل بها وسلوكها ، لا أنّ المصلحة تحدث في العمل والسّلوك بالعمل ، كما هو ظاهر قوله قدس‌سره : «لمدخليّة سلوك الأمارة».

وكيف كان ، لا محصّل ظاهرا لهذا الكلام ، ولقد أحسن وأجاد قدس‌سره في التّعبير عن المصلحة السّلوكيّة في القسم الثّالث من أقسام الوجه الثّاني من وجهي التّعبّد بالأمارة فقال قدس‌سره : «الثّالث : أن لا يكون للأمارة القائمة على الواقعة تأثير في الفعل الّذي تضمّنت الأمارة حكمه ، ولا تحدث فيه مصلحة ، إلّا أنّ العمل على طبق تلك الأمارة والالتزام به في مقام العمل ، على أنّه هو الواقع ... يشتمل على مصلحة فأوجبه الشّارع ... وتلك المصلحة لا بدّ أن يكون ممّا يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع لو كان الأمر بالعمل به مع التّمكّن من العلم ، وإلّا كان تفويتا لمصلحة الواقع وهو قبيح ، كما عرفت في كلام ابن قبة» (١).

هذه العبارة كما ترى ، ظاهرة في أنّ العمل بالأمارة وسلوكها مشتمل على مصلحة يتدارك بها فوت مصلحة الواقع ، لا أنّ قيام الأمارة بنفسه يوجب حدوث مصلحة في السّلوك. وعليه : فالعبارة ناظرة إلى ما في العمل بالأمارة ، من مصلحة التّسهيل.

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ ، ص ١١٤ و ١١٥.

١٧٢

نعم ، تدارك مصلحة الواقع بمصلحة التّسهيل الّتي لا تكون من سنخ تلك المصلحة الواقعيّة ، فيه ما لا يخفى.

إلّا أنّا نقول : لا نحتاج إلى التّدارك ؛ لدوران الأمر بين إجراء البراءة والإهمال بالمرّة الّذي قضيّته أن يكون الأنام كالأنعام ، وبين تحصيل القطع أو إعمال الاحتياط الّذي هو إخلال بالنّظام أو تعب وعسر ، ينافي سهولة الشّريعة ، وبين العمل بالأمارات الظّنيّة غير العلميّة ، وهذا هو سهل ويسر ، ملائم لسهولة الإسلام ، وفي العمل بهذا الطّريق الّذي قد يخطئ ، إرفاق وتوسعة يوجب الجذب والإقبال ، خلاف طريق الاحتياط الّذي فيه تضييق ، يوجب الدّفع والإدبار.

والحاصل : أنّ الشّارع أمرنا بالتّعبّد بالأمارات الظّنيّة مع علمه بأنّها قد تكون مخطئة ، وأمضى هذه الطّريقة العرفيّة العقلائيّة الّتي يعمل على طبقها العقلاء في كلّ يوم وليلة ؛ وذلك ، لما فيه من السّهولة ، خلاف ما في إجراء البراءة والإهمال من الخسران والضّلالة ، وخلاف ما في تحصيل العلم والقطع أو إجراء الاحتياط من العسر والإخلال بالنّظام والمعيشة ، فالعمل على وفق الأمارات فيه خير كثير ، وشرّ يسير ، بخلاف غيره ، ففيه شرّ محض أو شرّ كثير غالب.

على أنّ العلم والقطع يكون كالظّنّ ، في الخطأ والإصابة ، فلا يجدي تحصيله في التّجنّب عن فوت مصلحة الواقع ؛ لفواتها أحيانا ولو كان المكلّف قاطعا. هذا تمام الكلام في الأمر الثّاني (١) (إمكان التّعبّد بالأمارة غير العلميّة).

__________________

(١) من الامور الثّلاثة الّتي أشرنا إليها في ابتداء مبحث الظّنّ.

١٧٣

(مقتضى الأصل عند الشّكّ)

الأمر الثّالث : (مقتضى الأصل عند الشّكّ) فلا ريب في أنّ الأصل عند الشّكّ في حجّيّة الأمارات غير العلميّة وعدمها ، يقتضي عدم الحجّيّة ؛ لمساوقة الشّكّ في الحجّيّة للقطع بعدمها ، كما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره حيث قال : «إنّ الأصل فيما لا يعلم اعتباره بالخصوص شرعا ولا يحرز التّعبّد به واقعا ، عدم حجّيّته جزما ، بمعنى : عدم ترتّب الآثار المرغوبة من الحجّة عليه قطعا» (١).

وقد يستشكل هنا ، بأنّه كيف يكون الشّكّ في الحجّيّة مساوقا للقطع بعدمها مع أنّ الشّكّ مناف للقطع ، والقطع هادم للشّكّ ومعدم له ، ولا يعقل أن يكون الشّيء مساوقا لمنافيه وضدّه.

وبعبارة اخرى : الشّكّ في الحجّيّة معناه ، هو الشّكّ في إنشاء الحجّيّة والتّرديد في جعلها ، أو الشّكّ في تصويبها وإمضاءها وعدم القطع بذلك ، فإذا كيف يتصوّر كونه مساوقا للقطع بعدم الجعل والإنشاء ، أو القطع بعدم التّصويب والإمضاء ، وهل هذا مثل أن يقال : الشّك في الوجود مساوق للقطع بالعدم ، أو الشّك في العدم مساوق للقطع بالوجود.

ولكن أشار المحقّق الخراساني قدس‌سره إلى دفع هذا الإشكال في عبارته المتقدّمة ، حيث فسّر قدس‌سره كون الشّكّ في الحجّيّة مساوقا للقطع بعدمها ، بقوله : «بمعنى : عدم ترتّب الآثار المرغوبة من الحجّة عليه قطعا».

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٥٥.

١٧٤

توضيح كلامه قدس‌سره يتوقّف على بيان أمرين : الأوّل : أنّ الحجّة تطلق على شيء ويراد منها أحد المعاني الأربعة : منها : الحدّ الوسط الواقع في الحجج والبراهين ، سواء كانت «لمّيّة» أو «إنّيّة» ففي البرهان «اللّم» تكون واسطة في الثّبوت ، وفي البرهان «الإنّ» تكون واسطة في الإثبات ، والحجّة بهذا المعنى تسمّى بالحجّة المنطقيّة.

ومنها : نفس القضايا التّصديقيّة المعلومة الموصلة إلى التّصديقات المجهولة قبال المعرّف وهي التّصوّرات المعلومة الموصلة إلى التّصوّرات المجهولة.

وإن شئت ، فعبّر : أنّ الحجّة تقال وتحمل على نفس القياس المؤلّف من المقدّمتين (الصّغرى والكبرى) الموصلتين إلى النّتيجة ، قبال المعرّف والقول الشّارح الّذي يكون من قبيل التّصور المعلوم الموصل إلى التّصور الآخر المجهول ، والحجّة بهذا المعنى ـ أيضا ـ تسمّى بالحجّة المنطقيّة.

ومنها : ما يحتجّ به المولى على العبد ويقطع به العذر ، أو ما يكون منجّزا للواقع عند الإصابة ، أو معذّرا عند الخطاء ، والحجّة بهذا المعنى تسمّى بالحجّة الاصوليّة.

ومنها : ما يكون وسطا لإثبات متعلّقه موضوعا كان أو حكما ، وهذا المعنى ـ أيضا ـ يرجع بوجه إلى الحجّة المنطقيّة ويندرج تحت البراهين ولو كانت تلك البراهين عقلائيّة أو شرعيّة.

ولا يخفى : أنّ المناسب للاصول هو المعنى الثّالث وهي الحجّة الاصوليّة ؛ إذ هذا المعنى هو المراد في باب الأمارات ، حيث إنّ معنى كون الظّنّ ـ مثلا ـ حجّة هو أنّه

١٧٥

يكون ممّا يحتجّ به المولى على عبده. هذا في الأمر الأوّل.

الأمر الثّانى : أنّ الأثر المترتّب على الشّيء يكون على أقسام ثلاثة : أحدها : أن يكون شرعيّا مترتّبا عليه ، مجعولا له مطلقا ، وفي حال العلم والجهل ، لا بشرط العلم به ، ولا بشرط الجهل به ، فالبول نجس بعنوانه النّفسي الذّاتيّ ، والماء طاهر كذلك ، بلا دخل للعلم في ترتّب هذا الأثر. نعم ، العلم ببوليّة هذا المائع ـ مثلا ـ دخيل في تنجّز نجاسته ، لا في أصل الحكم.

ثانيها : أن يكون الأثر الشّرعيّ مترتّبا على الشّيء بشرط الجهل والشّكّ ، كالطّهارة المترتّبة على المائع المشكوك طهارته ونجاسته ، والحليّة المترتّبة على الشّيء المشكوك حلّيّته وحرمته ، فهذا الشّيء بعنوانه الأوّلي ماء طاهر ، أو بول نجس ؛ أو خلّ حلال ، أو خمر حرام ، لكنّه بعنوانه الثّانويّ عند طروّ الشّكّ في الطّهارة والنّجاسة ، أو الحليّة والحرمة ، يكون حلالا أو طاهرا.

ثالثها : أن يكون الأثر عقليّا مترتّبا على الشّيء بشرط العلم ، نظير منجّزيّة حرمة الخمر المترتّبة عليه عند العلم ، فلو علم المكلّف بالحرمة صارت منجّزة.

إذا عرفت هذين الأمرين ، فنقول في توضيح كلام المحقّق الخراساني قدس‌سره : أنّ للحجّيّة آثار أربعة عقليّة : الأوّل : التّنجيز ؛ الثّاني : التّعذير ؛ الثّالث : التّجرّي ؛ الرّابع : الانقياد. وهذه الآثار إنّما تترتّب على الحجّة المعلوم حجّيّتها والمحرز اعتبارها ، بمعنى : أنّه لا بدّ في ترتّب تلك الآثار من إحراز الصّغرى والكبرى ، فمع الشّكّ في صغرى الحجّيّة وأنّ الحجّة الفلانيّة هنا موجودة ، أم لا؟ أو الشّكّ في كبرى الحجّيّة وأنّ هذا الأمر الفلاني حجّة ، أم لا؟ لا يترتّب شيء من الآثار المتقدّمة قطعا ،

١٧٦

وهذا هو مراده قدس‌سره وغيره من الأعلام من قولهم : إنّ الشّكّ في الحجّيّة مساوق للقطع بعدم الحجّيّة.

ولا يخفى : أنّ مرادهم من الحجّة هنا : هي الحجّة الفعليّة ، بمعنى : أنّ الشّكّ في إنشاء الحجّيّة لأمر كذا ، أو الشّكّ في إمضاء حجّيّته ، مساوق للقطع بعدم الحجّيّة الفعليّة ، وعدم ترتّب تلك الآثار الأربعة ، لا أنّ الشّكّ في إنشاء الحجّيّة مساوق للقطع بعدم إنشائها حتّى يشكل عليه بما اشير إليه من الإشكال ، ولا أنّ معناه ، أخذ العلم بالحجّيّة موضوعا لها ، بحيث لا تكون حجّة واقعا مع عدم العلم بها ، فإنّ ذلك واضح الفساد ؛ بداهة ، أنّ الحجّيّة كسائر الأحكام الوضعيّة والتّكليفيّة لا يدور وجودها الواقعيّ ، مدار العلم بها ، بل معناه ، عدم ترتّب آثار الحجّة عليها ، من كونها منجّزة للواقع عند الإصابة وعذرا عند المخالفة ، فإنّ التّنجز يتوقّف على العلم بالحكم أو ما يقوم مقامه. هذا ما أفاده المحقّق النّائيني قدس‌سره ونعم ما أفاد (١).

ثمّ إنّ الشّيخ الأنصاري قدس‌سره (٢) سلك مسلكا آخر لإثبات عدم حجّية ما شكّ في حجّيّته ، مع عدم ورود دليل يدلّ على وقوع التّعبّد به من نقل أو عقل.

محصّل مقالته قدس‌سره : هو أنّ الأثر المترتّب على الحجّيّة اثنان : أحدهما : هو الاستناد إلى الحجّة في مجال العمل ومقام الإتيان والامتثال ؛ ثانيهما : هو الالتزام بكون بمؤدّاها هو حكم الله تعالى في حقّ المكلّف وإسناده إليه تعالى ، وحيث إنّ هذين الأمرين لا يترتّبان مع الشّك في الحجّيّة ، فيكشف إنّا عن عدم حجيّة ما شك في

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ١٢٣.

(٢) راجع ، فرائد الاصول : ج ١ ، ص ١٢٥ إلى ١٣٢. الطّبعة الجديدة.

١٧٧

حجيّته. والوجه في عدم ترتّبهما عند الشّك فيها هو ، أنّ الاستناد بلا علم يكون تشريعا عمليّا ، والإسناد بدونه يكون تشريعا قوليّا ، والتّشريع محرّم بالأدلّة الأربعة (الكتاب والسّنّة والإجماع والعقل).

هذا ، ولكن أجاب عنه المحقّق الخراساني قدس‌سره بوجهين : أحدهما : قوله قدس‌سره : «وأمّا صحّة الالتزام بما أدّى إليه من الأحكام وصحّة نسبته إليه تعالى ، فليسا من آثارها ؛ ضرورة ، أنّ حجّيّة الظّنّ عقلا على تقرير الحكومة في حال الانسداد ، لا توجب صحّتهما» ؛ ثانيهما : قوله قدس‌سره : «ولو فرض صحّتهما شرعا مع الشّكّ في التّعبّد به ، لما كان يجدي في الحجّيّة شيئا ما لم يترتّب عليه ما ذكر من آثارها ... فبيان عدم صحّة الالتزام مع الشّكّ في التّعبّد وعدم جواز الاستناد إليه تعالى غير مرتبط بالمقام ، فلا يكون الاستدلال عليه بمهمّ ، كما أتعب به شيخنا العلّامة قدس‌سره بما أطنب من النّقض والإبرام» (١).

ولا يخفى : أنّ كلا الوجهين مردود :

أمّا الأوّل : فلأنّ معنى الحجّة هنا هو ما يحتجّ بها المولى على العبد ويقطع به العذر ، سواء كان مؤدّاها هو الواقع ، أو الوظيفة الفعليّة ، وكيف كان ، يستند مؤدّاها إلى الشّرع والشّارع ، وبهذا المعنى ، تكون الاصول ـ أيضا ـ حججا قاطعة للعذر يحتجّ بها المولى على العبد ويكون مؤدّاها وهي الوظيفة الفعليّة مسندا إلى الشّارع ، سواء كانت الوظيفة الفعليّة هي الواقعيّة ، أم لا؟ وكيف يمكن أن يكون الشّيء حجّة شرعا أو عقلا ولا يصحّ إسناد مؤدّاها إلى الشّارع ، وكذا العكس.

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٥٥ و ٥٨.

١٧٨

وأمّا الظّنّ الانسداديّ على الحكومة ، فمؤدّاه ـ أيضا ـ يسند إلى الشّارع لو كان حجّة في طريق إثبات التّكليف ، ولكن سيجيء في مبحث الانسداد ، أنّه يقع في طريق إسقاطه ، فمرجع حجّية الظّنّ ، بناء على الحكومة ، إلى حكم العقل بجواز الاكتفاء في مقام امتثال التّكاليف المعلومة إجمالا بالظّنّ ، وأنت تعلم ، أنّ المراد من الحجّة هنا ما يقع في طريق إثبات التّكليف لا إسقاطه. وعليه ، فالظّنّ الانسداديّ ليس بحجّة ؛ ولذا ذهب عدّة من الأعلام إلى أنّ مقدّمات الانسداد على تقرير الحكومة لا تنتج حجيّة الظّنّ ، بل نتيجتها هو التّبعيض في الاحتياط بالأخذ بالمظنونات دون المشكوكات والموهومات.

وأمّا الوجه الثّاني : وهو قوله قدس‌سره : «ولو فرض صحّتهما شرعا مع الشّكّ في التّعبّد به ، لما كان يجدي في الحجّيّة شيئا ...» فلأنّه أوّلا : مجرّد فرض ؛ وثانيا : يكون أجنبيّا عمّا قال به الشّيخ الأنصاري قدس‌سره غير نافع له ؛ إذ هو قدس‌سره يستفيد من عدم جواز الاستناد والإسناد ، عدم الحجّيّة ، وأنت ترى ، أنّ هذا ممّا لا ينافيه جوازهما مع عدم الحجّيّة ، لإمكان كونهما لازمين أعمّ للحجّيّة.

وقد تقرّر في محلّه ، أنّ نفي الأعمّ مستلزم لنفي الأخصّ ، كنفي الحيوان المستلزم نفي الإنسان ، بخلاف إثبات الأعمّ ، فهو لا يستلزم إثبات الأخصّ ، فإثبات الحيوان لا يستلزم إثبات الإنسان ، فنفي جواز الاستناد والإسناد مستلزم لنفي الحجّيّة ، ولكن إثباتهما لا يستلزم إثباتها ، بمعنى : أنّ نفيهما مستلزم لنفي الحجّيّة حتّى إذا فرض إمكان إثباتهما مع نفيها ، فلا يبقى المجال لما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره من أنّ إثباتهما حيث لا يستلزم إثبات الحجّيّة ، فلا يكون نفيهما مستلزما لنفيها.

١٧٩

وقد انقدح ممّا ذكرناه : أنّ ما ادّعاه الشّيخ الأنصاري قدس‌سره في مقام تأسيس : من حرمة التّعبّد بالظّن الّذي لم يدلّ على وقوع التّعبّد به دليل (١) ، لا يرد عليه ما عن الإمام الرّاحل قدس‌سره من أنّ البحث عن حرمة التّعبّد بالظّنّ تكليفا لا يناسب مع تقرير الأصل في المسألة الاصوليّة (٢) ؛ إذ أشرنا آنفا إلى أنّ غرضه قدس‌سره نفي الحجّيّة عند الشّكّ ، بإثبات الحرمة بالأدلّة الأربعة ، من باب البرهان اللّمي ، ولعلّ هذا النّوع من البحث هنا مبنيّ على ما بناه قدس‌سره في الأحكام الوضعيّة من عدم كونها مجعولة ـ وضعا ورفعا ـ ابتداء ، بل تكون منجعلة بجعل الأحكام التّكليفيّة ، ومنتزعة عنها ؛ ولذا قال قدس‌سره : بثبوت الحجّيّة بجواز الاستناد والإسناد وعدمها بحرمتهما.

نعم ، يرد على الشّيخ الأنصاري قدس‌سره أنّ الأدلّة الأربعة الّتي أقامها على حرمة التّعبّد بالظّنّ ، من الكتاب والسّنّة والإجماع والعقل كلّها ، غير تامّة عدا الأخير.

أمّا الكتاب ، فقد اكتفى قدس‌سره (٣) بذكر آية الافتراء في قوله تعالى : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(٤) بتقريب : أنّها دلّت على أنّ ما ليس بإذن من الله تعالى ، كإسناد الحكم إلى الشّارع ، فهو افتراء.

وأنت ترى ، أنّ الافتراء لا يصدق إلّا في مورد كان إسناد الحكم إلى الشّارع كذبا ، نظير الإسناد إليه مع العلم بأنّ الحكم ليس من الله تعالى ، وأمّا الإسناد مع الجهل به ، كما في مورد التّعبّد بالظّنّ ، فهو ليس بافتراء قطعا.

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ١ ، ص ١٢٥.

(٢) راجع ، تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ١٥٧.

(٣) راجع ، فرائد الاصول : ج ١ ، ص ١٢٥.

(٤) سورة يونس (١٠) ، الآية ١٥٩.

١٨٠