الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-435-3
الصفحات: ٥٣٤
ابتداء الحجر ، بخلاف التبذير ؛ لأنّه قد علم منه إفساده للمال ، ولم يُنقل عن أحدٍ أنّه حجر حاكمٌ على فاسقٍ.
ولا يجوز القياس على استدامة الحجر ؛ لأنّ الحجر هناك كان ثابتاً ، والأصل بقاؤه ، وهنا ثبت الإطلاق ، والأصل بقاؤه ، فلا يلزم من الاكتفاء بالفسق للاستصحاب الاكتفاء به لترك الأصل ، ويخالف التبذير ؛ لأنّه تتحقّق به إضاعة المال ، وبالفسق لا تتحقّق (١).
ونحن لمّا ذهبنا إلى أنّ الفسق لا يوجب الحجر ، وأنّه لا تُشترط في الرشد العدالةُ ، لم يثبت الحجر عندنا بطريان الفسق ما لم ينضمّ إليه تضييع المال في المحارم وغيرها.
مسألة ٤١٩ : السفيه إذا زال تبذيره أو فسقه ، فكّ الحاكم الحجْرَ عنه ، فإن عاد إلى ذلك ، أعاد عليه الحجْرَ ؛ لأنّ الحجر كان لعلّةٍ ، وإذا زالت العلّة ، زال الحكم ، فإن عادت العلّة ، عاد الحكم ؛ قضاءً للعلّيّة ، ولا يُحجر عليه إلاّ بحكم الحاكم ، ولا يزول الحجر عنه إلاّ بحكمه ؛ لاحتياجه إلى الاجتهاد في حَجْره وفي فكّه معاً.
وحَجْر المفلس قد بيّنّا أنّه لا يثبت إلاّ بحكم الحاكم.
والأقرب : زواله بقضاء الديون.
وللشافعي وجهان (٢).
وأمّا المرتدّ فإنّه يُحجر عليه بنفس الردّة ، وهو أحد قولي الشافعي.
__________________
(١) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٣٩ ، حلية العلماء ٤ : ٥٣٩ ـ ٥٤٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٥.
(٢) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٣٤ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٠٦ ، حلية العلماء ٤ : ٥١٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٨٢.
والثاني : أنّه بحكم الحاكم ، كالسفيه (١).
فإذا أسلم ولم يكن عن فطرة ، زال حجره ـ إجماعاً ـ بنفس الإسلام.
إذا ثبت هذا ، فكلّ مَنْ صار محجوراً عليه بحكم الحاكم فأمره في ماله إلى الحاكم ، ومَنْ حُجر عليه بغير حكم الحاكم فأمره في ماله إلى الأب أو الجدّ للأب.
إذا عرفت هذا ، فإذا حُجر مَنْ طرأ عليه السفه ثمّ عاد رشيداً ، فإن قلنا : الحجر عليه لا يثبت إلاّ بحكم الحاكم ، فلا يرفع إلاّ برفعه.
وإن قلنا : يثبت بنفسه ، ففي زواله خلاف بين الشافعيّة كما فيما إذا بلغ رشيداً (٢).
ومَن الذي يلي أمر مَنْ حُجر عليه للسفه الطارئ؟ إن قلنا : إنّه لا بدّ من ضرب الحاكم ، فهو الذي يليه.
وإن قلنا : إنّه يصير محجوراً عليه بنفس السفه ، فوجهان عند الشافعيّة مشبَّهان بالوجهين فيما إذا طرأ عليه الجنون بعد البلوغ :
أحدهما : أنّه يلي أمره الأب أو الجدّ ، كما في حالة الصغر ، وكما إذا بلغ مجنوناً.
والثاني : يليه الحاكم ؛ لأنّ ولاية الأب قد زالت فلا تعود (٣).
والثاني أصحّ عندنا وعندهم ، بخلاف المجنون ؛ فإنّ حجره بالجنون لا بحكم الحاكم ، فكان أمره إلى الأب.
__________________
(١) الحاوي الكبير ٦ : ٣٤٢ ، حلية العلماء ٤ : ٥٤١.
(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٦.
(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٦ ـ ٤١٧.
فروع :
أ ـ ذهب بعض الشافعيّة إلى أنّ عود مجرّد الفسق أو مجرّد التبذير لا أثر له في الحجر ، وإنّما المؤثّر في عود الحجر أو إعادته عودُ الفسق والتبذير جميعاً (١).
وليس بجيّد ، وقد أطبق أكثر الشافعيّة على أنّ عود التبذير وحده كافٍ في عود الحجر أو إعادته (٢).
ب ـ لو كان يُغبن في بعض التصرّفات خاصّةً ، فالأولى الحجر عليه في ذلك النوع خاصّةً ؛ لعدم مقتضي الحجر في غيره ، ووجوده فيه ، ولا بُعْد في تجزّي الحجر ، كما في العبد حيث يُحجر عليه في المال دون الطلاق ، وكما في المفلس.
وللشافعيّة وجهان :
هذا أحدهما.
والثاني : استبعاد اجتماع الحجر والإطلاق في الشخص الواحد (٣).
وقد بيّنّا وقوعه ، فكيف يستبعد!؟
ج ـ الشحيح على نفسه جدّاً مع اليسار لا يُحجر عليه ؛ لأنّ الغرض من الحجر حفظ المال ، والتقدير أنّه بالغ في الحفظ الغايةَ.
وللشافعيّة وجهان :
أحدهما : أنّه يُحجر عليه.
والأصحّ عندهم : المنع (٤).
__________________
(١) الغزالي في الوجيز ١ : ١٧٦ ، ولاحظ : الوسيط ٤ : ٣٨ ، وحكاه عنه الرافعي في العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٦ ، والنووي في روضة الطالبين ٣ : ٤١٧.
(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٧.
(٤) حلية العلماء ٤ : ٥٤٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٧.
البحث الثاني : في الاختبار.
مسألة ٤٢٠ : يجب اختبار الصبي قبل فكّ الحجر عنه ، فإن أُونس منه الرشد ، دُفع إليه المال ، وإلاّ فلا ؛ لقوله تعالى : ( وَابْتَلُوا الْيَتامى ) (١) والابتلاء : الاختبار ، كما قال تعالى : ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) (٢) أي يختبركم.
وكيفيّة الاختبار : أنّ اليتيم إن كان صبيّاً ، فإن كان من أولاد التجّار ، فُوّض إليه البيع والشراء ، فإذا تكرّر ذلك منه وسلم من الغبن والتضييع وإتلاف شيء من المال وصرفه في غير وجهه ، فهو رشيد.
وإن كان من أولاد الدهاقين والوزراء والأكابر الذين يصانون عن الأسواق ، فإنّ اختباره يكون بأن يُسلّم إليه نفقة مدّة قريبة ـ كالشهر ـ لينفقها في مصالحه ، فإن كان قيّماً بذلك يصرفها في مواضعها ويستوفي الحساب على وكيله ويستقصي عليه ، فهو رشيد.
وإن كان أُنثى لم تُختبر بالبيع والشراء في الأسواق ؛ لأنّ العادة أنّ المرأة لا تباشر ذلك في السوق ، وإنّما تُختبر بأن يفوَّض إليها ما يفوَّض إلى ربّة البيت من استئجار الغزّالات ، وتوكيلها في شراء القطن والكتّان والإبريسم والاعتناء بالاستغزال والاستنساج ، فإذا كانت ضابطةً في ذلك حافظةً للمال الذي في يدها مستوفيةً لما استأجرت له من الأُجراء ، فهي رشيدة.
تذنيب : لا تكفي المرّة الواحدة في الاختبار ، بل لا بدّ من التكرار
__________________
(١) النساء : (٦).
(٢) هود : ٧ ، الملك : (٢).
مراراً يحصل معها غلبة الظنّ بالرشد.
مسألة ٤٢١ : وقت الاختبار قبل البلوغ ـ وهو قول بعض الشافعيّة وأحمد في إحدى الروايتين (١) ـ لقوله تعالى : ( وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) (٢).
وظاهر الآية أنّ الابتلاء قبل البلوغ ؛ لأنّه تعالى سمّاهم يتامى ، وإنّما يصدق عليهم هذا الاسم قبل البلوغ. ولأنّه تعالى مدّ اختبارهم إلى البلوغ بلفظ « حتى » فدلّ على أنّ الاختبار قبل البلوغ.
ولأنّ تأخير اختباره إلى بعد البلوغ يؤدّي إلى الحجر على البالغ الرشيد ، لأنّ الحجر يمتدّ إلى أن يُختبر ويُعلم رشده بمنع ماله ، واختباره قبل البلوغ يمنع ذلك ، فكان أولى.
وقال بعض الشافعيّة وأحمد في الرواية الأُخرى : إنّ الاختبار إنّما يكون بعد البلوغ ؛ لأنّه قبل البلوغ محجور عليه ؛ لبقاء الصغر ، وإنّما يزول الحجر عنه بالبلوغ ، وتصرّف الصبي قد بيّنّا أنّه غير نافذ (٣).
والأوّل أصحّ الوجهين عند الشافعيّة ، وهو الذي اخترناه ، فعليه كيف يُختبر؟
الأولى أنّ الوليّ يأمره بالمساومة في السِّلَع ويمتحنه في الممارسة والمماكسة والمساومة وتقرير الثمن ، فإذا آلَ الأمر إلى العقد ، عَقَده الوليّ ـ فإذا رآه قد اشترى بثمن مثله ولم يغبن واستوفى مقاصد البيع ، علم رشده
__________________
(١ و ٣) الحاوي الكبير ٦ : ٣٥٠ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٣٨ ، حلية العلماء ٤ : ٥٣٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٥ ، منهاج الطالبين : ١٢٤ ، المغني ٤ : ٥٦٨ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٦٢.
(٢) النساء : (٦).
ـ لأنّ تصرّف الصبي لا ينفذ فكيف يمكن أن يتولّى العقد!؟ وهو أصحّ وجهي الشافعيّة.
والثاني : أنّه يسلّم الوليّ إليه شيئاً من المال ليشتري به ، ويصحّ بيعه وشراؤه ؛ لموضع الحاجة إلى ذلك (١).
وقال بعضهم : يشتري الوليّ سلعةً ويتركها في يد البائع ويواطئه على بيعها من الصبي ، فإن اشتراها منه وفَعَل ما يكون صلاحاً ورشداً ، علم منه الرشد (٢).
والأوّل عندي أقوى ؛ جمعاً بين المصالح.
تذنيب : إن قلنا : إنّه يدفع إليه المال للاختبار فتلف في يده ، لم يكن على الوليّ الضمان ؛ لأصالة براءة الذمّة.
البحث الثالث : في فائدة الحجر على السفيه.
مسألة ٤٢٢ : السفيه إذا حجر عليه الحاكم ، مُنع من التصرّف في ماله ، ولا يصحّ منه العقود المتعلّقة بالمال ، سواء صادف التصرّف في العين ـ كبيع السلعة التي له وشراء غيرها من السِّلَع ، والعتق والكتابة والهبة ـ أو صادف ما في الذمّة ، كالشراء بعين مالٍ في الذمّة ، أو صادف غير المال ، كالنكاح ؛ لأنّ فائدة الحجر حفظ ماله ، وإنّما يحصل بمنعه من ذلك كلّه.
وللشافعيّة وجهٌ ضعيف في الشراء بمالٍ في ذمّته ، تخريجاً من شراء
__________________
(١) الحاوي الكبير ٦ : ٣٥٠ ـ ٣٥١ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٣٨ ، حلية العلماء ٤ : ٥٣٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٥.
(٢) لم نعثر عليه فيما بين أيدينا من المصادر المتوفّرة سواء كانت قبل زمن العلاّمة أو بعده. نعم ، نقله في المجموع ( التكملة الثانية ) ١٣ : ٣٦٩.
العبد بغير إذن مولاه (١).
والمذهب المشهور لهم (٢) كما ذهبنا إليه من المنع من ذلك أيضاً ؛ لأنّ الحجر تبرّع في حقّه نظراً له ، وذلك يقتضي الردّ حالًّا ومآلاً ، والحجر على العبد لحقّ المولى ، فلا يمتنع الحكم بصحّته بحيث لا يضرّ بالمولى.
مسألة ٤٢٣ : إذا باع السفيه بعد الحجر عليه وأقبض ، استردّ المتاع من المشتري ، ولو تلف في يده ، ضمن ؛ لعدوانه بالقبض من غير مَنْ له أهليّة الإقباض.
ولو اشترى وقبض أو استقرض فتلف المال في يده أو أتلفه ، فلا ضمان عليه ، والذي أقبضه ذلك هو المضيّع لماله ، ولوليّه استرداد الثمن إن كان قد أقبضه.
ولا فرق بين أن يكون مَنْ عامله عالماً بحاله أو جاهلاً ؛ إذ كان من حقّه أن يبحث عنه ولا يعامل أحداً إلاّ عن بصيرة.
وكما لا يجب الضمان في الحال على السفيه ، لا يجب بعد رشده ورفع الحجر عنه ؛ لأنّه حجرٌ ضُرب لمصلحته ، فأشبه الصبي ، إلاّ أنّ الصبي لا يأثم ، والسفيه يأثم ؛ لأنّه مكلّف.
وقال بعض الشافعيّة : إذا أتلف بنفسه ، ضمن بعد رفع الحجر عنه (٣) ولا بأس به.
__________________
(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٨.
(٢) التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٣٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٧.
(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٨.
مسألة ٤٢٤ : يستحبّ للحاكم إذا حجر على السفيه أن يشهر حاله ، ويشيع حجره عند الناس ليمتنعوا من معاملته وتسلم أموالهم عليهم.
وإن احتاج في ذلك إلى النداء عليه ، نادى بذلك ليعرفه الناس ، ولا يشترط الإشهاد عليه ؛ لأنّه قد يشتهر أمره ويعرفه الناس.
فإذا حجر عليه واشترى ، كان الشراء باطلاً ، واسترجع الحاكم منه العينَ ، ودَفَعها إلى البائع.
وكذا ما يأخذه من أموال الناس بقرضٍ أو شبهه ممّا يرضى به أرباب الأموال ، فإنّ الحاكم يستردّه من السفيه ، ويدفعه إلى أربابه إن كان باقياً ، وإن كان تالفاً ، فهو من ضمان صاحبه ، كما تقدّم.
هذا إن كان صاحبه قد سلّطه عليه ، وأمّا إن حصل في يده باختيار صاحبه من غير تسليطٍ عليه كالوديعة والعارية ، فالأقرب عندي : أنّه يلزمه الضمان إن أتلفه أو تلف بتفريطه ؛ لأنّ المالك لم يسلّطه عليه ، وقد أتلفه بغير اختيار صاحبه ، فكان ضامناً له ، كما لو غصبه وأتلفه ، وهو قول بعض العامّة (١).
وقال قوم منهم : لا يضمن ؛ لأنّ التفريط من المالك حيث سلّطه عليه بإقباضه إيّاه وعرَّضه لإتلافه (٢).
وإن كان المالك لم يدفع إليه ولم يسلّطه ، بل أتلفه بغير اختياره ، كالغصب والجناية ، فعليه ضمانه ؛ لأنّه لا تفريط من المالك هنا. ولأنّ الصبي والمجنون لو فَعَلا ذلك ، لزمهما الضمان ، فالسفيه أولى.
__________________
(١ و ٢) المغني ٤ : ٥٧٠.
ومذهب الشافعي (١) في ذلك كما قلناه.
مسألة ٤٢٥ : وحكم الصبي والمجنون كما قلنا في السفيه في وجوب الضمان عليهما إذا أتلفا مال غيرهما بغير إذنه ، أو غصباه فتلف في يدهما ، وانتفاء الضمان عنهما فيما حصل في أيديهما باختيار صاحبه كالمبيع والقرض.
وأمّا الوديعة والعارية إذا دفعهما صاحبهما إليهما فتلفتا ، فلا ضمان عليهما ، فإن أتلفاهما ، فالأقرب : أنّه كذلك.
ولبعض (٢) العامّة وجهان :
أحدهما : لا ضمان ؛ لأنّه عرّضها للإتلاف وسلّطه عليها ، فأشبه المبيع.
والثاني : عليه الضمان ؛ لأنّه أتلفها بغير اختيار صاحبها ، فأشبه الغصب.
مسألة ٤٢٦ : لو أذن الوليّ للسفيه في التصرّف ، فإن أطلق ، كان لغواً.
وإن عيّن له نوعاً من التصرّف وقدر العوض ، فالأقرب : الجواز ، كما لو أذن له في النكاح ؛ لأنّ المقصود عدم التضرّر وأن لا يضرّ بنفسه ولا يتلف ماله ، فإذا أذن له الوليّ ، أمن المحذور ، وانتفى المانع ، وهو أحد قولي الشافعيّة.
والثاني : المنع ؛ لأنّه محجور عليه لمصلحة نفسه ، فلا يصحّ الإذن له في شيء من التصرّفات ، كالصبي. ولأنّ الحجر عليه لتبذيره وسوء (٣)
__________________
(١) التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٣٩ ، المغني ٤ : ٥٧٠.
(٢) المغني ٤ : ٥٧٠.
(٣) في الطبعة الحجريّة : « لسوء » بدل « وسوء ».
تصرّفه ، فإذا أذن له فقد أذن فيما لا مصلحة فيه ، فلم يصحّ ، كما لو أذن في بيع ما يساوي عشرة بخمسة (١).
والفرق ظاهرٌ بين الصبي والسفيه مع الإذن ؛ لأنّه مكلّف عاقل ، والتبذير مانع إلاّ مع الإذن ؛ لأنّا نشترط فيه الاقتصار على ما يعيّنه له من جنس المبيع والثمن.
وبعض الشافعيّة مَنَع من الإذن في النكاح (٢) ، وهذا يقتضي سلب عبارته بالكلّيّة.
وعلى ما قلناه إنّما سلبنا عنه الاستقلال بالنكاح.
وعلى هذين الوجهين لو وكّله غيره في شيء من التصرّفات ، فعندنا يصحّ ؛ لأنّ عبارته معتبرة لم يسلب الشارع حكمها عنه ، فصحّ عقده للموكّل حيث لم يصادف تصرّفه مالاً ولا ما يتضرّر به.
وللشافعيّة وجهان (٣).
وكذا عندنا يصحّ أن يقبل الهبة والوصيّة ؛ لحصول النفع الذي هو ضدّ المحذور.
وللشافعيّة وجهان (٤).
مسألة ٤٢٧ : لو أقرّ السفيه بما يوجب قصاصاً أو حدّاً أو تعزيراً ـ كالزنا والسرقة والشرب والقذف والشتم والقتل العمد وقطع الجارحة ـ قُبِل منه ؛ لأنّه مكلّف عاقل ، ويُحكم عليه به في الحال ، ولا نعلم فيه خلافاً بين أهل العلم ؛ لأنّه لا تعلّق لهذا الإقرار بالمال حتى يتأثّر بالحجر.
__________________
(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٨.
(٣ و ٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٨.
ويُقبل في السرقة إقراره بها ، ويُقطع.
والأقوى أنّه لا يُقبل في المال ـ وهو أحد قولي الشافعي (١) ـ لأنّه متّهم فيه ، بخلاف القطع ؛ لتعلّقه بالبدن ، وهو ليس محجوراً عليه فيه.
والثاني : أنّه يُقبل ، وبناه على اختلاف قولَيْه في العبد إذا أقرّ بالسرقة (٢).
هذا إن قلنا : لا يُقبل إقراره بدَيْن الإتلاف ، فإن قبلناه ، فأولى أن يُقبل هنا.
مسألة ٤٢٨ : إذا أقرّ السفيه بما يوجب القصاص فعفا المقرّ له على مالٍ ، لم يثبت عندنا ؛ لأنّ موجَب العمد القصاص لا غير ، والدية إنّما تثبت بالصلح.
أمّا مَنْ يقول : إنّ موجَب العمد أحد الأمرين : إمّا الدية أو القصاص ، فيُحتمل ثبوت الدية ـ وبه قال الشافعي (٣) ـ لأنّ المال تعلّق ثبوته باختيار الغير ، لا بإقرار السفيه. ولأنّه عفو على مال عن قصاصٍ ثابت فصحّ ، كما لو ثبت بالبيّنة.
والأقوى ما قلناه ؛ ولأنّه لو صحّ لاتّخد ذلك وسيلةً إلى الإقرار بالمال بأن يتواطأ المحجور عليه والمُقرّ له على الإقرار والعفو عنه إلى مالٍ. ولأنّ وجوب المال مستند إلى إقراره ، فلم يثبت ، كالإقرار به ابتداءً.
فعلى هذا القول ـ الذي اخترناه ـ لا يسقط القصاص ، ولا يجب المال في الحال.
مسألة ٤٢٩ : لو أقرّ السفيه بنسبٍ صحيح ، صحّ ، وثبت النسب ؛ لانتفاء المانع ، وهو مصادفة الإقرار المال.
ولو وجب الإنفاق على المُقرّ به ، أُنفق عليه من بيت المال.
__________________
(١ ـ ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٩.
وقال بعض العامّة : تثبت أحكام النسب ـ كما يثبت النسب ـ من وجوب النفقة وغيرها ؛ لكون ذلك حصل ضمناً ، فأشبه نفقة الزوجة (١).
والوجه : ما قلناه.
مسألة ٤٣٠ : إذا أقرّ السفيه بدَيْنٍ أو بما يوجب المال ـ كجناية الخطأ وشبه العمد وإتلاف المال وغصبه ـ لم يُقبل إقراره به ؛ لأنّه محجور عليه لحظّه ، فلم يصح إقراره ، كالصبي والمجنون. ولأنّا لو قبلنا إقراره في ماله ، لزال معنى الحجر ؛ لأنّه يقرّ به فيأخذه المُقرّ له. ولأنّه أقرّ بما هو ممنوع من التصرّف فيه ، فلم ينفذ ، كإقرار الراهن بالرهن.
ولا فرق بين أن يسنده إلى ما قبل الحجر أو إلى ما بعده ، وهو قول أكثر الشافعيّة وأحمد في إحدى الروايتين (٢).
وللشافعيّة قولٌ آخَر : إنّه إذا أسند إقراره إلى ما قبل الحجر ، قُبل ، تخريجاً من الخلاف في أنّ المفلس إذا أقرّ بدَيْنٍ سابق على الحجر هل يزاحم المُقرّ له الغرماء؟ (٣).
وللشافعيّة فيما إذا أقرّ بإتلافٍ أو جنايةٍ توجب المال قولان :
أصحّهما : الردّ ، كما لو أقرّ بدَيْنٍ معامليّ.
والثاني : القبول ؛ لأنّه لو أثبتنا (٤) الغصب والإتلاف ، يضمن ، فإذا أقرّ به ، يُقبل (٥).
__________________
(١) المغني والشرح الكبير ٤ : ٥٧٥.
(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٨ ، المغني والشرح الكبير ٤ : ٥٧٥.
(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٩.
(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « أنشأ » بدل « أثبتنا ». والمثبت هو الصحيح.
(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٩.
مسألة ٤٣١ : إذا أقرّ السفيه بالمال وقد كان حجر عليه الحاكم ، فقد قلنا : إنّه لا يُقبل. وإن لم يكن قد حجر عليه ، قُبل ؛ لعدم المانع ، كما أنّه لا يمنع من البيع والشراء وغيرهما إلاّ بالحجر.
وإذا أقرّ بالمال بعد الحجر ، لم ينفذ في الحال.
وهل يلزمه حكم إقراره بعد فكّ الحجر عنه؟ الوجه : أنّه لا يلزمه ، بل يردّ ، كما رددناه حالة السفه ؛ لأنّه محجور عليه ؛ لعدم رشده ، فلم يلزمه حكم إقراره بعد فكّ الحجر عنه ، كالصبي والمجنون. ولأنّ المنع من نفوذ إقراره في الحال إنّما ثبت لحفظ ماله عليه ، ودفع الضرر عنه ، فلو نفذ بعد فكّ الحجر ، لم يفد إلاّ تأخّر الضرر عليه إلى أكمل حالتيه ، بخلاف المحجور عليه للفلس ، فإنّ المانع تعلُّق حقّ الغرماء بماله ، فيزول المانع بزوال الحقّ عن ماله ، فيثبت مقتضى إقراره ، وفي مسألتنا انتفى الحكم لانتفاء سببه ، فلم يثبت كونه سبباً ، وبزوال الحجر لم يكمل السبب ، ولا يثبت الحكم باختلال السبب ، كما لم يثبت قبل فكّ الحجر. ولأنّ الحجر لحقّ الغرماء لا يمنع تصرّفهم ، فأمكن تصحيح إقرارهم على وجهٍ لا يضرّ بذلك الغير بأن يلزمهم بعد زوال حقّ الغير ، والحجر هنا ثبت لحفظ نفسه من أجل ضعف عقله وسوء تصرّفه ، ولا يندفع الضرر إلاّ بإبطال إقراره بالكلّيّة ، كالصبي والمجنون ، وهو قول الشافعي (١).
وقال أبو ثور : إنّه يلزمه ما أقرّ به بعد فكّ الحجر عنه ؛ لأنّه مكلَّف أقرّ بمالٍ ، فيلزمه ؛ لقوله عليهالسلام : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » (٢) مَنَع من
__________________
(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٩ ، المغني والشرح الكبير ٤ : ٥٧٥.
(٢) لم نجده في المصادر الحديثيّة.
إمضائه في الحال بسبب الحجر ، فيمضى بعد فكّ الحجر عنه ، كالعبد يُقرّ بدَيْنٍ ، والراهن يُقرّ على الرهن ، والمفلس [ على المال ] (١) (٢).
وقد سبق الفرق.
مسألة ٤٣٢ : هذا حكم تكليفنا في الظاهر ، أمّا حكمه فيما بينه وبين الله تعالى فإن علم بصحّة ما أقرّ به ـ كدَيْنٍ لزمه ، وجنايةٍ لزمته ، ومالٍ لزمه قبل الحجر عليه ـ فيجب عليه أداؤه بعد فكّ الحجر عنه ؛ لأنّه حقٌّ ثابت عليه ، فلزمه أداؤه ، كما لو لم يُقرّ به. وإن علم فساد إقراره ـ مثل أن يُقرّ بدَيْنٍ ولا شيء عليه ، أو أقرّ بجنايةٍ ولم توجد منه ـ لم يلزمه أداؤه ؛ لأنّه يعلم أنّه لا دَيْن عليه ، فلم يلزمه شيء ، كما لو لم يُقرّ به.
وكذا لا يجب عليه الأداء فيما أتلفه بدفع صاحب المال إليه وتسليطه عليه بالبيع وشبهه.
تذنيب : لو ادّعى عليه شخص بدَيْنِ معاملةٍ لزمه قبل الحجر ، فأقام عليه البيّنة ، سُمعت ، وحُكم عليه بمقتضى الشهادة. وإن لم تكن بيّنة ، فإن قلنا : إنّ النكول وردّ اليمين كالبيّنة ، سُمعت دعواه. وإن قلنا : كالإقرار ، لم تُسمع ؛ لأنّ غايته أن يُقرّ وإقراره غير مقبول.
مسألة ٤٣٣ : إذا طلّق السفيه ، نفذ طلاقه ، سواء طلّق قبل الحجر عليه أو بعده في قول عامّة أهل العلم (٣) ؛ لأنّه لا يدخل تحت حَجْر الوليّ
__________________
(١) ما بين المعقوفين من المصدر.
(٢) المغني والشرح الكبير ٤ : ٥٧٥.
(٣) المغني ٤ : ٥٧١ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٧٤ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٦٣ ، التنبيه : ١٠٣ ، التهذيب ـ للبغوي ٤ : ١٤٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٩ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ٣ : ٢٨٢ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٨٢.
وتصرّفه ، ولهذا لا يطلّق الوليّ أصلاً ، بل المحجور عليه يطلّق بنفسه إذا كان مكلّفاً ، كالعبد. ولأنّ الحجر إنّما يثبت عليه لإبقاء ماله عليه ، والبُضْع ليس بمالٍ ولا هو جارٍ مجرى الأموال ، ولهذا لا ينتقل إلى الورثة ، ولا يمنع المريض من إزالة الملك عنه. ولأنّه ليس بتصرّفٍ في المال ، فصحّ وقوعه منه ، كالإقرار بالحدّ والقصاص. ولأنّه يصحّ من العبد بغير إذن سيّده مع منعه من التصرّف في المال ، وهذا يقتضي أنّ البُضْع لا يجري مجرى المال. ولأنّه مكلّف طلّق مختاراً ، فوجب أن ينفذ ، كالعبد والمكاتب.
وقال ابن أبي ليلى : لا يقع طلاقه ؛ لأنّ البُضْع يجري مجرى المال ؛ بدليل أنّه يملكه بمالٍ ، ويصحّ أن يزول ملكه عنه بمالٍ ، فلم يملك التصرّف فيه ، كالمال (١).
وقد سلف بطلانه.
مسألة ٤٣٤ : يصحّ الخلع من السفيه ؛ لأنّه إذا صحّ منه الطلاق مجّاناً من غير مقابلةٍ بشيء ، فصحّة الخلع الذي هو طلاق بعوضٍ أولى.
إذا ثبت هذا ، فإنّ مال الخلع لا يُدفع إليه ، وإن دُفع إليه ، لم يصحّ قبضه ، وإن أتلفه ، لم يضمنه ، ولم تبرأ المرأة بدفعه إليه ، وهو من ضمانها إن أتلفه أو تلف في يده ؛ لأنّها سلّطته على إتلافه.
وهل يشترط في خلعه أن يخالع بمهر المثل أو أزيد؟ إشكال ينشأ : من أنّه يصحّ الطلاق بغير شيء البتّة ، فمهما كان من العوض يكون أولى ، ومن أنّه يجري مجرى المعاوضة ، فلا يجوز بدون مهر المثل ، كالبيع بدون
__________________
(١) الحاوي الكبير ٦ : ٣٦٣ ، حلية العلماء ٤ : ٥٤١ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٨٣ ، المغني ٤ : ٥٧١ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٧٤.
ثمن المثل.
وكذا يصحّ منه الظهار ، ويكفّر بالصوم ، ويصحّ منه الرجعة ؛ لأنّها ليست ابتداء نكاحٍ ، بل تمسّكٌ بالعقد السابق ، ويصحّ منه نفي النسب باللعان وما أشبه ذلك ؛ لأنّ هذه لا تعلّق لها بالمال.
ولو كان السفيه مطلاقاً مع حاجته إلى النكاح فتسرّى بجاريةٍ ، فإن تبرَّم (١) بها ، أُبدلت له.
مسألة ٤٣٥ : قد بيّنّا أنّ عتق السفيه غير نافذ ؛ لأنّه إتلافٌ للمال وتصرّفٌ فيه بغير عوضٍ ، فلا يصحّ. ولأنّه إذا مُنع من البيع الذي هو إخراج ملكه عن العين بعوضٍ يساويها أو يزيد عليها ، فمَنْعُه عن العتق أولى ، فإن أعتق ، لم يصحّ ، ولا يلزمه حكمه بعد رفع الحجر عنه ، وبه قال الشافعي والحَكَم (٢) وأحمد في إحدى الروايتين (٣).
وفي الاخرى : أنّه يصحّ عتقه معجّلاً ؛ لأنّه عتقٌ من مكلّفٍ مالكٍ تامّ الملك ، فصحّ ، كعتق الراهن والمفلس (٤).
والفرق ظاهر ؛ لأنّ المفلس والراهن حُجر عليهما لحقّ غيرهما ، مع أنّا نمنع الحكم في الأصل. ولأنّه تبرّع فلم ينفذ ، كهبته ووقفه. ولأنّه محجور عليه لحفظه (٥) ، فلم يصح عتقه ، كالصبي والمجنون.
__________________
(١) تبرّم : تضجّر. لسان العرب ١٢ : ٤٣ « برم ».
(٢) قوله : « والحَكَم » كذا ورد في النسخ الخطّيّة والحجريّة ، وليس في المصادر ـ في الهامش التالي ـ منه ذكر. وفي المغني والشرح : « القاسم بن محمّد » بدل « الحَكَم ».
(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٣٦٠ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٣٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٧ ، المغني ٤ : ٥٧٢ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٧٣.
(٤) المغني ٤ : ٥٧٢ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٧٣.
(٥) أي : لحفظ ماله عليه.
مسألة ٤٣٦ : الأقوى أنّه لا يصحّ منه عقد النكاح مستقلًّا ، بل يشترط إذن الوليّ في النكاح ـ وبه قال الشافعي وأبو ثور (١) ـ لأنّه تصرّفٌ يتضمّن المال ، وهو الالتزام بالصداق ، فكان ممنوعاً منه ؛ لتعلّقه بالمال. ولأنّه يجري مجرى المعاوضة الماليّة ، فمُنع منه ، كالبيع.
وقال أبو حنيفة وأحمد : يصحّ منه الاستقلال بالنكاح وإن منعه الوليّ ؛ لحاجته إليه. ولأنّه عقدٌ غير ماليّ ، فصحّ منه ، كخلعه وطلاقه ، وإن لزم منه المال فحصوله بطريق الضمن ، ولا يمنع من العقد ، كما لو لزم ذلك من الطلاق (٢).
ويُمنع من كونه غير ماليّ ؛ لأنّ التصرّف في المال ممنوع منه ، سواء كان بطريق الأصالة أو الضمن ، ولهذا أوجبنا نفقة الولد ـ الذي أقرّ به ـ في بيت المال ، وأثبتنا النسب.
مسألة ٤٣٧ : لا يصحّ تدبير السفيه ولا وصيّته بالتبرّعات ؛ لأنّه تصرّفٌ في المال ، فلم ينفذ منه ، كغيرهما من التصرّفات الماليّة.
وقال أحمد : يصحّان ؛ لأنّ ذلك محض مصلحة ؛ لأنّه تقرّب إلى الله تعالى (٣).
ويُمنع صلاحيّة التقرّب للنفوذ ؛ فإنّ صدقته ووقفه لا ينفذان وإن تقرّب بهما إلى الله تعالى.
__________________
(١) التنبيه : ١٠٣ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٤٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٧ ـ ٤١٨ ، المغني والشرح الكبير ٤ : ٥٧٢.
(٢) المغني والشرح الكبير ٤ : ٥٧٢.
(٣) المغني ٤ : ٥٧٢ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٧٣.
ويصحّ منه الاستيلاد ، وتُعتق الأمة المستولدة بموته ؛ لأنّه إذا صحّ ذلك من المجنون فصحّته من السفيه العاقل أولى.
وله المطالبة بالقصاص ؛ لأنّه موضوع للتشفّي والانتقام. وله العفو على مالٍ ؛ لأنّه تحصيل للمال ، وليس تضييعاً له. وإذا ثبت المال ، لم يكن له التصرّف فيه ، بل يقبضه الوليّ.
وإن عفا على غير مالٍ ، صحّ عندنا ؛ لأنّ الواجب في العمد القصاص ، والدية إنّما تثبت بالصلح والتراضي ، والقصاص ليس مالاً ، فلا يمنع من التصرّف فيه بالإسقاط ؛ لأنّ ذلك ليس تضييعاً للمال.
ومَنْ قال : الواجب أحد الشيئين ، لم يصح عفوه عن المال ، ووجب المال ، كما لو سقط القصاص بعفو أحد الشريكين عندهم (١).
مسألة ٤٣٨ : حكم السفيه في العبادات حكم الرشيد ، إلاّ أنّه لا يفرّق الحقوق الماليّة بنفسه ، كالزكاة والخمس ؛ لأنّه تصرّف في المال ، وهو ممنوع منه على الاستقلال.
ولو أحرم بالحجّ أو بالعمرة ، صحّ إحرامه بغير إذن الوليّ.
ثمّ إن كان قد أحرم بحجّة الإسلام أو بعمرته ، لم يكن للوليّ عليه الاعتراضُ ، سواء زادت نفقة السفر أو لا ، وينفق عليه الوليّ.
وكذا لو أحرم بحجٍّ أو عمرة واجبتين بنذرٍ أو شبهه كان قد أوجبه قبل الحجر عليه.
وإن كان الحجّ أو العمرة مندوبين ، فإن تساوت نفقته سفراً وحضراً ،
__________________
(١) المغني والشرح الكبير ٤ : ٥٧٣.
انعقد إحرامه ، وصحّ نسكه ، وكان على الوليّ الإنفاق عليه ، أو يدفع النفقة إلى ثقة ؛ لأنّه لا ضرر على المال في هذا الإحرام.
وإن كان نفقة السفر أكثر ، فإن قال : أنا أكتسب الزيادة ، فكالأوّل يدفع إليه نفقته الأصليّة في الحضر ، ويتكسّب هو في الطريق الزيادة ؛ لانتفاء الضرر عن ماله.
وإن لم يكن له كسب أو كان ولا يفي بتلك الزيادة ، فللوليّ منعه ، وتحلّله بالصوم ، كالمحصور إذا جعلنا لدم الإحصار بدلاً ؛ لأنّه محجور عليه في المال ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة.
والثاني : أنّ عجزه عن النفقة لا يلحقه بالمُحْصَر ، بل هو كالمفلس الفاقد للزاد والراحلة لا يتحلّل إلاّ بلقاء البيت (١).
وهو مشتمل على الضرر ، فالأوّل أولى.
ولو نذر الحجّ بعد الحجر عليه ، فالأقوى انعقاده ، لكن لا يُمكَّن منه إن زادت نفقته في السفر ولم يكن له كسب يفي بها ، بل إذا رُفع الحجر عنه حجّ.
وقال بعض الشافعيّة : الحجّة المنذورة بعد الحجر كالمنذورة قبله إن سلكنا بالمنذور مسلك واجب الشرع ، وإلاّ فهي كحجّة التطوّع (٢).
ولو نذر التصدّق بعين ماله ، لم ينعقد ، ولو نذر في الذمّة ، انعقد.
ولو حلف ، انعقدت يمينه ، فإن حنث ، كفّر بالصوم ، كالعبد.
__________________
(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٢٠.
(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٩.
ولو فكّ الحجر عنه قبل تكفيره بالصوم في اليمين ، وحلف النذر ، والظهار والإفطار وغير ذلك ، لزمه العتق إن قدر عليه ؛ لأنّه الآن متمكّن.
ولو فكّ بعد صومه للكفّارة ، لم يلزمه شيء.
* * *