تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٦٢

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا).

[دل](١) هذا على أن النهي في قوله : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) [المائدة : ١] أي : أخذ الصيد واصطياده في الإحرام ، لا أكله ، وهو إباحة ما حظر عليهم بالإحرام ، وإن كان ظاهره أمرا ، ومعناه : فإذا حللتم لكم أن تصطادوا.

وأصله : أن كل أمر خرج على أثر محظور فهو أمر إباحة وإطلاق ذلك المحظور المحرم ، لا أمر إلزام وإيجاب ؛ من نحو قوله ـ تعالى ـ : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) [الجمعة : ٩] ، ثم قال : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) [الجمعة : ١٠] ، وهو المحظور المتقدم ، وقوله ـ تعالى ـ : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ) [الأحزاب : ٥٣] ، ثم قال ـ عزوجل ـ : (وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) [الأحزاب : ٥٣] أمر إطلاق وإباحة ما حظر عليهم ، ومثله كثير في القرآن مما (٢) يكثر ذكره.

وفي حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ في قوله : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) : «ولا تأموا» (٣) ، وكذلك في حرفه ؛ «فأموا صعيدا طيبا».

وقيل في قوله ـ تعالى ـ : (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) : حجهم (٤) ؛ فلا يقبل عنهم حتى يسلموا ؛ فنهى الله ـ تعالى ـ رسوله عن قتالهم.

وقال بعضهم : إن الآية نزلت في رجل من أهل اليمامة يقال له : شريح ، وذلك أنه أتى المدينة ، فدخل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أنت محمد النبي؟ فقال : «نعم» ، فقال : إلام تدعو؟ قال : «أدعوا إلى أن تشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّي [محمّد](٥) رسول الله» ، فقال شريح : يا محمد ، هذا شرط شديد ، وإن لي أمراء خلفي أرجع إليهم ؛ فأعرض عليهم ما اشترطت عليّ ، وأستأمرهم في ذلك ، فإن أقبلوا أقبلت ، وإن أدبروا أدبرت فكنت معهم ، ثم انصرف خارجا من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما خرج ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد خرج من عندي بعقبى غادر ، ولقد دخل علىّ بوجه كافر ، وما الرّجل بمسلم» فمرّ شريح

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في أ : ما.

(٣) وقرأ عبد الله ومن تبعه : «ولا آمّي البيت» : بحذف النون ، وإضافة اسم الفاعل إلى معموله. و «البيت» نصب على المفعول به ب «آمّين» أي : قاصدين البيت ، وليس ظرفا.

(٤) قاله ابن عباس ، أخرجه عنه الطبري (٩ / ٤٨١) رقم (١٠٩٨١).

(٥) سقط من ب.

٤٤١

بسرح لأهل المدينة فساقها منهم (١). فلما كان من العام الثاني قدم شريح إلى مكة ، ومعه تجارة عظيمة في حجاج ، وكانت العرب في الجاهلية يغير بعضهم على بعض ، فإذا كان أشهر الحرم ، أمن الناس كلهم بعضهم بعضا ، فمن أراد أن يسافر قلد بعيره من الشعر أو الوبر ؛ فيأمن بذلك الهدي حيثما ذهب ، فلما سمع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحج شريح ، وقدومه إلى مكة ، أرادوا (٢) أن يغيروا على شريح ؛ فيأخذوا ما معه ، ويقتلوهم ؛ كما أغار شريح على سرح أهل المدينة قبل ذلك ؛ فاستأمروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [في ذلك](٣) ؛ فنزلت الآية فيهم : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ...) إلى آخره (٤) ؛ فلا ندري كيف كانت القصة؟ وليس بنا إلى معرفة القصة حاجة ، إلا القدر الذي ذكر الله في ذلك.

وقوله : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) ، وقال تعالى في موضع آخر : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) الآية [المائدة : ٨] ، وقال في آية أخرى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً) الآية [النساء : ١٣٥].

ذكر في بعضها الاعتداء ونهى عنه ، وهو المجاوزة عن الحد الذي حد لهم (٥). وذكر في بعضها العدل ، وأمر به ، ونهى عن الظلم والجور.

ثم الأسباب التي تحملهم وتبعثهم على (٦) الاعتداء والظلم ، وتمنع القيام بالشهادة والعدل ـ ثلاثة :

__________________

(١) في ب : معهم.

(٢) في الأصول : فأرادوا.

(٣) سقط من ب.

(٤) أخرجه ابن جرير الطبري (٩ / ٤٧٣) رقم (١٠٩٥٩) عن ابن جريج ، وأخرجه أيضا عن ابن جريج عن عكرمة ، وأخرجه برقم (١٠٩٥٨) عن السدي ، وعندهم جميعا : الحطم بن هند البكري. قال العلامة محمود شاكر في هامش تفسير الطبري : الحطم : لقب ، واسمه : شريح بن ضبيعة بن شرحبيل بن عمرو بن مرثد بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن بكر بن وائل. ينظر : جمهرة الأنساب : (٣٠١).

وهذا «الحطم» خرج في الردة ، في السنة الحادية عشرة ، فيمن تبعه من بكر بن وائل ومن تأشب إليه من غير المرتدين ممن لم يزل كافرا ، فخرج بهم حتى نزل «القطيف» و «هجر» ، واستغوى «الحظ» ، ومن فيها من الزط والسيابجة ، وحاصر المسلمين حصارا شديدا ؛ فتجمع المسلمون جميعا إلى العلاء بن الحضرمي ، وتجمع المشركون كلهم إلى الحطم ، ثم بيتهم المسلمون ، وقتلوا الحطم ومن معه في خبر طويل. ينظر : تاريخ الطبري (٣ : ٢٥٤ ـ ٢٦٠).

(٥) في أ : له.

(٦) في أ : عن.

٤٤٢

أحدها : ما ذكر ـ عزوجل ـ البغض والعداوة ، بقوله : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (١) أَنْ تَعْتَدُوا) [المائدة : ٢] ، وقال : (عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) [المائدة : ٨] ، وقال : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً) [النساء : ١٣٥] أمرهم بالقيام بالشهادة ، وأخبر ألا يمنعكم الولاية والقرب القيام بالشهادة ، أو طمع غنى أو خوف فقر.

هذه الوجوه التي ذكرنا تمنع الناس القيام بالشهادة ، وتبعثهم على الجور والاعتداء ؛ فنهاهم الله ـ عزوجل ـ أن يحملهم بغض قوم ، أو عداوة أحد على الجور والاعتداء. أو تمنعهم الشفقة ، أو القرب ، أو طمع غنى أحد ، أو خوف فقر ـ القيام بالشهادة وما عليهم من الحق.

وأمر أن يجعلوه كله لله بقوله : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ) [النساء : ١٣٥] ، فإذا كان كله لله ، قدر أن يعدل في الحكم ، وترك مجاوزة الحد الذي حد له ، وقدر على القيام بالشهادة ، وما ذكر ، وما يمنع شيء من ذلك القيام به ، من نحو ما ذكر : من البغض والعداوة ، والقرب والشفقة ، أو طمع الغنى وخوف الفقر ؛ إذا جعل الحكم لله عدل فيه ، ومنعه عن الجور فيه والاعتداء ، وكذلك الشهادة إذا جعلها لله قام بأدائها ، ولو على نفسه ، أو ما ذكر ، لم يمنعه شيء عن القيام بها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) :

كأن البر هو اسم كل خير ، والتقوى : هي ترك كل شرّ.

(وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ)(٢).

ألا ترى أنه ذكر بإزاء البر : الإثم ، وبإزاء التقوى : العدوان ؛ فهذا يبين أن البرّ : اسم

__________________

(١) سقط من الأصول.

(٢) قال القاسمي (٦ / ٢٤) : من ثمرات الآية وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأنه لا يجوز إعانة متعد ولا عاص ؛ فيدخل في ذلك تكثير سواد الظلمة بوجه من قول أو فعل أو أخذ ولاية أو مساكنة.

وفي الإكليل : استدل المالكية بالآية على بطلان إجارة الإنسان نفسه لحمل خمر ونحوه ، وبيع العنب لعاصره خمرا ، والسلاح لمن يعصي به ، وأشباه ذلك. اه.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه : السياسة الشرعية : ولا يحل لرجل أن يكون عونا على ظلم ؛ فإن التعاون نوعان : نوع على البر والتقوى من الجهاد وإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين ، فهذا ما أمر الله به ورسوله ، ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة فقد ترك فرضا على الأعيان أو على الكفاية متوهّما أنه متورع ، وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل بالورع! إذ كل منهما كف وإمساك.

٤٤٣

لكل خير ، والتقوى : هي الانتهاء عن كل شرّ.

ويجوز أن يكون ما ذكر في الآية الأولى وأمر به ، وهو قوله : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ...) إلى قوله : (الْبَيْتَ الْحَرامَ) يقول : عاونوهم على ما يأتون به من ذلك ؛ فإنهم إلى البر يقصدون عند أنفسهم ، وإن لم يكن فعلهم برّا ؛ لعبادتهم غير الله تعالى.

وإنما أمروا بمعاونتهم ، وترك التعرض لهم ـ إن ثبت ما ذكر في القصة ـ : إذا أحرموا ، أو قلدوا ، أو قصدوا البيت الحرام في الوقت الذي جاز أن يعاهدوا فيه ؛ كما يجوز لنا معاهدة أهل الكتاب على ألا نعرض لكنائسهم (١) وبيعهم ، وإن كانوا يعصون الله فيها ؛ لأنهم يدينون بذلك ، ويقصدون به البرّ عند أنفسهم.

فلما أمر (٢) بنقض عهود مشركي العرب ، أمر بمنعهم من دخول المسجد ، وأن يقتلوا حيث وجدوا ، وإلى هذا المعنى ذهب أصحابنا ـ رحمهم‌الله ، والله أعلم ـ في فرقهم بين شهادة أهل الذمة على أمثالهم (٣) ، وشهادة فسّاق المسلمين ؛ لأن أهل الذمة متدينون

__________________

(١) في أ : لكتابهم.

(٢) في ب : أمروا.

(٣) يشترط إسلام الشاهد ؛ إذا كان المشهود عليه مسلما ؛ فلا تقبل شهادة الكافر على المسلم ؛ لأن الشهادة فيها معنى الولاية ، ولا ولاية للكافر على المسلم.

أما إذا كان المشهود عليه كافرا : فإسلام الشاهد ، هل هو شرط لقبول الشهادة عليه أو لا؟ ذهب الشافعي ومالك وابن أبي ليلى والأوزاعي وأبو ثور وأحمد في رواية عنه ـ إلى أن : شهادة الكفار بعضهم على بعض غير مقبولة.

وذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن : شهادة بعضهم على بعض مقبولة ، لكنهم اختلفوا : فمنهم من قال : الكفر كله ملة واحدة ؛ فتقبل شهادة اليهودي على النصراني ، والنصراني على اليهودي ، وهذا قول حماد والثوري والبتي وأبي حنيفة وأصحابه.

وعن قتادة والحكم وأبي عبيد وإسحاق : أن شهادة كل ملة بعضها على بعض مقبولة ، ولا تقبل شهادة يهودي على نصراني.

واحتج المانعون بأن في قبول شهادتهم إكراما لهم ورفعا لمنزلتهم وقدرهم ، ورذيلة الكفر تنفي ذلك.

ورد هذا بأنه ليس في قبول شهادتهم على بعض تكريم لهم ولا رفع لأقدارهم ، وإنما هو دفع شرهم عن بعض ، وإيصال أهل الحقوق منهم بقول من يرضونه ، وهذا من تمام مصالحهم التي لا غنى لهم عنها.

واستدل القابلون بما يأتي :

بقول الله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ)[الأنفال : ٧٣] ؛ فأثبت لهم الولاية على بعضهم ، وهي أعلى رتبة من الشهادة.

وبما ثبت في الصحيح : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجم يهوديين زنيا بشهادة أربعة منهم. ولعل الذي ذهب إلى أن شهادة اليهودي على مثله جائزة لا على النصراني ـ يستدل بقول الله ـ تعالى ـ : (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ)[المائدة : ٦٤] ، ويرد هذا بأن العداوة الدينية غير مانعة من قبول ـ

٤٤٤

بكفرهم ، والفساق غير متدينين بفسقهم. وكذلك فرقهم بين ما يغلب عليه المشركون من أموال المسلمين ، وبين ما يغلب عليه الفساق من أموال المسلمين. وكذلك سبيل الدماء التي يصيبها المحاربون من أهل البغي من أهل العدل ، لا تشبه ما يصيبه الفساق منها ؛ لأن أمر المتدين بدين خطأ مخالف في الحكم أمر المقر بالذنب فيه ؛ ألا ترى أنه يجوز أن يطلق لمن يعاقدونه من أهل الكتاب الصلاة في كنائسهم ، وإن كان ذلك عندنا معصية حراما ، ولا يجوز أن يطلق المعصية لفساق المسلمين بحال.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاتَّقُوا اللهَ) :

أي : نقمة الله وعذابه : في ترك ما أمركم (١) به ، وارتكاب ما نهاكم عنه.

(إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ في قوله : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) : أي : لا يحملنكم بغض قوم ؛ لصدهم إياكم عن البيت الحرام ؛ فتأثموا فيهم : أن تعتدوا ؛ فتقتلوهم ، وتأخذوا أموالهم (٢).

وقال : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) البر : ما أمرت به ، والتقوى : الكف عما نهيت عنه (٣).

وقال : والعدوان : هو المجاوزة عن حد الله الذي حده لعباده (٤).

وقوله : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) : قال بعضهم : لا يؤثمنكم بغض قوم أن تعتدوا (٥).

وقال آخرون : لا يحملنكم (٦).

وفيه لغتان : (يَجْرِمَنَّكُمْ) برفع الياء ، وبنصبها : (يَجْرِمَنَّكُمْ) ، وهو ما ذكرنا (٧).

__________________

 ـ الشهادة.

والذي يظهر لنا : أن شهادة الكفار بعضهم على بعض جائزة ، سواء اتفقت الملة أو اختلفت.

ينظر : المبسوط للسرخي (١٦ / ٣٣) ، تبيين الحقائق للزيلعي (٢ / ١٢٤) ، وفتح القدير (٦ / ٤١) ، والشرح الكبير للدسوقي (٤ / ٢٦٥) ، كشاف القناع (٤ / ١٥٢) ، فتاوى ابن تيمية (٤ / ٢١٢).

(١) في أ : ما أمرهم.

(٢) أخرجه الطبري عنه مختصرا (٩ / ٤٨٧) ، برقمى (١٠٩٩٣ ، ١٠٩٩٤).

(٣) أخرجه الطبري عنه (٩ / ٤٩١) ، رقم (١١٠٠٠).

(٤) وقاله عطاء كما في البحر المحيط (٣ / ٤٣٧).

(٥) قال بنحوه قتادة ، أخرجه عنه الطبري (٩ / ٤٨٧) رقم (١٠٩٩٥).

(٦) قاله ابن عباس ، أخرجه عنه الطبري (٩ / ٤٨٧) برقمي (١٠٩٩٣ ، ١٠٩٩٤) ، وقاله من اللغويين : الفراء في معاني القرآن (١ / ٢٩٩) ، وأبو جعفر النحاس في معاني القرآن الكريم (٢ / ٢٥٣).

(٧) قرأ الجمهور : (يَجْرِمَنَّكُمْ) بفتح الياء من «جرم» ثلاثيّا ، ومعنى «جرم» ـ عند الكسائي وثعلب ـ : حمل ؛ يقال : جرمه على كذا ، أي : حمله عليه ؛ فعلى هذا التفسير يتعدى «جرم» لواحد ، وهو ـ

٤٤٥

قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٣)

وقوله ـ عزوجل ـ : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) :

هو على الإضمار (١) ـ والله أعلم ـ كأنه قال : حرم عليكم أكل الميتة والدم وأكل لحم الخنزير ... إلى آخر ما ذكر ؛ ألا ترى أنه قال : يجوز الانتفاع بصوف الميتة وبعظمها ؛ دل أنه على الإضمار : إضمار «أكل» ، وأما الانتفاع بجلدها لا يجوز إلا بعد الدباغ (٢) ؛

__________________

 ـ الكاف والميم ، ويكون قوله : (أَنْ تَعْتَدُوا) على إسقاط حرف الخفض ـ وهو «على» ـ أي : ولا يحملنكم بغضكم لقوم على اعتدائكم عليهم ؛ فيجىء في محل «أن» الخلاف المشهور ، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس وقتادة. ومعناه ـ عند أبي عبيد والفراء ـ : كسب ، ومنه : «فلان جريمة أهله» أي : كاسبهم ، وعن الكسائي ـ أيضا ـ : أن «جرم» و «أجرم» بمعنى كسب غيره ؛ وعلى هذا فيحتمل وجهين :

أحدهما : أنه متعد لواحد.

والثاني : أنه متعد لاثنين ؛ كما أن «كسب» كذلك ، وأما في الآية الكريمة فلا يكون إلا متعديا لاثنين : أولهما : ضمير الخطاب ، والثاني : «أن تعتدوا» أي : لا يكسبنكم بغضكم لقوم الاعتداء عليهم.

وقرأ عبد الله : «يجرمنكم» بضم الياء من «أجرم» رباعيّا ، وقيل : هو بمعنى «جرم» ؛ كما تقدم نقله عن الكسائي. وقيل : «أجرم» منقول من «جرم» بهمزة التعدية. قال الزمخشري : «جرم» يجرى مجرى «كسب» في تعديته إلى مفعول واحد وإلى اثنين ؛ تقول : «جرم ذنبا» نحو : كسبه ، وجرمته ذنبا : أي : كسبته إياه ، ويقال : أجرمته ذنبا ؛ على نقل المتعدى إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين ؛ كقولك : «أكسبته ذنبا» ، وعليه قراءة عبد الله : «ولا يجرمنكم» ، وأول المفعولين على القراءتين ضمير المخاطبين ، والثاني : «أن تعتدوا». انتهى.

وأصل هذه المادة ـ كما قال ابن عيسى الرماني ـ القطع : ف «جرم» ؛ «حمل على الشيء» ؛ لقطعه عن غيره ، و «جرم» : «كسب» ؛ لانقطاعه إلى الكسب ، و «جرم» : بمعنى «حق» ؛ لأن الحق يقطع عليه. قال الخليل : «لا جرم أن لهم النار» ، أي : لقد حق ؛ هكذا قاله الرماني ؛ فجعل بين هذه الألفاظ قدرا مشتركا ، وليس عنده من باب الاشتراك اللفظي. ينظر الدر المصون (٢ / ٤٨٢).

(١) في أ : الإظهار.

(٢) الدبغ : نزع فضول الجلد : وهي مائيته ورطوباته التي يفسده بقاؤها ، ويطيبه نزعها ؛ بحيث لو نقع في الماء لم يعد إليه النتن والفساد.

واختلفوا في طهارة جلود الميتة بالدباغة على التفصيل التالى :

ذهب الحنفية والشافعية ـ وهو رواية عن أحمد في جلد ميتة مأكول اللحم ـ إلى أن الدباغة وسيلة لتطهير جلود الميتة ، سواء أكانت مأكولة اللحم أم غير مأكولة اللحم ؛ فيطهر بالدباغ جلد ميتة سائر الحيوانات إلا جلد الخنزير عند الجميع ؛ لنجاسة عينه ، وإلا جلد الآدمي ؛ لكرامته ؛ ـ

٤٤٦

لأن الجلد ربما يشوى مع اللحم فيؤكل ؛ فهو حرام كاللحم ، إلا أن يدبغ.

ثم في الآية دليل الامتحان من وجهين :

أحدهما : إباحة التناول من جوهر ، وامتحن بحرمة الخنزير والدم لم يحله بسبب ولا بغير سبب ، وامتحن بحل الآخر بسبب ، وحرّم بسبب.

والثاني : امتحن بسبب حل تنفر الطباع عنه ؛ لأن كل ذي روح يتألم بالذبح واستخراج الروح منه ، وجعل طبيعة كل أحد (١) مما ينفر عنه لم يتألم به ؛ لتطيب أنفسهم بذلك ، ثم جعل ما يخرج من الأرض كله حلالا بلا سبب يكتسبون ، إلا ما لا يقدرون على التناول منه ؛ لخوف الهلاك ؛ لأنه موات لا تنفر الطبائع عنه ، ثم جعل أسباب الحل أسبابا يكتسبون مما لا يعمل (٢) في استخراج ذلك الدم المحرم منه حل أكله ، وإذا لم يعمل في استخراج ذلك الدم ؛ فهلك فيه ـ أفسده ؛ لأنه أتلف (٣) فيه ما هو محرم فأفسده ؛ فاستخراج ذلك الدم مما يطيب ذلك ، ويمنع عن الفساد ، إلا في طول الوقت ، والذي هلك فيه الدم يفسد في قليل الوقت.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) :

قال الكسائي : (وَما أُهِلَ٤) لِغَيْرِ اللهِ بِهِ)(٥) : أي : ذكر وسمى عليه غير اسم الله ، مشتقة من استهلال الصبي ، ومنه أهلّ الهلال ، وأهل المهل بالحج إذا لبي.

__________________

 ـ لقوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ)[الإسراء : ٧٠] ، واستثنى الشافعية ـ أيضا ـ : جلد الكلب ، كما استثنى محمد ـ من الحنفية ـ : جلد الفيل ؛ واستدلوا لطهارة جلود الميتة بالدباغة بأحاديث ، منها :

أ ـ قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيما إهاب دبغ فقد طهر».

ب ـ وبما روى سلمة بن المحبق : أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك دعا بماء من عند امرأة ؛ قالت : ما عندي إلا في قربة لي ميتة ؛ قال : «أليس قد دبغتها؟» قالت : بلى. قال : «فإن دباغها ذكاتها».

ج ـ وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : تصدق على مولاة لميمونة بشاة ، فماتت ، فمر بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «هلا أخذتم إهابها فدبغتموه ، فانتفعتم به؟!» فقالوا : إنها ميتة ؛ فقال : «إنما حرم أكلها».

ينظر : مغني المحتاج (١ / ٧٨) ، كشاف القناع (١ / ٥٤) ، بدائع الصنائع (١ / ٨٥) ، شرح المهذب (١ / ٢١٦) ، حاشية ابن عابدين (١ / ١٣٦).

(١) في ب : واحد.

(٢) في ب : يعجل.

(٣) في ب : تلف.

(٤) في أ : أل.

(٥) أخرجه الطبري (٩ / ٤٩٥) ، رقم (١١١٠٦) ، وقاله ابن عباس ـ أيضا ـ ، أخرجه عنه الطستي في مسائله ، كما الدر المنثور (٢ / ٤٥٣).

٤٤٧

قال قتادة : كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة ؛ حتى إذا ماتت أكلوها (١).

والكافر ـ في الحقيقة ـ يهل لغير الله ؛ لأنه لا يعرف الله حقيقة ، لكنه أجيز ذبائح الكتابي (٢) ؛ لأنه يسمي عليها (٣) اسم الله تعالى.

(وَالْمَوْقُوذَةُ) : كانوا يضربون بالعصي حتى إذا ماتت أكلوها.

(وَالْمُتَرَدِّيَةُ) : كانت تردى في بئر أو من جبل ؛ فتموت.

(وَالنَّطِيحَةُ) : كان الكبشان يتناطحان ؛ فيموت أحدهما ، فيأكلونه.

(وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) : كان أهل الجاهلية إذا قتل (٤) السبع شيئا من هذا وأكل منه ، أكلوا ما بقي ؛ فقال الله ـ تعالى ـ : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ).

ثم روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : (وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ) فما أدركت من هذا كلّه يتحرك [له الذّنب](٥) ، أو يطرف له العين ـ فاذبح ، واذكر اسم الله عليه ؛ فهو حلال (٦).

__________________

(١) أخرجه الطبري (٩ / ٥٠٢) ، رقم (١١٠٣٢).

(٢) ذهب الشافعية إلى أنه يشترط في المذكى أن يكون مسلما أو كتابيّا. وحقيقة الكتابي عندهم : هي أنه إن كان يهوديّا أو نصرانيّا من العجم ، أو ممن دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل ـ حلت ذبيحته. وإن كان من نصارى العرب ، وهم : تنوخ ، وبهراء ، وبنو تغلب ، أو غيرهم ممن شك في وقت دخولهم في دين أهل الكتاب ـ لم تحل ذبائحهم ولا مناكحتهم ؛ فالمناكحة والذكاة متلازمتان لا يفترقان ، فمن حلت مناكحته حلت ذبيحته ، ومن لا تحل مناكحته لا تحل ذبيحته ، إلا في مسألة واحدة ، وهي الأمة الكتابية ؛ فإنه تحل ذبيحتها ولا تحل مناكحتها ؛ إذ لا أثر للرق في الذبح. واشترطوا ألا يشاركه في الذبح من لا تحل تذكيته ؛ فلو شارك نحو مجوسي مسلما في الذبح ـ حرم المذبوح ؛ تغليبا لجانب التحريم ؛ فمن أطاق الذبح من المسلمين وأهل الكتاب ـ إذا ذبح ـ حل أكل ذبيحته ، رجلا كان أو امرأة ، بالغا كان أو صبيّا ، حرّا كان أو عبدا ؛ بلا خلاف.

وتحل ذكاة الصبي غير المميز ، والمجنون ، والسكران ، في أظهر قولى الشافعي ـ رضي الله عنه ـ مع الكراهة ؛ كتذكية الأعمى.

ولا تحل ذبيحة المرتد ، ولا الوثني ، ولا المجوسي. هذا ما ذكره الشافعية في المذكي.

قال الرافعى ـ نقلا عن نص الشافعي ـ : لو كان لأهل الكتاب ذبيحة يذبحونها باسم غير الله تعالى : كالمسيح ـ لم تحل ، وبه قال جمهور الفقهاء وجميع الأئمة.

وقيل : يكره عند مالك. وقال عطاء : كل من ذبيحة النصراني وإن قال : «باسم المسيح» ، وبه قال مجاهد ومكحول.

ينظر : المبسوط (٥ / ٤٥) ، الأم (٢ / ٢٥٩) ، المغني لابن قدامة (٩ / ٢٩٢) ، المجموع (٩ / ٨٤) ، الفواكه الدواني (١ / ٣٩٠).

(٣) في الأصول : عليه.

(٤) في ب : إذا أكل.

(٥) في أ : بالذنب.

(٦) أخرجه الطبري (٩ / ٥٠٢) ، رقم (١١٠٣٢).

٤٤٨

وروي عن على ـ رضي الله عنه ـ قال : إذا طرفت بعينها ، أو ركضت برجلها أو حركت ذنبها ـ فهي ذكية (١).

وكذلك روي عن أبي الزبير أنه سمع عبيد بن عمير (٢) ـ رضي الله عنه ـ يقول كذلك (٣) ، وكأنه روي ـ مرفوعا ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك.

وهذا ـ والله أعلم ـ إذا خنقها أو أوقذها ـ يغمى عليها ، فإذا ذبحت ، فحركت ذنبها ، أو طرفت عينها ، أو ركضت برجلها ـ أفاقت ؛ فاستدل بذلك على حياتها.

وليس هذا كشاة ينزع الذئب أو السبع ما في بطنها ، وصارت بحال لا تتحامل ، إنها وإن تحركت أو طرفت بعينها فإنها لا تؤكل.

وأصله : أن كل ما لو قطع العروق فتركت فماتت ، تكون ميتة ، فإذا أدركها في تلك الحال فذكاها ، كانت ذكية ، وكل ما لو صار بحال لو ماتت كانت ذكية ، فإذا أدركه في تلك الحال فذكاه ، كانت ميتة.

(وَالْمُتَرَدِّيَةُ) : الممتنعة عن الذبح ، في المذبح ، إذا ذبح من غير المذبح يجوز أكله.

وروي عن رافع بن خديج قال : أصبنا إبلا وغنما ، فندّ منها بعير ؛ فرماه رجل بسهم ؛ فحسبه ؛ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ لهذه الإبل أوابد الوحش ، فإذا كان غلبكم شيء منها ، فاصنعوا به هكذا» (٤).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه قال ـ في البعير يتردى في البئر ـ إذا لم يقدر على منحره ؛ فهو بمنزلة الصيد ينحره من حيث أدرك (٥).

وسئل علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ عن بعير تردى في بئر ، فصار أعلاه أسفله؟

__________________

(١) أخرجه الطبري (٩ / ٥٠٣) ، رقم (١١٠٣٨).

(٢) في ب : عبيد بن زبير.

(٣) أخرجه الطبري (٩ / ٥٠٤) ، رقم (١١٠٤٢).

(٤) أخرجه البخاري (١١ / ٦٨) كتاب الذبائح والصيد : باب ما ندّ من البهائم فهو بمنزلة الوحش (٥٥٠٩) ، ومسلم (٣ / ١٥٥٨) كتاب الأضاحي : باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلا السن والظفر وسائر العظام ، (٢٠ ـ ١٩٦٨) ، أحمد (٤ / ١٤٠) ، وأبو داود (٢ / ١١٢) كتاب الذبائح : باب في الذبيحة بالمروة (٢٨٢١) ، والترمذي (٣ / ١٥٥) : أبواب الأحكام (١٤٩١) ، والنسائي (٧ / ٢٢٨) كتاب الضحايا : باب ذكر المنفلتة التي لا يقدر على أخذها ، وابن ماجة (٤ / ٥٩٠) كتاب الذبائح : باب ذكاة النادّ من البهائم (٣١٨٣) من طريق سعيد بن مسروق عن عباية بن رفاعة عن جدّه رافع بن خديج ، به.

(٥) علقه البخاري (١١ / ٦٧) كتاب الذبائح والصيد : باب ما ندّ من البهائم فهو بمنزلة الوحش ، قبل الحديث رقم (٥٥٠٩) ، ووصله عبد الرزاق كما في فتح الباري (١١ / ٦٨) ، وابن أبي شيبة (٤ / ٢٥١) ، رقم (١٩٧٨٤).

٤٤٩

فقال : قطعوه أعضاء وكلوه (١).

وعن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ (٢) كذلك روي أنه سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقيل : هل تكون الذكاة إلا في الحلق واللبّة؟ (٣) فقال : أما إنّها لو طعنت فى فخذها ، أجزى عنك» (٤).

وإذا ذكي بغير السّكين من نحو المروة (٥) والقصبة (٦) مما يقطع ـ يجوز.

روي أن عدى بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ قال : يا رسول الله ، أرسل كلبي فيأخذ الصيد ، وليس معي ما أذكيه به ؛ فأذبحه بالمروة أو القصبة؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمر الدّم بما شئت ، واذكر اسم الله عليه» (٧). وكذلك روي عن علي [بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ (٨)](٩).

وروي أن رجلا أشاط دم جزور بجدل ؛ فسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إذا أنهرت الدّم

__________________

(١) علّقه البخاري بنحوه في الموضع السابق ، ووصله ابن أبي شيبة (٤ / ٢٥٥) ، رقم (١٩٨٣٥).

(٢) علقه البخاري في الموضع قبل السابق ، ووصله عبد الرزاق (٤ / ٤٦٦) ، وابن أبي شيبة (٤ / ٢٥٦) ، رقم (١٩٨٣٨).

(٣) اللبة : جانب العنق ، أو هي وسط القلادة من النحر. ينظر : خلق الإنسان للأصمعي (٢١٤) ، ولثابت (٢٤٤).

(٤) أخرجه أحمد (٤ / ٣٤) ، وأبو داود (٢ / ١١٢) كتاب الذبائح : باب ما جاء في ذبيحة المتردية ، (٢٨٢٥) ، والترمذي (٣ / ١٤٧) : أبواب الأطعمة (١٤٨١) ، والنسائي (٧ / ٢٢٨) كتاب الضحايا : باب ذكر المتردّية في البئر ، وابن ماجه (٤ / ٥٩١) كتاب الذبائح : باب ذكاة الناد من البهائم (٣١٨٤) ، وأبو يعلى (١٥٠٣ ، ١٥٠٤) ، وابن الجارود (٩٠١) ، والبيهقي (٩ / ٢٤٦) من طريق حماد بن سلمة عن أبي العشراء عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله ، ما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبّة؟ قال : لو طعنت في فخذها لأجزأك.

قال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة ، ولا نعرف لأبي العشراء عن أبيه غير هذا الحديث. اه.

قال الذهبي عن أبي العشراء : لا يدري من هو ولا من أبوه ، انفرد عنه حماد بن سلمة. ينظر : الميزان (٧ / ٤٠٠).

(٥) هي الحجر المحدد ، وجمعها : مرو ، وهي حجارة بيض برّاقة يقدح منها النار ، وبها سميت المروة بمكة. ينظر : النظم المستعذب (١ / ٢٢٤).

(٦) القصبة : كل عظم مستدير أجوف. ينظر : المعجم الوسيط (٧٣٧).

(٧) أخرجه أحمد (٤ / ٢٥٦ ، ٢٥٨ ، ٣٧٧) ، وأبو داود (٢ / ١١٣) كتاب الذبائح : باب في الذبيحة بالمروة (٢٨٢٤) ، والنسائي (٧ / ١٩٤) كتاب الصيد : باب الصيد إذا أنتن ، وابن ماجه (٤ / ٥٨٧) كتاب الذبائح : باب ما يذكي به (٣١٧٧) ، وابن حبان (٣٣٢) ، الطيالسي (١٠٣٣) ، والبيهقي (٧ / ٢٧٩) ، من طريق سماك بن حرب عن مري بن قطريّ عن عدي بن حاتم ، به.

ومريّ هذا لا يعرف ، تفرد عنه سماك ، قاله الذهبي في الميزان (٦ / ٤٠٣).

(٨) أخرجه ابن أبي شيبة (٤ / ٢٥٤) ، رقم (١٩٨٢١) : حدثنا الفضل بن دكين ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن الوليد بن عتبة ، قال على : إذا لم تجد إلا المروة فاذبح بها.

(٩) سقط من ب.

٤٥٠

فكل» (١).

وعن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اذبح بكل ما أفرى الأوداج (٢) وأهرق الدم ما خلا السّنّ والظّفر» (٣).

وإلى هذا يذهب أصحابنا ـ رحمهم‌الله ـ في ذلك ، ويرون كل ما أنهر الدم : من حجر ، أو مروة ، أو نحو ذلك ـ مذكى ويؤكل ، ويحملون قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إلّا السّنّ والظّفر» على أنهما إذا كانا غير منزوعين ؛ لأن ذلك خنق ، وليس بذبح ؛ يفسر ذلك قول ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ حيث قال : إن ذلك خنق (٤) ، وفي الخبر بيان ؛ لأنه قال : «كل ما أنهر الدّم وأفرى الأوداج ، ما خلا السّنّ والظّفر ؛ فإنّهما مدى (٥) الحبشة» (٦) ، وهم

__________________

(١) لم أجده بهذا اللفظ ، وإنما جاء في حديث رافع بن خديج : قلت : يا رسول الله ، إنا لاقوا العدو غدا ، وليست معنا مدى؟ قال : «أعجل أو أرني ، ما أنهر الدم ، وذكر اسم الله ؛ فكل ، ليس السنّ والظّفر ، وسأحدثك : أما السّنّ فعظم ، وأما الظفر فمدى الحبشة».

قال : وأصبنا نهب إبل وغنم ، فندّ منها بعير ؛ فرماه رجل بسهم فحبسه ؛ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش ، فإذا غلبكم منها شيء فاصنعوا به هكذا».

وهذا حديث متفق عليه ، وقد تقدم تخريجه.

(٢) الودج : عرق في جانبي العنق. ينظر : خلق الإنسان للأصمعي (١٩٩) ، ولثابت (٢٠٤).

(٣) أخرجه الطبراني في الكبير (٨ / ٢٥٠) ، رقم (٧٨٥١) ، والبيهقي (٩ / ٢٧٨) ، من حديث أبي أمامة : صديّ بن عجلان ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل ما أفرى الأوداج ؛ ما لم يكن قرض سن أو جزّ ظفر». قال البيهقي : وفي هذا الإسناد ضعف.

وأخرجه ابن أبي شيبة (٤ / ٢٥٣) ، رقم (١٩٨١٠) : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن ابن جريج عمّن حدثه ، عن رافع بن خديج قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الذبح بالليطة ؛ فقال : «كل ما أفرى الأوداج إلا سنّا أو ظفرا». وهذا إسناد فيه مجهول.

والودج : عرق في العنق ، وهو الذي يقطعه الذابح فلا تبقى معه حياة. ينظر : المعجم الوسيط (ودج).

والليطة : قشرة القصبة والقوس والقناة وكل شيء له متانة. ينظر : المعجم الوسيط (ليط).

(٤) أخرجه ابن أبي شيبة (٤ / ٢٥٣) ، رقم (١٩٨٠٧) : حدّثنا أبو خالد الأحمر ، عن عوف ، عن أبي رجاء قال : أصعدنا في الحاج فأصاب صاحب لنا أرنبا ، فلم يجد ما يذكيها به ؛ فذبحها بظفره ، فملّوها وأكلوها ، وأبيت أن آكل ، قال : فلقيت ابن عباس ، فذكرت ذلك له ؛ فقال : أحسنت حين لم تأكل ؛ قتلها خنقا.

وملّ الشيء في الجمر : أدخله فيه ، يقال : ملّ الخبز أو اللحم في النار ؛ فهو مملول ومليل. ينظر : المعجم الوسيط (ملل).

(٥) المدى : جمع مدية ، وهي السكين. ينظر : النظم المستعذب (١ / ٢٣٠).

(٦) قال القرطبي (٦ / ٣٧ ـ ٣٨) : وأجمع العلماء على أن الذبح مهما كان في الحلق تحت الغلصمة فقد تمت الذكاة ؛ واختلف فيما إذا ذبح فوقها وجازها إلى البدن ، هل ذلك ذكاة أم لا؟ على قولين : وقد روي عن مالك أنها لا تؤجل ؛ وكذلك لو ذبحها من القفا واستوفى القطع وأنهر الدم وقطع الحلقوم والودجين لم تؤكل. وقال الشافعي : تؤكل ؛ لأن المقصود قد حصل. وهذا يبني على أصل ، وهو أن الذكاة وإن كان المقصود منها إنهار الدم ففيها ضرب من التعبد ؛ وقد ذبح صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحلق ونحر ـ

٤٥١

إنما كانوا يذبحون بسن أو ظفر غير منزوعة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ).

أي : للنصب ، قيل : كانوا يذبحون للأوثان والأصنام التي يعبدونها ؛ يتقربون بذلك إليها (١) ؛ كما كان أهل الإسلام يتقربون بالذبائح يذبحونها إلى الله ؛ فحرم الله ـ عزوجل ـ ما كانوا يذبحون للنصب (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) ؛ لما ذكرنا أن الأمر به خرج مخرج قبول النعمة والشكر له فيما أنعم عليهم من عظيم النعم ؛ فإذا أهلوا به لغير الله ـ [أي : لغير](٢) ـ وجه الله لم يقبلوا نعمه ، ووجهوا الشكر إلى غيره ؛ فحرم لذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ)(٣).

قيل : سهام العرب وكعاب فارس التي يتقامرون بها (٤).

وقيل : الأزلام : هي القداح ، كانوا يقتسمون بها الأمور : فكان الرجل إذا أراد سفرا أخذ قدحا ، فقال : «هذا يأمره بالخروج» ، فإن هو خرج فهو مصيب في سفره خيرا ، ويأخذ قدحا آخر ؛ فيقول : «هذا يأمره بالمكث» ، فإن هو خرج فليس بمصيب خيرا في [سفره. و](٥) المنيح بينهما ؛ فنهي الله عن ذلك ، وأنبأ أن ذلك فسق ؛ بقوله : (ذلِكُمْ فِسْقٌ)(٦).

__________________

 ـ في اللبة ، وقال : «إنما الذكاة في الحلق واللبة» فبين محلها وعين موضعها ، وقال مبينا لفائدتها : «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل». فإذا أهمل ذلك ولم تقع بنية ولا بشرط ولا بصفة مخصوصة زال منها حظ التعبد ، فلم تؤكل لذلك.

(١) قال نحوه قتادة ، أخرجه عنه الطبري (٩ / ٥٠٩) ، رقم (١١٠٥٢).

(٢) سقط من ب.

(٣) قال القاسمي (٦ / ٤٢) : في الإكليل : استدل بهذه الآية على تحريم القمار والتنجيم والرمل وكل ما شاكل ذلك. وعداه بعضهم إلى منع القرعة في الأحكام ، وهو مردود. انتهى. أي لتباين القصد فيهما. فإن القرعة في قسمة الغنائم وإخراج النساء ونحوها ، لتطييب نفوسهم والبراءة من التهمة في إيثار البعض. ولو اصطلحوا على ذلك جاز من غير قرعة. كما (في العناية).

قال الحاكم : وتدل على تحريم التمسك بالفأل والزجر والتطير والنجوم. فأما التفاؤل بالخير فمباح. قال الأصم : ومن هذا قول المنجم : إذا طلع نجم كذا فاخرج ، وإن لم يطلع فلا تخرج.

(٤) قاله مجاهد ، أخرجه عنه الطبري (٩ / ٥١٢) ، برقمى (١١٠٦٤ ، ١١٠٦٥) ، وعبد بن حميد كما في الدر المنثور (٢ / ٤٥٤).

(٥) في ب : سفر أو.

(٦) قاله قتادة ، أخرجه عنه الطبري (٩ / ٥١٢) ، رقم (١١٠٦٧).

والمنيح : سهم من سهام الميسر الأربعة التي ليس لها غنم ولا عليها غرم. ينظر : المعجم الوسيط (منح).

وأوّلها : المصدّر ، ثم المضعّف ، ثم المنيح ، ثم السّفيح. ينظر : لسان العرب (منح).

٤٥٢

وعن الحسن قال : كانوا يعمدون إلى قداح فيكتبون على أحدها : «مرني» ، وعلى الآخر : «انهني» ، ثم يحيلونها إذا أرادوا السفر (١) : فإن خرج عليه «مرني» مضى في وجهه ، وإن خرج الذي عليه «انهني» لم يخرج (٢).

قال أبو بكر الكيساني : إن في النهي عن العمل بالأزلام دليل النهي عن العمل بالنجوم ، فإذا نهي عن العمل بقول المقتسمين ينهي ـ أيضا ـ عن العمل بقول المنجّمة ؛ لأنهم يقولون عين ما يقول أولئك ويعملون به ، لكن المنجمة ليسوا يقولون : إن نجم كذا يأمركم (٣) كذا ، ونجم كذا ينهى عن كذا ؛ على ما كان يفعل أولئك (٤).

ويجوز أن يكون الله ـ عزوجل ـ جعل في النجوم أعلاما ومعاني يدركون بها ، ويستخرجون أشياء تحتمل ذلك ؛ ويكون على ما يستخرج أهل الاجتهاد بالاجتهاد أشياء من معنى النصوص ، وأحكاما لم تذكر في المنصوص ؛ فعلى ذلك المنجمة يجوز أن يستخرجوا أشياء من النجوم بدلائل ومعان تكون في النجوم ، ولا عيب عليهم في ذلك ولا لائمة ، إنما اللائمة عليهم فيما يحكمون على الله ويشهدون عليه.

قال القتبي (٥) : الأزلام : القداح ، واحدها : زلم وزلم ، بها : أن يضرب ، فأخذ الاستقسام من القسم ـ وهو النصيب ـ [كأنه طلب النصيب](٦).

قال أبو عوسجة : استقسمت ، أي : ضربت بالقداح ؛ قال : كأنه من القسم.

وقال أبو عبيد (٧) : إنما سمى : استقساما ؛ لأنهم كانوا يطلبون قسم الرزق وطلب

__________________

(١) في تفسير الطبري ، والدر المنثور : إذا أرادوا أمرا أو سفرا. وفي أ : إذا أرادوا الأمر.

(٢) أخرجه الطبري (٩ / ٥١١) ، رقم (١١٠٦٠) ، وعبد بن حميد كما في الدر المنثور (٢ / ٤٥٥) بأطول من هذا.

(٣) في ب : يأمر.

(٤) قال بنحوه الزجاج في معانيه (٢ / ١٦٠) ، وأبو جعفر النحاس في معاني القرآن (٢ / ٢٥٩).

(٥) هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ، أبو محمد ، من أئمة الأدب ومن المصنفين المكثرين ، ولد ببغداد سنة ٢١٣ ه‍ ، وسكن الكوفة ، ثم ولي قضاء الدينور مدة ؛ فنسب إليها. من كتبه : تأويل مختلف الحديث ، والإمامة والسياسة ، ومشكل القرآن ، وغير ذلك. توفي سنة ٢٧٦ ه‍. ينظر : وفيات الأعيان (١ / ٢٥١) ، ولسان الميزان (٣ / ٣٥٧).

(٦) سقط من ب.

(٧) هو القاسم بن سلام أبو عبيد البغدادي ، أحد أئمة الإسلام فقها ولغة وأدبا ، أخذ العلم عن الشافعي ، والقراءات عن الكسائي وغيره. قال ابن الأنباري : كان أبو عبيد يقسم الليل أثلاثا : فيصلى ثلثه ، وينام ثلثه ، ويصنف ثلثه. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد : عرضت كتاب «الغريب» لأبي عبيد على أبي فاستحسنه ، وقال : جزاه الله خيرا. توفي سنة ٢٢٤ ه‍.

ينظر : طبقات ابن قاضي شهبة (١ / ٦٧) ، طبقات ابن سعد (٧ / ٣٥٥) ، إنباه الرواة (٣ / ١٢) ، طبقات الشافعية للإسنوي (ص / ١١) ، تهذيب الأسماء واللغات (٢ / ٣٠) ، طبقات الفقهاء للعبادي (ص / ٢٥).

٤٥٣

الحوائج بها ؛ فكانوا يسألونها أن تقسم لهم (١) ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكُمْ فِسْقٌ) :

يحتمل قوله : (فِسْقٌ) : أي : العمل بالأزلام ، والشهادة على الله أنه أمر بذلك ـ فسق ، وعلى هذا من يستجيز العمل بالقرعة ؛ لأنه يقول : يقرع فمن خرجت قرعته يحكم له ، فإنما يحكم له بأمر القرعة ؛ كأن القرعة تأمره بالحكم لهذا بهذا ، وتنهاه عن الحكم لهذا بهذا ، فهو بالأزلام والقداح التي نهي الله عن العمل بذلك أشبه ، وبها أمثل من غيره.

ويحتمل قوله ـ تعالى ـ : (ذلِكُمْ فِسْقٌ) : أي : التناول مما ذكر من المحرمات : من الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به ، وما ذبح على النصب ، وما ذكر في أول السورة من الاصطياد في الإحرام والتناول منه ؛ ذلك كله فسق ، وهو قول ابن عباس ، رضي الله عنه (٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) : إنهم كانوا يطمعون دخول أهل الإسلام في دينهم وعودهم إليهم ، فأيأسهم الله ـ سبحانه وتعالى ـ عن ذلك ؛ فقال : اليوم يئس الذين كفروا من ترككم دين الإسلام ؛ فلا تخشوهم واخشون ؛ آمنهم عن ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ...) [الآية](٣) : قال أبو عبيد : كان دينهم إلى ذلك اليوم ناقصا ؛ فحينئذ كمل دينهم ؛ فعلى زعمه : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو الناس (٤) إلى دين ناقص ، ومن مات من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المهاجرين والأنصار ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ ماتوا على دين ناقص ، ويحشرون يوم القيامة على دين ناقص ، وأي قول أفحش من هذا وأسمج؟!.

وقال آخر من أصحابه : كان الدين كاملا إلى ذلك الوقت ، فلمّا بعث الله بالفرائض ، وافترض عليهم ـ صار الدين ناقصا إلى أن يؤدوا الفرائض وما افترض عليهم ؛ فعند ذلك يكمل (٥) ؛ فهذا القول ـ أيضا ـ في الوحشة والسماجة والقبح مثل الأول.

__________________

(١) وقاله أبو جعفر النحاس في معاني القرآن (٢ / ٢٥٩).

(٢) أخرجه الطبري (٩ / ٥١٥) ، رقم (١١٠٧٤).

(٣) سقط من ب.

(٤) في ب : الخلق.

(٥) أخرج الفريابي وأبو عبيد وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن أبي ميسرة قال : في المائدة ثماني عشرة فريضة ، ليس في سورة من القرآن غيرها ، وليس فيها منسوخ : المنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، وما أكل السبع إلا ما ذكيتم ، وما ذبح على النصب ، وأن تستقسموا بالأزلام ، والجوارح مكلبين ، وطعام الذين أوتوا الكتاب ، والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ، وتمام الطهور ، وإذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ، والسارق والسارقة ، (وما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ ....)[المائدة : ١٠٣] الآية.

ينظر : الدر المنثور (٢ / ٤٤٧).

٤٥٤

ويقال لأبي عبيد : قل ـ أيضا ـ بأنه لم يكن رضي لهم بالإسلام دينا قبل ذلك فعند ذلك رضي.

والأصل في تأويل الآية وجوه :

أحدها : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) : أي : برسوله ، وببعثه أكملت لكم دينكم ، وبه أتممت عليكم نعمتي.

ويحتمل قوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) : أي : اليوم أظهرت لكم دينكم ، ولم يكن قبل ذلك ظاهرا ، حتى قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نصرت بالرّغب مسيرة شهرين» (١) ، وقال : «ألا لا يحجّنّ بعد العام مشرك» (٢) ؛ وذلك لظهوره ولغلبة أهل الإسلام عليهم ، وإن لم يكن هذا قبل ذلك.

ويحتمل قوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ؛ لما آمنهم من العدو والعود إلى دين أولئك ، وإياس أولئك عن رجوعهم إلى دين الكفرة ، وأي نعمة أتم وأكمل من الأمن من العدو؟ ويقول الرجل : اليوم تم ملكي وكمل ؛ إذا هلك عدوه ؛ لأمنه من عدوه ، وإن كان لم يوصف ملكه قبل ذلك بالنقصان ؛ فعلى ذلك هذا ، والله أعلم.

وقيل : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ، أي : أمر دينكم بما أمروا بأمور وشرائع لم يكونوا أمروا بها قبل ذلك ، وهذا جائز.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) : أي : أكرمتكم بالدين المرضي وهو الإسلام ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر : ٧].

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ) :

قيل : المخمصة : المجاعة.

وقال أبو عوسجة : رجل خميص ، أي : جائع.

وقال غيره : هو من ضيق البطن. وهو واحد ؛ لأنه من الجوع ما يضيق البطن (٣).

وقوله ـ عزوجل ـ : (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) :

__________________

(١) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (٨ / ٢٦٢) وعزاه للطبراني عن ابن عباس بلفظ : «نصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرعب على عدوه مسيرة شهرين» ، وقال : فيه إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر وهو ضعيف.

وللحديث شاهد عن جابر بن عبد الله : أخرجه كل من البخاري (١ / ٥١٩) كتاب التيمم (٣٣٥) ، وطرفاه في (٤٣٨ ـ ٣١٢٢) ، ومسلم (١ / ٣٧٠) كتاب المساجد (٣ / ٥٢١).

(٢) أخرجه البخاري (٤ / ٢٨٧) كتاب الحج : باب لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج مشرك (١٦٢٢) ، وأحمد في المسند (١ / ٣) عن أبي بكر الصديق بلفظ : «ألا لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان» ، واللفظ للبخاري.

(٣) ينظر : الصحاح ، ومجمل اللغة (خمص).

٤٥٥

قال بعضهم : (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) : أي : غير متعمّد لإثم ، وهو قول ابن عباس.

وقال الكسائي : (غَيْرَ مُتَجانِفٍ) : غير متمايل ، والجنف : الميل ، وكذلك قال القتبي.

وقال أبو عوسجة ـ أيضا ـ : الجنف : الميل.

ثم قوله : (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) يحتمل وجهين :

قيل : غير مستحل أكل الميتة في حال الاضطرار ، وحرم عليه التناول من الصيد.

وقيل : غير متلذذ ولا مشته ، يتناول على التكره منه ، لا على التلذذ والشهوة.

وقيل ـ أيضا ـ : إنه لا يتناول إلا في حال الاضطرار ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) [البقرة : ١٧٣] ، وقوله ـ عزوجل ـ (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) تفسير قوله : (اضْطُرَّ) ؛ فعلى ذلك هذا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، أي : من رحمته أن جعل لكم التناول من المحرم ، ورخص لكم ؛ إذ له أن يترككم تموتون جوعا ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ...) الآية [النساء : ٦٦].

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) :

ليس في السؤال بيان : مم كان سؤالهم؟ ولكن في الجواب بيان المراد من سؤالهم ، فقال : (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) ؛ دل قوله ـ تعالى ـ : (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) : [أن سؤالهم كان عن الطيبات ، مما يصطاد من الجوارح.

ثم اختلف في قوله ـ تعالى ـ : (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ)](١) :

قال بعضهم : (الطَّيِّباتُ) : هن المحللات ، لكنه بعيد ؛ لأنه كأنه قال : «أحل لكم المحللات» ؛ على هذا التأويل. لكنه يحتمل وجهين غير هذا :

أحدهما : أن أحل لكم بأسباب تطيب بها أنفسكم من نحو : الذبح (٢) ، والطبخ ،

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٢) في أ : الذبائح.

٤٥٦

والخبز ، وغيره. لم يحل لكم ما يكره به أنفسكم التناول منه [غير مطبوخ ، ولا مذبوح ، ولا مشوى ، ولكن أحل لكم بأسباب طابت بها أنفسكم التناول منه ،] والله أعلم.

ويحتمل وجها آخر : وهو أن أحل لكم ما يستطيب به طباعكم لا ما تنكره طباعكم وتنفر عنه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) : كأنهم سألوا [رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم](١) ، عما يحل من الجوارح؟ فذكر ذلك لهم ، مع ما ذكر في بعض القصة : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أمر بقتل الكلاب ، فأتاه أناس ، فقالوا : ما ذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فنزل قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ ...)(٢) الآية.

وقيل : سميت : جوارح ؛ لما يكتسب بها ، والجوارح : هن الكواسب (٣) ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) [الجاثية : ٢١] ، قيل : اكتسبوا ، وجرح : كسب.

وقال أبو عبيد : سميت : جوارح ؛ لأنها صوائد ، وهو ما ذكرنا من الكسب ، يقال :

فلان جارح أهله ، أي : كاسبهم.

وقال غيره : سميت : جوارح ؛ لأنها تجرح ، وهو من الجراحة ، فإذا لم يجرح ، لم يحل صيده.

واحتج محمد ـ رحمه‌الله ـ بهذا المعنى في صيد الكلب إذا قتل ، ولم [يجرح في مسألة](٤) من كتاب الزيادات ، ومما يدل على صحة ذلك ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن عدي بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن (٥) المعراض؟ (٦) فقال : «ما أصبت بعرضه فلا تأكل ؛ فهو وقيذ ، وما أصبت بحدّه فكل» (٧).

__________________

(١) في ب : النبي ، عليه‌السلام.

(٢) أخرجه الطبري في تفسيره (٩ / ٥٤٦) ، رقم (١١١٣٦) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٤٥٩) ، وعزاه للطبري عن محمد بن كعب القرظي.

(٣) الجوارح : جمع جارحة ، ومعناه : الكواسب ؛ اجترحت : اكتسبت ، وبه سميت جارحة الإنسان ؛ لأنه بها يكتسب ويتعرف. ينظر : النظم المستعذب (١ / ٢٣١).

(٤) في أ : يخرج مسألته.

(٥) في أ : من.

(٦) قال الهروي : هو سهم بغير ريش ولا نصل يصيب بعرضه. ينظر : الغريبين (٢ / ٢٧٤) ، تهذيب اللغة (١ / ٤٦٦).

(٧) أخرجه أحمد (٤ / ٢٥٦ ، ٢٥٨ ، ٣٧٧) ، وأبو داود (٢ / ١٢٢) كتاب الصيد : باب في الصيد ، رقم (٢٨٥٤) ، والترمذي (٣ / ٣٨) كتاب الصيد : باب ما جاء في صيد المعارض ، رقم (١٤٧١).

٤٥٧

وقوله ـ عزوجل ـ : (مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ ...)(١) الآية.

قال بعضهم : (مُكَلِّبِينَ) هن الكلاب يكالبن الصيد.

وقال القتبي : المكلبون : أصحاب الكلاب ، وكذلك قال الفراء والكسائي : المكلبون : هم أصحاب الكلاب. والمكلب : الكلب المعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (تُعَلِّمُونَهُنَ) : قال الحسن [وأبو بكر](٢) : تضرونهن ، يقال : كلب مضراة على طلب الصيد ، وهما يبيحان الصيد وإن أكل منه الكلب ؛ فعلى قولهما يصح تأويل الإضراء ؛ إذ يبيحان التناول ، وإن أكل منه.

وقال : تؤدبونهن ؛ ليمسكوا الصيد لكم ، وهو عندنا على حقيقة التعليم ؛ تعلّم ليمسكوا الصيد لهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) يتوجه وجهين :

أحدهما : (مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) ، أي : مما جعل بينكم ، بحيث احتمال تعليم هؤلاء ، ولم يجعل غيركم من الخلائق محتملا لذلك ولا أهلا.

ويحتمل قوله ـ تعالى ـ : (مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) : أن قال لكم : علموهن بكذا ، وافعلوا كذا ، فكيفما كان ، ففيه دليل جعل العلم شرطا فيه.

ثم تخصيص الكلاب بالذكر دون غيرها من الأشياء ، وإن كانت الكلاب وغيرها سواء إذا علّمت ؛ لخبث الكلاب ومخالطتها الناس ، حتى جاء النهي عن اقتنائها ، وجاء الأمر بقتلها في وقت لم يجىء بمثله في سائر السباع ؛ ليعلم أن ما كسب هؤلاء مع خبثها إذا كن معلمين ، يحتمل التناول منه ، فغيرها مما لم يجىء فيه ذلك أحرى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ).

__________________

(١) قال القرطبي (٦ / ٤٥) : أجمعت الأمة على أن الكلب إذا لم يكن أسود وعلمه مسلم فينشلي إذا أشلي ويجيب إذا دعي ، وينزجر بعد ظفره بالصيد إذا زجر ، وأن يكون لا يأكل من صيده الذي صاده ، وأثر فيه بجرح أو تنييب ، وصاد به مسلم وذكر اسم الله عند إرساله أن صيده صحيح يؤكل بلا خلاف ؛ فإن انخرم شرط من هذه الشروط دخل الخلاف. فإن كان الذي يصاد به غير كلب كالفهد وما أشبه وكالبازي والصقر ونحوهما من الطيور فجمهور الأمة على أن كل ما صاد بعد التعليم فهو جارح كاسب.

قال أيضا (٦ / ٥٠) : دلت الآية على جواز اتخاذ الكلاب واقتنائها للصيد ، وثبت ذلك في صحيح السنة ، وزادت : الحرث والماشية ، وقد كان أول الإسلام أمر بقتل الكلاب.

وقال : وفي الآية دليل على أن العالم له من الفضيلة ما ليس للجاهل ؛ لأن الكلب إذا علم يكون له فضيلة على سائر الكلاب ؛ فالإنسان إذا كان له علم أولى أن يكون له فضل على سائر الناس.

(٢) سقط من ب.

٤٥٨

إنما أباح أكل ما أمسك علينا ، ولم يبح مما أمسك على نفسه ؛ لأن الكلب وغيره من السباع من طباعهم إذا أخذوا الصيد (١) يأخذون لأنفسهم ولا يصبرون على ألا يتناولوا منه ، فإذا أخذ الصيد ولم يتناول منه ؛ دل أنه إنما أمسك لصاحبه ، وإذا تناول منه لم يمسك لصاحبه ؛ لأن الباقي (٢) لا يدري أنه أمسكه لصاحبه أو أمسكه لنفسه لوقت آخر لما شبع ، وعلى ذلك جاءت الآثار.

روي عن عدي بن حاتم قال : قلت : يا رسول الله ، إنا قوم نتصيّد بهذه الكلاب والبزاة ، فهل يحل لنا منها؟ فقال : «يحلّ لكم (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) ممّا علّمتم من كلب أو باز ، فذكرت [عليه اسم الله](٣)» ، قلت : وإن قتل؟ قال : «إذا قتله ولم يأكله ، فإنّما أمسك عليك ، وإن أكل فلا تأكل ؛ فإنّما أمسك على نفسه» ، فقلت : يا رسول الله ، أرأيت إن خالطت كلابنا كلابا أخرى؟ قال : «إذا خالط كلبك كلابا فلا تأكل ؛ فإنّك إنّما ذكرت اسم الله على كلبك ، ولم تذكره على كلب غيرك» (٤).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : إذا أكل الكلب من الصيد ، فليس بمعلم (٥).

وعنه ـ أيضا ـ قال : إذا أكل الكلب من الصيد فلا تأكل ، وإذا أكل الصقر فكل ؛ لأن الكلب تستطيع أن تضربه والصقر لا.

وعن علي ـ رضي الله عنه ـ قال : إذا أكل الكلب فلا تأكل واضربه.

وقد ذكرنا من الأخبار ما يدل على أن الكلب إذا كان غير معلم لم يؤكل صيده ، من خبر عدي بن حاتم قال : قلت : يا رسول الله ، إنا قوم نصيد بهذه الكلاب؟ فقال : «إذا أرسلت كلابك المعلّمة ، وذكرت اسم الله عليها ، فكل ممّا أمسكن عليك ، وإن قتلن ، إلّا أن يأكل الكلب ، فإن أكل فلا تأكل» (٦) ، وعلى هذا يخرج قولنا : إنه إذا أكل من دمه يؤكل ؛ لأنه لو أمسكه علينا كنا لا نأكله ، وذلك من غاية تعليمه ؛ لأنه تناول الخبيث ،

__________________

(١) في ب : صيدا.

(٢) في ب : النامي.

(٣) في ب : اسم الله عليه.

(٤) أخرجه البخاري (١ / ٢٧٩) كتاب الوضوء : باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان رقم (١٧٥) ، وأطرافه في : (٥٤٨٣ ، ٥٤٨٤ ، ٥٤٨٦) ، ومسلم (٣ / ١٥٣١) كتاب الصيد والذبائح : باب الصيد بالكلاب المعلمة ، رقم (٦ ـ ١٩٢٩) ، والطبري في تفسيره (٩ / ٥٥٠) رقم (١١١٥٦).

(٥) أخرجه الطبري في تفسيره (٩ / ٥٥٤ ، ٥٥٥) ، رقم (١١١٦١ ـ ١١١٦٧).

(٦) تقدم قريبا.

٤٥٩

وأمسك الطيب على صاحبه.

ولو كان صيد الكلب إذا أكل منه حلالا ، لكان المعلّم وغير المعلّم سواء ، وكان ما أمسك على نفسه وعلى صاحبه سواء ؛ لأن كل الكلاب تطلب الصيد إذا أرسلت عليه ، وتمسكه حتى يموت ، وتأكل منه إلا المعلم ، فما معنى تخصيص الله ـ تعالى ـ المعلم منها والممسك على صاحبه ، لو كان الأمر على ما قال مخالفنا.

وقد روي عن أبي حنيفة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : إن علّم الكلب حتى صار لا يأكل من صيد ، ثم أكل من صيد يصيد ـ لم يجز أن يؤكل من صيده الأول إذا كان باقيا.

ومذهبه عندنا (١) ـ والله أعلم ـ : أن صيد الكلب لا يؤكل حتى يكون معلما ، وإن أمسك في أول ما يرسل فلم يأكل ، فإذا أمسك مرارا ثم أكل ، دلّنا أكله على أن إمساكه عن الأكل لم يكن لأنه معلم (٢) ؛ إذ قد يمسك غير المعلم للشبع ، ولو كان معلما ما أكله ؛ فاستدل بأكله في الرابعة على أن إمساكه في الثالثة كان على غير حقيقة تعليم ، وهذا عندنا في صيد يقرب بعضه من بعض ، فأما إذا كثر إمساكه ، ثم ترك إرساله مدة ، يجوز أن ينسى فيها (٣) ما علم ، ثم أرسل فأكل ـ فليس فيها رواية عنه ، ويجوز أن يقال : يؤكل ما بقي من صيده الأول ، ويفرق بين المسألتين بأن الثاني قد نسى (٤) ، والأول يبعد من النسيان ؛ لتقارب ما بين الصيدين ؛ فلا وجه إلا أن يجعل غير مستحكم التعليم (٥) في الصيد (٦) المتقدم.

وقد ذكرنا ـ فيما تقدم ـ : أن الصقر (٧) والبازي (٨) من الجوارح ، واستدللنا على ذلك بما أوضحناه ؛ فدل ذلك على أن صيد ما ليس بمعلم من الطير لا يؤكل إلا أن يدرك ذكاته.

ثم يكون تعليم البازي والصقر بإجابته صاحبه ورجوعه إليه ، وتعليم الكلاب ترك الأكل

__________________

(١) ينظر : مغني المحتاج (٤ / ٢٦٩) ، شرح المهذب (١ / ٢٥٤) ، اللباب (٣ / ٢١٦) ، الاختيار (٥ / ٥) ، المغني لابن قدامة (١٣ / ٢٦٤) ، بداية المجتهد لابن رشد (١ / ٤٥٧) ، مختصر اختلاف العلماء (٣ / ٢٠١).

(٢) في أ : معلوم.

(٣) في ب : منها.

(٤) في ب : ينسى.

(٥) في أ : التعلم.

(٦) في ب : صيده.

(٧) الصقر : من جوارح الطير. ينظر : حياة الحيوان (٢ / ٧٨).

(٨) البازي : جنس من الصقور الصغيرة أو المتوسطة الحجم ، تميل أجنحتها إلى القصر وتميل أرجلها وأذنابها إلى الطول ، ومن أنواعه : الباشق ، والبيدق. لسان العرب (بزو) ، المعجم الوسيط (١ / ٥٥).

٤٦٠