الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٨
المقصد الرابع : في الشركة ، وفيه فصلان :
الأول : الماهية ، وهي اجتماع حقوق الملاّك في الشيء الواحد على سبيل الشياع ،
______________________________________________________
قوله : ( المقصد الرابع : في الشركة : وفيه فصلان : الأول : الماهية ، وهي اجتماع حقوق الملاّك في الشيء الواحد على سبيل الشياع ).
الشركة ، بكسر الشين وإسكان الراء ، وفتحها وكسر الراء : هي ما ذكره المصنف ، ولا ريب أن المراد بالواحد : هو الواحد بالشخص ، فإن ذلك هو المتبادر للإفهام ، لا الواحد بالجنس ولا النوع ولا الصنف.
فلا يكون ذكر الشياع لإخراج اجتماع الحقوق في الجنس مثلا مع اختصاص كل بفرد ، بل لإخراج اجتماع الحقوق في الشيء الواحد بالشخص على البدل ، كاجتماع حقوق أرباب الزكاة والخمس ، والمجتمعين على معدن أو مباح ، ونحو ذلك يتعذر فيه الاجتماع فإن ذلك اجتماع لكن لا على سبيل الشياع.
كذا في حواشي شيخنا الشهيد ، قال : فإن قيل تخرج هذه بقوله : ( الملاّك ) ، قلنا : الملك المراد به الاستحقاق ، حذرا من المجاز والاشتراك وهو حاصل في الكل.
وفيما قاله نظر ، لأن موضوع لفظ الملك أخص من موصوع لفظ الاستحقاق مطلقا ، لثبوت ذلك في كلامهم ، ولا مجاز ولا اشتراك ، فيكون اجتماع الحقوق المذكورة خارجا بقوله : ( الملاّك ) ، بل الصواب أن يقال : إن قيد ( الشياع ) لإخراج اجتماع حقوق الملاّك في الشيء الواحد لا كذلك ، كما لو كان خشب البيت لمالك ، وباقي آلات بنائه لآخر ، وأرضه لثالث فإنه
______________________________________________________
لا شركة هنا مع الاجتماع إذ لا شياع.
والمراد بـ ( الملاّك ) : ما زاد على واحد ، كما هو واقع في معظم التعريفات. وفي التعريف نظر ، لانتقاضه بالشركة في القصاص ، وحد القذف ، والخيار ، والرهن ، والشفعة ، ونحو ذلك ، فإنه ليس هناك ملك حقيقي فلا مالك حقيقة. وقد صرحوا بأن هذا أحد أقسام الشركة الثلاثة.
ولا يخفى أن هذا التعريف لا يشمل بقية أقسام الشركة كشركة الأبدان ، والوجوه. ولا حرج لأن المعرف هو الشركة الصحيحة عندنا.
لكن بقي هنا شيء ، وهو : أن قوله فيما بعد : ( وأركانها ثلاثة : المتعاقدان ، ... ) الظاهر أن الضمير يعود إلى الشركة التي تقدم تعريفها ، وركن الشيء معتبر في جميع أفراده لا محالة. مع أن التعريف الذي ذكره يتناول اجتماع المالين كذلك بغير عقد وبغير اختيار ولا قصد ، فإن كان غرضه البحث عن الشركة التي يجوز معها التصرف فحقه أن يعرف هذا القسم ، وإن كان غرضه البحث عن أحكام مطلق الشركة فعليه أن يقيّد قوله : ( وأركانها ... ).
فإن قيل : ما المعنى الحقيقي للشركة؟
قلنا يحتمل أن يكون لها معنيان ، فيكون اللفظ مشتركا بينهما : أحدهما أعم ، وهو الذي عرفه في أول الباب.
والآخر أخص ، وهو الذي أراده بقوله : ( وأركانها ).
ويحتمل أن يكون الأول حقيقة لغوية مجازا شرعيا ، إلا أن التعريف في كلام الفقهاء للأول ليس لفظيا على قانون اللغة بل هو صناعي ، فظهر أنه معنى شرعي. ولهذا يطلقون الشركة ويريدون هذا ، ويرتبون عليه عدة أحكام.
والمحل إما عين ، أو منفعة ، أو حق.
وسبب الشركة قد يكون إرثا ، أو عقدا ، أو مزجا ، أو حيازة بأن يقلعا شجرة ، أو يغرفا ماء دفعة بآنية.
______________________________________________________
وكيف كان فالمقصود الأصلي للفقهاء هو الثاني ، فإن باعتباره تنتظم الشركة في قسم العقود ، ويرتبط البحث عنها بالبحث عما قبلها وما بعدها ، وتجري عليها أحكام الفساد والصحة ، فكان حقه أن يعرفها في أول الباب بهذا المعنى ، لتكون الأبواب على وتيرة واحدة.
والأحسن ما يقال في تعريفها : أنها عقد ثمرته جواز تصرف الملاّك للشيء الواحد على سبيل الشياع ، ولا يدخل فيه المستحقون للإرث ونحوهم.
قوله : ( والمحل إمّا عين ، أو منفعة ، أو حق ).
هذه أقسام متعلق الشركة ، وهو ظاهر. والاشتراك في المنفعة بالإجارة ، والحبس ، والإرث ، ونحو ذلك.
قال المصنف في التحرير : والوقف (١) ، وهو غير ظاهر ، لأنه إن كان على معيّن فالاشتراك في الأصل ، أو غيرهم فلا اشتراك. وأراد بالحق ما سوى العين والمنفعة كالقصاص.
قوله : ( وسبب الشركة قد يكون إرثا ، أو عقدا ، أو مزجا ).
الإرث يجري في الأقسام الثلاثة ، وكذا العقد كما في الخيار ، وأما المزج فلا يكون إلا في الأعيان.
قوله : ( أو حيازة ... ).
من الحيازة أن يشتركا في نصب حيالة الصيد ، أو رمي السهم المثبت
__________________
(١) التحرير ١ : ٢٧٢.
وأقسامها أربعة :
شركة العنان : وهي شركة الأموال.
______________________________________________________
له ولو مجازا.
قوله : ( وأقسامها أربعة ).
أي : أقسام الشركة في الجملة لا الشركة التي سبق تعريفها ، ولا محذور في ذلك ، لأن التقسيم يتوسع فيه بخلاف التعريف إذ هو للتبيين.
وقد سبق مثل ذلك في الطهارة ، حيث ذكر في تقسيمها مالا يقع عليه اسم الطهارة حقيقة ، ولا ينطبق عليه تعريفها.
قوله : ( شركة العنان : وهي شركة الأموال ).
العنان ككتاب : سير اللجام الذي تمسك به الدابة قال المصنف في التذكرة : فأما شركة العنان فإن يخرج كل مالا ويمزجاه ، ويشترطا العمل فيه بأبدانهما (١).
وقد اختلف فيما أخذت منه هذه اللفظة : فقيل من عنان الدابة ، إما لاستواء الشريكين في ولاية الفسخ والتصرف ، واستحقاق الربح على قدر رأس المال كاستواء طرفي العنان ، أو كاستواء الفارسين إذا سوّيا بين فرسيهما في السير ، أو لأن كل واحد منهما يمنع الآخر من التصرف كما يشتهي كمنع العنان الدابة.
وإما لأن الأخذ بعنان الدابة حبس إحدى يديه على العنان ، ويده الأخرى مطلقة يستعملها كيف شاء. وكذلك الشريك منع بالشركة نفسه من التصرف في المشترك كما يريد ، وهو مطلق اليد بالنظر إلى سائر أمواله.
وقيل : من عنّ إذا ظهر ، إما لأنه ظهر لكل منهما مال صاحبه ، أو لأنها
__________________
(١) تذكرة الفقهاء ٢ : ٢١٩.
وشركة الأبدان : بأن يشترك اثنان فصاعدا فيما يكتسبونه بأيديهم ، تساوت الصنعة أو اختلفت.
وشركة المفاوضة : وهي أن يشتركا فيما يتساويان من مال ، ويلتزمان من غرم بغصب أو بيع فاسد.
______________________________________________________
أظهر أنواع الشركة ، ولذلك أجمع على صحتها (١).
وقيل : من المعانة ، وهي المعارضة ، فإن كل واحد منهما عارض بما أخرجه من ماله ما أخرجه الآخر (٢).
إذا عرفت ذلك فاعلم أن ما عرّف به المصنف هنا شركة العنان تعريف بالأعم ، والتعريف الصحيح هو ما ذكره في التذكرة (٣) ، لانطباق الأحكام عليه مثل قوله : ( وأركانها ثلاثة ) وغير ذلك.
قوله : ( وشركة المفاوضة ، وهي أن يتشاركا فيما يتساويان من مال ، ويلتزمان من غرم بغصب أو بيع فاسد ).
شركة المفاوضة : هي عبارة عن أن يشترك الشخصان ليكون بينهما ما يكتسبان ويربحان ، ويلتزمان من غرم ، وما يحصل لهما من غنم. فيلزم كل واحد منهما ما يلزم الآخر من أرش جناية ، وضمان غصب ، وقيمة متلف ، وغرامة لضمان ، أو كفالة. ويقاسمه فيما يحصل له من ميراث ، أو يجده من ركاز أو لقطة ، أو يكتسبه في تجارته بماله المختص به.
إذا عرفت ذلك ، فقول المصنف : ( فيما يتساويان من مال ) لا موقع (٤) للتساوي هنا بل هو مفسد للمعنى ، فإن مقتضى هذه الشركة الاشتراك في كل
__________________
(١) المصدر السابق.
(٢) التذكرة ٢ : ٢١٩.
(٣) التذكرة ٢ : ٢٢١.
(٤) في « ه » : موضع.
وشركة الوجوه : وهي أن يبيع الوجيه مال الخامل بزيادة ربح ليكون له بعضه ،
______________________________________________________
ما يحصل لكل منهما من غنم أو غرم. أما اشتراكهما فيما يتساويان فليس بجيد ، ولو قال بدله : فيما يكتسبان سلم من هذا.
ثم قوله : ( ويلتزمان من غرم بغصب ، أو بيع فاسد ) ظاهره قصر الاشتراك في الغرم على هذين النوعين ، وليس كذلك ، إذ لا يستثني من الاشتراك في هذا النوع من الشركة عند القائل به مما يتملكه أحدهما إلا قوت يومه ، وثياب بدنه ، وجاريته يتسرى بها ، فإنه لا يشاركه الآخر فيها. وإلاّ الجناية على الحر ، وبذل الخلع والصداق إذا لزم أحدهما فإنه لا يؤاخذ به الآخر ، فظهر أن العبارة لا تخلو من قصور.
قوله : ( وشركة الوجوه : وهي أن يبيع الوجيه مال الخامل بزيادة ربح ليكون له بعضه ).
قال المصنف في التذكرة : شركة الوجوه فسرت بمعان أشهرها : أن يشترك اثنان وجيهان عند الناس لا مال لهما ليبتاعا في الذمة إلى أجل ، على أن ما يبتاعه كل واحد منهما يكون بينهما ، ثم يبيع كل منهما ما اشتراه ويؤدي منه الثمن ، فما فضل فهو بينهما.
وقيل : أن يبتاع وجيه في الذمة ويفوّض بيعه إلى خامل ، ويشترطا أن يكون الربح بينهما.
وقيل : أن يشترك وجيه لا مال له وحامل ذو مال ، ليكون العمل من الوجيه والمال من الخامل وهو في يده لا يسلمه إلى الوجيه ويكون الربح بينهما.
وقيل : أن يبيع الوجيه إلى آخره (١) ، وهو ما ذكره المصنف. فظهر أن
__________________
(١) التذكرة ٢ : ٢٢٠.
والكل باطل سوى الأول.
وأركانها ثلاثة :
العاقدان ، ويشترط فيهما أهلية التوكيل والتوكل.
______________________________________________________
ما توهمه العبارة من الحصر غير جيد ، ولو أنه اقتصر على المعنى المشار لم يخل من وجه.
قوله : ( والكل باطل سوى الأول ).
أي : سوى شركة العنان وذلك باتفاقنا ، وبه قال أكثر العامة (١) ، وقول ابن الجنيد هنا بجواز شركة الوجوه وشركة الأعمال شاذ (٢) ، قد لحقه الإجماع فلا يعتد به.
والمراد ببطلانها : عدم ترتب أثرها عليه ، أما شركة الأبدان ، فلأنهما إن عملا كان لكل منهما اجرة عمله إن تميّز ، قليلة كانت أو كثيرة. ومع الاشتباه فسيأتي إن الأصح الصلح ، وإن كان مع ذلك فيه معنى شركة العنان لامتزاج المالين. وإن عمل أحدهما فلا شيء للآخر في اجرة عمله.
وأما شركة المفاوضة ، فلأن كل ما انفرد به أحد الشريكين من تجدد مال ، أو ثبوت غرم فهو مختص به. ولو كان في مال أحدهما المتجدد من جنسه مال للآخر فسدت شركة المفاوضة ، وانقلبت إلى شركة العنان.
وأما شركة الوجوه ، فإن أحدهما إذا اشترى من دون توكيل الآخر له ، أو مع قصد اختصاصه بالشراء فلا حق للآخر في الربح ، وإن وكله فاشترى لهما فقد تحققت شركة العنان.
قوله : ( وأركانها ثلاثة : العاقدان ، ويشترط فيهما أهلية التوكيل
__________________
(١) المجموع ١٤ : ٦٨ ، والمغني لابن قدامة ٥ : ١٢٢
(٢) نقله عنه العلامة في المختلف : ٤٧٩.
والصيغة : وهي ما يدل على الإذن في التصرف ، ويكفي قولهما : اشتركنا.
والمال : وهو كل ما يرتفع الامتياز مع مزجه ، سواء كان أثمانا أو عروضا أو فلوسا.
______________________________________________________
والتوكل. والصيغة : وهو ما يدل على الاذن في التصرف ، ويكفي قولهما : اشتركنا. والمال : وهو كل ما يرتفع الامتياز به مع مزجه سواء كان أثمانا ، أو عروضا ، أو فلوسا ).
السياق يقتضي عود الضمير في قوله : ( وأركانها ) إلى ما سماه ( شركة العنان ) في الأقسام الأربعة ، وهو الذي ينطبق عليه تعريف الشركة في صدر الباب ، مع أن هذا القسم لا يتوقف تحقيقه على الأركان المذكورة. إذ لو خلط الشخصان مالهما من غير صيغة ، بحيث لا يتميزان تحقق هذا المعنى ، بل لو اختلط المالان من غير قصد ، أو كانا لصبيين أو مجنونين تحقق ذلك ، فلا تكون هذه أركانا للشركة بهذا المعنى.
وتنقيح الباب : أن المقصود الأصل بالشركة هو التجارة والاستنماء ، والأخبار شاهدة بذلك ، مثل قول أمير المؤمنين عليهالسلام : « شاركوا من أقبل عليه الرزق فإنه أجلب للرزق » (١) ، وغيره (٢).
فالأركان المذكورة للشركة ، المنظور فيها إلى المقصود السابق ، وهي الدائرة على ألسنة الفقهاء ، ويدخلون البحث عنها في جملة البحث عن العقود ، ويجعلونها من أقسامها ، ويحكمون بتوارد الصحة والبطلان عليها. ولولا ذلك لم يصح شيء من ذلك ، إذ امتزاج المالين ليس من العقود في شيء. ولا يتصور وقوعه إلا على وجه واحد ، فلا يتصور فيه الصحة
__________________
(١) نهج البلاغة ٥٠٩ حديث ٢٣٠.
(٢) سنن البيهقي ٦ : ٧٨ ـ ٧٩ ، سنن ابي داود ٣ : ٢٥٦ حديث ٣٣٨٣.
______________________________________________________
والبطلان.
ولما لم يلحظ الشارح الفاضل ولد المصنف (١) ، وشيخنا الشهيد هذا المعنى ارتكبا المجاز في قول المصنف فيما بعد.
وقيل : تبطل ، إلا أن تشترط الزيادة للعامل ، حيث نزّلا بطلان الشركة على إرادة بطلان الاذن ، وهو بعيد عن التحقيق وعن مقصود الباب.
نعم كان الواجب على المصنف تعريف الشركة ـ التي هي المقصود الأصلي للفقهاء ، وتعد من جملة العقود ـ ليتبادر إلى الفهم ترتب هذه الأحكام عليها ، ويرتبط الكلام بعضه ببعض. وإذا ذكر بعد ذلك ما يقع عليه اسم الشركة بقول مطلق ، وبيّن أحكامه لم يكن فيه حرج ولا إشكال.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنه يشترط في المشتركين أهلية التوكيل والتوكل ، لأن الفرض كون كل واحد منهما متصرفا في جميع المال بحق الملك فيما يخصه ، وبالإذن فيما يخص شريكه فهو وكيل له. ولا بد من صيغة ، لأن الأصل عصمة الأموال على أربابها ، فلا يصح التصرف فيها إلا بإذنهم.
وإنما يعلم الإذن باللفظ الدال عليه ، لأن الأفعال لا دلالة لها ، فإن أذن كلّ منهما لصاحبه صريحا فلا بحث في الصحة. ولو قال كل منهما : اشتركنا واقتصر عليه ، مع قصدهما الشركة بذلك ففيه وجهان :
أحدهما : الاكتفاء به في جواز التصرف ، واختاره المصنف هنا ، وقرّبه في التذكرة (٢) ، وهو ظاهر اختياره في التحرير حيث قال : ويكفي في الصيغة ما يدل على الرضا بالمزج (٣) ، لفهم المقصود منه عرفا.
__________________
(١) إيضاح الفوائد ٢ : ٣٠١.
(٢) التذكرة ٢ : ٢٢١.
(٣) التحرير ١ : ٢٧٢.
______________________________________________________
والثاني : لا ، لقصور اللفظ عن الإذن ، إذ لا يلزم من حصول الشركة جواز التصرف ، فإنهما لو ورثا مالا أو اشترياه صفقة واحدة تحققت الشركة مع عدم جواز التصرف. والأول أقوى ، لأن المقصود الأصلي من الشركة هو الاستنماء والاسترباح ، ولا يكون ذلك إلا بالتصرف ، خصوصا ما لا ينمو بنفسه.
وأما الإرث والشراء فليس بقادح في تخلف الحكم فيهما ، لأن البحث في الشركة الاختيارية التي يتحقق القصد فيها إلى مزج المالين ، لأن المزج لا يكون باللفظ فتعيّن أن يكون معناه مزج المالين ، ولأن : اشتركنا حيث كان إنشاء امتنع أن يكون معناه جواز التصرف ، وإلاّ لم يكن له معنى أصلا.
وهل يكفي أن يقول أحدهما : اشتركنا ، فيقول الآخر : قبلت ، أو نعم؟ لم أجد بذلك تصريحا ، وينبغي أن يكون ( قبلت ) غير كاف ، لأنه وكيل وموكل فلا يكفي ذلك في الإيجاب. أما ( نعم ) فيحتمل من حيث أن كلمة الجواب تحذف بعدها الجملة.
نعم كل ما دل على التوكيل والتوكل مع المزج فهو كاف قطعا ، ولا بد من مال من الجانبين. ويشترط فيه اتحاد الجنس والوصف ، بحيث لو مزج ارتفع الامتياز. ولا بد من المزج ، فلا تنعقد الشركة بدونه.
ولا يشترط تقدمه عندنا ، ولا كونه في مجلس العقد ، بل ولا يشترط اللفظ منهما معا في مجلس واحد ، خلافا لبعض العامة (١). ولا فرق في المال بين أن يكون أثمانا أو عروضا أو فلوسا ، ولا بين كونه مثليا أو قيميا عندنا ، ومنع جمع من العامة وقوع الشركة في بعض ذلك (٢).
__________________
(١) المجموع ١٤ : ٦٩.
(٢) المجموع ١٤ : ٦٥ ، المغني لابن قدامة ٥ : ١٢٤ ، ١٢٦ مسألة ٣٦٢٨ ، ٣٦٣٠.
فلا يكفي مزج الصحيح بالقراضة ، ولا السمسم بالكتان ، ولا عند اختلاف السكة.
وتحصل الشركة بالمزج ، سواء كان اختيارا أو اتفاقا. والمختلف إنما تتحقق فيه الشركة بالعقد الناقل ، كأن يبيع أحدهما حصة مما في يده بحصة ما في يد الآخر.
______________________________________________________
قوله : ( فلا يكفي مزج الصحيح بالقراضة ، ولا السمسم بالكتان ، ولا عند اختلاف السكة ).
القراضة ، بالضم : ما سقط بالقرض ، المراد بها هنا : خلاف المسكوك من النقدين ، وما جرى مجراهما.
والمراد بالكتان بزره ، وإنما لم يكف ذلك في انعقاد الشركة لفقد بعض أركان العقد ، وهو المزج الرافع للامتياز.
قوله : ( وتحصل الشركة بالمزج ، سواء كان اختيارا أو اتفاقا ).
أي : لا يشترط لصحة الشركة المزج بالاختيار ، فلو امتزج المالان اتفاقا ، أو بفعل أجنبي ، أو ورثا معا مالا فعقد الشركة بينهما صح.
قوله : ( والمختلف إنما تتحقق فيه الشركة بالعقد الناقل ).
بأن يبيع أحدهما حصة مما في يده بحصة مما في يد الآخر ، ليتحقق المزج الرافع للاشتراك ، ومثل البيع الهبة وسائر العقود الناقلة.
ولا يتعين لذلك بيع الحصة من أحدهما بالحصة من الآخر ، بل لو باع الحصة من أحدهما بثمن واشترى الحصة من الآخر به صح. فلو قال : كأن يبيع إلى آخره لكان أولى ، ولا يخفى أن تحقق الشركة بالعقد الناقل إنما يكون مع عقد الشركة بينهما كما حققناه.
ولو باعا بثمن واحد ، أو عملا بأجرة واحدة تثبت الشركة ، سواء تساوت القيمتان أو اختلفتا ، ولكل منهما بقدر النسبة من القيمة.
وإذا تميّز عمل الصانع من صاحبه اختص بأجرته ، ومع الاشتباه يحتمل التساوي والصلح.
______________________________________________________
قوله : ( ولو باعا بثمن واحد ، أو عملا بأجرة واحدة ثبتت الشركة ، سواء تساوت القيمتان أو اختلفتا ، ولكل منهما بقدر النسبة من القيمة ).
إذا كان لكل من الشخصين ملك بانفراده فباعاهما ، أو أحدهما عن نفسه ، وبوكالة الآخر صفقة واحدة بثمن واحد ، أو كانا أجيرين فعملا بأجرة واحدة صفقة واحدة صح ذلك عندنا ، ولا يضر جهالة كل منهما بقدر حصته حال العقد ، لأن العلم بمجموع الثمن شرط وقد حصل ، أما حال الأجزاء فلا. وحينئذ فتثبت الشركة بينهما ، سواء تساوت القيمتان أو اختلفتا ، لتحقق المزج المعتبر.
والمراد : تحقق الشركة بالمعنى الأعم ، أو تحقق بعض أركانها. وطريق معرفة حق كل منهما من مجموع الثمن والأجرة نسبة قيمة مال أحدهما أو عمله إلى مجموع القيمتين ، وأخذ بتلك النسبة من الثمن والأجرة.
قوله : ( وإذا تميّز عمل الصانع عن صاحبه اختص بأجرته ، ومع الاشتباه يحتمل التساوي والصلح ).
أما الاختصاص بأجرة عمله مع التميّز فظاهر ، وأما وجه احتمال التساوي في الاشتباه اجتماع الأجرتين معا في ذلك الحاصل ، لأنه الفرض ، والحاصل عدم زيادة أحدهما على الآخر ، ولأن الأصل مع الاشتراك التساوي.
ويضعّف بأن الأصل المذكور لا تحقق له ، فإن زيادة مال شخص على آخر ونقصانه عنه ، أو مساواته له ليس أصلا ، إذ لا رجحان لأحدهما على
ولا بد وأن يكون رأس المال معلوما جنسا وقدرا معينا ، فلا تصح في المجهول ، ولا الجزاف ، ولا الغائب ، ولا الدين.
______________________________________________________
غيره ، لا بحسب العادة ولا بحسب نفس الأمر.
وهذا إنما يتحقق في مثل ما إذا اشتركا في السبب المملّك ، كما لو أقر لهما مقر بملكية شيء ، أو أوصى لهما ، أو وقف عليهما فإن السبب المملك لهما هو الإقرار ، والوصية ، والوقف ، ونسبتهما إليه على حد سواء. ولأن فضل أحدهما على الآخر يتوقف على زيادة في الوصية والوقف ، والأصل عدمها.
وكذا الإقرار ، بخلاف ما نحن فيه ، فإن العمل الصادر من أحدهما المقتضي لملكه الأجرة غير الصادر من الآخر ، واستوائهما وتفاوتهما محتملان على حد سواء. وأما وجه احتمال التوقف على الصلح ، فلأنه طريق البراءة ، وهو الأصح. وكذا القول في كل مالين امتزجا ، وجهل قدر كل منهما.
قوله : ( ولا بدّ وأن يكون رأس المال معلوما جنسا وقدرا معينا ، فلا تصح في المجهول ، ولا الجزاف ، ولا الغائب ، ولا الدين ).
أي : لا بد لصحة الشركة من كون رأس المال لكل من الشريكين معلوم الجنس والقدر ، فلا تصح الشركة فيما إذا كان المال الممزوج مجهول الجنس ، كما إذا لم يعلم أنه ذهب أو فضة ، ونحو ذلك. وكذا لا تصح إذا كان مجهول القدر ، كما إذا مزجا المالين جزافا.
ويشترط أن يكون معينا أيضا ، فلا يكفي العلم بالجنس والقدر من دون التعيين بذكر الأوصاف الرافعة للجهالة إن لم يكن مشاهدا ، فلو تعاقدا الشركة على المال الغائب غير الموصوف لم تصح ، وكذا الدين. وإنما اشترط ذلك ، لأن الآذن لا يدري في أي شيء أذن ، والمأذون لا يدري ما ذا يستفيد بالإذن.
ولا يشترط التساوي قدرا ، ويشترط امتزاجهما.
______________________________________________________
ويحتمل عدم اشتراط ذلك ، لأن الشركة ليست من عقود المعاوضات ، وإنما هي في معنى التوكيل ، فلا تقدح في صحتها الجهالة.
وقيّد ذلك في التذكرة بما إذا أمكن معرفته من بعد (١) ، ولا أجد لاشتراط ذلك وجها ، فإنه إذا كان بين اثنين مال مشترك ، وكل واحد منهما جاهل بقدر حصته لا مانع من أن يأذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف في جميع المال ، لأن الحق لا يعدوهما ، وقد تراضيا على ذلك ، ويكون حال الربح كحال الأصل.
وإطلاق كلام المصنف في التحرير يقرب مما ذكرناه ، فإنه قال : لا يشترط تساوي المالين قدرا ، ولا العلم بالمقدار حالة العقد. ومنع صحة الشركة في الدين لا وجه له ، لقبوله تعلق الوكالة به ، وكون أحد المالين غير متميز عن الآخر (٢).
إذا عرفت ذلك فاعلم أن في العبارة من التعسف مالا يخفى ، فإن المجهول مغن عن الجزاف ، وعطف الغائب والدين عليهما يؤذن بأنهما متفرعان على اشتراط كون رأس المال معينا ، وهو غير مستقيم كما لا يخفى.
قوله : ( ولا يشترط التساوي قدرا ).
إجماعا.
قوله : ( ويشترط امتزاجهما ).
هذا مستغنى عنه ، لأنه قد سبق ذكره.
__________________
(١) التذكرة ٢ : ٢٢٣.
(٢) التحرير ١ : ٢٧٢.