أبي النصر أحمد بن محمّد بن أحمد السمرقندي [ الحدّادي ]
المحقق: صفوان عدنان داوودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القلم ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧٦
الْعَلِيمُ) (١) و (أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (٢) وقوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) (٣).
ـ وأمّا دخوله بين اسمي ظننت وحسبت وخلت فكقوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) (٤).
وأمّا قوله تعالى : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً) (٥).
فإذا جعلت (هُوَ) عمادا وصلة فتقدير الكلام : وما تقدموا من خير تجدوه خيرا عند الله ، ولا تحسبن بخل الباخلين خيرا لهم.
* * *
__________________
(١) سورة الأنفال : آية ٦١.
(٢) سورة النور : آية ٢٥.
(٣) سورة الحج : آية ٦٢.
(٤) سورة آل عمران : آية ١٨٠.
(٥) سورة المزمل : آية ٢٠.
باب
المستقبل بمعنى الحال
ـ إن سئل عن قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) (١)؟ قلنا :
قد قيل فيه ثلاثة أوجه : أحدها ـ إن تقدير الكلام : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل أن لا تعبدوا ، فلما سقطت (أن) ارتفع ، واحتجوا بقول القائل :
٤٠٩ ـ ألا أيّهذا الزاجري أحضر الوغى |
|
وأن أشهد اللذّات هل أنت مخلدي |
أي : أن أحضر الوغى ، فلما سقطت «أن» ارتفع ، وكذلك الآية.
ـ وقال بعضهم : إنّما ارتفع لا تعبدون على القسم ، لأنّ الميثاق هو : العقد المؤكد باليمين. المعنى : حلّفناهم لا يعبدون إلا الله (٢).
ـ والوجه الثالث : أنّه ارتفع على الحال ، فتقدير الكلام : غير عابدين إلا الله. والحال على نوعين :
__________________
(١) سورة البقرة : آية ٨٣.
٤٠٩ ـ البيت لطرفة بن العبد من معلقته ، وقد تقدم ، وهو في المقتضب ٢ / ٨٥ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٢٨٦.
(٢) قال الأخفش : وإنما رفع لموقعه في موضع الأسماء ، ومعنى هذا الكلام حكاية ، كأنّه قال : استحلفناهم لا يعبدون ، أي : قلنا لهم : والله لا تعبدون.
راجع معاني القرآن للأخفش ١ / ١٢٦.
أحدها : نحو قولك : جاء زيد راكبا.
والثاني : جاء زيد يركب ، على صيغة المستقبل.
ونظير هذا قوله تعالى : (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) (١) على قراءة من قرأ اللام مرفوعة والتاء مفتوحة (٢). تقديره : إنّا أرسلناك بالحقّ بشيرا غير سائل عن أصحاب الجحيم.
وكذلك قوله تعالى : (ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) (٣).
يعني : لا عبين ، فلولا هذا المعنى ، وإلا كان مجزوما على جواب الأمر.
وقوله تعالى : (يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) (٤).
يعني : مكلّما للناس في المهد. أي : في حال كونه في المهد ، وفي حال كهولته إذا نزل من السماء ، فكيف يجوز عطف الاسم على الفعل لولا هذا التقدير.
وكذلك قوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) (٥).
وقوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ) (٦). أي : قائلين.
__________________
(١) سورة البقرة : آية ١١٩.
(٢) وهي قراءة شاذة ، ولم يذكر من قرأ بها.
(٣) سورة الأنعام : آية ٩١.
(٤) سورة آل عمران : آية ٤٦.
(٥) سورة الأنعام : آية ٩٥.
(٦) سورة آل عمران : آية ٧.
قال الشاعر :
٤١٠ ـ يا ليتني علقت غير مارج |
|
قبل الصّباح ذات خلق بارج |
أمّ صبيّ قد حبا ودارج |
معناه : أمّ صبي حاب أو دارج.
* * *
__________________
٤١٠ ـ الرجم لجندب بن عمرو يعرّض بامرأة الشماخ.
وهو في معاني القرآن للفرّاء ١ / ٢١٤ ، ولم ينسبهما المحقق ، وخزانة الأدب ٤ / ٢٣٨ ، وذكر قصة الأرجاز هنالك. والشطر الأخير في أمالي ابن الشجري ٢ / ١٦٧.
وقوله : بارج أي ظاهر في حسن ، ودارج يقال : درج الصبي إذا مشى مشيا ضعيفا ، وعلق : عشق ، مارج : أي آثم.
وهو في شفاء العليل شرح التسهيل ٢ / ٧٩٨ ، قال المحقق : لم أعرف قائلهما.
باب آخر
من هذا النوع
ـ قال الشيخ الإمام رضي الله عنه : اعلم ـ أسعدك الله ـ أنّ الفعلين إذا تواليا ، ولم يكن بينهما حرف عطف كان الثاني حالا للأول.
من ذلك قوله تعالى : (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ) (١).
هما فعلان ليس بينهما حرف عطف.
وكذلك قوله تعالى : (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) (٢) ، أي : باكين.
وقوله تعالى : (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) (٣) ، وقوله تعالى : (تَقاسَمُوا بِاللهِ) (٤) ، يعني : متقاسمين بالله.
وقوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) (٥).
وقوله : (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ) (٦).
وقوله : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ) (٧).
__________________
(١) سورة الحجر : آية ٦٧.
(٢) سورة يوسف : آية ١٦.
(٣) سورة النازعات : آية ٢٢.
(٤) سورة النمل : آية ٤٩.
(٥) سورة القصص : آية ٢٠.
(٦) سورة الإسراء : آية ١٠٩.
(٧) سورة غافر : آية ٧.
قال الشاعر :
٤١١ ـ فباتوا يرفثون وبات منّا |
|
رجال في سلاحهم قعود |
وقال الآخر :
٤١٢ ـ قامت تبكيه على قبره |
|
من لي بعدك يا عامر |
* * *
__________________
٤١١ ـ البيت تقدم برقم ٢٢٥.
٤١٢ ـ البيت تقدم برقم ١١٥.
باب
كون الماضي حالا بتقدير «قد» أو تقدمه عليه
اعلم أنّ الفعل الماضي قد يكون حالا إذا تقدّمه قد ، أو يكون مقدّرا فيه فمن ذلك قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) (١) ، أي : وقد كنتم أمواتا.
وقوله تعالى : (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) (٢) ، أي : وقد حصرت صدورهم.
وقوله تعالى : (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها ،) أي : قد فتحت ، والله أعلم.
* * *
__________________
(١) سورة البقرة : آية ٢٨.
(٢) سورة النساء : آية ٩٠.
باب
الكناية عمّا لم يسبق ذكره
ـ إن سئل عن قوله تعالى : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) (١) ، الفعل لمن؟.
قلنا : أجمع أهل التفسير على أنّه للشمس ، أي : غابت الشمس وراء الحجاب ، وهو جبل دون المغرب.
وقد يجوز أن يكنّى عن شيء لم يسبق ذكره ، كقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (٢) جاء في التفسير أنّ المراد به القرآن ، أنزله الله في ليلة القدر.
وكذلك قوله تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) (٣) ، أي : على الأرض ، وكذلك قوله عزوجل : (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها) (٤).
وقوله تعالى : (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) (٥). المعنى : ما حياتنا إلا الحياة الدنيا.
وقوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) (٦). أي : على الأرض.
__________________
(١) سورة ص : آية ٣٢.
(٢) سورة القدر : آية ١.
(٣) سورة النحل : آية ٦١.
(٤) سورة فاطر : آية ٤٥.
(٥) سورة الجاثية : آية ٢٤.
(٦) سورة الرحمن : آية ٢٦.
وقوله تعالى : (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) (١) ، الفعل للنفس.
وقوله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) (٢) ، يعني : بالقرآن.
وقوله : (قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) (٣) ، أي : الاستعباد جزاؤه.
وقوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٤). يعني : القرآن.
وقوله تعالى : (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) (٥). يعني : بالوادي.
قال الشاعر :
٤١٣ ـ وإنّي لأبكي اليوم من خوفي غدا |
|
فراقك والحيّان مؤتلفان |
٤١٤ ـ رشاشا وتهتانا ووبلا وديمة |
|
وسحا وتسكابا وتنهملان |
كنّى عن العينين ، ولم يسبق ذكرهما.
الرشاش والتهتان والوبل والديمة كلها صفة للدمع.
وقال حميد بن ثور :
٤١٥ ـ وصهباء منها كالسفينة نضّجت |
|
بها الحمل حتى زاد شهرا عديدها |
يريد : الصهباء من الإبل.
__________________
(١) سورة القيامة : آية ٢٦.
(٢) سورة القيامة : آية ١٦.
(٣) سورة يوسف : آية ٧٥.
(٤) سورة النجم : آية ٤.
(٥) سورة العاديات : آية ٤.
٤١٣ ـ ٤١٤ ـ البيتان لمجنون ليلى ، وهما في أمالي القالي ١ / ٢٠٧ ، والأغاني ١ / ١٧٩.
٤١٥ ـ البيت في اللسان مادة لقح ٣ / ٣٠٢ ، وتأويل مشكل القرآن ٢٢٦ ، والمجمل ٤ / ٨٧١ ، وإذا حملت الإبل من يوم لقحت فجازت السنة ، قيل : أدرجت ونضجت.
وقال حاتم :
٤١٦ ـ أماوي ما يغني الثراء عن الفتى |
|
إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر |
يعني النفس ، وقال لبيد :
٤١٧ ـ حتى إذا ألقت يدا في كافر |
|
وأجنّ عورات الثغور ظلامها |
يعني الشمس ، وقال الآخر :
٤١٨ ـ هم الملوك وأبناء الملوك لهم |
|
والآخذون به والسّاسة الأول |
الآخذون به ، أي : بالملك.
* * *
__________________
٤١٦ ـ البيت في ديوانه ص ٣٩ ، وتأويل مشكل القرآن ١٧٥ ، والصاحبي ٤٤١ ، واللسان : ثرى.
٤١٧ ـ البيت من معلقته ، راجع شرح المعلقات للنحاس ١ / ١٦٦ ، وديوانه ص ١٧٦ ، قوله الكافر : الليل ، وأجنّ : غطّى.
٤١٨ ـ البيت للقطامي يمدح قريشا وبني أمية ، وهو في خزانة الأدب ٦ / ٤٨٥ ، ومعاني القرآن للفراء ١ / ١٠٤.
باب
المجاز والاستعارة
ـ إن سئل عن قوله تعالى : (فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) (١). فهل للجدار إرادة؟.
الجواب : هذا على المجاز ، وهذا ممّا لا يعاب عليه في كلام الفصحاء ، بل يعدّ من غاية البلاغة ، تقول من ذلك : قال برأسه كذا ، وطار في هذا الأمر ، والجبلان يتراءيان ويتناطحان. ونظير هذا في القرآن :
قوله تعالى : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) (٢).
وقوله : (إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) (٣).
وقوله : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) (٤).
وقوله تعالى : (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) (٥).
فهذا من فعل الله تعالى ، ولكن أضافه إلى الأرض مجازا.
وقوله تعالى : (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) (٦).
__________________
(١) سورة الكهف : آية ٧٧.
(٢) سورة الجاثية : آية ٢٩.
(٣) سورة إبراهيم : آية ٣٦.
(٤) سورة مريم : آية ٩٠.
(٥) سورة الحج : آية ٥.
(٦) سورة الطور : آية ٩.
فالله تعالى حرّكها ؛ لأنها جماد لا تتحرك بنفسها ، ولكن أضاف الفعل إليها مجازا.
وقوله تعالى : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) (١).
فالله تعالى يبكيهما. قال الشاعر :
٤١٩ ـ يريد الرّمح صدر أبي براء |
|
ويرغب عن دماء بني عقيل |
وقال الآخر :
٤٢٠ ـ امتلأ الحوض وقال قطني |
|
مهلا رويدا قد ملأت بطني |
وقال الآخر :
٤٢١ ـ إنّ دهرا يلفّ شملي بجمل |
|
لزمان يهمّ بالإحسان |
وقال الآخر :
٤٢٢ ـ لما أتى خبر الزّبير تواضعت |
|
سور المدينة والجبال الخشّع |
__________________
(١) سورة الدخان : آية ٢٩.
٤١٩ ـ البيت للنجاشي الحارثي.
وهو في مجاز القرآن ١ / ٤١٠ ، والصناعتين ٣٠٥ ، وتفسير الطبري ١٦ / ١٨٦ ، وتأويل مشكل القرآن ١٣٣ ، ولم ينسبه المحقق.
٤٢٠ ـ البيت في تفسير الماوردي ٤ / ٩٠ ، والإفصاح للفارقي ٢٧٢ ، وشطره الأول في اللسان مادة قول.
٤٢١ ـ البيت لجميل بثينة ، وهو في نهاية الإيجاز للفخر الرازي ص ٣٥٦ ، وتأويل مشكل القرآن ١٣٣ ، وتفسير القرطبي ١١ / ٢٦ ، ومعاني القرآن للفراء ٢ / ١٥٦ ، والصناعتين ٣٠٥.
٤٢٢ ـ البيت تقدم برقم ١٩٢.
وقال آخر :
٤٢٣ ـ بكى الحارث الجولان من فقد ربّه |
|
وجولان منه خاشع متضائل |
وقال الآخر :
٤٢٤ ـ سألتني بأناس هلكوا |
|
شرب الدهر عليهم وأكل |
وقال عبيد :
٤٢٥ ـ سائل بنا حجر بن أمّ قطام إذ |
|
ظلّت به السمر النّواهل تلعب |
* * *
__________________
٤٢٣ ـ البيت للنابغة الذبياني ، وهو في ديوانه ص ١٢٠ ، وتهذيب اللغة ٥ / ٢٣١ ، ومثلث البطليوسي ١ / ٤٧٢. وقد تقدم برقم ١٩٣.
٤٢٤ ـ البيت للنابغة الجعدي وهو في مجمع الأمثال للميداني ١ / ٤٢ ، لكن شطره الأول فيه [كم رأينا من أناس قبلنا] ، والمعاني الكبير ٣ / ١٢٠٨ ، والاقتضاب ٢٩١ ، وسيكرر البيت ثانية.
٤٢٥ ـ البيت لعبيد بن الأبرص ، وهو في تفسير الطبري ١٢ / ١٣٢ ، وديوانه ص ٣٥.
باب «أيّ»
ـ إن سأل سائل عن قوله تعالى : (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) (١) لم ارتفع أيّ وقد جاء بعد الفعل؟.
فهلا عمل فيه كما عمل في قوله تعالى : (أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (٢)؟.
وكذلك السؤال عن قوله : (لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) (٣) فهلا عمل فيه (لَنَنْزِعَنَّ؟.)
قلنا ـ وبالله التوفيق ـ : إنّ «أيا» ارتفع في الآية الأولى على الابتداء ؛ لأنّ الاستفهام له صدر الكلام ، ولا يعمل فيه ما قبله فيما بعده.
وقوله : (لِنَعْلَمَ) لم يقع على (أَيَ) وإنما وقع على شيء مضمر.
المعنى : لنعلم بالنظر والمسألة ، أي : ليظهر ويرى بالمسألة والنظر أيّ الفريقين أحصى. وهذا كقولك : انظر واعلم أيّهما قام ، كأنك تقول : من القوم أيهم قام ، والله أعلم.
وأمّا قوله : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (٤) ، فإنما انتصب بالظرف ؛ لأنّ المنقلب ظرف مكان ، وتقدير الكلام : بأيّ منقلب ،
__________________
(١) سورة الكهف : آية ١٢.
(٢) سورة الشعراء : آية ٢٢٧.
(٣) سورة مريم : آية ٦٩.
(٤) سورة النمل : آية ٣٨.
وفي أي منقلب ، فلما سقط حرف الصفة انتصب وإن شئت قلت : إنّما انتصب بإضمار فعل دلّ عليه قوله : (يَنْقَلِبُونَ.)
وقد قيل : إن «أيا» على أربعة أوجه :
أحدها : أن يكون بمعنى الاستفهام ، فله صدر الكلام ، ويكون مرفوعا بالابتداء ، وخبره أيضا مرفوع ، كقوله تعالى : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (١)
وقوله تعالى : (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) (٢).
وكذلك قوله : (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) (٣) ، وقوله : (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) (٤) ، و (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) (٥) وأشباهها.
وقوله تعالى : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) (٦).
وللنحويين فيه أقاويل :
قال الخليل : رفعه على الحكاية ، كأنّه قال : ثمّ لننزعنّ من كل شيعة من يقال : أيّهم أشدّ على الرحمن عتيا ؛ لأنّ في (لَنَنْزِعَنَ) دليلا على معنى القول ، لأنهم ينزعون بالقول.
والوجه الثاني : وهو قول سيبويه : إنّ أيا بمعنى الذي ، إلا أنّه لما جاز حذف الضمير من صلته خالف أشباهه ، فيبنى على الضمّ كما تقول : لأضربنّ أيّهم قائل لك شيئا. معناه : الذي هو قائل لك شيئا. ولا يجوز حذف الضمير في غيره من الصلات. وهذا على قول الخليل لا يجوز.
__________________
(١) سورة النمل : آية ٣٨.
(٢) سورة آل عمران : آية ٤٤.
(٣) سورة الكهف : آية ١٢.
(٤) سورة طه : آية ٧١.
(٥) سورة مريم : آية ٧٣.
(٦) سورة مريم : آية ٦٩.
والوجه الثالث : ـ وهو قول يونس بن حبيب ـ إنّ قوله : (لَنَنْزِعَنَ) معلّقة كما يعلّق العلم في قولك : قد علمت أيّهم في الدار.
وأمّا قوله : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها) (١) ، فارتفع بفعله الذي هو يأتي ، وكذلك قوله : (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) (٢) ، ف «أي» في هذه الآية بمعنى الاستفهام.
ـ وأمّا إذا كان بمعنى الشرط فإنّه يكون مرفوعا ، وجزاؤه مجزوما ، كقولك : أيّهم يكرمني أكرمه وإذا أوقعت عليه الفعل نصبته ، كقوله تعالى : (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٣) ، وقوله : (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ) (٤).
ـ وأمّا بمعنى التعجب فإنّه إن وقع مبتدأ كان مرفوعا ، تقول من ذلك : أيّ رجل زيد ، وإذا لم يقع مبتدأ جرى عليه الإعراب ، كقوله تعالى : (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) (٥) ، وقد قيل : فيه معنى الشرط.
وقيل : بمعنى التعجب ، والله أعلم.
وكقوله تعالى : (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (٦).
ـ وأمّا ما جاء بمعنى الذي فيجري عليه الإعراب أيضا ، كقولك : لأضربنّ أيّهم في الدار ، وإنما عمل فيه ما قبله ، لأنه بمعنى الذي.
فمن ذلك قوله تعالى : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) (٧) ، هذا قرىء في الشواذ (٨).
* * *
__________________
(١) سورة النمل : آية ٣٨.
(٢) سورة آل عمران : آية ٤٤.
(٣) سورة الإسراء : آية ١١٠.
(٤) سورة القصص : آية ٢٨.
(٥) سورة الانفطار : آية ٨.
(٦) سورة عبس : آية ١٨.
(٧) سورة مريم : آية ٦٩.
(٨) قرأ هارون القارىء بنصب «أيهم» أوقع على «أيهم» لننزعن ، وكذا قرأ بها أيضا معاذ بن مسلم الهرّاء ، وطلحة بن مصرف ، راجع إعراب القرآن للنحاس ٢ / ٣٢٢.
باب
الكلمات التي جاءت في سورة من القرآن ، وجوابها
في سورة أخرى ، أو كلمة جاءت في سورة معطوفة
على كلمة في سورة أخرى أو في [موضع] آخر
من تلك السورة
ـ إن سئل عن قوله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) (١) الآية. لأيّ معنى جعلت علّة المغفرة فتح الله عليه البلدان (٢)؟
قلنا ـ وبالله التوفيق ـ : قد قيل عدّة من الأجوبة :
أحدها : أنّ الفتح علامة المغفرة لا علّة المغفرة ، كما يقال : رزقك الله مالا لتحجّ فيغفر الله لك.
__________________
(١) سورة الفتح : آية ١.
(٢) قال ابن هشام : فإن قلت : ليس فتح مكة علّة للمغفرة ؛ قلت : هو كما ذكرت ، ولكنه لم يجعل علة لها ، وإنّما جعل علّة لاجتماع الأمور الأربعة للنبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وهي : المغفرة وإتمام النعمة والهداية إلى الصراط المستقيم وحصول النصر العزيز ، ولا شك في أنّ اجتماعها له عليهالسلام حصل حين فتح الله تعالى مكة عليه. ا ه.
راجع شذور الذهب ٣٨٣.
وقال ابن الأنباري : الوقف على (فَتْحاً مُبِيناً) غير تامّ ؛ لأنّ قوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ) متعلق بالفتح ، كأنه قال : إنّا فتحنا لك فتحا مبينا لكي يجمع الله لك مع الفتح المغفرة ، فيجمع الله لك به ما تقرّ به عينك في الدنيا والآخرة.
وقال القرطبي : ويجوز أن يكون فتح مكة من حيث إنه جهاد العدو سببا للغفران والثواب. ا ه. راجع تفسير القرطبي.
ـ والوجه الثاني : وفقك الله بفتح البلدان ، فصار ذلك سببا لغفرانك ، كما أنّ الله تعالى إذا وفّق عبدا له لأنواع من الطاعات فتقرّب بها إليه صار ذلك سببا للمغفرة.
وقيل : إنّ هذا مردود إلى قوله تعالى في السورة الأخرى : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) (١) ليغفر لك الله ، لأنّ القرآن كلّه بمنزلة سورة واحدة.
ـ حتى بلغنا عن عكرمة رضي الله عنه أنّه قال ـ في قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً) ٢ ـ : إنّ الواو مردودة إلى قوله تعالى في سورة المؤمن وهو قوله : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) (٣).
ـ وقال غيره في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) (٤) ، وقوله تعالى : (أَتَصْبِرُونَ) (٥) ، وقوله : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) (٦) ، وقوله : (لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) (٧) ، فإذا جمعت بين هذه الآيات صار تلخيصها :
إنّ الموالي لما أسلموا قبل الرؤساء قالت الرؤساء : لو كان في هذا الدين خير ما سبقونا إليه ـ يعنون الموالي ـ وقالوا أيضا : أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا بالإسلام ليكونوا أوفر حظا منا ، ونكون لهم تبعا ، فامتنعوا عن الإسلام فنزلت الآية ، فقال : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) (٨) ، أي : جعلنا بعض السابقين من الفقراء بليّة لبعض الرؤساء ، ثم قال : (أَتَصْبِرُونَ) أيها الرؤساء على فضيلة السابقين؟ فادخلوا في الإسلام.
__________________
(١) سورة محمد : آية ١٩.
(٢) سورة الأنبياء : آية ٤٨.
(٣) سورة المؤمن : آية ٧.
(٤) سورة الأنعام : آية ٥٣.
(٥) سورة الفرقان : آية ٢٠.
(٦) سورة الأحقاف : آية ١١.
(٧) سورة الأنعام : آية ٥٣.
(٨) سورة الفرقان : آية ٢٠.
وقوله تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) (١).
قيل : إنّ هذا معطوف على قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) (٢) ، كأنّه قال : هل رأيت كالذي حاجّ إبراهيم في ربه ، أو كالذي مرّ على قرية.
وقيل : إنّ فيها إضمارين :
أحدهما : كأنه قال : ليس إحيائي وإماتتي كإحياء من قتل واحدا ، وعلى سبيل التشبيه ، بل إحيائي وإماتتي كمن مرّ على قرية أمتّه ثم أحييته بعد مائة عام.
وقيل : إن فيه تقديما وتأخيرا ، وكأنّه رجع إلى قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) (٣) ، إلى قوله : (ثُمَّ أَحْياهُمْ.)
كأنه قال : إحيائي للموتى كإحياء هؤلاء القوم ، أو كإحياء من مرّ على قرية ، لا كإحياء نمروذ حين خلّى سبيل حيّ فقال : إني أحييته. والله أعلم بمراده.
وقوله تعالى : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) (٤) ، قيل : هذه همزة الاستفهام دخلت على واو العطف ، والاستفهام هذا بمعنى الإنكار ، كأنّه معطوف على قوله : (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ) (٥) ، أي : الرسول. ولما أصابتكم مصيبة قلتم أنّى هذا؟ قل : هو من عند أنفسكم ، حيث فشلتم وعصيتم الرسول.
ـ وقوله تعالى : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) (٦).
__________________
(١) سورة البقرة : آية ٢٥٩.
(٢) سورة البقرة : آية ٢٥٨.
(٣) تتمتها : (فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) [البقرة : آية ٢٤٣].
(٤) سورة آل عمران : آية ١٦٥.
(٥) سورة آل عمران : آية ١٥٢.
(٦) سورة النساء : آية ٨٤.
قيل : إنّ هذا متصل بمضمر في قوله عزوجل : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ) (١). أي : ولو لا فضل الله عليكم ورحمته إذا أكرمكم بالإيمان لا تبعتم الشيطان ، فكما أكرمكم بالإيمان فقاتل في سبيل الله.
والثاني : ولو لا فضل الله بإرسال الرسول ، ورحمته بإنزال القرآن ما اهتدى أحد إلى معرفة الباري بعقله ، فقاتل في سبيل الله شكرا لهاتين النعمتين.
ـ وقيل : بل هذا متصل بقوله تعالى : (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (٢) ، فقاتل...
ـ وأمّا قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً ، وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً) (٣) الآية ، قيل : إنّ الاستثناء بعد النهي إثبات ، وبعد الأمر رخصة ، والله تعالى لا يرخّص في قتل المؤمن إلا بالحقّ فكيف الوجه في هذا؟
قيل : إنّه مردود إلى قوله في سورة بني إسرائيل (٤) ، كأنّه قال : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا ، ومن قتل فقد جعلنا لوليّه سلطانا يقتصّه إلا خطأ ، فيكون الاستثناء من القصاص.
وقيل : فيه أيضا وجه آخر ، وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا ، ومن قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم إلا خطأ.
__________________
(١) سورة النساء : آية ٨٣.
(٢) سورة النساء : آية : ٧٤.
(٣) سورة النساء : آية ٩٢.
(٤) أي إلى قوله تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) [سورة الإسراء : آية ٣٣].