أبي النصر أحمد بن محمّد بن أحمد السمرقندي [ الحدّادي ]
المحقق: صفوان عدنان داوودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القلم ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧٦
يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ،) فالآية الأولى أجراها على جماعة النساء ، والثانية على وحدانها.
وقوله تعالى : (مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ) (١) أجراها على وحدان النساء.
ـ وأما «الذي» أيضا فلفظه للواحد ، وهو يصلح للجمع كقوله تعالى : (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) (٢) ، ثم قال : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ ،) وكقوله تعالى : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) (٣) ، ثم قال : (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ،) وقوله تعالى : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) (٤).
وقال بعضهم : إن «الذي» بمعنى الذين في هذه الآيات ، حذفت منه النون ؛ لأنه اسم طال وكثر استعماله ، واحتجوا بقوله تعالى : (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) (٥).
ـ وأما «الكل» فقوله تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ) (٦) ، إلى قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ.)
وقوله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) (٧) ، إلى قوله : (وَقالُوا سَمِعْنا.)
وقوله تعالى : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ
__________________
(١) سورة الأحزاب : آية ٣١.
(٢) سورة البقرة : آية ١٧.
(٣) سورة الزمر : آية ٣٣.
(٤) سورة التوبة : آية ٦٩.
(٥) سورة الحج : آية ٣٥.
(٦) سورة الجاثية : (يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) [آيات : ٧ ـ ٩].
(٧) سورة البقرة : آية ٢٨٥.
عَبْداً) (١) أجراه على لفظ الوحدان على لفظ كل ، ثم قال : (لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) (٢) ، ثم ردّ الكلام إلى لفظه ، فقال : (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) (٣).
وقوله تعالى : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) (٤) أجراه على المعنى.
وقوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) (٥) أجراه على اللفظ ، وكذلك قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) (٦) ، وقوله : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) (٧) ، وقوله تعالى : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) (٨) ردّه إلى المعنى.
وقوله تعالى : (لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) (٩) ، ثم قال : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ) (٩).
وقوله تعالى : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (١٠) ، وقوله تعالى : (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) (١١) ، وقوله تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (١٢).
ـ وأمّا «أحد» فقوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) (١٣) أجراه على اللفظ ، ثم ردّه إلى المعنى فقال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ.)
__________________
(١) سورة مريم : آية ٩٣.
(٢) سورة مريم : آية ٩٤.
(٣) سورة مريم : آية ٩٥.
(٤) سورة النمل : آية ٨٧.
(٥) سورة الرحمن : آية ٢٦.
(٦) سورة آل عمران : آية ١٨٥.
(٧) سورة الإسراء : آية ٨٤.
(٨) سورة البقرة : آية ١١٦.
(٩) (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ادْخُلُوها بِسَلامٍ) [سورة ق : الآيتين ٣٢ ـ ٣٣].
(١٠) سورة يس : آية ٤٠.
(١١) سورة الزخرف : آية ٣٥.
(١٢) سورة الحجر : آية ٣٠.
(١٣) سورة التوبة : آية ٦.
وقوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) (١).
وقوله تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (٢) ، وقوله تعالى : (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) (٣).
وقوله تعالى : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ ،) ثم قال : (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما) (٤).
لأنه قال بعض النحويين : يجوز أن يقال : مررت بأحد يتكلمون ، ومررت على كل رجل يتعجبون.
ـ وأمّا «ما» فإذا كان بمعنى الذي فإنه يصلح أيضا للواحد والجمع والمذكر والمؤنث.
ومنها قوله تعالى : (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) (٥) ، ولم يقل : محرّمة كما قال : «خالصة» ؛ لأن الأول ردّه إلى الأنعام وهي جماعة ، والثاني ردّه إلى لفظ «ما» وهو موحد مذكر.
وكذلك قوله تعالى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى) (٦) ، إلى قوله : (أَيُمْسِكُهُ ،) ولم يقل : أيمسكها. ردّ الكلام إلى «ما» من قوله : (مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ.)
وكذلك قوله تعالى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) (٧) ، إلى قوله : (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) (٧).
__________________
(١) سورة الحاقة : آية ٤٧.
(٢) سورة البقرة : آية ٢٨٥.
(٣) سورة الأحزاب : آية ٣٢.
(٤) سورة البقرة : آية ١٠٢.
(٥) سورة الأنعام : آية ١٣٩.
(٦) (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) [سورة النحل : آية ٥٨ ـ ٥٩].
(٧) سورة الزخرف : آية ١٨.
لا شك أن المبشر بها كانت أنثى ، لكن ردّه إلى «ما» حتى قال (يُنَشَّؤُا وَهُوَ فِي الْخِصامِ.)
وقوله تعالى : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ،) إلى قوله : (هذا ما تُوعَدُونَ) (١) ، ولم يقل : هذه ؛ لأنه ردّه إلى (ما) على التقديم والتأخير ، أي : ما توعدون هذا.
وقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ) (٢) ردّه إلى لفظ ما.
وقوله تعالى : (أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) (٣) ، ما ههنا بمعنى الذي ، والذي كناية عن الذكر والأنثى ههنا ، ثم قال : (عَلَيْهِ) ردّه إلى لفظ ما.
أمّا الأبيات على هذه الفصول فمنها قول الشاعر :
١٠٠ ـ تعشّ فإن عاهدتني لا تخونني |
|
نكن مثل من يا ذئب يصطحبان |
فأجراه على التثنية.
__________________
(١) (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) [سورة ق : الآيتين ٣١ ـ ٣٢].
(٢) سورة الحج : آية ٦٢.
(٣) سورة الأنعام : آية ١٤٤.
١٠٠ ـ البيت للفرزدق من قصيدة له يخاطب الذئب.
والبيت في كتاب سيبويه ١ / ٤٠٤ ، ومغني اللبيب ص ٢٢٩ ، ومجاز القرآن ٢ / ٤١ ، ومعاني القرآن للفراء ٢ / ١١ ، ومعاني القرآن للأخفش ١ / ٣٦ ، وشرح ابن يعيش ٢ / ١٣٢ ، وديوانه ص ٦٢٨.
وأما على الذي ، فقول الشاعر :
١٠١ ـ وإنّ الذي حانت بفلج دماؤهم |
|
هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد |
وقال الآخر :
١٠٢ ـ يا ربّ عبس لا تبارك في أسد |
|
في بين من قام وبين من قعد |
إلا الذي قام بأطراف المسد |
ـ وقال في «الكل» بمعنى الجميع :
١٠٣ ـ وكلّ أناس قاربوا قيد فحلهم |
|
ونحن خلعنا قيده فهو سارب |
وقال آخر :
١٠٤ ـ وكلّ قوم أطاعوا أمر مرشدهم |
|
إلا نميرا أطاعت أمر غاويها |
__________________
١٠١ ـ البيت للأشهب بن رميلة ، وقيل : لحريث بن محفض يرثي قوما قتلوا في موضع اسمه فلج.
والبيت من شواهد سيبويه ١ / ٩٦ ، وخزانة الأدب ٢ / ٥٠٧ ، ومغني اللبيب ص ٧١٧ ، وتفسير القرطبي ١ / ٢١٢ ، ومعاني القرآن للأخفش ١ / ٨٥.
١٠٢ ـ الرجز لم ينسب.
وهو في أضواء البيان ٧ / ٥٢ ، وشرح جمل الزجاجي لابن عصفور ٢ / ١٧٢ ، والروض الأنف ٢ / ١١٢ ، والبحر المحيط ١ / ٧٧.
وفي الروض الأنف :
[في قائم منهم ولا فيمن قعد |
|
غير الأولى شدوا بأطراف المسد] |
١٠٣ ـ البيت للأخنس بن شهاب التغلبي ، والفحل هنا : السيد.
يقول : كل أناس غيرنا لم يتركوا رئيسهم يفارقهم ، ويبعد عنهم خشية القتل ، ونحن لعزنا لا يجترىء أحد على سيدنا ، وإن كان وحده بعيدا عنا.
والبيت في المشوف المعلم ١ / ٣٩٥ ، واللسان مادة سرب ، والبحر المحيط ١ / ٢٢٩ ، وشرح الجمل لابن عصفور ١ / ٦٢٢ ، والدر المصون ١ / ١١٩.
١٠٤ ـ البيت لمالك بن خياط العكلي.
وهو في شواهد سيبويه ٢ / ٢١ ، وخزانة الأدب ٥ / ٤٢ ، وتفسير القرطبي ٢ / ٢٣٩.
وقال آخر :
١٠٥ ـ وليلة مرضت من كلّ ناحية |
|
فلا يضيء لها نجم ولا قمر |
وقال عمرو بن معديكرب :
١٠٦ ـ ولكلّ ما نال الفتى |
|
قد نلته إلا التحيه |
وقال الآخر :
١٠٧ ـ لقد كان في الفرقان ما لو دعوتم |
|
به عاقل الأروى أتتكم تنزّل |
وقال النابغة :
١٠٨ ـ المرء يهوى ما يعيش |
|
وطول عيش قد يضرّه |
معناه : يهوى طول عيش يضره.
__________________
١٠٥ ـ البيت لأبي حية النميري. والمرض ههنا بمعنى الظلمة.
والبيت في ديوان أبي حيّة ص ١٤٨ ، والزاهر ١ / ٥٨٥ ، ولسان العرب مادة مرض ، والدر المصون ١ / ١٢٩. وقال محققه الدكتور خراط : لم أهتد إلى قائله.
١٠٦ ـ البيت لزهير بن جناب الكلبي لا لعمرو بن معديكرب.
وهو من أبيات قالها لما حضرته الوفاة وهي :
أبنيّ إن أهلك فإني |
|
قد بنيت لكم بنية |
وتركتكم أولاد سادات |
|
زنادكم وريّة |
ولكل ما نال ... |
|
... |
والتحية ههنا بمعنى البقاء ، وقال الأخفش : التحية : الملك.
راجع معاني القرآن للأخفش ٢ / ٥٢ ، والتصريح على التوضيح ١ / ٣٢٦ ، والمؤتلف والمختلف ص ١٩٠.
١٠٧ ـ البيت للأخطل ، وهو في ديوانه ص ٢٣١ ، ونقائض جرير والأخطل ص ٦٢.
١٠٨ ـ البيت للنابغة الجعدي ، وهو في الأمالي للقالي ٢ / ٨ ، والأشباه والنظائر ٣ / ١٠٩ ، وقيل للنابغة الذبياني وبعده :
تفنى بشاشته ويب |
|
قى بعد حلو العيش مرّه |
وتضرّه الأيام حتى |
|
لا يرى شيئا يسرّه |
راجع جمهرة أشعار العرب ١ / ١٩٧.
ـ وهو في شرح قصيدة كعب بن زهير ، وقال المحقق الدكتور أبو ناجي : القائل مجهول.
باب آخر
من هذا النوع
ـ فإن سئل عن قوله تعالى : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) (١) ولم يقل هذه ، إذ الثمرة مؤنثة؟
فالجواب عن هذا ـ وبالله التوفيق ـ :
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه : قد ذكرنا قبل أن الكلمة إذا تضمنت معنى التأنيث والتذكير ، فأخبرت عنها فلك أن تردّ الكناية إلى اللفظ تذكيرا ، وإلى المعنى تأنيثا ، أو ترده إلى اللفظ تأنيثا ، وإلى المعنى تذكيرا ، وكذلك الوحدان والجماعة.
فمن ذلك قوله تعالى : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ.)
وقوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) (٢) ، ولم يقل : أول الكافرين به ؛ لأنّه ردّه إلى المعنى وأراد : أول حزب ، أو أول قبيل كافر به.
وقوله تعالى : (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) (٣) ، ولم يقل : التي.
وقوله تعالى : (وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) (٤).
__________________
(١) سورة البقرة : آية ٢٥.
(٢) سورة البقرة : آية ٤١.
(٣) سورة التوبة : آية ١١٠.
(٤) سورة الفرقان : آية ١١.
لأنه ـ وإن كان لفظ السعير مذّكرا ـ ردّه إلى المعنى ؛ لأن معناه النار.
وقوله تعالى : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها) (١) على معنى النفس ، ثم قال : (اضْرِبُوهُ) ردّه إلى المعنى ، يعني الميت أو القتيل.
وقوله تعالى : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي) (٢).
فبالتاء (٣) رده إلى الشجرة ، وبالياء (٤) إلى المهل.
وقوله تعالى : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) (٥) ردّه إلى المعنى. لأن السماء والسقف واحد.
وفي قوله تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها) (٦) ردّه إلى لفظ السماء ، وهي مؤنثة.
وفي آية أخرى جمع بينهما وهو قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) (٧) ثم قال : (وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) (٧) فافهم.
وقد قيل : إنّ السماء يذكر ويؤنث كالسبيل. قال تعالى : (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) (٨).
وقال جلّ جلاله : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) (٩) ، وقوله تعالى : (مِنْ مَنِيٍ
__________________
(١) سورة البقرة : آية ٧٢.
(٢) سورة الدخان : آيتان ٤٣ ـ ٤٤.
(٣) قرأ «تغلي» بالتاء نافع وأبو جعفر وأبو عمرو وابن عامر وخلف وحمزة والكسائي وروح عن يعقوب ، وشعبة.
(٤) وهي قراءة ابن كثير وحفص ورويس.
(٥) سورة المزمل : آية ١٨.
(٦) سورة الذاريات : آية ٤٧.
(٧) سورة الأنبياء : آية ٣٢.
(٨) سورة الحجر : ٧٦.
(٩) سورة يوسف : آية ١٠٨.
يُمْنى) (١) وتمنى فبالتاء ردّه إلى النطفة ، وبالياء إلى لفظ المنيّ.
وقوله تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) (٢) ردّه إلى المعنى ؛ لأن السلم والمسالمة بمعنى.
وقوله تعالى : (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) (٣) والظهور جمع ظهر ، ولم يقل : ظهورها ؛ لأن الهاء راجع إلى الجنس ، والجنس واحد في اللفظ ، فتقديره : إذا استويتم على ظهور هذا الجنس.
ثم قال : (إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) (٣) ردّه إلى كلّ واحد منها.
وقوله تعالى : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) (٤). ثم قال : (وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ) (٤) لأنّ «من» للتبعيض ، فقوله «منه» ردّه إلى البعض ، وقوله «منها» ردّه إلى الحجارة.
وقوله تعالى : (أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى) (٥) و (تَغْشى) (٦) فبالتاء رده إلى الأمنة ، وبالياء رده إلى النعاس.
وقوله تعالى : (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) (٧) وتلتقطه.
فبالياء رده إلى البعض ، وبالتاء رده إلى السيارة.
__________________
(١) سورة القيامة : آية ٣٧. وقرأ (يمنى) بالياء هشام وحفص ويعقوب والباقون بالتاء.
(٢) سورة الأنفال : آية ٦١.
(٣) سورة الزخرف : آية ١٣.
(٤) سورة البقرة : آية ٧٤.
(٥) سورة آل عمران : آية ١٥٤.
(٦) قرأ تغشى بالتاء حمزة والكسائي وخلف مع الإمالة إسنادا إلى ضمير أمنة. وقرأ الباقون بالتذكير إسنادا إلى ضمير النعاس.
(٧) سورة يوسف : آية ١٠ ، قرأ نافع وأبو جعفر تلتقطه بالتاء.
وقوله تعالى : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) (١) ثم قال : (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) ردّه إلى المعنى ، أي : هذا المشار إليه أو المعروض عليه.
وقوله تعالى : (فَأَنْفُخُ فِيهِ) (٢). أي : الطين.
وفي سورة المائدة : (فَتَنْفُخُ فِيها) (٣). أي : في الصورة والهيئة.
وقوله تعالى : (تُساقِطْ) (٤) ويسّاقط فبالتاء ردّه إلى الشجرة ، وبالياء ردّه إلى الرطب.
وقوله تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٥).
قال الزّجاج رحمهالله : ردّه إلى المعنى ؛ لأن الرحمة والغفران بمعنى.
وقال الأخفش : الرحمة ههنا المطر ، يدلّ عليه قوله تعالى : وهو الذي يرسل الرياح نشرا بين يدي رحمته (٦).
وقال الفراء : بمكان قريب (٧).
وقال بعضهم : القريب ههنا بمعنى المفعول كالمقرّب ، يقال : امرأة
__________________
(١) سورة الأحقاف : آية ٣٤.
(٢) سورة آل عمران : آية ٤٩.
(٣) سورة المائدة : آية ١١٠.
(٤) سورة مريم : آية ٢٥. قرأ تساقط بفتح التاء حمزة ، وقرأ حفص بضم التاء وكسر القاف ، وقرأ شعبة ويعقوب بالياء مفتوحة وتشديد السين وفتح القاف ، والباقون بفتح التاء وتشديد السين.
(٥) سورة الأعراف : آية ٥٦.
(٦) سورة الأعراف : آية ٥٧. قرأ «بشرا» بالباء عاصم ، وبالنون ابن عامر مضمومة وإسكان الشين. وقرأ حمزة والكسائي وخلف بالنون المفتوحة وسكون الشين مصدرا وقع موقع الحال ، بمعنى ناشرة أو منشورة.
(٧) انظر معاني القرآن ١ / ٣٨١.
قتيل أي : مقتولة ، وكذلك : عين كحيل ، ولا يقال : كحيلة. فالفعيل إذا كان بمعنى المفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث. والله أعلم.
وقوله تعالى : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها) (١) ردّه إلى الرحمة.
(وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) (١) ردّه إلى لفظه.
وقوله تعالى : (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ* فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) (٢) فالتأنيث للسورة ، والتذكير (٣) للمعنى ، أي : فمن شاء ذكر ما ذكرنا أو ما وصفنا.
وقوله تعالى : (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) (٤) ، ثم قال : (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) لأنّ البيان والبيّنة بمعنى واحد. ويحتمل : (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) أي : بالمذكور. كقوله تعالى : (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي) (٥) يعني : الطالع أو المذكور.
فأمّا حمل اللفظ على المعنى :
فكقوله : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) (٦) ، ولم يقل : زينت ؛ لأن المراد به البقاء.
وقوله تعالى : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) (٧) رده إلى المعنى.
وفي موضع آخر : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) (٨) ردّه إلى اللفظ.
__________________
(١) سورة فاطر : آية ٢.
(٢) سورة عبس : آيتان ١١ ـ ١٢.
(٣) التذكير في قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) [سورة المدثر : آيتان ٥٤ ـ ٥٥].
(٤) سورة الأنعام : آية ٥٧.
(٥) سورة الأنعام : آية ٧٨.
(٦) سورة البقرة : آية ١١٢.
(٧) سورة هود : آية ٦٧.
(٨) سورة الحجر : آية ٧٣.
وقوله تعالى : (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى) (١) ردّه إلى الإمداد.
وقوله تعالى : (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ) (٢) إلى قوله : (تُؤْوِيهِ) ثم قال : (يُنْجِيهِ) ردّه إلى الفداء لا إلى هؤلاء.
الأبيات على هذا :
قال الشاعر :
١٠٩ ـ فأمّا الحرام فمركوبة |
|
وأمّا الحلال فلم تركب |
رده إلى المعنى لا إلى اللفظ ؛ لأنه يريد بالحلال الطاعة ، وبالحرام المعصية.
وقال الآخر :
١١٠ ـ لسنا كمن تسمه برد الشجر |
|
ولا خشيف الماء في الليل القرر |
بالتاء ردّه إلى المعنى.
وقال الآخر :
١١١ ـ إنّ تميما خلقت ملموما |
|
لا راحم النّاس ولا مرحوما |
__________________
(١) سورة آل عمران : آية ١٢٦.
(٢) سورة المعارج : آيات ١١ ـ ١٤. (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ* وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ* وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ* وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ.)
١٠٩ ـ البيت لم أجده.
١١٠ ـ البيت لم أجده. والخشف : المرّ السريع.
١١١ ـ البيت عزاه أبو عبيدة إلى المخيّس الأعرجي ، وقد يعزى إلى رؤبة.
والبيت في مجاز القرآن ٢ / ٧١ ، ومعاني القرآن للأخفش ١ / ١٣٠ ، واللسان ـ مادة (صهم) ١٢ / ٣٤٩. ـ
فتميم اسم رجل ، فلما قال : «خلقت» ذهب به إلى القبيلة ، ثم عاد إليه حيث قال : ملموما ، أي مجموعا.
وقال الآخر :
١١٢ ـ رأت مرّ السنين أخذن مني |
|
كما أخذ السّرار من الهلال |
وأنّث الفعل وردّه إلى السنين ، ولو ردّه إلى المرّ لذكّره.
وقال الآخر :
١١٣ ـ فلا تضيقنّ إنّ السّلم أمنة |
|
ملساء ليس بها وعث ولا ضيق |
يعني : المسالمة.
وقال الآخر :
١١٤ ـ ولو أنّ مدحة قوم منشر أحدا |
|
أحيا أبوتك الشمّ الأماديح |
__________________
ـ ويروى :
إن تميما خلقت ملموما |
|
مثل الصفا لا تشتكي الكلوما |
قوما ترى واحدهم صهميما |
|
لا راحم الناس ولا مرحوما |
والملموم : الكثير الشديد ، والصهميم : الخالص في الخير والشر.
١١٢ ـ البيت لجرير ، وقد أنّث المرّ ؛ لأنه مشتمل على السنين.
والبيت في المذكر والمؤنث ص ٥٩٥ ، وشرح المعلقات للنحاس ص ١٤٧ ، والصاحبي ص ٤٢٣ ، وتفسير الطبري ١٢ / ٩٤ ، ومجاز القرآن ١ / ٩٨ ، وديوانه ص ٣٢٢. والسرار بفتح السين وكسرها : آخر ليلة من الشهر.
١١٣ ـ البيت لم يعلم قائله.
وهو في المذكر والمؤنث للفراء ص ٢٠ ، والمذكر والمؤنث لابن الأنباري ص ٣٦١ ، وشرح المعلقات للنحاس ٢ / ١٠٩ ، واللمع ٣١٠.
والوعث : الرمل تغيب فيه الأقدام.
١١٤ ـ البيت لأبي ذؤيب الهذلي ، وهو في اللسان ـ مادة (نشر) ، وشرح أشعار الهذليين ١ / ١٢٧ ، وبصائر ذوي التمييز ٥ / ٥٢.
ولم يقل : منشرة ؛ لأن المديح والمدحة واحدة.
وقال الآخر :
١١٥ ـ قامت تبكيه على قبره |
|
من لي بعدك يا عامر |
١١٦ ـ تركتني في الحيّ ذا غربة |
|
قد ذلّ من ليس له ناصر |
أي : إنسانا ذا غربة.
وقال الآخر :
١١٧ ـ فلا تذهبن عيناك في كلّ شرمح |
|
طوال فإنّ الأقصرين أمازره |
وقال الآخر :
١١٨ ـ فلو أنك في يوم الرّخاء سألتني |
|
طلاقك لم أبخل وأنت صديق |
معناه : وأنت إنسان صديق.
* * *
__________________
١١٥ ـ ١١٦ ـ البيتان نسبهما صاحب العقد الفريد لأعرابية ترثي ابنا لها ، ونسبهما ابن سيده للأعشى.
وهما في مجاز القرآن ٢ / ٧٦ ، والإنصاف في مسائل الخلاف ص ٢٦٦ ، والمحكم ٢ / ١٠٨ ، وتفسير القرطبي ٧ / ٢١.
١١٧ ـ البيت لرجل من بني الأضبط بن كلاب.
وهو في أساس البلاغة ـ مادة (مزر) ، ولسان العرب ـ مادة (مزر) ، ومجالس ثعلب ، ومعاني الفراء ١ / ١٢٩ ، وأمالي اليزيدي ص ١٢٩.
والمزير : الشديد القلب. وقال الفراء : المزير : الظريف.
١١٨ ـ البيت أنشده الفراء ولم يعزه لقائل معين.
وهو في ابن عقيل ١ / ٣٨٤ ، شاهد على أنّ المخففة المفتوحة ، ومغني اللبيب ٤٧.
باب الاستثناء
ـ إن سألك سائل عن قوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) (١). فهل يكون للظالمين على المؤمنين حجة؟
الجواب عنه : قلنا ـ وبالله التوفيق ـ :
الاستثناء في القرآن وفي كلام العرب يأتي على أربعة أوجه :
ـ يكون متصلا بمعنى إلا وغير وسوى ، ومنقطعا بمعنى «لكن» أو «الواو» ، أو بمعنى «إلا أن» ثم كلّ واحد منهما على وجهين : مثبت ومنفي.
ـ أمّا المثبت المتصل : فهو إخراج الآخر عما يدخل فيه الأول كقوله تعالى : (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) (٢). وإفراز الثاني عما يجمعه الأول كقوله تعالى : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) (٣).
ـ وأمّا المنفي المتصل : فهو إدخال الآخر فيما يخرج عنه الأول ، كقوله عزوجل : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) (٤) ، (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) (٥).
ـ وأما المنقطع فكقول العرب : سار القوم إلا الأبنية والخيام. معناه :
__________________
(١) سورة البقرة : آية ١٥٠.
(٢) سورة البقرة : آية ٢٤٩.
(٣) سورة العنكبوت : آية ١٤.
(٤) سورة الزخرف : آية ٥٨.
(٥) سورة ص : آية ١٥.
لكن الأبنية والخيام لم تسر وبقيت. ويسمى هذا الجنس من الاستثناء استثناء من غير جنسه.
وكقوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) (١).
معناه : لا يجوز لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ لا عمدا ، لكن إن قتله خطأ فحكمه كذا وكذا.
ـ وأمّا إلا بمعنى الواو فكقوله تعالى : (فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) (٢).
قال بعض أهل التفسير : «إلا» ههنا بمعنى الواو ، فمعنى الآية : فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها ، وقوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي.
ـ وقال بعضهم : يحتمل أن يقال : هلّا آمنت قرية عند نزول العذاب لينفعهم إيمانهم ، ولكن قوم يونس لما آمنوا نفعهم إيمانهم ، والله أعلم.
ـ وبمعنى إلا أن ، فيسمى استثناء خارجا من الوصف ، كقوله تعالى : (وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا) (٣). معناه : إلا أن نرحمهم.
وكقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) (٤). المعنى : إلا أن يلموا بالصغائر.
جئنا إلى الآية وهي قوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) (٥).
__________________
(١) سورة النساء : آية ٩٢.
(٢) سورة يونس : آية ٩٨.
(٣) سورة يس : آية ٤٣ ـ ٤٤.
(٤) سورة النجم : آية ٣٢.
(٥) سورة البقرة : آية ١٥٠.
إن جعلته استثناء متصلا فله وجه صحيح من التأويل.
معناه : إلا الذين ظلموا فإنّ لهم عليكم حجة لا صحة لها ، وهي ـ وإن لم تصح ـ لا يزول عنها اسم الحجة ، كقوله تعالى : (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ) (١) وإن كانت داحضة باطلة سمّاها حجة.
وكقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) (٢).
وحقيقة الحجة في اللغة : إظهار برهان تدحض به حجة الخصم.
وقيل : إن الاستثناء ههنا منقطع ، فمعناه : لكن الذين ظلموا فإنهم يحتجون عليكم ولا حجة لهم.
وقيل : إن الاستثناء ههنا بمعنى الواو ، كأنه قال : لئلا يكون للناس «لليهود» عليكم حجة ، والذين ظلموا : أشركوا لا حجة لهم أيضا.
ونظائرها من القرآن من المتصل والمنقطع بمعنى الواو ما نذكرها إن شاء الله ، منها قوله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) (٣) ، فههنا يحتمل المنقطع والمتصل ، أما المنقطع ، فمعناه لكن من ظلم فمرخّص له أن يجهر. ومعنى المتصل : لا يحب الله الجاهر بالقول السوء إلا من ظلم ، فإنه إن يجهر القول بالدعاء على ظالمه ويظهر شكاية منه كان له ذلك.
وقوله تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) (٤). المعنى : لكن يسمعون ؛ لأن الاستثناء إذا لم يكن من جنس المستثنى منه يكون منقطعا ، فيكون منصوبا على القطع.
__________________
(١) سورة الشورى : آية ١٦.
(٢) سورة البقرة : آية ٢٥٨.
(٣) سورة النساء : آية ١٤٨.
(٤) سورة الواقعة : آية ٢٦.
وكذلك قوله تعالى : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) (١) ، وقوله تعالى : (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) (٢) ، وقوله تعالى : (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) (٣) ، وقوله تعالى : (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) (٤).
معناه : لكن من تولى وكفر فأنت مسلّط على قتله.
وقال بعض أهل التأويل : إن هذا متصل بالذكر ، المعنى : فذكّر الناس إلا من تولى وكفر فإنه لا يتذكر ، فلا تطمع فيه.
وقوله تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (٥).
فمنهم من جعله استثناء متصلا ، وجعل تقدير الكلام : لا تجادلهم جدالا سيئا إلا من أقام على الكفر ولم يتبع الحق.
وقيل : إلا من ظلم بمنع الجزية. والله أعلم.
ـ ومن جعله استثناء منقطعا يقول : معناه : لكن الذين ظلموا جاملوهم وداروهم إلا أن تؤمروا بقتالهم.
وقوله تعالى : (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) (٦) ، وقوله تعالى : (وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا) (٧).
وقوله تعالى : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) (٨).
محل «من» منصوب على الاستثناء المنقطع ، لأن المرحوم خلاف
__________________
(١) سورة الشعراء : آية ٧٧.
(٢) سورة الزخرف : آية ٢٦.
(٣) سورة البقرة : آية ٣٤.
(٤) سورة الغاشية : آية ٢٢ ـ ٢٣.
(٥) سورة العنكبوت : آية ٤٦.
(٦) سورة الدخان : آية ٤٢.
(٧) سورة يس : آية ٤٣ ـ ٤٤.
(٨) سورة هود : آية ٤٣.
العاصم ، ويجوز أن يكون «عاصم» بمعنى المعصوم ؛ فتأويله : لا معصوم اليوم إلا من رحم الله ، فيكون استثناء متصلا.
وقوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) (١).
فالاستثناء ههنا على ثلاثة أوجه :
يجوز أن يكون متصلا ومنقطعا ، ويمنع سقوط حرف الظرف.
ـ أمّا المتصل : فقوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا ،) أي : من أجلها. ودخولها الموت إلا الموتة الأولى.
فإن قيل : كيف يكون «فيها» بمعنى من أجلها؟
قلنا : يجوز هذا ، كقول الرّجل : أحبّك في الله. يعني : من أجل الله.
وفي الحديث المروي «إنّه ينادى يوم القيامة أين المتحابّون في الله» (٢).
يعني : لأجل الله.
ويروى : [في جلال الله].
وكقوله تعالى : (فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ) (٣). يعني : لأجل الله.
__________________
(١) سورة الدخان : آية ٥٦.
(٢) الحديث أخرجه مسلم في صحيحه بلفظ : «إنّ الله تعالى يقول يوم القيامة : أين المتحابون بجلالي ، اليوم أظلّهم في ظلّي ، يوم لا ظلّ إلا ظلي» ، وفي هذه الرواية لا يكون الحديث شاهدا ، ويكون الشاهد في حديث السبعة «... ورجلان تحابا في الله» كما أخرجه الشيخان. أي : لأجل الله ، وما أخرجه مالك : «أفضل الأعمال الحبّ في الله والبغض في الله» ، ولمالك ومسلم : «المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء». انظر جمع الفوائد ٢ / ٢٣٠.
(٣) سورة العنكبوت : آية ١٠.
وأمّا المنقطع : فالمعنى : لا يذوقون فيها الموت ألبتة ، لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في الدنيا.
وقال قطرب (١) : «فيها» ههنا زائدة ، أدخلت للتأكيد.
والمعنى : أهل الجنة لا يذوقون الموت إلا الموتة التي ذاقوها في الدنيا.
وقوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) (٢).
قال يونس (٣) وأبو عبيدة (٤) : معنى «إلا» ههنا الواو.
المعنى : ولا خطأ.
وكذلك قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) (٥) المعنى : ولا الذين ظلموا.
وأنكر الفرّاء كليهما (٦) وقال : هذا خطأ ؛ لأنّ «إلا» لا يخرج عن
__________________
(١) هو محمد بن المستنير ، كان مولى سلم بن زياد ، وسمي قطربا لقول سيبويه ـ وكان يخرج بالأسحار فيجده على بابه حريصا على التعلم ـ فقال له : ما أنت إلا قطرب ليل.
والقطرب : دويبة تدبّ ولا تفتر.
أخذ عن سيبويه ، وله كتاب في القرآن حسن كثير الفوائد ، لم يطبع بعد ، وله «الأضداد» وقد طبع مؤخرا.
(٢) سورة النساء : آية ٩٢.
(٣) هو يونس بن حبيب شيخ سيبويه ، أخذ عن حماد بن سلمة ، وعيسى بن عمر ، وأبي عمرو ويقال : إنه أسنّ حتى جاوز المائة ، توفي سنة ٢٠٤ ه.
(٤) اسمه معمر بن المثنى ، كان أوسع الناس علما بأخبار العرب وأيامها ، وهو من أهل الكوفة وكان أعلم بالنسب من الأصمعي ، وكان الأصمعي أعلم بالنحو منه ، له «مجاز القرآن» مطبوع ، توفي سنة ٢٠٤ ه.
(٥) سورة البقرة : آية ١٥٠.
(٦) وعبارة الفراء :
وقد قال بعض النحويين : «إلا» في هذا الموضع بمنزلة الواو ، كأنه قال : «لئلا يكون للناس عليكم حجة» ولا الذين ظلموا. ـ