السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : التراجم
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٣
هذا .. وقد احتج معاوية نفسه على صعصعة وأصحابه بنصب عمر له ؛ فليراجع (١).
ولما خرجت الخوارج من الكوفة ، أتى علياً أصحابه ، وشيعته ، فبايعوه ، وقالوا : نحن اولياء من واليت ، واعداء من عاديت ؛ فشرط لهم فيه سنة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ؛ فجاءه ربيعة بن أبي شداد الخثعمي ، وكان شهد معه الجمل ، وصفين ، ومعه راية خثعم ؛ فقال له : بايع على كتاب الله ، وسنة رسوله.
فقال ربيعة : على سنة أبي بكر ، وعمر ..
فقال له علي عليهالسلام : ويلك ، لو أن بكر وعمر عملا بغير كتاب الله ، وسنة رسوله ، لم يكونا على شيء من الحق ..
فبايعه ربيعة.
ونظر إليه علي عليهالسلام ، فقال : أما والله ، لكأني بك ، وقد نفرت مع هذه الخوارج ، فقتلت ، وكأني بك ، وقد وطأتك الخيل بحوافرها ..
فقتل يوم النهر. قال قبيصة : فرأيته يوم النهروان قتيلاً ، قد وطأت الخيل وجهه ، وشدخت رأسه ومثلت به. فذكرت قول علي ، فقلت : در أبي الحسن ما حرك شفتيه قط بشيء الا كان كذلك (٢).
وقال الاشعث بن قيس لامير المؤمنين عليهالسلام فيما يرتبط بارسال أبي موسى للتحكيم :
« .. وهذا أبو موسى الاشعري ، وافد أهل اليمن إلى رسول الله صلّى الله
__________________
(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٣١٦ والكامل لابن الاثير ج ٣ ص ١٤٣ والغدير ج ٩ ص ٣٥. عن : شرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ١٥٨ ـ ١٦٠ وعن تاريخ ابن خلدون ج ٢ ص ٣٨٧ ـ ٣٨٩ وعن تاريخ أبي الفداء ج ١ ص ١٦٨.
(٢) الامامة والسياسة ج ١ ص ١٤٦ وراجع : تاريخ الطبري ج ٤ ص ٥٦ ، وبهج الصباغة ج ٧ ص ١٧٩ وراجع كتابنا : الحياة السياسية للامام الحسن عليهالسلام ص والكامل لابن الاثير ج ٣ ص ٣٣٧.
عليه وآله وسلّم ، وصاحب مغانم أبي بكر ، وعامل عمر بن الخطاب .. » (١).
أما في الاتجاه السلبي :
وفي الاتجاه السلبي ، نجد أن هؤلاء المهدورة كراماتهم ، المسلوبة حقوقهم ، من قبل الهيئة الحاكمة ، واعوانها على الخصوص ، يصبحون أشد الناس على عثمان ، حيث ثار الناس عليه ، بسبب ما ظهر منه ، في أيام خلافته ، ولا سيما في السنوات الاخيرة منها.
١ ـ يقول ابن عبدربه ، وهو يتحدث عن حصر أهل المدينة ، وأهل مصر عثمان بن عفان :
« .. وكان معهم من القبائل : خزاعة ، وسعد بن بكر ، وهذيل ، وطوائف من جهينة ، ومزينة ، وانباط يثرب ، وهؤلاء كانوا أشد الناس عليه » (٢).
٢ـ وحينما جاء عرب الكوفة إلى عبدالرحمان بن مخنف الازدي ، وطلبوا منه الخروج معهم على المختار ، قال لهم عبدالرحمان :
« .. أخاف أن تتفرقوا وتختلفوا. ومع الرجل شجعانكم وفرسانكم ، مثل فلان ، وفلان. ثم معه عبيدكم ، ومواليكم ؛ وكلمة هؤلاء واحدة. ومواليكم أشد حنقاً عليكم من عدوكم ؛ فهم مقاتلوكم بشجاعة العرب ، وعداوة العجم » (٣).
٣ ـ هذا .. بالاضافة إلى أن قتل الخليفة عمر بن الخطاب ، إنما تم على يد شخص غير عربي ، وهو أبو لؤلؤة ، غلام المغيرة بن شعبة .. (٤) وذلك معروف ومشهور.
__________________
(١) الامامة والسياسة ج ١ ص ١٣٠.
(٢) العقد الفريد ج ٤ ص ٣٠٠ والغدير ج ٩ ص ١٦٩ عنه.
(٣) راجع : تاريخ الامم والملوك ج ٦ ص ٤٥ ط دار المعارف بمصر. والكامل لابن الاثير ج ٤ ص ٢٣١.
(٤) راجع : تاريخ عمر بن الخطاب ، لابن الجوزي ص ٢٣٨/٢٣٩ وأي كتاب تاريخي ، يؤرخ لقتل الخليفة الثاني.
وذلك كله أمر طبيعي ، فان الناس بشر ، لهم أحاسيسهم ، ومشاعرهم ، ولهم كذلك كرامات ، وطموحات ، لابدّ من مراعاتها ، والاستجابة لها ، وإلا .. فان النار تحرق ، والشجر يورق ، والبحر يغرق.
آثار سياسة علي عليهالسلام وأهل بيته :
هذا .. ولكن سياسة علي أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام ، قد اسفرت عن نتائج وآثار سلبية ، واخرى ايجابية ..
فأما بالنسبة للسلبية منها ؛ فان مساواة علي عليهالسلام بين العرب وغيرهم ، ولا سيما في العطاء ، قد كان من أهم اسباب الخلاف عليه ، وكانت قسمته بالسوية أول ما أنكروه منه ، واورثهم الضغن عليه (١).
وكان ذلك من أسباب خروج طلحة والزبير ، ثم ما جرى في حرب الجمل (٢).
وقد قال له عمار ، وأبو الهيثم ، وأبو أيوب ، وسهل بن حنيف ، وجماعة :
« إنهم قد نقضوا عهدك ، واخلفوا وعدك ، ودعونا في السر الى رفضك. هداك الله لرشدك ، وذلك لانهم كرهوا الاسوة ، وفقدوا الإثرة ، ولما آسيت بينهم وبين الاعاجم أنكروا إلخ .. » (٣).
وكتب ابن عباس إلى الامام الحسن عليهالسلام يقول له :
« .. وقد علمت أن أباك عليّاً ، إنما رغب الناس عنه ، وصاروا إلى معاوية ؛ لانه واسى بينهم في الفيىء ، وسوى بينهم في العطاء إلخ .. » (٤).
بل لقد كان للعرب ، كل العرب موقف سلبي من علي عليهالسلام ، قد عبر
__________________
(١) شرح النهج للمعتزلي الخنفي ج ٧ ص ٣٧.
(٢) راجع : المعيار والموازنة ص ١١٣/١١٤.
(٣) شرح النهج للمعتزلي الحنفي ج ٧ ص ٣٧ عن الاسكافي ، وبهج الصباغة ج ١٢ ص ٢٠٠.
(٤) الفتوح لابن اعثم ج ٤ ص ١٤٩ وشرح النهج للمعتزلي الحنفي ج ١٦ ص ٢٣ وعن جمهرة رسائل العرب ج ٢ ص ١ وراجع : حياة الامام الحسن بن علي القرشي ج ٢ ص ٢٦.
عنه هو نفسه ، حينما كتب لاخيه عقيل : « ألا وان العرب قد أجمعت على حرب أخيك ، اجماعها على حرب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قبل اليوم ؛ فأصبحوا قد جهلوا حقه ، وجحدوا فضله ، وبادروه العداوة ، ونصبوا له الحرب ، وجهدوا عليه كل الجهد ، وجروا إليه جيش الاحزاب إلخ » (١).
وعلى الصعيد الايجابي فإننا نجد تعاطف غير العرب ، مع أولئك الذين وجدوا فيهم التجسيد الحي لتعاليم الاسلام ، وهم علي وأهل بيته عليهمالسلام ، وشعيته الابرار ؛ فقد كان من الطبيعي : أن تشدّهم إليهم أواصر المحبة ، وأن ينظروا إليهم بعين الاكبار ، والاجلال ، والتقدير الفائق ، وأن يجدوا فيهم الملجأ والملاذ لهم ، في جميع ما ينوبهم ..
ويكفي أن نذكر هنا :
١ ـ أن الموالي كانوا هم أنصار المختار ، في حركته التي كانت ترفع شعار الاُخذ بثارات الحسين عليهالسلام ، وكان ذلك ـ على ما يبدوا ـ هو السبب في تخاذل العرب عنه (٢).
٢ ـ وكان لعثمان عبد ، فاستشفع بعلي أن يكاتبه عثمان ، فشفع له ، فكاتبه (٣).
٣ ـ وقال السيد أمير علي : « وقد أظهر الامام علي منذ بداية الدعوة الاسلامية كل تقدير ومودة نحو الفرس ، الذين اعتنقوا الاسلام. لقد كان سلمان الفارسي ـ وهو أحد مشاهير اصحاب الرسول ـ رفيق علي وصديقه. كان من عادة الامام أن يخصص نصيبه النقدي في الانفال لافتداء الاسرى. وكثيراً ما أقنع الخليفة عمر بمشورته ، فعمد إلى تخفيف عبء الرعية في فارس. وهكذا .. كان ولاء الفرس لاحفاده واضحاً تمام الوضوح » (٤).
__________________
(١) شرح النهج للمعتزلي الحنفي ج ٢ ص ١١٩ والغارات ج ٢ ص ٤٣١ والبحار ج ٨ ط قديم ص ٦٢١ والدرجات الرفيعة ص ١٥٦ ونهج السعادة ج ٥ ص ٣٠٢.
(٢) الخوارج والشيعة ٢٢٧/٢٢٨.
(٣) ربيع الاُبرار ج ٣ ص ٢٢.
(٤) روح الاسلام ص ٣٠٦.
٤ ـ ويرى فان فلوتن : ان من اسباب ميل الخراسانيين ، وغيرهم من الإيرانيين الى العلويين ، هو أنهم لم يعاملوا معاملة حسنة ، ولا رأوا عدلاً ، إلا في زمن حكم الامام علي عليهالسلام (١).
٥ ـ وأخيراً .. فقد رأينا السودان ـ وهو ليسوا من العرب ـ يثورون ضد ابن الزبير ، انتصاراً لابن الحنفية. وكان فيهم غلام لابن عمر اسمه ، رباح ، فلما كلمه ابن عمر ، متعجباً ومستفهماً عن سبب خروجه مع الثائرين ، قال :
« والله ، إنا خرجنا لنردكم عن باطلكم إلى حقنا .. » (٢).
هذا كله .. عدا عن أن هذه السياسة الاسلامية الخالصة ، قد أسهمت في حفظ اصول الاسلام ، وفي وعي تعاليمه ، وترسيخ قواعده على المدى البعيد .. ثم في تعريف الناس على اولئك الذين يحملون همّ الاسلام للاسلام ، لا لاُجل مصالحهم الخاصة ، ولا لتحقيق مآربهم في التسلط والهيمنة على الآخرين ، واستغلالهم ..
فهم يعيشون الاسلام قضيةً ، وفكراً وطريقة ، ومنطلقاً ، وهدفاً. ويجسدونه رسالةً إلهية ، وانسانية ، تنبض بالحياة ، وتزخر بالمعاني السامية ، والغنية في مضامينها كما هي غنية في عطائها ، وروافدها.
غير العرب هم روّاد العلم والثقافة :
ورغم أن السياسة الاموية القاسية تجاه غير العرب ، والتي لم تكن إلا استمراراً لسياسة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب قد ارهقت غير العرب ، وحرمتهم من أبسط الحقوق الانسانية والشرعية .. فان هؤلاء الناس قد اتجهوا نحو ما هو أهم ونفعه أعم ، فحصلوا على المجد والرفع عن طريق العلم والمعرفة ، وأقبلوا على الاسلام ، وعلى النهل من معين معارفه ، وآدابه ، والغوص في بحار
__________________
(١) السيادة العربية والشيعة والاسرائيليات.
(٢) انساب الاشراف ، بتحقيق المحمودي ج ٣ ص ٢٩٥.
علومه وحقائقه بصورة مثيرة ومذهلة.
حتى لقد اصبحوا في مدة وجيزة هم علماء الامة ، وقراء الاسلام ، ودعاته ، ونحن نذكر هنا النصوص التالية :
١ ـ قال أبو هلال العسكري عن الحجاج :
« .. وهو أول من نقش على يد كل رجل اسم قريته ، ورده إليها. وأخرج الموالي من بين العرب .. إلى أن قال :
وكان الذي دعاه إلى ذلك : أن أكثر القراء ، والفقهاء ، كانوا من الموالي. وكانوا جلّ من خرج عليه مع ابن الاشعث ؛ فأراد أن يزيلهم من موضع الفصاحة والادب ، ويخلطهم بأهل القرى ؛ فيخمل ذكرهم. وكان سعيد بن جبير منهم ، وكان عبد رجل من بني أسد ، اشتراه ابن العاص ؛ فأعتقه ، فلما أتي به الحجاج ، قال :
يا شقي بن كسير ، أما قدمت الكوفة ، وما يؤم بها [إلا] (١) عربي ؛ فجعلتك إماماً؟ إلخ .. » (٢).
٢ ـ روى الحاكم بسنده عن الزهري ، قال :
قدمت على عبدالملك بن مروان ، فقال لي : من أين قدمت يازهري؟
قلت : من مكة.
قال : فمن خلفت يسود أهلها؟
قال : قلت : عطاء بن أبي رباح.
قال : فمن العرب ، أم من الموالي؟
قال : قلت : من الموالي.
__________________
(١) هذه الكلمة ساقطة من كتاب الاوائل ، لكنها موجودة في شذرات الذهب وفي وفيات الاعيان ج ٢ ص ٣٧٣.
(٢) الاوائل للعسكري ج ٢ ص ٦١ و ٦٢ وراجع : العقد الفريد ج ٣ ص ٤١٦/٤١٧ وشذرات الذهب ج ١ ص ١٠٩. ولم يذكر في العقد قصة سعيد بن جبير. وهي في وفيات الاعيان ج ٢ ص ٣٧٣.
قال : ويم سادهم؟
قال : قلت : بالديانة والرواية.
قال : إن أهل الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا ؛ فمن يسود أهل اليمن؟
قال : قلت : طاووس بن كيسان.
قال : فمن العرب ، أم من الموالي؟
قال : قلت : من الموالي؟
قال : وبم سادهم؟
قال : قلت : بما سادهم به عطاء.
قال : إنه لينبغي. فمن يسود أهل مصر؟
قال : قلت : يزيد بن أبي حبيب.
قال : فمن العرب ، أم من الموالي؟
قال : قلت : من الموالي.
قال : فمن يسود أهل الشام؟
قال : قلت : محكول.
قال : فمن العرب ، أم من الموالي؟
قال : قلت : من الموالي ، عبد نوبي ، أعتقته امرأة من هذيل.
قال : فمن يسود أهل الجزيرة؟
قال : قلت : ميمون بن مهران.
قال : فمن العرب ، أم من الموالي؟
قال : قلت : من الموالي.
قال : فمن يسود أهل خراسان؟
قال : قلت الضحاك بن مزاحم.
قال : فمن العرب ، أم من الموالي؟
قال : قلت: من الموالي.
قال : فمن يسود أهل البصرة؟
قال : قلت : الحسن بن أبي الحسن.
قال : فمن العرب ، أم من الموالي؟
قال : قلت : من الموالي.
قال : ويلك ، فمن يسود أهل الكوفة؟
قال : قلت : إبراهيم النخعي.
قال : فمن العرب ، أم من الموالي؟
قال : قلت : من العرب.
قال : ويلك يا زهري ، فرجت عني والله ، ليسودنٌ الموالي على العرب ، حتى يخطب لها على المنابر ، والعرب تحتها!
قال : قلت : يا أمير المؤمنين ، انما هو أمر الله ودينه ، من حفظه ساد ، ومن ضيعه سقط (١).
٣ ـ وعن العباس بن مصعب ، قال :
خرج من مرو أربعة من أولاد العبيد ، ما منهم أحد إلا وهو امام عصره :
عبدالله بن المبارك ، ومبارك عبد.
وابراهيم بن ميمون الصائغ. وميمون عبد.
والحسين بن واقد. وواقد عبد.
وأبو حمزة ، محمد بن ميمون السكري وميمون عبد (٢).
ثم ذكر الحاكم جماعة من كبار التابعين وأئمة المسلمين ، كلهم من الموالي ، فمن أراد الاطلاع على ذلك ، فليراجع كتابه : معرفة علوم الحديث ص ١٩٩ ـ ٢٠٠.
٤ ـ ودخل محمد بن أبي علقمة على عبدالملك بن مروان ، فقال : من سيد الناس بالبصرة؟
__________________
(١) معرفة علوم الحديث ص ١٩٨ ـ ١٩٩.
(٢) معرفة علوم الحديث ص ١٩٩.
قال : الحسن.
قال : مولى ، أو عربي؟
قال : مولى.
قال : ثكلتك امك ، مولى ساد العرب؟!
قال : نعم.
قال : بم؟
قال : استغنى عما في ايدينا من الدنيا ، وافتقرنا إلى ما عنده من العلم إلخ (١).
وقال ابن أبي ليلى : قال لي عيسى بن موسى ، وكان جائراً شديد العصبية : من كان فقيه البصرة؟
قال : الحسن بن أبي الحسن.
قال : ثم من؟
قلت : محمد بن سيرين.
قال : فما هما؟
قلت : فما هما؟
قلت : موليان.
قال : فمن كان فقيه مكة؟
قلت : عطاء بن أبي رباح ومجاهد بن جبر ، وسعيد بن جبير ، وسليمان بن يسار.
قال : فما هؤلاء؟
قلت : موالى.
قال : فمن فقهاء المدينة؟
قلت : زيد بن اسلم ، ومحمد بن المكندر ، ونافع بن أبي نجيح.
__________________
(١) ربيع الابرار ج ١ ص ٨١١.
قال : فمن هؤلاء؟
قلت : موالي.
فتغير لونه ، ثم قال : فمن افقه أهل قباء؟
قلت : ربيعة الرأي ، وابن أبي الزناد.
قال : فما كانا؟
قلت : من الموالي.
فاربد وجهه ، ثم قال : فمن كان فقيه اليمن؟
قلت : طاووس ، وابنه ، وهمام بن منبه.
قال : فما هؤلاء؟
قلت : من الموالي.
فانتفخت اوداجه ، وانتصب قاعداً ، ثم قال : فمن فقيه خراسان.
قلت : عطاء بن عبدا الخراساني.
قال : فما كان عطاء هذا؟
قلت : مولى.
فازداد وجهه تربداً ، واسود اسوداداً ، حتى خفته ، ثم قال : فمن كان فقيه الشام؟
قلت : مكحول.
قال : فما مكحول هذا؟
قلت : مولى.
فازداد تغيظاً وحنقاً ، ثم قال : فمن كان فقيه الجزيرة؟
قلت : ميمون بن مهران.
قال : فما كان؟
قال : مولى.
قال : فتنفس الصعداء ، ثم قال : فمن كان فقيه الكوفة؟
قال : فوّالله لولا خوفه لقلت : الحكم بن عيينة وعمار بن أبي سليمان.
ولكن رأيت فيه الشر ؛ فقلت : إبراهيم ، والشعبي.
قال : فما كانا؟
قلت : عربيان.
قال : الله أكبر.
وسكن جأشه (١).
٦ ـ وقال عبدالرحمان بن زيد بن أسلم : لما مات العبادلة : عبدالله بن عباس ، وعبدالله بن عمر ، وعبدالله بن الزبير ، وعبدالله بن عمرو بن العاص ، صار الفقه في جميع البلدان الى الموالي :
فقيه مكة : عطاء.
وفقيه اليمن : طاووس.
وفقيه اليمامة : يحيى بن أبي كثير.
وفقيه البصرة : السن البصري.
وفقيه الكوفة : إبراهيم النخعي.
وفقيه الشام : مكحول.
وفقيه خراسان : عطاء الخراساني.
الا المدينة ؛ فان الله حرسها بقرشي ، فقيه غير مدافع : سعيد بن المسيّب إلخ .. (٢). ولكن ذكر إبراهيم النخعي في جملة الموالي لا يصح ، فإنه كان عربياً من النخع من مذحج.
وقد يجوز لنا أن نتساءل هنان فنقول : لماذا كانت الحراسة بقرشي لخصوص المدينة ، مع أن مكة أشرف منها وأقدس ، لان فيها الكعبة المشرفة ، قبلة المسلمين ، وبيت الله فلماذا لم يحرسها الله بقرشي ، واصل قريش منها ، ولعل الاُصح خصها كما في معجم البلدان.
__________________
(١) العقد الفريد ج ٣ ص ٤١٥/٤١٦.
(٢) شذرات الذهب ج ١ ص ١٠٣ ومعجم البلدان ج ٢ ص ٣٥٤.
كما أننا نرى ان لنا الحق في تسجيل تحفظ فيما يرتبط بنسبة الفقاهة إلى اكثر العبادلة ، الذين ذكرت اسماءهم ، ولمناقشة هذا الاُمر موضع آخر.
٧ ـ وقال ياقوت عن أهل خراسان: « أما العلم ؛ فهم فرسانه ، وساداته واعيانه ، ومن أني لغيرهم مثل : محمد بن اسماعيل البخاري إلخ » (١).
٨ ـ « ولما تكلم ابن خلدون في فصل : أن حملة العلم في الاسلام أكثرهم من العجم ، من مقدمة العبر إلخ .. » (٢).
قال : « من الغريب الواقع : أن حملة العلم في الملة الاسلامية أكثرهم العجم ، لا من العلوم الشرعية ، ولا من العلوم العقلية (٣) الا في القليل النادر. وان كان منهم العربي في نسبته ؛ فهو عجمي في لغته ، ومرباه ، ومشيخته ، مع أن الملة عربية ، وصاحب شريعتها عربي .. ».
إلى أن قال بعد ذكره أمثلة على ذلك : « .. ولم يقم بحفظ العلم وتدوينه الا الأعاجم. وظهر مصداق قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لو تعلق العلم بأكناف السماء لنا له قوم من أهل فارس إلخ .. » (٤).
٩ ـ وقال الزمخشري :
قال قرشي : سألني سعيد بن المسيّب عن أخوالي.
فقلت : أمي فتاة.
فنقصت في عينه ؛ فامهلت حتى دخل عليه سالم بن عبدالله بن عمر ، فقلت : من امه؟
قال فتاة.
ثم دخل القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق؛ فقلت : من امه؟
__________________
(١) معجم البلدان ج ٢ ص ٣٥٣.
(٢) التراتيب الادارية ج ٢ ص ٣١٨.
(٣) أي سواء من العلوم الشرعية ، أو من العلوم العقلية ، كما جرى عليه ابن خلدون في تعبيراته.
(٤) راجع : مقدمة ابن خلدون ص ٥٤٣ ـ ٥٤٥.
قال : فتاة.
ثم دخل علي بن الحسين ؛ فقلت : من امه؟
قال : فتاة.
ثم قلت : رأيتني نقصت في عينك ؛ لاني ابن فتاة!! أفما لي بهؤلاء أسوة؟!
فجللت في عينه (١).
١٠ ـ ويذكرنا موقف هذا القرشي من سعيد بموقف زيد بن علي رضوان الله تعالى عليه من هشام بن عبدالملك ، حينما قال له هشام :
بلغني : أنك تطلب الخلافة ، ولست لها بأهل.
قال : ولم؟!.
قال : لانك ابن أمة.
قال : فقد كان إسماعيل ابن أمة ، وإسحاق ابن حرة وقد أخرج الله من ولد إسماعيل سيد ولد آدم ..
ولهذه القضية نصوص اخرى ، فلتراجع في مصادرها ، التي قدمّنا شطراً منها حين الكلام على سياسة الامويين في موضوع التمييز العنصري ، فلتراجع.
غير العرب .. والامر بالمعروف والنهي عن المنكر :
هذا .. وقد رأينا أيضاً : أن غير العرب كانوا أكثر التزاماً لجانب الحق ، وأشد تحرياً واجتهاداً ، والتزاماً بالشرع وأحكامه ، وقد تقدم كيف أن السودان ـ وهم ليسوا من العرب ـ يثورون ضد ابن الزبير ، انتصاراً لابن الحنفية ، وكان فيهم غلام لابن عمر ، اسمه : رباح ، فلما سأله ابن عمر عن الذي دعاه للخروج مع الثائرين.
قال : « .. والله ، إنا خرجنا لنردكم عن باطلكم إلى حقنا .. » (٢).
__________________
(١) ربيع الابرار ج ٣ ص ٣١.
(٢) انساب الاشراف ، بتحقيق المحمودي ج ٣ ص ٢٩٥.
الملحق
مؤخاة سلمان مع من؟! :
وقبل أن ننهي الحديث عن سلمان ، أحببنا تسجيل ملاحظة ، حول ما يذكر في قضية مواخاته رضوان الله تعالى عليه فانهم يقولون : إن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قد آخى بينه وبين أبي الدرداء (١).
وفي نص آخر : إنه آخى بينه وبين حذيفة (٢).
وفي رواية ثالثة : إنه صلىاللهعليهوآلهوسلم قد آخى بينه وبين المقداد (٣).
انكار حديث المؤاخاة والاجابة عن ذلك :
أما ابن سعد ، فقد قال :
« أخبرنا محمد بن عمر ، قال : حدثني موسى بن محمد ، بن إبراهيم ، بن
__________________
(١) الاصابة ج ٢ ص ٦٢ ، والاستيعاب بهامشه ج ٢ ص ٦٠ وج ٤ ص ٥٩ والغدير ج ١٠ ص ١٠٣/١٠٤ وج ٣ ص ١٧٤ وقد ناقش في هذه الرواية. والسيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ص ١٥٢ وأسد الغابة ج ٢ ص ٣٣٠ و ٣٣١ وطبقات ابن سعد ط ليدن ج ٤ قسم ١ ص ٦٠ وتهذيب تاريخ دمشق ج ٦ ص ٢٠٣ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٨ ص ٣٧ وتهذيب الاسماء ج ١ ص ٢٢٧ وقاموس الرجال ج ٠٧ ص ٢٥٦ ونفس الرحمان ص ٩١ و ٨٥ عن أبي عمر ، وعن المناقب للخوارزمي ، الفصل ١٤. وتهذيب التهذيب ج ٤ ص ١٣٨.
(٢) طبقات ابن سعد ج ٤ قسم ١ ص ٦٠ ط ليدن.
(٣) نفس الرحمان ص ٨٥ عن الحسين بن حمدان.
الحارث ، عن أبيه ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : أخبرنا محمد بن عبدالله ، عن الزهري :
أنهما كانا ينكران كال مؤاخاة كانت بعد بدر ، ويقولان : قطعت بدر المواريث.
وسلمان يومئذٍ في رق ، وإنما عتق بعد ذلك. وأول غزوة غزاها : الخندق ، سنة خمس من الهجرة (١).
ولأجل ذلك ؛ فقد عبر البلاذري هنا بقوله : « .. وقوم يقولون : آخى بين أبي الدرداء ، وسلمان.
وإنما اسلم سلمان فيها بين أحد والخندق.
قال الواقدي : والعلماء ينكرون المؤاخاة بعد بعد ، ويقولون : قطعت بدر المواريث » (٢).
« .. وقال ابن أبي الحديد : قال أبو عمر : آخى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بينه وبين أبي الدرداء ، لما آخى بين المسلمين.
ولا يخفى ضعفه ، وغرابته » (٣).
ونقول : إن لنا على ما تقدم ملاحظات ، نجملها فيما يلي :
أولاً : قولهم إن المؤاخاة قد انقطعت بعد بدر ، لا يصح ، وقد تحدثنا عن ذلك في كتابنا : الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم ج ٣ ص ٥٩/٦٠ فليراجعه من أراد. فلا داعي لاستغراب هؤلاء ، ولا مبرر لانكار أولئك.
وثانياً : قولهم : إن انقطاع المؤاخاة بعد بدر يلزمه عدم صحة مؤاخاة سلمان مع أحد من الناس ، لا يصح كذلك ، إذ لماذا لا يؤاخي قبل بدر بين سلمان وان
__________________
(١) طبقات ابن سعد ط ليدن ج ٤ قسم ١ ص ٦٠.
(٢) انساب الاشراف (قسم حياة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم) ج ١ ص ٢٧١.
(٣) نفس الرحمان ص ٨٥ عنه.
كان عبداً وبين رجل آخر حر ..
هذا بالاضافة إلى أنه قد تقدم في اول هذا الكتاب : أنه قد اسلم وتحرر في اول سني الهجرة.
وثالثاً : أما دعوى البلاذري أن سلمان قد اسلم بين أحد والخندق ، فلا تصح أيضاً لأنه إنما أسلم في أول الهجرة ، كما اتضح من روايات اسلامه ، نعم .. هم يقولون : إن تحرره قد كان قبل الخندق.
فاذا كان مسلماً حين المؤاخاة ؛ فيمكن أن يؤاخي بينه وبين أحد المسلمين ، ولو كان الطرف الآخر حراً ؛ لعدم الفرق بين الحر والعبد ، في الايمان والانسانية ، وغير ذلك بنظر الاسلام ..
هذا .. لو سلم أن كان لا يزال عبداً ..
ورابعاً : إن الذي انقطع بدع بدر انما هو التوارث بين الاخوة وليس نفس المؤاخاة ..
مع أننا نقول أيضاً : إن التوارث لم يكن موجوداً حتى قبل ذلك ، ولعل بعض المسلمين قد توهم التوارث بين المتأخرين ، فجاء الردع عنه ، وتصحيح اشتباهه في ذلك ، فصادف ذلك زمان حرب بدر ..
فنشأ عن ذلك توهمان آخران : هما : ان التوارث كان ثابتاً .. وأن المؤاخاة تنقطع بانقطاع التوارث ، وكلاهما باطل ، ولا يصح ..
وخامساً : قولهم : إن المؤاخاة قد كانت بين سلمان وبين أبي الدرداء.
يقابله :
١ ـ ما روي عن امامنا السجاد عليه الصلاة والسلام ، أنه قال : « لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله ، ولقد آخى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بينهما ، فما ظنكم بسائر الخلق » (١).
__________________
(١) بصائر الدرجات ص ٢٥ والكافي ج ١ ص ٣٣١ والغدير ج ٧ ص ٣٥ عنهما واختيار معرفة الرجال
٢ ـ عن أبي عبدالله عليهالسلام ، أنه قال : آخى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بين سلمان وأبي ذر ، واشترط على أبي ذر : أن لا يعصي سلمان (١).
وقد ذكرنا شيئاً حول هذا الحديث في كتابنا : الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم ج ٣ ص ٦٨/٦٩ فليراجع.
٣ ـ إننا نعتقد : أن مؤاخاة سلمان مع أبي ذر هي الأصح ، والأوفق بما يذكرونه من أن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يؤاخي بين كل رجل ونظيره (٢). وكان أبو ذر أكثر مشاكلةً لسلمان من أبي الدرداء له ؛ فان سلمان يؤكد على أنه لابدآ من الوقوف إلى جانب القرآن ، إذا اقتتل القرآن والسلطان ، كما أن أبا ذر قد كان له موقف عنيف من السلطة ، حينما وجد أنها تسير في خطٍ انحرافي خطير ، فكان أن اتخذ جاب الحق ، واعلن ادانته للانحراف بصورة قاطعة ، كما أنه هو وسلمان قد كان لهما موقف منسجم من أحداث السقيفة ، ونتائجها ..
أما أبو الدرداء .. فقد أصبح من وعاظ السلاطين ، واعوان الحكام المتسلطين ، حتى لنجد معاوية ـ كردٍّ للجميل ـ يهتم بمدحه وتقريظه ، والثناء عليه (٣).
كما أن أبا الدرداء ـ حسبما تقدم ـ يكتب لسلمان يدعوه إلى الارض المقدّسة ، وهي الشام بزعمه ، وليس مكة ، والمدينة! فاقرأ واعجب ؛ فانك ما عشت أراك الدهر عجبا.
__________________
ص ١٧ والبحار ج ٢٢ ص ٣٤٣ ومصابيح الانوار ج ١ ص ٣٤٨ وقاموس الرجال ج ٤ ص ٤١٨/٤١٩. والظاهر : أن الرواية معتبرة.
(١) الكافي ج ٨ ص ١٦٢ ، والبحار ج ٢٢ ص ٣٤٥ عنه ، ونفس الرحمان ص ٩١.
(٢) راجع كتابنا : الصحيح من سيرة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ج ٣ حين الكلام حول حديث المؤاخاة ..
(٣) طبقات ابن سعد ج ٢ قسم ٢ ص ١١٥.
ويكفي أن نذكر : أن يزيد بن معاوية قد مدح أبا الدرداء ، واثنى عليه (١).
كما أن معاوية قد ولاه دمشق (٢).
بالاضافة إلى أن رسول الله ـ حسبما يروى ـ قد ذم أبا الدرداء ، وقال له :
إن فيك جاهلية.
قال : جاهلية كفر ، أم جاهلية اسلام؟
قال : جاهلية كفر (٣).
٤ ـ وإذا كان سلمان قد اسلم في أول سني الهجرة ، حسبما تقدم ، وإذا كان أبو الدرداء ، قد تأخر اسلامه إلى ما بعد احد (٤) .. فلماذا ترك النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم سلمان من دون أن يواخي بينه وبين أحدٍ من الناس ، في هذه المدة الطويلة كلها؟!
٥ ـ واذا أخذنا بقول الواقدي : إن « .. العلماء ينكرون المؤاخاة بعد بدر ، ويقولون : قطعت بدر المواريث .. » (٥).
فان النتيجة تكون : أن العلماء ينكرون المؤاخاة بين سلمان وأبي الدرداء ، لأن أبا الدرداء قد تأخر اسلام عن بدر كثيراً ..
٦ ـ وأخيراً .. فقد جاء في بعض النصوص : أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم قد آخى بين أبي الدرداء ، وعوف بن مالك الاشجعي (٦) ولعل هذا هو الأصح ، والاولى بالقبول ..
__________________
(١) تذكرة الحفاظ ج ١ ص ٢٥ و.
(٢) الاستيعاب بهامش الاصابة ج ٣ ص ١٧ وج ٤ ص ٦٠ والاصابة ج ٣ ص ٤٦ والتراتيب الادراية ج ٢ ص ٤٢٦ / ٤٢٧.
(٣) الكشاف ج ٣ ص ٥٣٧ وقاموس الرجال ج ١٠ ص ٦٩ عنه.
(٤) الاستيعاب بهامش الاصابة ج ٣ ص ١٦ وراجع ج ٤ ص ٦٠.
(٥) قاموس الرجال ج ٧ ص ٢٥٦ وج ١٠ ص ٦٩ وانساب الاشراف (قسم حياة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم) ج ١ ص ٢٧١ وراجع : طبقات ابن سعد ج ٤ قسم ١ ص ٦٠.
(٦) طبقات ابن سعد ج ٤ قسم ١ ص ٢٢.