روح المعاني - ج ١٥

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٥

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٤

أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم ـ أو قال ـ بخطاياهم فأماتهم الله تعالى إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن في الشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم من الماء فينبتون نبات الحبة في حميل السيل» قال الحافظ ابن رجب : إنه يدل على أن هؤلاء يموتون حقيقة وتفارق أرواحهم أجسادهم ، وأيد بتأكيد الفعل بالمصدر في قوله عليه الصلاة والسلام «فأماتهم الله تعالى إماتة» وأظهر منه ما أخرجه البزار عن أبي هريرة مرفوعا : «إن أدنى أهل الجنة حظا أو نصيبا قوم يخرجهم الله تعالى من النار فيرتاح لهم الرب تبارك وتعالى وذلك أنهم كانوا لا يشركون بالله تعالى شيئا فينبذون بالعراء فينبتون كما ينبت البقل ، حتى إذا دخلت الأرواح أجسادهم فيقولون ربنا كما أخرجتنا من النار وأرجعت الأرواح إلى أجسادنا فاصرف وجوهنا عن النار ، فينصرف وجوههم عن النار» وهذه الإماتة على ما اختاره غير واحد بعد أن يذوقوا ما يستحقونه من عذابها بحسب ذنوبهم كما يشعر به حديث مسلم وإبقاؤهم فيها ميتين إلى أن يؤذن بالشفاعة لإيجابه تأخير دخولهم الجنة تلك المدة كان تتمة لعقوبتهم بنوع آخر فتكون ذنوبهم قد اقتضت أن يعذبوا بالنار مدة ثم يحسبوا فيها من غير عذاب مدة فهم كمن أذنب في الدنيا فضرب وحبس بعد الضرب جزاء لذنبه ولم يبقوا أحياء فيها من غير عذاب كخزنتها إما ليكون أبعد عن أن يهولهم رؤيتها ، أو لتكون الإماتة وإخراج الروح من تتمة العقوبة أيضا. وقال القرطبي : يجوز أن تكون إماتتهم عند إدخالهم فيها ويكون إدخالهم وصرف نعيم الجنة عنهم مدة كونهم فيها عقوبة لهم كالحبس في السجن بلا غل ولا قيد مثلا ، ويجوز أن يكونوا متألمين حالة موتهم نحو تألم الكافر بعد موته وقبل قيام الساعة ويكون ذلك أخف من تألمهم لو بقوا أحياء كما أن تألم الكافر بعد موته في قبره أخف من تألمه إذا أدخل النار بعد البعث وهو كما ترى. وفي مطامح الأفهام يجوز أن يراد بالإماتة المذكورة وفي الحديث الإنامة وقد سمى الله تعالى النوم وفاة لأن فيه نوعا من عدم الحسن. وفي الحديث المرفوع : «إذا أدخل الله تعالى الموحدين النار أماتهم فيها فإذا أراد سبحانه أن يخرجوا أمسهم العذاب تلك الساعة» انتهى. والمعول عليه ما ذكرناه وأولا والله تعالى أعلم.

(قَدْ أَفْلَحَ) أي نجا من المكروه وظفر بما يرجوه (مَنْ تَزَكَّى) أي تطهر من الشرك بتذكره واتعاظه بالذكرى وحمله على ذلك مروي عن ابن عباس وغيره. وأخرج البزار وابن مردويه عن جابر بن عبد الله عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في ذلك : «من شهد أن لا إله إلّا الله وخلع الأنداد وشهد أني رسول الله» واعتبر بعضهم أمرين فقال : أي تطهر من الكفر والمعصية وعليه يجوز أن يكون ما تقدم من باب الاقتصار على الأهم ، وقيل تزكى أي تكثر من التقوى والخشية من الزكاء وهو النماء ، وقيل تطهر للصلاة ، وقيل آتى الزكاة وروي هذا عن أبي الأحوص وقتادة وجماعة (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) بلسانه وقلبه لا بلسانه مع غفلة القلب إذ مثل ذلك لا ثواب فيه فلا ينبغي أن يدخل فيما يترتب عليه الفلاح والذكر القلبي باستحضار اسمه تعالى في القلب وإن كان ممدوحا بلا شبهة إلّا أن إرادته بخصوصه مما ذكر خلاف الظاهر وحكاه في مجمع البيان عن بعض. وما روي عن ابن عباس من قوله أي ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه عزوجل ظاهر فيه وفي إقحام لفظ (اسْمَ) وذهب بعض الحنفية إلى أن المراد بهذا الذكر تكبيرة الافتتاح كأنه قيل وكبر للافتتاح (فَصَلَّى) أي الصلوات الخمس كما أخرجه ابن المنذر وغيره عن ابن عباس وروي ذلك في حديث مرفوع وقيل : الصلاة المفروضة وما أمكن من النوافل ، واحتج بذلك على وجوب التكبيرة حيث نيط به الفلاح ووقع بين واجبين بل فرضين

٣٢١

التزكي من الشرك والصلاة مع أن الاحتياط في العبادات واجب فلا يضر الاحتمال وعلى أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه عزوجل وهو ظاهر ، وعلى أن التكبيرة شرط لا ركن للعطف بالفاء وعطف الكل على الجزء كعطف العام على الخاص وإن جاز لا يكون بها مع أنه لو سلم صحته بتكلف فلا بد له من نكتة ليدعي وقوعه في الكلام المعجز فحيث لم تظهر لم يصح ادعاؤه وبناء الركنية عليه والانصاف أنه مع ما سمعت احتجاج ليس بالقوي ، وقيل هو خصوص بسم الله الرحمن الرحيم قبل الصلاة وليس بشيء. وعن علي كرم الله تعالى وجهه (تَزَكَّى) أي تصدق صدقة الفطر (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) كبّر يوم العيد. (فَصَلَّى) صلاة العيد. وعن جماعة من السلف ما يقتضي ظاهره ذلك ، وتعقب بأن الصلاة مقدمة على الزكاة في القرآن وأن السورة مكية ولم يكن حينئذ عيد ولا فطر ، ورد بأن ذلك إذا ذكرت باسمها أما إذا ذكرت بفعل فتقديمها غير مطرد ومنه (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) [القيامة : ٣١] على أنه يجوز أن تكون مخالفة العادة هاهنا للإرشاد إلى أن هذه الزكاة المقدمة قولا ينبغي تقديمها فعلا على الصلاة ولهذا كانوا يخرجونها قبل أن يصلوا العيد كما جاء في الآثار ، وكون السورة مكية غير مجمع عليه وعلى القول بمكيتها الذي هو الأصح يكون ذلك مما تأخر حكمه عن نزوله. وأقول أن يقال (تَزَكَّى) أي تطهر من الشرك بأن آمن بقلبه (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) أي قال لا إله إلا الله (فَصَلَّى) أي الصلاة المفروضة وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس ما يؤيده فيكون (تَزَكَّى) إشارة إلى التصديق بالجنان (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) إلى النطق باللسان (فَصَلَّى) إلى العمل بالأركان لما أن الصلاة عماد الدين وأفضل الأعمال البدنية وناهية عن الفحشاء والمنكر فلا بدع أن تذكر فيراد جميع الأعمال البدنية والعبادات القلبية وقد يقال : اقتصر على ذكر الصلاة لأن الفرائض والواجبات البدنية لم تكن تامة يوم نزول السورة وكانت الصلاة أهم ما نزل إن كان نزل غيرها. وقد روى عطاء عن ابن عباس ويزيد النحوي عن عكرمة والحسن بن أبي الحسن أن أول ما نزل من القرآن بمكة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ثم (ن) ثم المزمل ثم المدثر ثم (تَبَّتْ) ثم (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) ثم (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) ثم إن من رداف لا إله إلا الله محمد رسول الله وكان ذكر الله تعالى المطلوب هو مجموع الجملتين فلا بعد في أن يراد من ذكره تعالى في الآية وإذا اعتبر الإتيان باسمه عزوجل في الجملة الثانية على الوجه الذي أتى به ذكرا له تعالى كان أمر الإرادة أقرب وهذا الوجه لا يخلو عن حسن. وكلمة (قَدْ) لما أنه عند الإخبار بسوء حال المتجنب عن الذكر في الآخرة يتوقع السامع الإخبار بحسن حال المتذكر فيها. ولا يبعد أن تكون الجملة مستأنفة استئنافا جوابا لسؤال نشأ عن بيان حال المتجنب والسكوت عن حال المتذكر الذي يخشى فكأنه قيل : ما حال من تذكر؟ فقيل (قَدْ أَفْلَحَ) إلى آخره وكان الظاهر قد أفلح من تذكر إلا أنه وضع (مَنْ تَزَكَّى) إلى آخره موضع من تذكر إشارة إلى بيان المتذكر بسماته.

وقوله تعالى (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) إضراب عن مقدر ينساق إليه الكلام كأنه قيل إثر بيان ما يؤدي إلى الفلاح لا تفعلون ذلك (بَلْ تُؤْثِرُونَ) إلخ ولعله مراد من قال إنه إضراب عن (قَدْ أَفْلَحَ) إلخ وقيل إضراب عن بيان حال المتذكر والمتجنب إلى بيان أنه لا ينفع هذا البيان وأضعافه المتمردين على وجه يتضمن بيان سبب عدم النفع وهو إيثار الحياة الدنيا ، والخطاب على هذا للكفرة الأشقين من أهل مكة وعلى الأول يحتمل أن يكون لهم فالمراد بإيثار الحياة الدنيا هو الرضاء والاطمئنان بها والإعراض عن الآخرة بالكلية كما في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) [يونس : ٧] الآية ويحتمل أن

٣٢٢

يكون لجميع الناس على سبيل التغليب فالمراد بإيثارها إنما هو أعم مما ذكر وما لا يخلو عنه الناس غالبا من ترجيح جانب الدنيا على الآخرة في السعي وترتيب المبادئ. وعن ابن مسعود ما يقتضيه والالتفات على الأول لتشديد التوبيخ وعلى الثاني. كذلك في حق الكفرة ولتشديد العتاب في حق المسلمين ، وقيل لا التفات لأنه بتقدير قل. وقرأ عبد الله وأبو رجاء والحسن والجحدري وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو عمرو والزعفراني وابن مقسم «يؤثرون» بياء الغيبة وقوله تعالى (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) حال من فاعل تؤثرون مؤكدة للتوبيخ والعتاب أي تؤثرونها على الآخرة والحال أن الآخرة خير في نفسها لما أن نعيمها مع كونه في غاية ما يكون من اللذة خالص عن شائبة الغائلة أبدي لا انصرام له ، وعدم التعرض لبيان تكدر نعيم الدنيا بالمنغصات وانقطاعه عما قليل لغاية الظهور (إِنَّ هذا) إشارة على ما أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد إلى قوله تعالى (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) وروي ذلك عن قتادة. وقال غير واحد : إشارة إلى ما ذكر من قوله سبحانه (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) إلخ وسيأتي إن شاء الله تعالى في الحديث ما يشهد له. وقال الضحاك : إشارة إلى القرآن فالآية كقوله تعالى (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء : ١٩٦] وعن ابن عباس وعكرمة والسدّي إشارة إلى ما تضمنته السور جميعا وفيه بعد (لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) أي ثابت فيها معناه. وقرأ الأعمش وهارون وعصمة كلاهما عن أبي عمرو بسكون الحاء وكذا فيما بعد وهي لغة تميم على ما في اللوامح (صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) بدل من (الصُّحُفِ الْأُولى) وفي إبهامها ووصفها بالقدم ثم بيانها وتفسيرها من تفخيم شأنها ما لا يخفى ، وكانت صحف إبراهيم عشرة وكذا موسى صحف عليه‌السلام ، والمراد بها ما عدا التوراة أخرج عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله كم أنزل الله تعالى من كتاب؟ قال : «مائة كتاب وأربعة كتب ، أنزل على شيث خمسين صحيفة ، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، وعلى موسى قبل التوراة عشر صحائف ، وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان». قلت : يا رسول الله فما كانت صحف إبراهيم؟ قال : «أمثال كلها أيها الملك المتسلط على المبتلى المغرور لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت من كافر ، وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبا على عقله أن يكون له ثلاث ساعات ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه ويتذكر فيما صنع وساعة يخلو فيها لحاجته من الحلال فإن في هذه الساعة عونا لتلك الساعات واجتماعا للقلوب وتفريغا لها ، وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه حافظا للسانه فإن من حسب كلامه من عمله أقل الكلام إلّا فيما يعنيه ، وعلى العاقل أن يكون طالبا لثلاث مرمة لمعاش أو تزود لمعاد أو تلذذ في غير محرم». قلت : يا رسول الله فما كانت صحف موسى؟ قال : «كانت عبرا كلها : عجبت لمن أيقن بالموت ثم يفرح ، ولمن أيقن بالنار ثم يضحك ، ولمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم يطمئن إليها ، ولمن أبقى بالقدر ثم يغضب ولمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل». قلت يا رسول الله هل أنزل عليك شيء مما كان في صحف إبراهيم وموسى؟ قال : «يا أبا ذر نعم (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى)» والله تعالى أعلم بصحة الحديث. وقرأ أبو رجاء «إبرهم» بحذف الألف والياء وبالهاء مفتوحة ومكسورة وعبد الرحمن ابن أبي بكرة بكسرها لا غير. وقرأ أبو موسى الأشعري وابن الزبير «ابراهام» بألفين في كل القرآن. وقرأ مالك بن دينار «ابراهم» بألف وفتح الهاء وبغير ياء. وجاء كما قال ابن خالويه «إبرهم» بضم الهاء بلا ألف ولا ياء وهذا من تصرفات العرب في الأسماء الأعجمية فإن إبراهيم على الصحيح منها. وحكى الكرماني في عجائبه أنه اسم عربي مشتق من البرهمة وهي شدة النظر ونسبه قد تقدم وكذا نسب موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣٢٣

سورة الغاشية

مكية بلا خلاف وعدة آياتها ست وعشرون كذلك وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أخرج مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن النعمان بن بشير يقرؤها في الجمعة مع سورتها ولما أشار سبحانه فيما قبل إلى المؤمن والكافر والجنة والنار إجمالا بسط الكلام هاهنا فقال عز قائلا :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ)(٢٦)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) قيل (هَلْ) بمعنى قد وهو ظاهر كلام قطرب حيث قال : أي قد جاءك يا محمد حديث الغاشية ، والمختار أنه للاستفهام وهو استفهام أريد به التعجيب مما في حيّزه والتشويق إلى استماعه والإشعار بأنه من الأحاديث البديعة التي حقها أن تتناقلها الرواة ويتنافس في تلقنها الوعاة. وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن ميمون قال : مر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على امرأة تقرأ (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) فقام عليه الصلاة والسلام يستمع ويقول : «نعم قد جاءني» و (الْغاشِيَةِ) القيامة كما قال سفيان. والجمهور وأطلق عليها ذلك لأنها تغشى الناس بشدائدها وتكتنفهم بأهوالها. وقال محمد بن كعب وابن جبير : هي النار من قوله تعالى (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) [ابراهيم : ٥٠] وقوله سبحانه (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) [الأعراف : ٤١] وليس بذاك فإن ما سيرى من حديثها ليس مختصا بالنار وأهلها بل ناطق بأحوال أهل الجنة

٣٢٤

أيضا (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) المرفوع مبتدأ وجاز الابتداء به وإن كان نكرة لوقوعه في موضع التنويع ، وقيل لأن تقدير الكلام أصحاب وجوه والخبر ما بعد والظرف متعلق به والتنوين عوض عن جملة أشعرت بها (الْغاشِيَةِ) أي يوم إذا غشيت. والجملة إلى قوله تعالى (مَبْثُوثَةٌ) استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من الاستفهام التشويقي كأن قيل من جهته عليه الصلاة والسلام ما أتاني حديثها ما هو؟ فقيل (وُجُوهٌ) إلخ. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لم يكن أتاه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثها فأخبره سبحانه عنها فقال جل وعلا (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) والمراد بخاشعة ذليلة ولم توصف بالذل ابتداء لما في وصفها بالخشوع من الإشارة إلى التهكم وإنها لم تخشع في وقت ينفع فيه الخشوع ، وكذا حال وصفها بالعمل في قوله سبحانه (عامِلَةٌ) على ما قيل وهو وقوله تعالى (ناصِبَةٌ) خبران آخران لوجوه إذ المراد بها أصحابها وفي ذلك الاحتمالات أخر ستأتي إن شاء الله تعالى أي عاملة في ذلك اليوم تعبة فيه ، وذلك في النار على ما روي عن ابن عباس والحسن وابن جبير وقتادة ، وعملها فيها على ما قيل جر السلاسل والأغلال والخوض فيها خوض الإبل في الوحل والصعود والهبوط في تلالها ووهادها وذلك جزاء التكبر عن العمل وطاعة الله تعالى في الدنيا وعن زيد بن أسلم أنه قال : أي (عامِلَةٌ) في الدنيا (ناصِبَةٌ) فيها لأنها على غير هدى فلا ثمرة لها إلّا النّصب وخاتمته النار وجاء ذلك في رواية أخرى عن ابن عباس وابن جبير أيضا. والظاهر أن الخشوع عند هؤلاء باق على كونه في الآخرة وعليه فيومئذ لا تعلق له بالوصفين معنى بل متعلقهما في الدنيا ولا يخفى ما في هذا الوجه من البعد وظهور أن العمل لا يكون في الآخرة بعد تسليمه لا يجدي نفعا في دفع بعده. وقال عكرمة (عامِلَةٌ) في الدنيا (ناصِبَةٌ) يوم القيامة والظاهر أن الخشوع على ما مر ولا يخفى ما في جعل المحاط باستقبالين ماضويا من البعد ، وقيل : الأوصاف الثلاثة في الدنيا والكلام على منوال:

إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة

أي ظهر لهم يومئذ أنها كانت خاشعة عاملة ناصبة في الدنيا من غير نفع وأما قبل ذلك اليوم فكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا وهؤلاء النساك من اليهود والنصارى كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس ويشمل غيرهم مما شاكلهم من نساك أهل الضلال وهذا الوجه أبعد من أخويه. وقوله تعالى (تَصْلى ناراً حامِيَةً) متناهية في الحر من حميت النار إذا اشتد حرها خبر آخر ل (وُجُوهٌ) وقيل (خاشِعَةٌ) صفة لها وما بعد أخبار ، وقيل : الأولان صفتان والأخيران خبران ، وقيل : الثلاثة الأول صفات وهذه الجملة هي الخبر والكل كما ترى. وجوز أن يكون هذا وما بعده من الجملتين استئنافا مبينا لتفاصيل أحوالها. وقرأ ابن كثير في رواية شبل وحميد وابن محيصن «عاملة ناصبة» بالنصب على الذم. وقرأ أبو رجاء وابن محيصن ويعقوب وأبو عمرو وأبو بكر «تصلى» بضم التاء وقرأ خارجة «تصلّى» بضم التاء وفتح الصاد مشدد اللام للمبالغة (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) بلغت اناها أي غايتها في الحر فهي متناهية فيه كما في قوله تعالى (وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) [الرحمن : ٤٤] وهو التفسير المشهور. وقد روي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقال ابن زيد أي حاضرة لهم من قولهم أنى الشيء حضر وليس بذاك (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) بيان لطعامهم إثر بيان شرابهم ، والضريع كما أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس الشبرق اليابس وهي على ما قاله عكرمة شجرة ذات شوك لاطئة بالأرض. وقال غير واحد : هو جنس من الشوك ترعاه الإبل رطبا فإذا يبس تحامته وهو سم قاتل. قال أبو ذؤيب :

رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى

وصار ضريعا بان عنه النحائص

٣٢٥

وقال ابن غرارة الهذلي يذكر إبلا وسوء مرعى :

وحبسن في هزم الضريع فكلها

حدباء دامية اليدين حرود

وقال بعض اللغويين : الضريع يبيس العرفج إذا انحطم. وقال الزجاج : نبت كالعوسج. وقال الخليل : نبت أخضر منتن الريح يرمي به البحر. والظاهر أن المراد ما هو ضريع حقيقة وقيل هو شجرة نارية تشبه الضريع وأنت تعلم أنه لا يعجز الله تعالى الذي أخرج من الشجر الأخضر نارا أن ينبت في النار شجر الضريع. نعم يؤيد ما قيل ما حكاه في البحور الزاخرة عن البغوي عن ابن عباس يرفعه : «الضريع شيء في النار شبه الشوك أمرّ من الصبر ، وأنتن من الجيفة ، وأشد حرا من النار» فإن صح فذاك. وقال ابن كيسان : هو طعام يضرعون عنده ويذلون ويتضرعون إلى الله تعالى طلبا للخلاص منه فسمي بذلك وعليه يحتمل أن يكون شجرا وغيره. وعن الحسن وجماعة أنه الزقوم. وعن ابن جبير أنه حجارة في النار ، وقيل : هو واد في جهنم أي ليس لهم طعام إلّا من ذلك الموضع ، ولعله هو الموضع الذي يسيل إليه صديد أهل النار وهو الغسلين وعليه يكون التوفيق بين هذا الحصر والحصر في قوله تعالى (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) [الحاقة : ٣٦] ظاهرا بأن يكون طعامهم من ذلك الوادي هو الغسلين الذي يسيل إليه ، وكذا إذا أريد به ما قاله ابن كيسان واتحد به وقد يتحد بهما عليه أيضا الزقوم واتحاده بالضريع على القول بأنه شجرة قريب. وقيل في التوفيق إن الضريع مجازا أو كناية أريد به طعام مكروه حتى للإبل وغيرها من الحيوانات التي تلتذ رعي الشوك فلا ينافي كونه زقوما أو غسلينا ، وقيل : إنه أريد أن لا طعام لهم أصلا لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلا عن الناس كما يقال : ليس لفلان إلّا ظل إلّا الشمس أي لا ظل له وعليه يحمل قوله تعالى (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) وقوله تعالى (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) [الدخان : ٤٣ ، ٤٤] فلا مخالفة أصلا. وقيل : إن الغسلين وهو الصديد في القدرة الإلهية أن تجعله على هيئة الضريع والزقوم فطعامهم الغسلين والزقوم اللذان هما الضريع ولا يخفى تعسفه على الرضيع. وقد يقال في التوفيق على القول بأن الثلاثة متغايرة بالذات أن العذاب ألوان والمعذبون طبقات فمنهم أكلة الزقوم ، ومنهم أكلة الغسلين ، ومنهم أكلة الضريع لكل باب منهم جزء مقسوم (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) إما في محل جر صفة لضريع والمعنى أن طعامهم من شيء ليس من مطاعم الإنس وإنما هو شوك والشوك مما ترعاه الإبل وتتولع به وهذا نوع منه تنفر عنه ولا تقربه ومنفعتا الغذاء منفيتان عنه وهما إماطة الجوع وإفادة القوة والسمن في البدن ، وإن شئت فقل إنه من شيء مكروه يضرع عنده ويتضرع إلى الله تعالى ويطلب منه سبحانه الخلاص عنه وليس فيه منفعتا الغذاء أصلا ، وإما في محل رفع صفة لطعام المقدر إذ التقدير ليس لهم طعام إلّا طعام من ضريع. والمعنى قريب مما ذكر ولا يجوز كونه صفة للمذكور إذ لا يدل حينئذ على أن طعامهم منحصر في الضريع بل يدل على أن ما لا يسمن ولا يغني من طعامهم منحصر فيه ويفسد المعنى. وأما لا محل له من الإعراب على أنه مستأنف والأول أظهر. ويروى أن كفار قريش قالوا لما سمعوا صدر الآية : إن الضريع لتسمن عليه إبلنا. فنزلت (لا يُسْمِنُ) إلخ. قيل : فلا يخلو إما أن يتكذبوا أو يتعنتوا بذلك وهو الظاهر فيرد قولهم بنفي السمن والشبع وإما أن يصدقوا فيكون المعنى أن طعامهم من ضريع ليس من جنس ضريعكم إنما هو غير مسمن ولا مغن من جوع. وعلى الأول هو صفة مؤكدة ردا لما زعموه لا كاشفة إذ لا خفاء وعلى الثاني هو صفة مخصصة وأيّا ما كان فتنكير الجوع للتحقير أي لا يغني من جوع ما ، وتأخير نفي الإغناء عنه لمراعاة الفواصل والتوسل به إلى التصريح بنفي كلا الأمرين إذ لو قدم لما احتيج إلى ذكر نفي الاسمان ضرورة استلزام

٣٢٦

نفي الإغناء عن الجوع إياه ولذلك كرر لا لتأكيد النفي. وفي الإرشاد إن نفي الأمرين عنه ليس على أن لهم استعدادا للشبع والسمن إلّا أنه لا يفيد شيئا منهما بل على أنه لا استعداد من جهتهم ولا إفادة من جهته ، وتحقيق ذلك أن جوعهم وعطشهم ليسا من قبيل ما هو المعهود منهما في هذه النشأة من حالة عارضة للإنسان عند استدعاء الطبيعة لبدل ما يتحلل من البدن مشوقة له إلى المطعوم والمشروب بحيث يلتذ بهما عند الأكل والشرب ويستغنى بهما عن غيرهما عند استقرارهما في المعدة ويستفيد منهما قوة وسمنا عند انهضامهما بل جوعهم عبارة عن اضطرارهم عند اضطرام النار في أحشائهم إلى إدخال شيء كثيف يملؤها ويخرج ما فيها من اللهب ، وأما أن يكون لهم شوق إلى مطعوم ما والتذاذ به عند الأكل واستغناء به عن الغير واستفادة قوة فهيهات. وكذا عطشهم عبارة عن اضطرارهم عند أكل الضريع والتهابه في بطونهم إلى شيء مائع بارد ليطفئوه من غير أن يكون لهم التلذذ بشربه أو استفادة قوة به في الجملة وهو المعنى بما روي أنه تعالى يسلط عليهم الجوع بحيث يضطرون إلى أكل الضريع ، فإذا أكلوه سلّط عليهم العطش فاضطروا إلى شرب الحميم فيشوي وجوههم ويقطع أمعاءهم أعاذنا الله تعالى وسائر المسلمين من ذلك انتهى. وهو خلاف الظاهر ومثله لا يقال عن الرأي وليس له فيما وقفنا عليه مستند يؤول لأجله الظواهر ، فالحق أن لهم جوعا وعطشا وشهوة إلى الطعام والشراب كما أن للجائع والعطشان في الدنيا شهوة إليهما لكنهما لهم هناك قد بلغا الغاية بتسليط الله تعالى عزوجل بدون سبب عادي على نحو ما في الدنيا فيضطرون لذلك إلى الضريع والحميم كما يضطر من أفرط فيه الجوع والعطش في الدنيا إلى تناول الكريه البشع من المطعوم والمشروب لكنهم لا ينتفعون بما يتناولونه بل يزدادون به عذابا فوق العذاب. نسأل الله تعالى العفو والعافية بمنه وكرمه.

وقوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) شروع في رواية حديث أهل الجنة وتقديم حكاية أهل النار لأنه أدخل في تهويل الغاشية وتفخيم حديثها ولأن حكاية حسن حال أهل الجنة بعد حكاية سوء حال أهل النار مما يزيد المحكي حسنا وبهجة ، والكلام في إعرابه نظير ما تقدم وإنما لم تعطف هذه الجملة على تلك الجملة إيذانا بكمال تباين مضمونيهما. والناعمة إما من النعومة وكنى بها عن البهجة وحسن المنظر أي وجوه يومئذ ذات بهجة وحسن كقوله تعالى (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) [المطففين : ٢٤] أو من النعيم أي وجوه يومئذ متنعمة (لِسَعْيِها) أي لعملها الذي عملته في دار الدنيا وهو متعلق بقوله تعالى (راضِيَةٌ) والتقديم للاعتناء مع رعاية الفاصلة واللام ليست للتعليل بل مثلها في رضيت بكذا ، فكأنه قيل راضية بسعيها. وذكر بعض المحققين أنها مقوية لتعدي الوصف بنفسه ولذا قال سفيان في ذلك كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم : رضيت عملها ورضاها به كناية أو مجاز عن أنه محمود العاقبة مجازى عليه أعظم الجزاء وأحسنه. وقيل في الكلام مضاف مقدر أي لثواب سعيها راضية وجوز كون اللام للتعليل أي لأجل سعيها في طاعة الله تعالى راضية حيث أوتيت وما أتيت من الخير وليس بذاك (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) مرتفعة المحل أو علية القدر فالعلو إما حسّي أو معنوي وجمع أبو حيان بينهما (لا تَسْمَعُ) خطاب لكل من يصلح للخطاب أو هو مسند إلى ضمير الغائبة المؤنثة وهو راجع للوجوه على أن المراد بها أصحابها أو الإسناد مجازي وكذا يقال فيما قبل وأشار بعض إلى أن في الآية صنعة الاستخدام اختيارا لأن المراد بالوجوه أولا حقيقتها وعند إرجاع الضمير إليها ثانيا أصحابها فهم الذين لا يسمعون (فِيها لاغِيَةً) أي لغوا فهي مصدر بمعناه ويجوز كونها صفة كلمة محذوفة على أنها للنسب أي كلمة ذات لغو ، وجوز على تقدير كونها صفة كون الإسناد مجازيا لأن الكلمة ملغو بها

٣٢٧

لا لاغية ، ويجوز أن تكون صفة نفس محذوفة أي لا تسمع فيها نفسا لاغية وجعلها مسموعة لوصفها بما يسمع كما تقول : سمعت زيدا يقول كذا ، وجوز أن يكون ذلك على المجاز في الإسناد أيضا. وقرأ الأعرج وأهل مكة والمدينة ونافع وابن كثير وأبو عمرو بخلاف عنهم «لا تسمع» بتاء التأنيث مبنيا للمفعول «لاغية» بالرفع وابن محيصن وعيسى وابن كثير وأبو عمرو كذلك إلّا أنهم قرءوا بالياء التحتية لأن التأنيث مجازي مع وجود الفاصل والجحدري كذلك إلّا أنه نصب «لاغية» على معنى لا يسمع فيها أي أحد لاغية من قولك أسمعت زيدا (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) قيل يجري ماؤها ولا ينقطع وعدم الانقطاع إما من وصف العين لأنها الماء الجاري فوصفها بالجريان يدل على المبالغة كما في (ناراً حامِيَةً) وإما من اسم الفاعل فإنه للاستمرار بقرينة المقام والتنكير للتعظيم واختار الزمخشري كونه للتكثير كما في (عَلِمَتْ نَفْسٌ) [التكوير : ١٤ ، الانفطار : ٥] أي عيون كثيرة تجري مياهها (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) رفيعة السمك أو المقدار وقيل مخبوءة من رفعت لك كذا أي خبأته (وَأَكْوابٌ) وقداح لا عرا لها (مَوْضُوعَةٌ) أي بين أيديهم وقيل على حافات العيون وجوز أن يراد موضوعة عن حد الكبار أوساط بين الصغر والكبر كقوله تعالى (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) [الإنسان : ١٦] ولا يخفى بعده (وَنَمارِقُ) ووسائد قال زهير :

كهولا وشبانا حسانا وجوههم

على سرر مصفوفة ونمارق

جمع نمرقة بضم النون والراء وبكسرهما وفتحهما وبغير هاء (مَصْفُوفَةٌ) صف بعضها إلى جنب بعض للاستناد إليها والاتكاء عليها. وقال الكلبي : وسائد موضوعة بعضها إلى جنب بعض كالشيء الذي جعل صفا أينما أراد أن يجلس المؤمن جلس على واحدة واستند إلى أخرى وعلى رأسه وصائف كأنهن الياقوت والمرجان (وَزَرابِيُ) وبسط فاخرة كما قال غير واحد وقال الفرّاء : هي الطنافس التي لها خمل رقيق. وقال الراغب : إنها في الأصل ثياب محبرة منسوبة إلى موضع ثم استعيرت للبسط واحدها زربية مثلثة الزاي ولم يفرق في الصحاح بين الزرابي والنمارق ، والظاهر الفرق. نعم قيل قد جاء نمارق بمعنى الزرابي ومنه :

نحن بنات طارق

نمشي على النمارق

لظهور أن الوسائد لا يمشى عليها عادة (مَبْثُوثَةٌ) مبسوطة أو مفرقة في المجالس (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) استئناف مسوق لتقرير ما فصل من حديث الغاشية وما هو مبني عليه من البعث الذي هم فيه مختلفون بالاستشهاد عليه بما لا يستطيعون إنكاره. وأخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة قال : لما نعت الله تعالى ما في الجنة عجب من ذلك أهل الضلالة فأنزل سبحانه وتعالى (أَفَلا يَنْظُرُونَ) إلخ ويرجع هذا في الآخرة إلى إنكار. البعث كما لا يخفى والهمزة للإنكار والتوبيخ والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، وكلمة (كَيْفَ) منصوبة بما بعدها على أنها حال من مرفوع (خُلِقَتْ) كما في قوله تعالى (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) [البقرة : ٢٨] معلقة لفعل النظر والجملة بدل اشتمال من الإبل وقد تبدل الجملة وفيها الاستفهام من الاسم الذي قبلها كقولهم عرفت زيدا أبو من هو على أصح الأقوال على أن العرب قد أدخلت إلى على كيف بلا واسطة إبدال كما أدخلت عليها على فحكي عنهم أنهم قالوا : انظر إلى كيف يصنع كما حكي عنهم أنهم قالوا على كيف تبيع الأحمرين. وذكر أبو حيان في البحر والتذكرة وغيرهما أنه إذا علق الفعل عما فيه الاستفهام لم يبق الاستفهام على حقيقته. وقيل كيف بدل من الإبل وتعقبه في المغني بما في بعضه نظر ، وجوز في مجمع البيان كونها في موضع نصب على المصدر وهو كما ترى والإبل يقع على البعران الكثيرة ولا واحد له من

٣٢٨

لفظه وهو مؤنث ولذا إذا صغر دخلته التاء فقالوا أبيلة وقالوا في الجمع آبال وقد اشتقوا من لفظه ، فقالوا : أبل وتأبل الرجل وتعجبوا من هذا الفعل على غير قياس فقالوا : ما آبل زيدا ولم يحفظ سيبويه فيما قيل اسما جاء على فعل بكسر الفاء والعين وغير ابل أي أينكرون ما أشير إليه من البعث وأحكامه ويستبعدون وقوعه من قدرة الله عزوجل فلا ينظرون إلى الإبل التي هي نصب أعينهم يستعملونها كل حين كيف خلقت خلقا بديعا معدولا به عن سنن خلق أكثر أنواع الحيوانات في عظم جثتها وشدة قوتها وعجيب هيئاتها اللائقة بتأتّي ما يصدر عنها من الأفاعيل الشاقة كالنوء بالأوقار الثقيلة وهي باركة وإيصالها الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة وفي صبرها على الجوع والعطش حتى إن ظمأها ليبلغ العشر بكسر فسكون وهو ثمانية أيام بين الوردين وربما يجوز ذلك وتسمى حينئذ الحوازي بالحاء المهملة والزاي واكتفائها بالسير ورعيها لكل ما يتيسر من شوك وشجر وغير ذلك مما لا يكاد يرعاه سائر البهائم ، وفي انقيادها مع ذلك للإنسان في الحركة والسكون والبروك والنهوض حيث يستعملها في ذلك كيف يشاء ويقتادها بقطارها كل صغير وكبير ، وفي تأثرها بالصوت الحسن على غلظ أكبادها إلى غير ذلك ، وخصت بالذكر لأنها أعجب ما عند العرب من الحيوانات التي هي أشرف المركبات وأكثرها صنعا ولهم على أحوالها أتم وقوف. وعن الحسن أنها خصت بالذكر لانها تأكل النوى والقتّ وتخرج اللبن ، وقيل له الفيل أعظم في الأعجوبة ، فقال : العرب بعيدة العهد بالفيل ثم هو خنزير لا يؤكل لحمه ولا يركب ظهره أي على نحو ما يركب ظهر البعير من غير مشقة في تربيضه ولا يحلب دره. وقال أبو العباس المبرد : الإبل هنا السحاب لأن العرب قد تسميها بذلك إذ تأتي أرسالا كالإبل وتزجى كما تزجى الإبل وهي في هيئاتها أحيانا تشبه الإبل يعني أن إرادته منها هنا على طريق التشبيه والمجاز وكأنه كما قال الزمخشري لم يدع القائل بذلك إلّا طلب المناسبة بين المتعاطفات على ما يقتضيه قانون البلاغة وهي حاصلة مع بقاء الإبل في عطنها. قال الإمام : التناسب فيها أن الكلام مع العرب وهم أهل أسفار على الإبل في البراري فربما انفردوا فيها والمنفرد يتفكر لعدم رفيق يحادثه وشاغل يشغله فيتفكر فيما يقع عليه طرفه فإذا نظر لما معه رأى الإبل ، وإذا نظر لما فوقه رأى السماء ، وإذا نظر يمينا وشمالا رأى الجبال ، وإذا نظر لأسفل رأى الأرض فأمر بالنظر في خلوته لما يتعلق به النظر من هذه الأمور فبينها مناسبة بهذا الاعتبار. وقال عصام الدين : إن خيال العرب جامع بين الأربعة لأن ما لهم النفيس الإبل ومدار السقي لهم على السماء ورعيهم في الأرض وحفظ مالهم بالجبال ، وما ألطف ذكر الإبل بعد ذكر الضريع فإن خطورها بعده على طرف الثمام ، وإذا صح ما روي من كلام قريش عند نزول تلك الآية كان ذكرها ألطف وألطف.

وقرأ الأصمعي عن أبي عمرو «إلى الإبل» بسكون الباء وقرأ علي كرّم الله تعالى وجه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما «إبلّ» بتشديد اللام ورويت عن أبي عمرو وأبي جعفر والكسائي وقالوا : إنها السحاب عن قوم من أهل اللغة.

(وَإِلَى السَّماءِ) التي يشاهدونها ليلا ونهارا (كَيْفَ رُفِعَتْ) رفعا سحيق المدى بلا عماد ولا مساك بحيث لا يناله الفهم والإدراك (وَإِلَى الْجِبالِ) التي ينزلون في أقطارها وينتفعون بمائها وأشجارها (كَيْفَ نُصِبَتْ) وضعت وضعا ثابتا يتأتى معه ارتقاؤها فلا تميل ولا تميد ويمكن الرقي إلى دارها (وَإِلَى الْأَرْضِ) التي يضربون فيها ويتقلبون عليها (كَيْفَ سُطِحَتْ) سفحا بتوطئة وتمهيد وتسوية وتوطيد حسبما يقتضيه صلاح أمور أهلها ولا ينافي ذلك القول بأنها قريبة من الكرة الحقيقية لمكان عظمها. وقرأ عليّ كرم الله تعالى

٣٢٩

وجهه وأبو حيوة وابن أبي عبلة «خلقت» «رفعت» «نصبت» «سطحت» بتاء المتكلم مبنيا للفاعل والمفعول ضمير محذوف وهو العائد إلى المبدل منه بدل اشتمال أي خلقتها رفعتها نصبتها سطحتها. وقرأ الحسن وهارون الرشيد (سُطِحَتْ) بتشديد الطاء والمعنى أفلا ينظرون نظر التدبر والاعتبار إلى كيفية خلق هذه المخلوقات الشاهدة بحقية البعث والنشور ليرجعوا عما هم عليه من الإنكار والنفور ويسمعوا إنذارك ويستعدوا للقائه بالإيمان والطاعة. وجوز أن يحمل النظر على الإبصار ويكون فيه دعوى ظهور المطلوب بحيث يظهر بمجرد إبصار هذه المخلوقات وهو خلاف الظاهر. والفاء في قوله تعالى (فَذَكِّرْ) لترتيب الأمر بالتذكير على ما ينبئ عنه الإنكار السابق من عدم النظر أي فاقتصر على التذكير ولا تلح عليهم ولا يهمنك أنهم لا ينظرون ولا يتذكرون. وقوله تعالى (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) تعليل للأمر. وقوله سبحانه (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) تقرير له وتحقيق لمعنى الإنذار أي لست بمتسلط عليهم تجبرهم على ما تريد كقوله تعالى (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) [ق : ٤٥] وقرأ الجمهور «بمصيطر» بالصاد وكسر الطاء والأصل السين والصاد بدل منه فإنه من السطر بمعنى التسلط يقال : سطر عليه إذا تسلط وقرأ حمزة في رواية بإشمام الصاد زايا وهارون بفتح الطاء وهي لغة تميم وسيطر متعد عندهم ويدل عليه قولهم تسيطر لمكان المطاوعة. وقوله تعالى (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) قيل استثناء منقطع و (إِلَّا) فيه بمعنى لكن و (مَنْ) موصولة مبتدأ وما بعدها صلة والعائد الضمير المستتر فيه. وقوله سبحانه (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) خبر المبتدأ والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط نحو : الذي يأتيني فله درهم ، وجعل من شرطية يبعده وجود الفاء فيما يصلح لجوابيتها بدونها وتقدير فهو يعذبه تكلف مستغنى عنه وأيّا ما كان فمن المنقطع ما يقع بعد إلّا فيه جملة أي لكن من أعرض وأقام على الكفر منهم يعذبه الله تعالى العذاب الأكبر وهذا عذاب الآخرة في النار فإنه الأكبر وعذاب الدنيا بالنسبة إليه أصغر. وجعل الزمخشري الانقطاع على معنى لست بمستول عليهم لكن من تولى وكفر منهم فإن لله تعالى الولاية عليه والقهر فيعذبه في نار جهنم ولم يجعل على ما قيل متصلا لأنه يلزم عليه كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستوليا على من تولى وقد حصرت الولاية به تعالى ، وجوز اتصاله بأن يكون من ضمير (عَلَيْهِمْ) فيكون من في محل جر تابعا له وتسلطه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المتولي باعتبار جهاده وقتله الذي وعد به عليه الصلاة والسلام ولا ينافي حصر الولاية به تعالى لأنه بأمره عزوجل فكأنه قيل : لست عليهم بمسيطر إلّا على من تولى وأقام على الكفر فإنك متسلط عليه بما يؤذن لك من جهاده وقتله وسبيه وأسره وبعده ذلك يعذبه الله تعالى في جهنم ، فيكون في الآية إيعاد لهم بالجهاد في الدنيا وعذاب النار في الآخرة. وجوز أن يكون إيعادا بالجهاد فقط على أن المراد بالعذاب الأكبر القتل وسبي النساء والأولاد وسائر ما يترتب على الجهاد من البلايا فيكون فيه إشارة إلى أن هذه الأمة أكبر عذابهم في الدنيا ذلك لا ما كان في الأمم السابقة من الخسف والمسخ ونحوهما وأقيم (فَيُعَذِّبُهُ) إلخ مقام فتكون عليه متسلطا إيذانا بأن ذلك من قبله عزوجل حتى كأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا دخل له فيه وقال عصام الدين في كون الاستثناء منقطعا إشكال لأن المستثنى المنقطع هو المذكور بعدا لا غير مخرج عن متعدد قبله لعدم دخوله فيه مخالف له في الحكم وليس من تولى وكفر خارجا عن قوله تعالى (عَلَيْهِمْ) وليس حكمهم مخالفا له. ثم أجاب بأن الاستثناء المنقطع قد يكون لدفع توهم ناشئ مما سبق من غير أن يخالف المستثنى منه في الحكم فالواجب ذكر حكم له ليعلم أنه ليس حكمه مخالفا لحكم المستثنى منه فكأنه هاهنا لدفع توهم التعذيب فتأمل. وجوز كون الاستثناء متصلا من قوله تعالى (فَذَكِّرْ) و (مَنْ) موصولة لا غير والمراد بالعذاب استحقاق العذاب أي فذكر إلا من انقطع طمعك من إيمانه وتولى فاستحق العذاب الأكبر. وقوله (إِنَّما أَنْتَ) إلخ على هذا

٣٣٠

اعتراض ورجح الانقطاع بأن ابن عباس وزيد بن علي وقتادة وزيد بن أسلم قرءوا «ألا» حرف تنبيه واستفتاح.

وقوله تعالى (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) تعليل لتعذيبه تعالى إياهم بالعذاب الأكبر وإياب مصدر آب أي رجع أي إن إلينا رجوعهم بالموت والبعث لا إلى أحد سوانا لا استقلالا ولا اشتراكا ، وجمع الضمير فيه وفيما بعده باعتبار معنى من كما أن إفراده فيما سبق باعتبار لفظها. وقرأ أبو جعفر وشيبة «إيّابهم» بتشديد الياء قال البطليوسي في كتاب المثلثات : هذه القراءة تحتمل تأويلين أحدهما أن يكون إيّاب بالتشديد فعالا من أوب على زنة ككذب كذابا وأصله أواب فلم يعتد بالواو الأولى حاجزا لضعفها بالسكون فأبدل من الواو الثانية ياء لانكسار الهمزة فصار في التقدير أويابا ثم قبلت الأولى ياء أيضا لاجتماع ياء وواو وسكون إحداهما ، ولأن الواو الأولى إذا لم تمنع من الانقلاب الثانية فهي أجدر بالانقلاب ، والثاني أن يكون فيعالا وأصله أيوابا فاعل إعلال سيد وفعله على هذا أيب على وزن فيعل كحوقل حيقالا من الإياب وأصله أيوب فاعل كما ذكرنا ، والوجه الأول أقيس لأنهم قالوا في مصدره التأويب والتفعيل مصدر فعل لا فيعل ومع ذلك فقد قالوا هو سريع الأوبة والأيبة فكأنهم آثروا الياء لخفتها انتهى. وقد ذكر هذين الوجهين الزمخشري إلّا أنه في الأول منهما يجوز أن يكون أصله أوابا فعالا من أوب ثم قيل أيوابا كديوان في دوان ثم فعل به ما فعل بأصل سيد ، وظاهره أن الواو الأول هي التي قلبت أولا ياء ، واعترض بأن المقرر أن الواو الأولى إذا كانت موضوعة على الإدغام وجاء ما قبلها مكسورا لا تقلب ياء لأجل الكسر كما في اخرواط مصدر اخروط وإن ديوانا إذا كان مذكورا للقياس عليه لا للتنظير لا يصلح لذلك لنصهم على شذوذه وكأن البطليوسي عدل إلى ما عدل لذلك. وفي الكشف : لو جعل مصدر فاعل من الأوب فقد جاء فيه فيعال حتى قال بعضهم إن فعالا مخفف عنه لكان أظهر لأن فيعل لا يثبت إلّا بثبت والأول كالمنقاس ، ومعنى الفاعلة حينئذ إما المبالغة وإما مسابقة بعضهم بعضا في الأوب وأما جعله فعالا على ما قرر الزمخشري فأبعد إلى آخر كلامه وكونه من فاعل جوزه ابن عطية أيضا لكنه قال : ويصح أن يكون من آوب فيجيء إيوابا سهلت همزته وكان اللازم في الإدغام يردها أوابا لكن استحسنت فيه الياء على غير قياس فاعترضه أبو حيان بأن قوله : وكان اللازم إلخ ليس بصحيح بل اللازم إذا اعتبر الإدغام أن يكون إيابا لأنه قد اجتمعت ياء وهي المبدلة من الهمزة بالتسهيل وواو وهي عين الكلمة وإحداهما ساكنة فتقلب الواو ياء وتدغم فيها الياء فيصير إيابا فلا تغفل.

(ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) في المحشر لا على غيرنا و (ثُمَ) للتراخي الرتبي لا الزماني فإن الترتيب الزماني بين إيابهم وحسابهم لا بين كون إيابهم إليه تعالى وحسابهم عليه سبحانه فإنهما أمران مستمران. وفي تصدير الجملتين بأن وتقديم خبرها والإتيان بضمير العظمة وعطف الثانية على الأولى بثم المفيدة لبعد منزلة الحساب في الشدة من الإنباء عن غاية السخط الموجب لشديد العذاب ما لا يخفى. وفي الآية رد على كثير من الشيعة حيث زعموا أن حساب الخلائق على الأمير كرّم الله تعالى وجهه واستدلوا على ذلك بما افتروه عليه وعلى أهل بيته رضي الله تعالى عنهم أجمعين من الأخبار ومعنى قوله كرم الله تعالى وجهه : أنا قسيم الجنة والنار إن صح أن الناس من هذه الأمة فريقان فريق معي فهم على هدى وفريق عليّ فهم على ضلال فقسم معي في الجنة وقسم في النار» ولعلهم عنوا أن عليّا كرم الله تعالى وجهه يحاسب الخلائق بأمره عزوجل كما يقول غيرهم بأن الملائكة عليهم‌السلام يحاسبونهم بأمره جل وعلا وهو معنى لا ينافي الحصر الذي تقتضيه الآية لكنه لم يثبت ، وأي خصوصية في الأمير كرم الله تعالى وجهه من بين جميع الأنبياء والمرسلين

٣٣١

والملائكة المقربين عليهم الصلاة والسلام أجمعين نقتضيه ولا نقص له كرم الله وجهه في نفي ذلك عنه ويكفيه رضي الله تعالى عنه من ظهور شرفه يوم القيامة أنه يزف إلى الجنة بين النبيّ وإبراهيم عليهما وعليه الصلاة والسلام كما جاء في الحديث إلى غير ذلك مما يظهر في ذلك اليوم والله تعالى أعلم.

٣٣٢

سورة الفجر

مكية في قول الجمهور. وقال علي بن أبي طلحة : مدنية وآيها اثنتان وثلاثون آية في الحجازي ، وثلاثون في الكوفي والشامي ، وتسع وعشرون في البصري. ولما ذكر سبحانه فيما قبلها (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) [الغاشية : ٣] و (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) [الغاشية : ٨] أتبعه تعالى بذكر الطوائف المكذبين من المتجبرين الذين وجوههم خاشعة ، وأشار جل شأنه إلى الصنف الآخر الذين وجوههم ناعمة بقوله سبحانه فيها (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) [الفجر : ٢٧] وأيضا فيها مما يتعلق بأمر الغاشية ما فيها. وقال الجلال السيوطي : لم يظهر لي في وجهه ارتباطها سوى أن أولها كالإقسام على صحة ما ختم به السورة التي قبلها أو على ما يتضمنه من الوعد والوعيد هذا مع أن جملة (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ) [الفجر : ٦] مشابهة لجملة (أَفَلا يَنْظُرُونَ) [الغاشية : ١٧] وها كما ترى.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤) فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي)(٣٠)

٣٣٣

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ) أقسم سبحانه بالفجر كما أقسم عزوجل بالصبح في قوله تعالى (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) [التكوير : ١٨] فالمراد به الفجر المعروف كما روي عن عليّ كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وابن الزبير وغيرهم رضي الله تعالى عنهم. وقيل : المراد عموده وضوؤه الممتد وأصله شق الشيء شقا واسعا ، وسمي الصبح فجرا لكونها فاجرا لليل وهو كاذب لا يتعلق به حكم الصوم والصلاة وصادق به يتعلق حكمهما وقد تكلموا في سبب كل بما يطول وتقدم بعض منه ، ولعل المراد به هنا الصادق فهو أحرى بالقسم به والمراد عند كثير جنس الفجر لا فجر يوم مخصوص. وعن ابن عباس ومجاهد فجر يوم النحر ، وعن عكرمة فجر يوم الجمعة ، وعن الضحاك فجر ذي الحجة ، وعن مقاتل فجر ليلة جمع. وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي في الشعب عن ابن عباس أنه قال : هو فجر المحرم فجر السنة ، وروي نحوه عن قتادة وعن الحبر أيضا أنه النهار كله. وأخرج ابن جرير عنه أيضا أنه قال : يعني صلاة الفجر وروي نحوه عن زيد بن أسلم فهو إما على تقدير مضاف أو على إطلاقه على الصلاة مجازا وهو شائع. وقيل : المراد فجر العيون من الصخور وغيرها (وَلَيالٍ عَشْرٍ) هن العشر الأولى من الأضحى كما أخرج الحاكم وصححه وجماعة عن ابن عباس ، وروي عن ابن الزبير ومسروق ومجاهد وقتادة وعكرمة وغيرهم وأخرج ذلك أحمد والنسائي والحاكم وصححه والبزار وابن جرير وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن جابر يرفعه ، ولها من الفضل ما لها. وقد أخرج أحمد والبخاري عن ابن عباس مرفوعا : «ما من أيام فيهن العمل أحب إلى الله عزوجل وأفضل من أيام العشر» قيل : يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال : «ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل جاهد في سبيل الله بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء» وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهن العشر الأواخر من رمضان. وروي أيضا عن الضحاك بل زعم التبريزي الاتفاق على أنهن هذه العشر وأنه لم يخالف فيه أحد واستدل له بعضهم بالحديث المتفق على صحته. قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا دخل العشر ـ تعني العشر الأواخر من رمضان ـ شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله وتعقبه بعضهم بأن ذلك محتمل لأن يحظى عليه الصلاة والسلام بليلة القدر لأنها فيها لا لكونه العشر المرادة هنا. وعن ابن جريج أنهن العشر الأول من رمضان ، وعن يمان وجماعة أنهن العشر الأول من المحرم وفيها يوم عاشوراء وقد ورد في فضله ما ورد. أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن عباس قال : قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء ، فقال عليه الصلاة والسلام : «ما هذا اليوم الذي تصومونه»؟ قالوا : يوم عظيم أنجى الله تعالى فيه موسى وأغرق آل فرعون فيه ، فصامه موسى عليه‌السلام شكرا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فنحن أحق بموسى منكم» فصامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر بصيامه. وصح في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام أرسل غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة «من كان أصبح صائما فليتمّ يومه ، ومن كان أصبح مفطرا فليصم بقية يومه» فكان الصحابة بعد ذلك يصومونه ويصوّمونه صبيانهم الصغار ويذهبون بهم إلى المسجد ويجعلون لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطوه إياها حتى يكون الإفطار. وأخرج أحمد وغيره عن الحبر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود وصوموا قبله يوما وبعده يوما» وجاء في الأمر بالتوسعة فيه على العيال عدة أحاديث ضعيفة لكن قال البيهقي هي وإن كانت ضعيفة إذا ضم بعضها إلى بعض أحد قوة وأيّا ما كان فتنكيرها للتفخيم وقل للتبعيض لأنها بعض ليالي السنة أو الشهر والتفخيم أولى. قيل : ولو لا قصد ما ذكر كان

٣٣٤

الظاهر تعريفها كأخواتها لأنها ليال معهودة معينة ، وقدر بعضهم على إرادة صلاة الفجر فيما مر مضافا هنا أي وعبادة ليال ويقال نحوه فيما بعد على بعض الأقوال فيه وليس بلازم ولا أثر فيه. وقرأ ابن عباس بالإضافة فضبطه بعضهم (وَلَيالٍ عَشْرٍ) بلازم دون ياء وبعضهم «وليالي عشر» بالياء وهو القياس والمراد وليالي أيام عشر فحذف الموصوف وهو المعدود وفي مثل ذلك يجوز التاء وتركها في العدد ومنه واتبعه بست من شوال وما حكاه الكسائي ضمنا من الشهر خمسا والمرجح للترك هاهنا وقوعه فاصلة وجوز أن تكون بالإضافة بيانية وهو خلاف الظاهر.

(وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) هما على ما في حديث جابر المرفوع الذي أشرنا إليه فيما تقدم يوم النحر ويوم عرفة. وقال الطيبي : روينا عن الإمام أحمد والترمذي عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الشفع والوتر فقال : «الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر» ثم قال : «هذا هو التفسير الذي لا محيد عنه» انتهى. وقد رواه عن عمران أيضا عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وابن أبي حاتم وصححه ، لكن في البحر أن حديث جابر أصح إسنادا من حديث عمران بن حصين ووراء ذلك أقوال كثيرة ، فأخرج عبد بن حميد عن الحسن أنه قال : «أقسم ربنا بالعدد كله منه الشفع ومنه الوتر» وأخرج عبد الرزاق عن مجاهد أنه قال «الخلق كله شفع ووتر فأقسم سبحانه بخلقه» وأخرج ابن المنذر وجماعة عنه أنه قال : الله تعالى الوتر وخلقه سبحانه الشفع الذكر والأنثى» وروي نحوه عن أبي صالح ومسروق وقرءا (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) [الذاريات : ٤٩] وقيل : المراد شفع تلك الليالي ووترها ، وقيل الشفع أيام عاد والوتر لياليها. وقيل : الشفع أبواب الجنة والوتر أبواب النار وقيل غير ذلك. وقد ذكر في كتاب التحرير والتحبير مما قيل فيهما ستا وثلاثين قولا وفي الكشاف : قد أكثروا في الشفع والوتر حتى كادوا يستوعبون أجناس ما يقعان فيه وذلك قليل الطائل جدير بالتلهي عنه. وقال بعض الأفاضل : لا إشعار للفظ الشفع والوتر بتخصيص شيء مما ذكروه وتعيينه بل هو إنما يدل على معنى كلّي متناول لذلك ، ولعل من فسّرهما بما فسرهما لم يدع الانحصار فيما فسر به بل أفرد بالذكر من أنواع مدلولهما ما رآه أظهر دلالة على التوحيد أو مدخلا في الدين أو مناسبة لما قبل أو لما بعد أو أكثر منفعة موجبة للشكر أو نحو ذلك من النكات ، وإذا ثبت من الشارع عليه الصلاة والسلام تفسيرهما ببعض الوجوه فالظاهر أنه ليس مبنيا على تخصيص المدلول بل وارد على طريق التمثيل بما رأى في تخصيصه بالذكر فائدة معتدا بها فحينئذ يجوز للمفسر أن يحمل اللفظ على بعض آخر من محتملاته لفائدة أخرى انتهى. وهو ميل إلى أن أل فيهما للجنس لا للعهد ، والظاهر أن ما تقدم من الحديثين من باب القطع بالتعيين دون التمثيل لكن يشكل أمر التوفيق بينهما حينئذ وإذا صح ما قال في البحر كان المعول عليه حديث جابر رضي الله تعالى عنه والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. وقرأ حمزة والكسائي والأغر عن ابن عباس وأبو رجاء وابن وثاب وقتادة وطلحة والأعمش والحسن بخلاف عنه «والوتر» بكسر الواو وهي لغة تميم والجمهور على فتحها وهي لغة قريش وهما لغتان كالحبر والحبر بمعنى العالم على ما قال صاحب المطلع في الوتر المقابل للشفع وأما في (الْوَتْرِ) بمعنى الترة أي الحقد فالكسر هو المسموع وحده والأصمعي حكى فيه أيضا اللغتين وقرأ يونس عن أبي عمرو بفتح الواو وكسر التاء وهو إما لغة أو نقل حركة الواو في الوقف لما قبلها.

(وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) أي يمضي كقوله تعالى (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) [المدثر : ٣٣] و (اللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) [التكوير : ١٧] والظاهر أنه مجاز مرسل أو استعارة ووجه الشبه كالنهار و (إِذا) على ما صرح به العلامة

٣٣٥

التفتازاني في التلويح بدل من (اللَّيْلِ) وخروجها عن الظرفية مما لا بأس به ، أو ظرف متعلق بمضاف مقدر وهو العظمة على ما اختاره بعضهم ، والإقسام بذلك الوقت أو تقييد العظمة به لما فيه من وضوح الدلالة على كمال القدرة ووفور النعمة أو يسري فيه على ما نقل أبو حيان عن الأخفش وابن قتيبة ، كقولهم : صلى المقام أي صلى فيه على أنه تجوز فيه الإسناد بإسناد ما للشيء للزمان كما يسند للمكان ، وأيّا ما كان فالمراد بالليل جنسه. وقال مجاهد وعكرمة والكلبي : المراد به ليلة النحر وهي يسري الحاج فيها إلى المزدلفة بعد الإفاضة من عرفات وليس بذاك ، والإقسام والتقييد على الوجه الأخير لما في السير في الليل من نعمة الحفظ من حر الشمس وشر قطاع الطريق غالبا وحذفت الياء عند الجمهور وصلا ووقفا من آخر (يَسْرِ) مع أنها لام مضارع غير مجزوم اكتفاء عنها بالكسرة للتخفيف ولتتوافق رءوس الآي ولذا وسمت كذلك في المصاحف ، ولا ينبغي أن يقال إنها حذفت لسقوطها في خطها فإنه يقتضي أن القراءة باتباع الرسم دون رواية سابقة عليه وهو غير صحيح. وخص نافع وأبو عمرو في رواية هذا الحذف بالوقف لمراعاة الفواصل ولم يحذف مطلقا ابن كثير ويعقوب. وفي تفسير البغوي سئل الأخفش عن علة سقوط ياء (يَسْرِ) فقال : الليل لا يسري ولكن يسرى فيه وهو تعليل كثيرا ما يسأل عنه لخفائه والجواب أنه أراد أنه لما عدل عن الظاهر في المعنى وغيرهما كان حقه معنى غير لفظه لأن الشيء يجر جنسه لإلفه به :

إن الطيور على أمثالها تقع

وهذا كما قيل في قوله تعالى (ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) [مريم : ٢٨] أنه لما عدل عن باغية أسقطت منه التاء ولم يقل بغية ، ومثله من بدائع اللغة العربية ويمكن التعليل بنحوه على تفسير (يَسْرِ) بيمضي لما فيه من العدول عن الظاهر في المعنى أيضا علمت من أنه مجاز في ذلك. وقرأ أبو الدينار الأعرابي و «الفجر» و «الوتر» و «يسر» بالتنوين في الثلاثة. قال ابن خالويه : هذا كما روي عن بعض العرب أنه وقف على أواخر القوافي بالتنوين وإن كانت أفعالا أو فيها أل نحو قوله :

أقلي اللوم عاذل والعتابن

وقولي إن أصبت لقد أصابن

انتهى. وهذا كما قال أبو حيان ذكره النحويون في القوافي المطلقة يعني المحركة إذا لم يترنم الشاعر وهو أحد وجهين للعرب إذا لم يترنموا ، والوجه الآخر الوقوف فيقولون : العتاب وأصاب كحالهم إذا وقفوا على الكلمة في النثر ، وهذا الأعرابي أجرى الفواصل مجرى الوقف وعاملها معاملة القوافي المطلقة ويسمى هذا التنوين تنوين الترنم ولا اختصاص له بالاسم ، ويغلب على ظني أنه قيل يكتب نونا بخلاف أقسام التنوين المختصة بالاسم. وقوله تعالى (هَلْ فِي ذلِكَ) إلخ تحقيق وتقرير لفخامة الأشياء المذكورة المقسم بها وكونها مستحقة لأن تعظم بالإقسام بها فيدل على تعظيم المقسم عليه وتأكيده من طريق الكناية فذلك إشارة إلى المقسم به وما فيه من معنى البعد لزيارة تعظيمه أي هل فيما ذكر من الأشياء (قَسَمٌ) أي مقسم به (لِذِي حِجْرٍ) أي هل يحق عنده أن يقسم به إجلالا وتعظيما ، والمراد تحقيق أن الكل كذلك وإنما أوثرت هذه الطريق هضما للحق وإيذانا بظهور الأمر ، وهذا كما يقول المتكلم بعد ذكر دليل واضح الدلالة على مدعاة هل دل هذا على ما قلناه. وجوز أن يكون التحقيق أن ذوي الحجر يؤكدون بمثل ذلك المقسم عليه فيدل أيضا على تعظيمه وتأكيده فذلك إشارة إلى المصدر أعني الإقسام هل في إقسامي بتلك الأشياء إقسام لذي حجر مقبول عنده يعتد به ويفعل مثله ويؤكد به المقسم عليه؟ وحاصل الوجهين فيما يرجع إلى تأكيد المقسم

٣٣٦

عليه واحد إلّا أن الوجه مختلف كما لا يخفى ، ولعل الأول أظهر والحجر العقل لأنه يحجر صاحبه أي يمنعه من التهافت فيما لا ينبغي ، كما سمي عقلا ونهية لأنه يعقل وينهى وحصاة من الإحصاء وهو الضبط. وقال الفرّاء : يقال إنه لذو حجر إذا كان قاهرا لنفسه ضابطا لها والمقسم عليه محذوف وهو ليعذبن كما ينبئ عنه قوله تعالى شأنه (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ) إلخ فإنه استشهاد بعلمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يدل عليه من تعذيب عاد وأضرابهم المشاركين لقومه عليه الصلاة والسلام في الطغيان والفساد على طريقة (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) [البقرة : ٢٥٨] الآية وقوله سبحانه (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) [الشعراء : ٢٢٥] وقال أبو حيان : الذي يظهر أنه محذوف يدل عليه ما قبله من آخر سورة [الغاشية : ٢٥ ، ٢٦] وهو قوله تعالى (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) وتقديره لإيابهم إلينا وحسابهم علينا. وأخرج ابن المنذر عن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قرأ (وَالْفَجْرِ) ـ إلى قوله سبحانه ـ (إِذا يَسْرِ) فقال : هذا قسم على أن ربك لبالمرصاد وإلى أنه هو المقسم عليه ذهب ابن الأنباري. وعن مقاتل أنه هل في ذلك إلخ وهل بمعنى أن وهو باطل رواية ودراية إذ يبقى عليه قسم بلا مقسم عليه. والمراد بعاد أولاد عاد بن عاص بن إرم بن سام بن نوح عليه‌السلام قوم هود عليه‌السلام سموا باسم أبيهم كما سمّي بنو هاشم هاشما وإطلاق الأب على نسله مجاز شائع حتى ألحق بعضه بالحقيقة وقد قيل لأوائلهم عاد الأولى ، ولأواخرهم عاد الآخرة. قال عماد الدين بن كثير : كلما ورد في القرآن خبر عاد فالمراد بعاد فيه عاد الأولى إلّا ما في سورة الأحقاف ، ويقال لهم أيضا إرم تسمية لهم باسم جدهم والتسمية بالجد شائعة أيضا وهو اسم خاص بالأولى وعليه قول ابن الرقيات :

مجدا تليدا بناه أوله

أدرك عادا وقبلها إرما

ونحوه قوله زهير :

وآخرين ترى الماذي عدتهم

من نسج داود أو ما أورثت إرما

فقوله تعالى (إِرَمَ) عطف بيان لعاد للإيذان بأنهم عاد الأولى تجوز أن يكون بدلا ، ومنع من الصرف للعلمية والتأنيث باعتبار القبيلة ، وصرف عاد باعتبار الحي ، وقد يمنع من الصرف باعتبار القبيلة أيضا. وقرأ الضحاك بذلك في إحدى الروايتين عنه ورجح اعتبار الصرف فيه بخفته لسكون وسطه ، وقدر بعضهم مضافا في الكلام أي سبط إرم وجعل إرم عليه اسم أمهم وهو قول فيه حكاه في القاموس. ووجه منع الصرف فيه ظاهر ، وأبى بعضهم إلّا جعله اسم جدهم ومعنى كونهم سبطه أنهم ولد ولده ولا يظهر على هذا علة منع صرفه ولعل ذلك هو الذي دعا إلى جعله اسم أمهم ، لكن رأيت في تعليقات بعض الأفاضل على الحواشي العصامية على تفسير البيضاوي أن إرم إنما منع من الصرف سواء كان اسما للقبيلة أم لجدها للعلمية والعجمة ، وقال إنهما موجودتان في عاد أيضا إلا أنه لكونه ثلاثيا ساكن الوسط يجوز فيه الأمران الصرف وعدمه ، وزعم أن هذا هو الحق وبكونه اسم القبيلة قال مجاهد وقتادة وابن إسحاق ولا حاجة معه إلى تقدير مضاف ، فقوله تعالى (ذاتِ الْعِمادِ) صفة ل (إِرَمَ) نفسها والمراد ذات القدود الطوال على تشبيه قاماتهم بالأعمدة ، ومنه قولهم رجل معمد وعمدان إذا كان طويلا وروي هذا عن ابن عباس ومجاهد واشتهر أنه كان قد أحدهم اثني عشر ذراعا وأكثر. وفي تفسير الكواشي قالوا : كان طول الطويل منهم أربعمائة ذراع ، وكان أحدهم يأخذ الصخرة العظيمة فيقلبها على الحي فيهلكهم. عن قتادة وابن عباس في رواية عطاء المراد ذات الخيام والأعمدة وكانوا سيارة في الربيع ، فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم. وقال غير واحد : كانوا بدويين أهل عمدة وخيام يسكنونها حلا

٣٣٧

وارتحالا. وقيل : المراد ذات الرفعة أو ذات الوقار أو ذات الثبات وطول العمر والكل على الاستعارة. وقوله تعالى (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) صفة أخرى لها أي لم يخلق مثلهم في عظم الأجرام والقوة في بلاد الدنيا ، وقد سمعت ما نقل عن الكواشي آنفا وما ذكر فيه من أنه كان أحدهم إلخ. جاء في حديث مرفوع أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن المقدام بن معد يكرب. وقيل : إرم اسم مدينة لهم قال محمد بن كعب هي الإسكندرية. وقال ابن المسيب والمقبري : هي دمشق ، وقيل اسم أرضهم وهي بين عمان وحضرموت وهي أرض رمال وأحقاف فقد قال سبحانه وتعالى (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ) [الأحقاف : ٢١] وبهذا اعترض القول بأن مدينتهم الإسكندرية ، والقول بأنها دمشق حيث إنهما ليستا من بلاد الأحقاف والرمال إلا أن يقال ما هنا عاد الأولى ، وما في آية الأحقاف عاد الآخرة ، ويلتزم عدم اتحاد منازلهما. وعلى القول بكونه اسم مدينتهم أو اسم أرضهم فهو بتقدير مضاف لتصحيح التبعية أي أهل إرم. وقيل : يقدر مضاف في جانب المتبوع أي بمدينة أو بأرض عاد إرم وهو كما ترى ومنع الصرف على الوجهين لما سمعت ، والأكثرون على أنها اسم مدينة عظيمة في أرض اليمن والوصفان لها ، والمراد ذات البناء الرفيع أو ذات الأساطين التي لم يخلق مثلها سعة وحسن بيوت وبساتين في بلاد الدنيا ، ويروى أنه كان لعاد ابنان شداد وشديد فملكا وقهرا ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد فملك الدنيا ودانت له ملوكها فسمع بذكر الجنة فقال : أبني مثلها فبنى إرم في بعض صحارى عدن في ثلاثمائة سنة وكان عمره تسعمائة سنة وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة وأساطينها من الزبرجد والياقوت ، وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطردة. ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته ، فلما كان منها مسيرة يوم وليلة بعث الله تعالى عليهم صيحة من السماء فهلكوا. وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها فحمل ما قدر عليه مما ثمّ ، وبلغ خبره معاوية فاستحضره فقصّ عليه فبعث إلى كعب فسأله ، فقال : هي إرم ذات العماد وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال ، يخرج في طلب إبل له ، ثم التفت فأبصر ابن قلابة ، فقال : هذا والله ذلك الرجل. وخبر شداد المذكور أخوه في الضعف بل لم تصح روايته كما ذكره الحافظ ابن حجر فهو موضوع كخبر ابن قلابة. وروي عن مجاهد أن (إِرَمَ) مصدر أرم يأرم إذا هلك ، فأرم بمعنى هلاك منصوب على نحو نصب المصدر التشبيهي مضاف إلى (ذاتِ) و (الَّتِي) صفة ل (ذاتِ الْعِمادِ) مرادا بها المدينة وكيف فعل في قوة كيف أهل فكأنه قيل : ألم تر كيف أهلك ربك عادا كهلاك ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وهو قول غريب غير قريب. وقرأ الحسن «يعاد رام» بإضافة عاد إلى إرم فجاز أن يكون إرم جدا والوصفان لعاد ، وأن يكون مدينة والوصفان لازم وجوز أن يكون لعاد. وقرأ ابن الزبير «بعاد أرم» بالإضافة أيضا إلّا أن أرم بفتح الهمزة وكسر الراء ، قيل : وهي لغة في المدينة لا غير. وعن الضحاك أنه قرأ «بعاد» مصروفا وغير مصروف «أرم» بفتح الهمزة وسكون الراء للتخفيف وأصله أرم كفخذ. وقرئ «إرم ذات» بإضافة إرم إلى ذات فقيل الإرم عليه العلم والمعنى بعاد أعلام ذات العماد وهي مدينتهم ، و (الَّتِي) صفة ل (ذاتِ الْعِمادِ) على الأظهر. وعن ابن عباس أنه قرأ «أرم» بالتشديد فعلا ماضيا ذات بالنصب على المفعول به أي جعل الله تعالى ذات العماد رميما ، ويكون أرم على ما في البحر بدلا من فعل أو تبيينا له ، والمراد بذات العماد عليه إما عاد نفسها ويكون فيه وضع المظهر موضع المضمر والنكتة فيه ظاهرة ، وإما مدينتهم ويكون جعلها رميما أي إهلاكها كناية عن جعلهم كذلك. وقرأ ابن الزبير «لم يخلق» مبنيا للفاعل وهو ضميره عزوجل مثلها بالنصب على المفعولية ، وعنه أيضا «لم نخلق» بنون العظمة.

٣٣٨

(وَثَمُودَ) عطف على (عاد) وهي قبيلة مشهورة سميت باسم جدهم ثمود أخي جديس وهما ابنا عابر بن إرم بن سام بن نوح عليه‌السلام ، كانوا عربا من العاربة يسكنون الحجر بين الحجاز وتبوك ، وكانوا يعبدون الأصنام ومنع الصرف للعملية والتأنيث. وقرأ ابن وثاب بالتنوين صرفه باعتبار الحي كذا قالوا ، وظاهره أنه عربي. وقد صرح بذلك فقيل هو فعول من الثمد وهو الماء القليل الذي لا مادة له ومنه قيل : فلان مثمود ثمدته النساء أي قطعن مادة مائه لكثرة غشيانه لهن ، ومثمود إذا كثر عليه السؤال حتى نفدت مادة ماله. وحكى الراغب أنه عجمي فمنع الصرف للعلمية والعجمة (الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ) أي قطعوا صخر الجبال واتخذوا فيها بيوتا نحتوها من الصخر كقوله تعالى (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) [الشعراء : ١٤٩] قيل أول من نحت الحجارة والصخور والرخام ثمود وبنوا ألفا وسبعمائة مدينة كلها بالحجارة ، ولا أظن صحة هذا البناء (بِالْوادِ) هو وادي القرى ، وقرئ بالياء آخر الحروف ، والباء للظرفية ، والجار والمجرور متعلق بجابوا أو بمحذوف هو حال من الفاعل أو المفعول. وقيل : الباء للآلة أو السببية متعلقة بجابوا أي جابوا الصخر بواديهم أو بسببه ، أي قطعوا الصخر وشقوه وجعلوه واديا ومحلا لمائهم فعل ذوي القوة والآمال وهو خلاف الظاهر وأيّا ما كان فالجواب القطع والظاهر أنه حقيقة فيه تقول جبت البلاد أجوبها إذا قطعتها. قال الشاعر :

ولا رأيت قلوصا قبلها حملت

ستين وسقا ولا جابت بها بلدا

ومنه الجواب لأنه يقطع السؤال. وقال الراغب : الجوب قطع الجوبة وهي الغائط من الأرض ثم يستعمل في قطع كل أرض ، وجواب الكلام هو ما يقطع الجوب فيصل من فم القائل إلى سمع المستمع لكنه خص بما يعود من الكلام دون المبتدأ من الخطاب انتهى. فاختر لنفسك ما يحلو (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) وصف بذلك لكثرة جنوده وخيامهم التي يضربون أوتادها في منازلهم أو لأنه كان يدق المعذب أربعة أوتاد ويشده بها مبطوحا على الأرض فيعذبه بما يريد من ضرب أو إحراق أو غيره وقد تقدم الكلام في ذلك (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ) إما مجرور على أنه صفة للمذكورين عاد ومن بعده أو منصوب أو مرفوع على الذم أي طغى كل طاغية منهم في البلاد ، وكذا الكلام في قوله تعالى (فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) أي بالكفر وسائر المعاصي (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ) أي أنزل سبحانه إنزالا شديدا على كل طائفة من أولئك الطوائف عقيب ما فعلت من الطغيان والفساد (سَوْطَ عَذابٍ) أي سوطا من عذاب على أن الإضافة بمعنى من ، والعذاب بمعنى المعذب به ، والمراد بذلك ما حل بكل منهم من فنون العذاب التي شرحت في سائر السور الكريمة. والسوط في الأصل مصدر من ساط يسوط إذا خلط ، قال الشاعر :

أحارث إنا لو تساط دماؤنا

تزايلن حتى لا يمس دم دما

وشاع في الجلد المضفور والذي يضرب به ، وسمي به لكونه مخلوط الطاقات بعضها ببعض ، أو لأنه يخلط اللحم بالدم والتعبير عن إنزاله بالصب للإيذان بكثرته وتتابعه واستمراره فإنه عبارة عن إراقة شيء مائع أو جار مجراه في السيلان كالحبوب والرمل وإفراغه بشدة وكثرة واستمرار ، ونسبته إلى السوط مع أنه على ما سمعت ليس من هذا القبيل باعتبار تشبيهه في سرعة نزوله بالشيء المصبوب ، وتسمية ما أنزل سوطا قيل للإيذان بأنه على عظمه بالنسبة إلى ما أعد لهم في الآخرة كالسوط بالنسبة إلى سائر ما يعذب به في الكشف أن إضافة السوط إلى العذاب تقليل لما أصابهم منه ، ولا يأبى ذلك التعبير بالصب المؤذن بالكثرة لأن القلة والكثرة من الأمور النسبية. وجوز أن يراد بالعذاب التعذيب والإضافة حينئذ على معنى اللام وأمر التعبير بالصب

٣٣٩

والتسمية بالسوط على ما تقدم. والآية من قبيل قوله تعالى (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ) [النحل : ١١٢] وجوز أن تكون الإضافة كالإضافة في لجين الماء أي فصب عليهم ربك عذابا كالسوط على معنى أنواعا من العذاب مخلوطا بعضها ببعض اختلاط طاقات السوط بعضها ببعض ، وأن يكون السوط مصدرا بمعنى المفعول والإضافة كالإضافة في جرد قطيفة أي فصب عليهم ربك عذابا مسوطا أي مخلوطا ، ومآله فصب أنواعا من العذاب خلط بعضها ببعض. وفي الصحاح (سَوْطَ عَذابٍ) أي نصيب عذاب ويقال شدته لأن العذاب قد يكون بالسوط ، وأراد أن الغرض التصوير والأليق بجزالة التنزيل ما تقدم (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) تعليل لما قبله وإيذان بأن كفار قومه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيصيبهم مثل ما أصاب أضرابهم المذكورين من العذاب كما ينبئ عنه التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ، والمرصاد المكان الذي يقوم به الرصد ويترقبون فيه مفعال من رصده كالميقات من وقته. وفي الكلام استعارة تمثيلية شبه كونه تعالى حافظا لأعمال العصاة على ما روي عن الضحاك مترقبا لها ومجازيا على نقيرها وقطميرها بحيث لا ينجو منه سبحانه أحد منهم بحال من قعد على الطريق مترصدا لمن يسلكها ليأخذه فيوقع به ما يريد ، ثم أطلق لفظ أحدهما على الآخر والآية على هذا وعيد للعصاة مطلقا. وقيل : هي وعيد للكفرة وقيل : وعيد للعصاة ووعد لغيرهم وهو ظاهر قول الحسن ، أي يرصد سبحانه أعمال بني آدم. وجوز ابن عطية كون المرصاد صيغة مبالغة كالمطعام والمطعان ، وتعقبه أبو حيان بأنه لو كان كما زعم لم تدخل الباء لأنها ليست في مكان دخولها لا زائدة ولا غير زائدة ، وأجيب بأنها على ذلك تجريدية نعم يلزمه إطلاق المرصاد على الله عزوجل وفيه شيء.

وقوله تعالى (فَأَمَّا الْإِنْسانُ) إلخ متصل بما عنده كأنه قيل إنه سبحانه لبالمرصاد من أجل الآخرة فلا يطلب عزوجل إلّا السعي لها ، فأما الإنسان فلا يهمه إلّا الدنيا ولذاتها ، فإن نال منها شيئا رضي الله وإلّا سخط وكان اللائق أن لا يهمه إلا ما يطلبه الله عزوجل ولا يكون حاله ذلك. وقيل : هو متصل به متفرع عليه على معنى فالإنسان يؤاخذ لا محالة لأنه بين غنى مهلك موجب للتكبر والافتخار بالدنيا ، وبين فقر لا يصبر عليه ويكفر لأجله بالجزع والقول بما لا ينبغي وهو كما ترى (إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) أي عامله معاملة من يبتليه بالغنى واليسار ليرى هل يشكر أم لا. والفاء في قوله سبحانه (فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) تفسيرية فإن الإكرام والتنعيم عين المراد بالابتلاء ، ولما كان الإكرام والتنعيم في حكم شيء واحد اقتصر على قوله (أَكْرَمَنِ) في قوله سبحانه (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) ولم يضم إليه ونعمتي. وهذه الجملة خبر للمبتدإ الذي هو الإنسان ، والفاء لما في أما من معنى الشرط والظرف أعني إذا متعلق بيقول وهو على نية التأخير ولا تمنع الفاء من ذلك كما صرح به الزمخشري وغيره من متقدمي النحاة وتبعهم من بعدهم كأبي حيان والسمين والسفاقسي مع جمع غفير من المفسرين ، وهو كما قال الشهاب الحق الذي لا محيد عنه ، وخالفهم في ذلك الرضي ومن تبعه كالبدر الدماميني في شرح المغني ، فقالوا : إنما يجوز تقديم ما بعد الفاء عليها إذا كان المقدم هو الفاصل بين أما والفاء لما يتعلق بتقديمه من الأغراض فإن كان ثمت فاصل آخر امتنع تقديم غيره فيمتنع أما زيد طعامك فآكل وإن جاز أما طعامك فزيد آكل ، وقالوا في ذلك أنهم لما التزموا حذف الشرط لزم دخول أداته على فاء الجواب وهو مستكره فدعت الضرورة للفصل بينهما بشيء مما بعد الفاء والفاصل الواحد كاف فيه فيجب الاقتصار عليه. وزعم الجلبي محشي المطول أن هذا متفق عليه فرد به على المفسرين إعرابهم السابق وقال إنه خطأ ، والصواب أن يجعل الظرف متعلقا بمقدر وهو ابتدأ في الحقيقة ، والتقدير فأما شأن الإنسان إذا إلخ. فالظرف

٣٤٠