روح المعاني - ج ١٥

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٥

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٤

سببين في جانب الخبر على الترتيب ، وقيل : أي فلهم جهنم في الآخرة ولهم عذاب الحريق في الدنيا بناء على ما روي عن الربيع ومن سمعت أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم وقد علمت حاله وتعقبه أبو حيان بأن (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) يأبى عنه لأن أولئك المحرقين لم ينقل لنا أن أحدا منهم تاب بل الظاهر أنهم لم يلعنوا إلّا وهم قد ماتوا على الكفر وفيه نظر ، وعليه إنما أخر (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) ورعاية للفواصل أو للتتميم والترديف كأنه قيل ذلك وهو العقوبة العظمى كائن لا محالة وهذا أيضا لا يتجاوزونه. وفي الكشف الوجه أن عذاب جهنم وعذاب الحريق واحد وصف بما يدل على أنه للمعبودين جدا عن رحمته عزوجل ، وعلى أنه عذاب هو محض الحريق وهو الحرق البالغ وكفى به عذابا. والظاهر أنه اعتبر الحريق مصدرا والإضافة بيانية ولا بأس بذلك إلّا أن الوحدة التي ادعاها خلاف ظاهر العطف. وقال بعضهم : لو جعل من عطف الخاص على العام للمبالغة فيه لأن عذاب جهنم بالزمهرير والإحراق وغيرهما كان أقرب ، ولعل ما ذكرناه أبعد عن القال والقيل. وجملة (فَلَهُمْ عَذابُ) إلخ وقعت خبرا لأن أو الخبر الجار والمجرور وعذاب مرتفع به على الفاعلية وهو الأحسن والفاء لما في المبتدأ من معنى الشرط ولا يضر نسخه بأن وإن زعمه الأخفش. واستدل بالآية على بعض أوجهها على أن عذاب الكفار يضاعف بما قارنه من المعاصي.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)(٢٢)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) على الإطلاق من المفتونين وغيرهم (لَهُمْ) بسبب ما ذكر من الإيمان والعمل الصالح (جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) إن أريد بالجنات الأشجار فجريان الأنهار من تحتها ظاهر ، وإن أريد بها الأرض المشتملة عليها فالتحتية باعتبار جزئها الظاهر فإن أشجارها ساترة لساحتها كما يعرب عنه اسم الجنة وفصل الجملة ، قيل لأنها كالتأكيد لما أشعرت به الآية قبل من اختصاص العذاب بالذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا (ذلِكَ) إشارة إلى كون ما ذكر لهم وحيازتهم إياه وقيل للجنات الموصوفة والتذكير لتأويلها بما ذكر وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو الدرجة وبعد المنزلة في الفضل والشرف ومحله الرفع على الابتداء خبره (الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) الذي يصغر عنده الفوز بالدنيا وما فيها من الرغائب والفوز النجاة من الشر والظفر بالخير فعلى الوجه الثاني في الإشارة هو مصدر أطلق على المفعول مبالغة وعلى الأول مصدر على حاله (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) استئناف خوطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيذانا بأن لكفار قومه نصيبا موفورا من مضمونه كما ينبئ عنه التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام والبطش الآخذ بصولة وعنف وحيث وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم وهو بطشه عزوجل بالجبابرة والظلمة ، وأخذه سبحانه إياهم بالعذاب والانتقام (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) أي إنه عزوجل هو يبدأ الخلق بالإنشاء وهو سبحانه يعيده بالحشر يوم القيامة كما قال ابن زيد والضحاك ، أو يبدئ كل ما يبدي ويعيد كل ما يعاد كما قال ابن عباس من غير دخل لأحد في شيء منهما ، ومن كان كذلك كان بطشه في غاية الشدة. أو يبدئ البطش بالكفرة في الدنيا ثم يعيده في الآخرة وعلى الوجهين الجملة في موضع التعليل لما سبق

٣٠١

ووجهه على الثاني ظاهر وعلى الأول قد أشرنا إليه ، وقيل : وجهه عليه أن الإعادة للمجازاة فهي متضمنة للبطش وليس بذاك. وعن ابن عباس يبدئ العذاب بالكفار ويعيده عليهم فتأكلهم النار حتى يصيروا فحما ثم يعيدهم عزوجل خلقا جديدا وفيه خفاء وإن كان أمر الجملة عليه في غاية الظهور. واستعمال يبدئ مع يعيد حسن وإن لم يسمع أبدا كما بين في محله. وحكى أبو زيد أنه قرئ «يبدأ» من بدأ ثلاثيا وهو المسموع لكن القراءة بذلك شاذة (وَهُوَ الْغَفُورُ) لمن يشاء من المؤمنين وقيل لمن تاب وآمن والتخصيص عند من يرى رأي أهل السنة إما لمناسبة مقام الإنذار أو لما في صيغة الغفور من المبالغة فأصل المغفرة لا يتوقف على التوبة وزيادتها بها لا يعلمه إلّا الله تعالى للتائبين (الْوَدُودُ) المحب كثيرا لمن أطاع ففعول صيغة مبالغة في الواد اسم فاعل ومحبة الله تعالى ومودته عند الخلف بإنعامه سبحانه وإكرامه جل شأنه ، ومن هنا فسر الودود بكثير الإحسان ، وعن ابن عباس أي المتودد إلى عباده تعالى شأنه بالمغفرة. وقيل : هو فعول بمعنى مفعول كركوب وحلوب أي يوده ويحبه سبحانه عباده الصالحون وهو خلاف الظاهر. وحكى المبرد عن القاضي إسماعيل بن إسحاق أن الودود هو الذي لا ولد له ، وأنشد قوله :

وأركب في الروع عريانة

ذلول الجماح لقاحا ودودا

أي لا ولد لها تحن إليه وحمله مع الغفور على هذا المعنى غير مناسب كما لا يخفى (ذُو الْعَرْشِ) أي صاحبه والمراد مالكه أو خالقه وهو أعظم المخلوقات. وعن عليّ كرم الله تعالى وجهه : لو جمعت مياه الدنيا ومسح بها سطح العرش الذي يلينا لما استوعب منه إلّا قليل. وجاء في الأخبار من عظمه ما يبهر العقول. وقال القفال (ذُو الْعَرْشِ) ذو الملك والسلطان كأنه جعل العرش بمعنى الملك بطريق الكناية والتجوز ، وجوز أن يبقى العرش على حقيقته ويراد بذي العرش الملك لأن ذا العرش لا يكون إلا ملكا. وقرأ ابن عامر في رواية «ذي العرش» بالياء على أنه صفة ل (رَبِّكَ) وحينئذ يكون قوله تعالى (إِنَّهُ هُوَ) إلخ جملة معترضة لا يضر الفصل بها بين الصفة والموصوف ، وكذا لا يضر الفصل بينهما بخبر المبتدأ لأنه ليس بأجنبي فإن الموصوف هنا من تتمة المبتدأ. وقد قال ابن مالك في التسهيل : يجوز الفصل بين التابع والمتبوع بما لا يتمحض مباينته. نعم قال ابن الحاجب الفصل بين الصفة والموصوف بخبر المبتدأ شاذ كما في قوله :

وكل أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلّا الفرقدان

(الْمَجِيدُ) العظيم في ذاته عزوجل وصفاته سبحانه فإنه تعالى شأنه واجب الوجوب تام القدرة كامل الحكمة. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن وثاب والأعمش والمفضل عن عاصم والأخوان «المجيد» بالجر صفة للعرش ومجده علوه وعظمته وحسن صورته وتركيبه ، فإنه قيل العرش أحسن الأجسام صورة وتركيبا وليس من مجده كون الحوادث الكونية بتوسط أوضاعه كما يزعمه المنجمون فإن ذلك باطل شرعا وعقلا على ما تقتضيه أصولهم. وجاز على قراءة «ذي العرش» بالياء أن يكون صفة ل ذي وجوز كونه صفة ل (رَبِّكَ) وليس بذلك لأن الأصل عدم الفصل بين التابع والمتبوع فلا يقال به ما لم يتعين (فَعَّالٌ) لما يريد بحيث لا يتخلف عن إرادته تعالى من أفعاله سبحانه وأفعال غيره عزوجل فما للعموم وفي التنكير من التفخيم ما لا يخفى وفيه رد ظاهر على المعتزلة في قولهم إنه سبحانه وتعالى إيمان الكافر وطاعة العاصي ويتخلفان عن إرادته سبحانه والمرفوعات كلها على ما استحسنه أبو حيان أخبار لهو في قوله تعالى (هُوَ الْغَفُورُ) وجوز أن يكون (الْوَدُودُ) و (ذُو الْعَرْشِ) و (الْمَجِيدُ) صفات ل (غفور) ومن لم يجوز تعدد الخبر لمبتدإ واحد يقول بذلك أو بتقدير مبتدءات للمذكورات. وأطلق الزمخشري القول بأن (فَعَّالٌ) خبر لمبتدإ محذوف أي هو

٣٠٢

فعال فقال صاحب الكشف إنما لم يحمله على أنه خبر السابق أعني هو في قوله تعالى (هُوَ الْغَفُورُ) لأن قوله سبحانه (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) تحقيق للصفتين البطش بالأعداء والغفر والود للأولياء ، ولو حمل عليه لفاتت هذه النكتة اه. وهو تدقيق لطيف.

وقوله تعالى (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) استئناف فيه تقرير لكونه تعالى فعالا لما يريد وكذا لشدة بطشه سبحانه بالظلمة العصاة والكفرة العتاة وتسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإشعار بأنه سيصيب كفرة قومه ما أصاب الجنود وهو جمع جند يقال للعسكر اعتبارا بالغلظة من الجند أي الأرض الغليظة وكذا للأعوان ، ويقال لصنف من الخلق على حدة وكذا لكل مجتمع والمراد ب (الْجُنُودِ) هاهنا الجماعات الذين تجندوا على أنبياء الله تعالى عليهم‌السلام واجتمعوا على أذيتهم (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) بدل من (الْجُنُودِ) بدل كل من كل على حذف مضاف أي جنود فرعون أو على أن يراد بفرعون هو وقومه ، واكتفى بذكره عنهم لأنهم أتباعه. وقيل : البدل هو المجموع لا كل من المتعاطفين وهو خلاف الظاهر. وقال السمين : يجوز كونه منصوبا بأعني لأنه لما لم يطابق ما قبله وجب قطعه ، وتعقب بأنه تفسير للجنود حينئذ فيعود الإشكال. وأجيب بأن المفسر حينئذ المجموع وليس اعتباره مع أعني كاعتباره مع الإبدال والمراد بحديثهم ما صدر عنهم من التمادي في الكفر والضلال وما حل بهم من العذاب والنكال ، والمعنى قد أتاك حديثهم وعرفت ما فعلوا وما فعل بهم فذكر قومك بأيام الله تعالى وشئونه سبحانه ، وأنذرهم أن يصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم وقوله تعالى (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي من قومك (فِي تَكْذِيبٍ) إضراب انتقالي عن مماثلتهم لهم وبيان لكونهم أشد منهم في الكفر والطغيان كما ينبئ عنه العدول عن يكذبون إلى (فِي تَكْذِيبٍ) المفيد لإحاطة التكذيب بهم إحاطة الظرف بمظروفه أو البحر بالغريق فيه مع ما في تنكيره من الدلالة على تعظيمه وتهويله. فكأنه قيل : ليسوا مثلهم بل هم أشد منهم فإنهم غرقى مغمورون في تكذيب عظيم للقرآن الكريم فهم أولى منهم في استحقاق العذاب ، أو كأنه قيل : ليست جنايتهم مجرد عدم التذكر والاتعاظ بما سمعوا من حديثهم بل هم مع ذلك في تكذيب عظيم للقرآن الناطق بذلك وكونه قرآنا من عند الله تعالى مع وضوح أمره وظهور حاله بالبينات الباهرة وقوله تعالى (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) جوز أن يكون اعتراضا تذليليا وأن يكون حالا من الضمير في الجار والمجرور السابق ، والكلام تمثيل لعدم نجاتهم من بأس الله تعالى بعدم فوت المحاط المحيط كما قال غير واحد ، وكان المعنى أنه عزوجل عالم بهم وقادر عليهم وهم لا يعجزونه ولا يفوتونه سبحانه وتعالى. وذكر عصام الدين أن في ذلك تعويضا وتوبيخا للكفار بأنهم نبذوا الله سبحانه وراء ظهورهم وأقبلوا على الهوى والشهوات بكليتهم ولعل ذلك من العدول عن ربهم إلى من ورائهم.

وقوله تعالى (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) رد لكفرهم وإبطال لتكذيبهم وتحقيق للحق أي بل هو كتاب شريف عالي الطبقة فيما بين الكتب الإلهية في النظم والمعنى لا يحق تكذيبه والكفر به. وقيل : إضراب وانتقال عن الإخبار بشدة تكذيبهم وعدم ارعوائهم عنه إلى وصف القرآن للإشارة إلى أنه لا ريب فيه ولا يضره تكذيب هؤلاء ، والأول أولى. وزعم بعضهم أن الإضراب الأول عن قصة فرعون وثمود إلى جميع الكفار والمعنى عليه أن جميع الكفار في تكذيب ولم يكن نبي فارغا عن تكذيبهم والله تعالى لا يهمل أمرهم ، وفيه من تسليتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما فيه ويبعده إرداف ذلك بهذا الإضراب. وقرأ ابن السميفع «قرآن مجيد» بالإضافة قال ابن خالويه: سمعت ابن الأنباري يقول : معناه بل هو قرآن رب مجيد كما قال الشاعر :

٣٠٣

ولكن للغنى رب غفور

أي غنى رب غفور وقال ابن عطية : قرأ اليماني بالإضافة على أن يكون المجيد هو الله تعالى وهو محتمل للتقدير وعدمه ، وجوز أن يكون من إضافة الموصوف لصفته قال أبو حيان : وهذا أولى لتوافق القراءتين (فِي لَوْحٍ) أي كائن في لوح (مَحْفُوظٍ) أي ذلك اللوح من وصول الشياطين إليه وهذا هو اللوح المحفوظ المشهور وهو على ما روي عن ابن عباس والعهدة على الراوي لوح من درة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض ، وعرضه ما بين المشرق والمغرب ، وحافتاه الدر والياقوت ، ودفتاه ياقوتة حمراء ، وقلمه نور وهو معقود بالعرش ، وأصله في حجر مالك يقال له ساطريون لله عزوجل فيه في كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة يحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء ، وأنه كتب في صدره لا إله إلّا الله وحده لا شريك له دينه الإسلام ومحمد عبده ورسوله ، فمن آمن بالله عزوجل وصدق بوعده واتبع رسله أدخله الجنة. وقال مقاتل : إن اللوح المحفوظ عن يمين العرش وجاء فيه إخبار غير ذلك ونحن نؤمن به ولا يلزمنا البحث عن ماهيته وكيفية كتابته ونحو ذلك. نعم نقول إن ما يزعمه بعض الناس من أنه جوهر مجرد ليس في حيّز وإنه كالمرآة للصور العليّة مخالف لظواهر الشريعة وليس له مستند من كتاب ولا سنة أصلا. وقرأ ابن يعمر وابن السميفع «لوح» بضم اللام ، وأصله في اللغة الهواء والمراد به هنا مجازا ما فوق السماء السابعة. وقرأ الأعرج وزيد بن علي وابن محيصن ونافع بخلاف عنه «محفوظ» بالرفع على أنه صفة لقرآن و (فِي لَوْحٍ) قيل متعلق به ، وقيل صفة أخرى لقرآن. وتعقب بأن فيه تقديم الصفة المركبة على المفردة وهو خلاف الأصل والمعنى عليه قيل محفوظ بعد التنزيل من التغيير والتبديل والزيادة والنقص كما قال سبحانه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] وقيل محفوظ في ذلك اللوح عن وصول الشياطين إليه والله تعالى أعلم.

٣٠٤

سورة الطّارق

مكية بلا خلاف وهي سبع عشرة آية على المشهور وفي التيسير ست عشرة ، ولما ذكر سبحانه فيما قبلها تكذيب الكفار للقرآن نبه تعالى شأنه هنا على حقارة الإنسان ثم استطرد جل وعلا منه إلى وصف القرآن ثم أمر سبحانه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإمهال أولئك المكذبين فقال عز قائلا :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً)(١٧)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالسَّماءِ) هي المعروفة على ما عليه الجمهور ، وقيل المطر هنا وهو أحد استعمالاتها ومنه قوله :

إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

ولا يخفى حاله و (الطَّارِقِ) وهو في الأصل اسم فاعل من الطرق بمعنى الضرب بوقع أشده يسمع لها صوت ومنه المطرقة والطريق لأن السابلة تطرقها ، ثم صار في عرف اللغة اسما لسالك الطريق لتصور أنه يطرقها بقدمه واشتهر فيه حتى صار حقيقة ثم اختص بالآتي ليلا لأنه في الأكثر يجد الأبواب مغلقة فيطرقها ، ثم اتسع في كل ما يظهر بالليل كائنا ما كان حتى الصور الخيالية البادية فيه والعرب تصفها بالطروق كما في قوله :

طرق الخيال ولا كليلة مدلج

سدكا (١) بأرحلنا ولم يتعرج

والمراد به هاهنا عند الجمهور الكوكب البادي بالليل إما على أنه اسم جنس أو كوكب معهود كما ستعلمه إن شاء الله تعالى. وقوله تعالى (وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ) تنويه بشأنه إثر تفخيمه بالإقسام وتنبيه على أن

__________________

(١) سدكا بفتح فكسر أي مونعا اه منه.

٣٠٥

رفعة قدره بحيث لا ينالها إدراك الخلق فلا بد من تلقيها من الخلاق العليم ف (ما) الأولى مبتدأ و (أَدْراكَ) خبره و (ما) الثانية خبر و (الطَّارِقُ) مبتدأ على ما اختاره بعض المحققين أي أي شيء أعلمك ما الطارق. وقوله سبحانه (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف وقع جوابا عن استفهام نشأ عما قبل كأنه قيل : ما هو؟ فقيل : هو النجم إلخ و (الثَّاقِبُ) في الأصل الخارق ثم صار بمعنى المضيء لتصور أنه يثقب الظلام ، وقد يخص بالنجوم والشهب لذلك. وتصور أنها ينفذ ضوؤها في الأفلاك ونحوها. وقال الفراء (الثَّاقِبُ) المرتفع ، يقال : ثقب الطائر أي ارتفع وعلا ، والمراد بالنجم الثاقب الجنس عند الحسن فإن لكل كوكب ضوءا ثاقبا لا محالة وكذا كل كوكب مرتفع ولا يضرب التفاوت في ذلك ، وذهب غير واحد إلى أن المراد به معهود ، فعن ابن عباس أنه الجدي. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد أنه الثريا وهو الذي تطلق العرب عليه اسم النجم ، وروي عنه أيضا أنه زحل وهو أبعد السيارات وأرفعها وما يثقبه ضوؤه من الأفلاك أكثر فيما يزعم المنجمون المتقدمون ، وإنما قلنا أبعد السيارات لأن الجدي والثريا عندهم أبعد منه بكثير وكذا عند المحدثين وعن الفراء أنه القمر لأنه آية الليل وأشد الكواكب ضوءا فيه وهو زمان سلطانه ، وأنت تعلم أن إطلاق النجم عليه ولو موصوفا غير شائع وقيل هو النجم الذي يقال له كوكب الصبح. وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه نجم في السماء السابعة لا يسكنها فميّزه فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط فكان معها ثم يرجع إلى مكانه من السماء السابعة فهو طارق حين ينزل وطارق حين يصعد ، ولا يخفى أن المعروف أن الذي يسكن السماء السابعة أعني الفلك السابع وحده هو زحل فيكون ذلك قولا بأن النجم الثاقب هو لكن لا يعرف له نزول ولا صعود بالمعنى المتبادر وأيضا لا يعقل له نزول إلى حيث تكون النجوم أعني الثوابت لأن المعروف عندهم أنها في الفلك الثامن ويجوز عقلا أن يكون بعضها في أفلاك فوق ذلك بل نص المحدثون لما قام عندهم على تفاوتها في الارتفاع ولم يشكوا في أن كثيرا منها أبعد من زحل بعدا عظيما وإذا اعتبرت الظواهر وقلنا بأنها في السماء الدنيا وإن تفاوتت في الارتفاع فذلك أيضا مما يأباه أن النجوم قد تأخذ أمكنتها من السماء وليس معها زحل. وبالجملة ما يعكر على هذا الخبر كثير وكونه كرم الله تعالى وجهه أراد كوكبا آخر هذا شأنه لا يخفى حاله والذي يقتضيه الإنصاف وترك التعصب أن الخبر مكذوب على الأمير رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه ، وجوز على إرادة الجنس أن يراد به جنس الشهب التي يرجم بها وليس بذاك وما روي أن أبا طالب كان عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فانحط نجم فامتلأ ماء ثم نور ففزع أبو طالب فقال : أي شيء هذا؟ فقال عليه الصلاة والسلام : «هذا نجم رمي به وهو آية من آيات الله تعالى» فعجب أبو طالب فنزلت لا يقتضي ذلك على ما لا يخفى. وزعم ابن عطية أن المراد ب (الطَّارِقِ) جميع ما يطرق من الأمور والمخلوقات فيعم النجم الثاقب وغيره ، ويكون معنى (وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ) حق الطارق بأن تكون أل في (مَا الطَّارِقُ) مثلها في أنت الرجل وما أدري ما الطارق على هذا الرجل حتى ركب هذا الطريق الوعر في التفسير وفي إيراد ذلك عند الإقسام به بوصف مشترك بينه وبين غيره ثم الإشارة إلى أن ذلك الوصف غير كاشف عن كنه أمره وأن ذلك مما لا يبلغه أفكار الخلائق ، ثم تفسيره بالنجم الثاقب من تفخيم شأنه وإجلال محله ما لا يخفى على ذي نظر ثاقب ، ولإرادة ذلك لم يقل ابتداء و (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) مع أنه أخصر وأظهر ولله عزوجل أن يفخم شأن ما شاء من خلقه لما شاء ولا دلالة فيه هاهنا على شيء مما يزعمه المنجمون في أمر النجوم زحل وغيره من التأثير في سعادة أو شقاوة أو نحوهما وجواب القسم قوله تعالى.

٣٠٦

(إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) وما بينهما اعتراض جيء به لما ذكر من تأكيد فخامة المقسم به المستتبع لتأكيد مضمون الجملة المقسم عليها ، وقيل جوابه قوله سبحانه (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) وما في البين اعتراض وهو كما ترى و (إِنْ) نافية و (لَمَّا) بمعنى إلّا ومجيئها كذلك لغة مشهورة كما نقل أبو حيان عن الأخفش في هذيل وغيرهم يقولون : أقسمت عليك أو سألتك لما فعلت كذا يريدون إلا وفعلت ، وبهذا رد على الجوهري المنكر لذلك. وقال الرضي : لا تجيء إلّا بعد نفي ظاهر أو مقدر ولا تكون إلا في المفرغ أي بخلاف. إلّا و (كُلُ) لتأكيد العموم لتحقق أصله من وقوع النكرة في سياق النفي وهو مبتدأ والخبر على المشهور (حافِظٌ) و (عَلَيْها) متعلق به وعلى ما سمعت عن الرضي محذوف أي ما كل نفس كائنة في حال من الأحوال إلا في حال أن يكون عليها حافظ أي مهيمن ورقيب وهو الله عزوجل كما في قوله تعالى (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) [الأحزاب : ٥٢].

إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل

خلوت ولكن قل عليّ رقيب

وقيل : هو من يحفظ عملها من الملائكة عليهم‌السلام ويحصي عليها ما تكسب من خير أو شر كما في قوله تعالى (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ) [الانفطار : ١٠ ، ١١] الآية. وروي ذلك عن ابن سيرين وقتادة وغيرهما وخصصوا النفس بالمكلفة ، وقيل : هو ومن وكل على حفظها والذب عنها من الملائكة كما في قوله تعالى (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [الرعد : ١١] وعن أبي أمامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبّون عنه كما يذب عن قصعة العسل الذباب ، ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين». وقيل : هو العقل يرشد المرء إلى مصالحه ويكفه عن مضاره. وقرأ الأكثر لما بالتخفيف ، فعند الكوفيين (إِنْ) نافية كما سبق واللام بمعنى إلّا ، وما زائدة. وصرحوا هنا بأن (كُلُ) و (حافِظٌ) مبتدأ وخبر فلا تغفل. وعند البصريين إن مخففة من الثقيلة و (كُلُ) مبتدأ و (ما) زائدة واللام هي الداخلة للفرق بين إن النافية وإن المخففة و (حافِظٌ) خبر المبتدأ و (عَلَيْها) متعلق به وقدر لأن ضمير الشأن وتعقب بأنه لا حاجة إليه لأنه في غير المفتوحة ضعيف لعدم العمل مع أنه مخل بإدخال اللام الفارقة لأنه إذا كان الخبر جملة فالأولى إدخال اللام على الجزء الأول كما صرح به في التسهيل ، وإدخالها على الجزء الثاني كما صرح به بعض الأفاضل في حواشيه عليه ، ولعل من قال أي إن الشأن كل نفس لعليها حافظ لم يرد تقدير الضمير وإنما أراد بيان حاصل المعنى. وحكى هارون أنه قرئ «إنّ» بالتشديد «وكلّ» بالنصب و «لما» بالتخفيف فاللام هي الداخلة في خبر «إن» و «ما» زائدة وعلى جميع القراءات أمر الجوابية ظاهر لوجود ما يتلقى به القسم وتلقيه بالمشددة مشهور وبالمخففة (تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) [الصافات : ٥٦] وبالنافية (وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما) [فاطر : ٤١] وقوله تعالى (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ) متفرع على ما قبله وليست الفاء بفصيحة خلافا للطيبي إذ لا يحتاج إلى حذف في استقامة الكلام إما على تقدير أن يكون الحافظ هو الله عزوجل أو الملك الذي وكله تعالى شأنه للحفظ على الوجه الذي سمعت فلأنه لما أثبت سبحانه أن عليه رقيبا منه تعالى حثه على النظر المعرف لذلك مع أوصافه ، كأنه قيل فليعرف المهيمن عليه بنصبه الرقيب أو بنفسه ، وليعلم رجوعه إليه تعالى ، وليفعل ما يسر به حال الرجوع. وعبر عن الأول بقوله تعالى (فَلْيَنْظُرِ) ليبين طريقه المعرفة فهو بسط فيه إيجاز وأدمج فيه الأخيران وإما على تقدير أن يكون المراد به العقل فلأنه لما أثبت سبحانه أن له عقلا يرشد إلى المصالح ويكف عن المضار حثه على استعماله فيما ينفعه وعدم تعطيله وإلغائه كأنه قيل : فلينظر بعقله وليتفكر به في مبدأ خلقه حتى يتضح له قدرة واهبه وأنه إذا قدر

٣٠٧

على إنشائه من مواد لم تشم رائحة الحياة قط فهو سبحانه على إعادته أقدر وأقدر فيعمل بما يسر به حين الإعادة وقد يقرر التفريع على جميع الأوجه بنحو واحد فتأمل و (مِمَّ خُلِقَ) استفهام ومن متعلقة بخلق والجملة في موضع نصب بينظر وهي معلقة بالاستفهام.

وقوله تعالى (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) استئناف وقع جوابا عن استفهام مقدر كأنه قيل : مم خلق؟ فقيل (خُلِقَ مِنْ ماءٍ) إلخ وظاهر كلام بعض الأجلّة أنه جواب الاستفهام المذكور مع تعلق الجار بينظر. وفيه مسامحة ، وكأن المراد أنه على صورة الجواب وجعله جوابا له حقيقة على أنه مقطوع عن ينظر ليس بشيء عند من له نظر. والدفق صب فيه دفع وسيلان بسرعة ، وأريد بالماء الدافق المني ، و (دافِقٍ) قيل بمعنى مدفوق على تأويل اسم الفاعل بالمفعول. وقد قرأ بذلك زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما. وقال الخليل وسيبويه هو على النسب كلابن وتامر أي ذي دفق وهو صادق على الفاعل والمفعول. وقيل : هو اسم فاعل وإسناده إلى الماء مجاز وأسند إليه ما لصاحبه مبالغة أو هو استعارة مكنية وتخييلية كما ذهب إليه السكاكي أو مصرحة بجعله دافقا لأنه لتتابع قطراته كأنه يدفق أي يدفع بعضه بعضا. وقد فسر ابن عطية الدفق بالدفع ، فقال : الدفق دفع الماء بعضه ببعض يقال : تدفق الوادي والسيل إذا جاء يركب بعضه بعضا ويصح أن يكون الماء دافقا لأن بعضه يدفع بعضا فمنه دافق ومنه مدفوق ، وتعقبه أبو حيان بأن الدفق بمعنى الدفع غير محفوظ في اللغة بل المحفوظ أنه الصب ، ونقل عن الليث أن دفق بمعنى انصبّ بمرة فدافق بمعنى منصب فلا حاجة إلى التأويل ، وتعقب بأنه مما تفرد به الليث كما في القاموس وغيره وقيل : من ماء مع أن الإنسان لا يخلق إلّا من ماءين ماء الرجل وماء المرأة ، ولذا كان خلق عيسى عليه‌السلام خارقا للعادة لأن المراد به الممتزج من الماءين في الرحم وبالامتزاج صارا ماء واحدا ، ووصفه بالدفق قيل باعتبار أحد جزأيه وهو مني الرجل ، وقيل باعتبار كليهما ومني المرأة دافق أيضا إلى الرحم ويشير إلى إرادة الممتزج على ما قيل. قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ) أي من بين أجزاء صلب كل رجل أي ظهره (وَالتَّرائِبِ) أي ومن بين ترائب كل امرأة أي عظام صدرها جمع تريبة ، وفسرت أيضا بموضع القلادة من الصدر. وروي عن ابن عباس وهو لكل امرأة واحد إلا أنه يجمع كما في قوله امرئ القيس :

مهفهفة بيضاء غير مفاضة

ترائبها مصقولة كالسجنجل

باعتبار ما حوله على ما في البحر وجاء في المفرد تريب كما في قول المثقب العبدي :

ومن ذهب يبين على تريب

كلون العاج ليس بذي غضون

وحمل الآية على ما ذكر مروي عن سفيان وقتادة إلّا أنهما قالا : أي يخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة ، وظاهره كالآية أن أحد الطرفين للبينية الصلب والآخر الترائب وهو غير ما قلناه ، وعليه قيل : هو كقولك يخرج من بين زيد وعمرو خير كثير على معنى أنهما سببان فيه ، وقيل إن ذلك باعتبار أن الرجل والمرأة يصيران كالشيء الواحد فكان الصلب والترائب لشخص واحد فلا تغفل. ثم إن ما تقدم مبني إما على أن الترائب مخصوصة بالمرأة كما هو ظاهر كلام غير واحد ، وإما على حمل تعريفها على العهد وقال الحسن وروي عن قتادة أيضا : أن المعنى يخرج من بين صلب كل واحد من الرجل والمرأة وترائب كل منهما ، ولم يفسر الترائب فقيل عظام الصدر ، وقيل ما بين الثديين ، وقيل ما بين المنكبين والصدر ، وقيل التراقي ، وقيل أربع أضلاع من يمنة الصدر وأربع من يسرته. وعن ابن جبير الأضلاع التي هي أسفل الصلب وحكى مكي عن

٣٠٨

ابن عباس أنها أطراف المرء رجلاه ويداه وعيناه والأشهر أنها عظام الصدر وموضع القلادة منه ، وطعن في ذلك على ما قال الإمام بعض الملاحدة خذلهم الله تعالى بأن المني إنما يتولد من فضلة الهضم الرابع وينفصل من جميع أجزاء البدن فيأخذ من كل عضو طبيعة وخاصية مستعدا لأن يتولد منه تلك الأعضاء وإن كان المراد أن معظم أجزاء المني تتولد في ذينك الموضعين فهو ضعيف لأن معظمه إنما يتولد في الدماغ ألا ترى أنه في صورته يشبه الدماغ والمكثر منه يظهر الضعف أولا في دماغه وعينيه وإن كان المراد أن مستقره هناك فهو ضعيف أيضا لأن مستقره عروق يلتف بعضها بالبعض عند البيضتين وتسمى أوعية المني وإن كان المراد أن مخرجه هناك فهو أيضا كذلك لأن الحس يدل على خلافه. وأجاب رحمه‌الله تعالى بأن لا شك أن أعظم الأعضاء معونة في توليد المني الدماغ وخليفته النخاع في الصلب وشعب نازلة إلى مقدم البدن وهي التربية فلذا خصّا بالذكر على أن كلامهم في أمر المني وتولده محض الوهم والظن الضعيف وكلام الله تعالى المجيد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهو المقبول والمعول عليه ا ه. وفي الكشف أقول النخاع بين الصلب والترائب ولا يحتاج إلى تخصيص التريبة بالنساء فقد يمنع الشعب النازلة على أن تلك الشعب إن كانت فهي أعصاب لا ذات تجاويف ، والوجه والله تعالى أعلم أن النخاع والقوى الدماغية والقلبية والكبدية كلها تتعاون في إبراز ذلك الفضل على ما هو عليه قابلا لأن يصير مبدأ الشخص على ما بيّن في موضعه. وقوله سبحانه (مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) عبارة مختصرة جامعة لتأثير الأعضاء الثلاثة ، فالترائب يشمل القلب والكبد وشمولها للقلب أظهر ، والصلب النخاع وبتوسطه الدماغ ولعله لا يحتاج إلى التنبيه على مكان الكبد لظهوره ذلك لأنه دم نضيج وإنما احتيج إلى ما خفي وهو أمر الدماغ والقلب في تكون ذلك الماء فنبه على مكانهما وقيل : ابتداء الخروج منه كما أن انتهاءه بالإحليل انتهى. وقيل : لو جعل ما بين الصلب والترائب كناية عن البدن كله لم يبعد وكان تخصيصهما بالذكر لما أنهما كالوعاء للقلب الذي هو المضغة العظمى فيه وأمر هذه الكناية على ما حكى مكي عن ابن عباس في الترائب أظهر. وزعم بعضهم جواز كون الصلب والترائب للرجل أي يخرج من بين صلب كل رجل وترائبه فالمراد بالماء الدافق ماء الرجل فقط ، وجعل الكلام إما على التغليب أو على أنه لا ماء للمرأة أصلا فضلا عن الماء الدافق كما قيل به ولا يخفى ما فيه ، والقول بأن المرأة لا ماء لها تكذبه الشريعة وغيرها. وقرأ ابن أبي عبلة وابن مقسم «يخرج» مبنيا للمفعول وهما أهل مكة وعيسى «الصلب» بضم الصاد واللام واليماني بفتحهما وروي على اللغتين قول العجاج :

ريا العظام فخمة المخدم

في صلب مثل العنان المؤدم

وفيه لغة رابعة وهي صالب كما في قول العباس :

تنقل من صالب إلى رحم

وهي قليلة الاستعمال واستشهد بعض الأجلة بقوله تعالى (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) على أن الإنسان هو الهيكل المخصوص كما ذهب إليه جمهور المتكلمين النافين للنفس الناطقة الإنسانية المجردة التي ليست داخل البدن ولا خارجه. وقال إنه شاهد قوي على ذلك وتأويله على حذف المضاف أي خلق بدن الإنسان لا يسمع ما لم يقم برهان على امتناع ظاهره انتهى. وأنت تعلم أن القائلين بالنفس الناطقة المجردة قد أقاموا فيما عندهم براهين على إثباتها نعم إن فيها أبحاثا للنافين وتحقيق ذلك بما لا مزيد عليه في كتاب الروح للعلامة ابن القيم عليه الرحمة (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) الضمير الأول للخالق تعالى شأنه وكما فخم أولا بترك الفاعل في قوله تعالى (مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ)

٣٠٩

إذ لا يذهب إلى خالق سواه عزوجل فخم بالإضمار ثانيا ، والضمير الثاني للإنسان أي إن ذلك الذي خلقه ابتداء مما ذكر على إعادته بعد موته لبين القدرة وهذا كما في قوله :

لئن كان تهدي برد أنيابها العلى

لأفقر مني إنني لفقير

فإنه أراد لبين الفقر وإلّا لم يصح إيراده في مقابلة لأفقر مني والتأكيد البالغ لفظا لما قام عليه البرهان الواضح معنى ، ولذا فسر (قادر) هنا يبين القدرة كما في الكشاف واعتبر فيه أيضا الاختصاص ، فقال : أي على إعادته خصوصا وكأن ذلك لأن الغرض المسوق له الكلام ذلك فكأن ما سواه مطرح بالنسبة إليه وحينئذ يراد ما ذكر جعل الجار من صلة لقادر أو مدلولا على موصوله به على المذهبين ، وفصل الجملة عما سبق لكونه جواب الاستفهام دونها. وقال مجاهد وعكرمة : الضمير الثاني للماء أي إنه تعالى على رد الماء في الإحليل أو في الصلب لقادر وليس بشيء ومثله كون المعنى على تقدير كونه للإنسان أنه جل وعلا رده من الكبر إلى الشباب لقادر كما روي عن الضحاك وما ذكرناه أولا مروي عن ابن عباس (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) أي يتعرف ويتصفح ما أسر في القلوب من العقائد والنيات وغيرها ومما أخفى من الأعمال ويميز بين ما طاب منها وما خبث ، وأصل الابتلاء الاختبار وإطلاقه على ما ذكر إطلاق على اللازم وحمل السرائر على العموم هو الظاهر. وأخرج ابن المنذر عن عطاء ويحيى بن أبي كثير أنها الصوم والصلاة والغسل من الجنابة. وأخرج البيهقي في الشعب عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ضمن الله تعالى خلقه أربعا الصلاة والزكاة وصوم رمضان والغسل من الجنابة وهن السرائر التي قال الله تعالى (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ)» وفي البحر ضم التوحيد إليها ولعل المراد بيان عظيمها على سبيل المبالغة لا حقيقة الحصر وسمع الحسن من ينشد قول الأحوص :

سيبقى لها في مضمر القلب والحشا

سريرة ود يوم تبلى السرائر

فقال : ما أغفله عما في (السَّماءِ وَالطَّارِقِ) وكأنه حمل البقاء فيه على عدم التعرف أصلا فليفهم ويوم عند جمع من الحذاق ظرف لمحذوف يدل عليه أي يرجعه يوم إلخ. وقال الزمخشري وجماعة : ظرف لرجعه واعترض بأن فيه فصلا بين المصدر ومعموله بأجنبي وأجيب تارة بأنه جائز لتوسعهم في الظروف وأخرى بأن الفاصل هنا غير أجنبي لأنه إما تفسير أو عامل على المذهبين وقال عصام الدين : إن الفصل بهذا الأجنبي كلا فصل لأن المعمول في نية التقديم عليه وإنما أخّر لرعاية الفاصلة وفيه ما لا يخفى. وقيل : ظرف لناصر بعد وتعقبه أبو حيان بأنه فاسد لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها وكذلك ما النافية على المشهور المنصور وقيل معمول لأذكر محذوفا وهو كما ترى ، ويتعين هو أو ما قبله على رأي مجاهد وعكرمة ورأى الضحاك السابقين آنفا وجوز الطبرسي تعلقه بقادر ولم يعلقه جمهور المعربين به لأنه يوهم اختصاص قدرته عزوجل بيوم دون يوم كما قال غير واحد. وقال ابن عطية : فروا من أن يكون العامل (لَقادِرٌ) للزوم تخصيص القدرة في ذلك اليوم وحده وإذا تؤمل المعنى وما يقتضيه فصيح كلام العرب جاز أن يكون العامل وذلك أنه تعالى قال (عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) على الإطلاق أو وآخرا وفي كل وقت ثم ذكر سبحانه من الأوقات الوقت الأعظم على الكفار لأنه وقت الجزاء والوصول إلى العذاب ليجتمع الناس على حذره والخوف منه انتهى وهو على ما فيه لا يدفع الإيهام (فَما لَهُ) أي الإنسان (مِنْ قُوَّةٍ) في نفسه يمتنع بها (وَلا ناصِرٍ) ينتصر به (وَالسَّماءِ) وهي المظلة في قول الجمهور (ذاتِ الرَّجْعِ) أي المطر في قولهم أيضا كما في قوله الخنساء :

يوم الوداع ترى دموعا جاريه

كالرجع في (١) المدجنة السارية

__________________

(١) كذا في خط المؤلف وليحرر الوزن اه.

٣١٠

وأصله مصدر رجع المتعدي واللازم أيضا في قول ومصدره الخاص به الرجوع سموا به المطر كما سموه بالأب مصدر آب ومنه قوله :

رياء شماء لا يأوي لقلتها

إلا السحاب وإلا الأوب والسبل

ليرجع أو لأن السحاب يحمله من بحار الأرض ثم يرجعه إلى الأرض ، وبنى هذا غير واحد على الزعم وفيه بحث وعن أو المراد به فيه النحل لأن الله تعالى يرجعه حينا فحينا ، وقال الحسن : لأنه يرجع بالرزق كل عام أو أرادوا بذلك التفاؤل. ابن عباس ومجاهد تفسير السماء بالسحاب والرجع بالمطر وقال ابن زيد (السَّماءِ) هي المعروفة و (الرَّجْعِ) رجوع الشمس والقمر والكواكب من حال إلى حال ومن منزلة إلى منزلة فيها وقبل رجوعها نفسها فإنها ترجع في كل دورة إلى الموضع الذي تتحرك منه وهذا مبني على أن السماء والفلك واحد فهي تتحرك ويصير أوجها حضيضا وحضيضها أوجا وقد سمعت فيما تقدم أن ظاهر كلام السلف أن السماء غير الفلك وأنها لا تدور ولا تتحرك والذي ذكر رأي الفلاسفة ومن تابعهم. وقيل (الرَّجْعِ) الملائكة عليهم‌السلام سموا بذلك لرجوعهم بأعمال العباد (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) هو ما تتصدع عنه الأرض من النبات وأصله الشق سمّي به النبات مجازا ، أو هو مصدر من المبني للمفعول فالمراد تشققها بالنبات وروي ذلك عن عطية وابن زيد ، وقيل : تشققها بالعيون ، وتعقب بأن وصف السماء والأرض عند الإقسام بهما على حقيقة القرآن الناطق بالبعث بما ذكر من الوصفين للإيماء إلى أنهما في أنفسهما من شواهده ، وهو السر في التعبير عن المطر بالرجع وذلك في تشقق الأرض بالنبات المحاكي للنشور حسبما ذكر في مواضع من التنزيل لا في تشققها بالعيون ، ويعلم منه ما في تفسير الرجع بغير المطر وكذا ما في قوله مجاهد (الصَّدْعِ) ما في الأرض من شقاق وأودية وخنادق وتشقق بحرث وغيره وما روي عنه أيضا (الصَّدْعِ) الطرق تصدعها المشاة وقيل ذات الأموات لانصداعها عنهم للنشور (إِنَّهُ) أي القرآن الذي من جملته هذه الآيات الناطقة بمبدإ حال الإنسان ومعاده وهو أولى من جعل الضمير راجعا لما تقدم أي ما أخبرتكم به من قدرتي على حيائكم لأن القرآن يتناول ذلك تناولا أوليا. وقوله تعالى (لَقَوْلٌ فَصْلٌ) أنسب به والمراد لقول فاصل بين الحق والباطل قد بلغ الغاية في ذلك حتى كأنه نفس الفصل وقيل مقابلة الفصل بالهزل بعد يستدعي أن يفسر بالقطع أي قول مقطوع به والأول أحسن (وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) أي ليس في شيء منه شائبة هزل بل كله جد محض فمن حقه أن يهتدي به الغواة وتخضع له رقاب العتاة. وفي حديث أخرجه الترمذي والدارمي وابن الأنباري عن الحارث الأعور عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنها ستكون فتنة» قلت : فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال : «كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم هو الذي لا تزيغ فيه الأهواء ولا تشبع منه العلماء ولا تلتبس به الألسن ولا يخلق عن الرد ، ولا تنقضي عجائبه هو الذي لم تلته الجن لما سمعته عن أن قالوا (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) [الجن : ١ ، ٢] من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن هدى به هدي إلى صراط مستقيم» وفي هذا من الرد على الذين نبذوه وراء ظهورهم ما فيه.

(إِنَّهُمْ) أي كفار مكة (يَكِيدُونَ) يعملون المكايد في إبطال أمره وإطفاء نوره أو في إبطال أمر الله

٣١١

تعالى وإطفاء نور الحق والأول أتم انتظاما وهذا قيل أملأ فائدة (كَيْداً) أي عظيما حسبا تفي به قدرتهم ، والجملة تحتمل أن تكون استئنافا بيانيا كأنه قيل : إذا كان حال القرآن ما ذكر فما حال هؤلاء الذين يقولون فيه ما يقولون فقيل (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً) أي أقابلهم بكيد متين لا يمكن رده حيث استدرجهم من حيث لا يعلمون أو أقابلهم بكيدي في إعلاء أمره وإكثار نوره من حيث لا يحتسبون والفصل لهذا ، وقيل لئلا يتوهم عطفها على جواب القسم مع أنها غير مقسم عليها (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ) فلا تشتغل بالانتقام منهم ولا تدع عليهم بالهلاك أو تأن وانتظر الانتقام منهم ولا تستعجل ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن الإخبار بتوليه تعالى لكيدهم بالذات وعدم إهمالهم مما يوجب إمهالهم وترك التصدي لمكايدتهم قطعا ووضع الظاهر موضع الضمير لذمهم بأبي الخبائث وأمها ، وقيل للإشعار بعلة ما تضمنه الكلام من الوعيد وقوله تعالى (أَمْهِلْهُمْ) بدل من مهل على ما صرح به في الإرشاد وقوله سبحانه (رُوَيْداً) إما مصدر مؤكد لمعنى العامل أو نعت لمصدره المحذوف أي أمهلهم إمهالا رويدا أي قريبا كما أخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس أو قليلا كما روي عن قتادة. وأخرج ابن المنذر عن السدّي أنه قال أي أمهلهم حتى آمر بالقتال ولعله المراد بالإمهال القريب أو القليل. واختار بعضهم أن يكون المراد إلى يوم القيامة لأن ما وقع بعد الأمر بالقتال كالذي وقع يوم بدر وفي سائر الغزوات لم يعم الكل وما يكون يوم القيامة يعمهم والتقريب باعتبار أن كل آت قريب وعلى هذا النحو التقليل على أن من مات فقد قامت قيامته ، والظاهر ما قال السدي وقد عراهم بعد الأمر بالقتال ما عراهم وعدم العموم الحقيقي لا يضر وهو في الأصل على ما قال أبو عبيدة تصغير رود بالضم وأنشد :

كأنها ثمل تمشي على رود

اي على مهل وقال أبو حيان وجماعة تصغير إرواد مصدر رود يرود بالترخيم وهو تصغير تحقير وتقليل وله في الاستعمال وجهان آخران كونه اسم فعل نحو رويدا زيد أي أمهله وكونه حالا نحو سار القوم رويدا أي متمهلين غير مستعجلين ، ولم يذكر أحد احتمال كونه اسم فعل هنا وصرح ابن الشيخ بعدم جريانه وعلل ذلك بأن الأوامر بمعنى فكأنه قيل : أمهل الكافرين أمهلهم وفائدة التأكيد تحصل بالثاني فيلغو الثالث وفي التعليل نظر فقد يسلك في التأكيد بألفاظ متحدة لفظا ومعنى نحو ذلك ففي الحديث : «أيما امرأة أنكحت نفسها بدون ولي فنكحها باطل باطل باطل» ولا فرق بين الجمل والمفردات نعم هو خلاف الظاهر جدا. وجوز رحمه‌الله كونه حالا أي أمهلهم غير مستعجل ، والظاهر أنه حال مؤكدة كما في قوله تعالى (لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [البقرة : ٦٠] فلا تغفل وهو أيضا بعيد وظاهر كلام أبي حيان وغيره أن الأمر الثاني توكيد للأول قالوا : والمخالفة بين اللفظين في البنية لزيادة تسكينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتصبيره عليه الصلاة والسلام ، وإنما دلت الزيادة من حيث الإشعار بالتغاير كأن كلّا كلام مستقل بالأمر بالتأني فهو أوكد من مجرد التكرار وقرأ ابن عباس «مهّلهم» بفتح الميم وشد الهاء وموافقة للفظ الأمر الأول.

٣١٢

سورة الأعلى

وتسمى سورة سبح ، والجمهور على أنها مكية وحكى ابن الفرس عن بعضهم أنها مدنية لذكر صلاة العيد وزكاة الفطر فيها ، ورده الجلال السيوطي بما أخرج البخاري وابن سعد وابن أبي شيبة عن البراء بن عازب قال : أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم فجعلا يقرآن القرآن ثم جاء عمار وبلال وسعد ثم جاء عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه في عشرين ثم جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به عليه الصلاة والسلام حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون : هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد جاء فما جاء عليه الصلاة والسلام حتى قرأت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) في سور مثلها ثم أن ذكر صلاة العيد وزكاة الفطر فيها غير مسلم ولو سلم فلا دلالة فيه على ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى تفصيله ، وهي تسع عشرة آية بلا خلاف ووجه مناسبتها لما قبلها أنه ذكر في سورة الطارق خلق الإنسان وأشير إلى خلق النبات بقوله تعالي (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) [الطارق : ١٢] وذكرا هاهنا في قوله تعالى (خَلَقَ فَسَوَّى) [الأعلى : ٢] وقوله سبحانه (أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) [الأعلى : ٤ ، ٥] وقصة النبات هنا أوضح وأبسط كما أن قصة خلق الإنسان هناك كذلك ، نعم إن ما في هذه السورة أعم من جهة شموله للإنسان وسائر المخلوقات وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحبها. أخرج الإمام أحمد والبزار وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب هذه السورة (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) وجاء في حديث أخرجه أبو عبيد عن أبي تميم أنه عليه الصلاة والسلام سماها أفضل المسبحات. وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه والبيهقي عن عائشة قالت : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في الوتر في الركعة الأولى (سَبِّحِ) وفي الثانية (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) وفي الثالثة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) والمعوذتين وفي حديث أخرجه المذكورون وغيرهم إلّا الترمذي عن أبيّ بن كعب نحو ذلك بيد أنه ليس فيه المعوذتان. وأخرج ابن أبي شيبة والإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) و (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) وإن وافق يوم الجمعة قرأهما جميعا. وأخرج الطبراني عن عبد الله بن الحارث قال : آخر صلاة صلاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المغرب فقرأ في الركعة الأولى بسبح اسم ربك الأعلى وفي الثانية بقل يا أيها الكافرون.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ

٣١٣

الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى)(١٩)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) أي نزه أسماءه عزوجل عما لا يليق فلا تؤول مما ورد منها اسما من غير مقتض ولا تبقه على ظاهره إذا كان ما وضع له مما لا يصح له تعالى ولا تطلقه على غيره سبحانه أصلا إذا كان مختصا كالاسم الجليل أو على وجه يشعر بأنه تعالى والغير فيه سواء إذ لم يكن مختصا فلا تقل لمن أعطاك شيئا مثلا : هذا رازقي على وجه يشعر بذلك ، وصنه عن الابتذال والتلفظ به في محل لا يليق به كالخلاء وحالة التغوط وذكره لأعلى وجه الخشوع والتعظيم ، وربما يعد مما لا يليق ذكره عند من يكره سماعه من غير ضرورة إليه. وعن الإمام مالك رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا لم يجد ما يعطي السائل يقول : ما عندي ما أعطيك أو ائتني في وقت آخر أو نحو ذلك ، ولا يقول نحو ما يقول الناس يرزقك الله تعالى أو يبعث الله تعالى لك أو يعطيك الله تعالى أو نحوه ، فسئل عن ذلك فقال : إن السائل أثقل شيء على سمعه وأبغضه إليه قول المسئول له ، ما يفيده رده وحرمانه ، فأنا أجلّ اسم الله سبحانه من أن أذكره لمن يكره سماعه ولو في ضمن جملة وهذا منه رضي الله تعالى عنه غاية في الورع. وما ذكر من التفسير مبني على الظاهر من أن لفظ اسم غير مقحم ، وذهب كثير إلى أنه مقحم وهو قد يقحم لضرب من التعظيم على سبيل الكناية ومنه قوله لبيد :

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

فالمعنى نزه ربك عما لا يليق به من الأوصاف واستدل لهذا بما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة وغيرهم عن عقبة بن عامر الجهني قال : لما نزلت (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة : ٧٤] قال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اجعلوها في ركوعكم» فلما نزلت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال : «اجعلوها في سجودكم». ومن المعلوم أن المجهول فيهما سبحان ربي العظيم وسبحان ربي الأعلى وبما أخرج الإمام أحمد وأبو داود والطبراني والبيهقي في سننه عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قرأ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال: «سبحان ربي الأعلى» وروى عبد بن حميد وجماعة أن عليا كرم الله تعالى وجهه قرأ ذلك فقال سبحان ربي الأعلى وهو في الصلاة فقيل له أتزيد في القرآن قال لا إنما أمرنا بشيء ففعلته. وفي الكشاف تسبيح اسمه تعالى تنزيهه عما لا يصح فيه من المعاني التي هي إلحاد في أسمائه سبحانه كالجبر والتشبيه مثلا وأن يصان عن الابتذال والذكر لا على وجه الخشوع والتعظيم فجعل المعنيين على ما قيل راجعين إلى الاسم وإن كان الأول بالحقيقة راجعا إليه عزوجل لكن كما يصح أن يقال نزه الذات عما لا يصح له من الأوصاف أن يقال أيضا نزه أسماءه تعالى الدالّة على الكمال عما لا يصح فيه من خلافه وليس المعنى الأول مبنيا على أن لفظ اسم مقحم ولا على أن المراد به المسمى إطلاقا لاسم الدال على المدلول نعم قال به بعضهم هنا وهو إن كان للأخبار السابقة كما في دعوى الإقحام فلا بأس ، وإن كان لظن أن التسبيح لا يكون للألفاظ الموضوعة له تعالى فليس بشيء لفساد هذا الظن بظهور أن التسبيح يكون لها كما سمعت وقد قال الإمام إنه كما يجب تنزيه ذاته تعالى وصفاته حلّ وعلا عن النقائص يجب تنزيه الألفاظ

٣١٤

الموضوعة لذلك عن الرفث وسوء الأدب ، ومن هذا يعلم ما في التعبير عنه تعالى شأنه بنحو ليلى ونعم كما يدعي ذلك في قول ابن الفارض قدس‌سره :

أبرق بدا من جانب الغور لامع

أم ارتفعت عن وجه ليلى البراقع

وقوله :

إذا أنعمت نعم عليّ بنظرة

فلا أسعدت سعدى ولا أجملت جمل

إلى غير ذلك من أبياته وقد عاب ذلك بعض الأجلّة وعدّه من سوء الأدب ومخالفا لقوله تعالى (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) [الأعراف : ١٨٠] الآية وأجاب بعضهم بأن ذلك ليس من الوضع في شيء وفهم الحضرة الإلهية من تلك الألفاظ إنما هو بطريق الإشارة كما قالوا في فهم النفس الأمارة من البقرة مثلا في قوله تعالى (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) [البقرة : ٦٧] والمنكر لا يقنع بهذا والأظهر أن يقال : إن الكلام المورد فيه ذلك من قبيل الاستعارة التمثيلية ولا نظر فيها إلى تشبيه المفردات بالمفردات فليس فيه التعبير عنه عزوجل بليلى ونحوها ، واستعمال الاستعارة التمثيلية في شأنه تعالى مما لا بأس به حتى إنهم قالوه في البسملة كما لا يخفى على من تتبع رسائلهم فيها هذا ولعل عندهم خيرا منه. وقال جمع : الاسم بمعنى التسمية والمعنى نزه تسمية ربك بأن تذكره وأنت له سبحانه معظم ولذكره جل شأنه محترم ، وأنت تعلم أن هذا يندرج في تسبيح الاسم كما تقدم. وعن ابن عباس أن المعنى صل باسم ربك الأعلى كما تقول : ابدأ باسم الله تعالى ، وحذف حرف الجر حكاه في البحر ولا أظن صحته. وقال عصام الدين : لا يبعد أن يراد الاسم الأثر أي سبح آثار ربك الأعلى عن النقصان فإن أثره تعالى دال عليه سبحانه كالاسم فيكون منعا عن عيب المخلوقات أي من حيث إنها مخلوقة له تعالى على وجه ينافي قوله تعالى (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [الملك : ٣] ولا يخفى بعده وإن كان فيما بعد من الصفات ما يستأنس به له ، وأنا أقول إن كان (سَبِّحِ) بمعنى نزه فكلا الأمرين من كون اسم مقحما وكونه غير مقحم وتعلق التسبيح به على الوجه الذي سمعت محتمل غير بعيد ، وإذا كان معناه قل سبحان كما هو المعروف فيما بينهم فكونه مقحما متعين إذ لم يسمع سلفا وخلفا من يقول سبحان اسم ربي الأعلى أو سبحان اسم الله ، والأخبار ظاهرة في ذلك وحمل ما فيها على اختيار الأخصر المستلزم لغيره كما ترى ويؤيد هذا قراءة أبيّ بن كعب كما في خبر سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن جبير «سبحان ربي الأعلى» وأما ما قيل من أن الاسم عين المسمى واستدل عليه بهذه الآية ونحوها فهو مما لا يعول عليه أصلا وقد تقدم الكلام أول الكتاب فارجع إليه إن أردته و (الْأَعْلَى) صفة للرب وأريد بالعلو القهر والاقتدار لا بالمكان لاستحالته عليه سبحانه والسلف وإن لم يؤولوه بذلك لكنهم أيضا يقولون باستحالة العلو المكاني عليه عزوجل وجوز جعله صفة لاسم وعلوه ترفعه عن أن يشاركه اسم في حقيقة معناه. واستشكل بأن قوله تعالى (الَّذِي خَلَقَ) إلخ إن كان صفة للرب كما هو الظاهر لزم الفصل بين الموصوف وصفته بصفة غيره وهو لا يجوز فلا يقال : رأيت غلام هند العاقل الحسنة ، وإن كان صفة لاسم أيضا اختل المعنى إذ الاسم لا يتصف بالخلق وما بعده. وأجيب باختيار الثاني ولا اختلال إما لأن الاسم بمعنى المسمى ، أو لأنه لما كان مقحما كان (اسْمَ رَبِّكَ) بمنزلة ربك فصح وصفه بما يوصف به الرب عزوجل وفيه نظر والجواب المقبول أن (الَّذِي) على ذلك التقدير إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو منصوب على المدح ، ومفعول (خَلَقَ) محذوف ولذا قيل بالعموم أي

٣١٥

الذي خلق كل شيء (فَسَوَّى) أي فجعله متساويا وهو أصل معناه والمراد فجعل خلقه كما تقتضيه حكمته سبحانه في ذاته وصفاته وفي معناه ما قيل أي فجعل الأشياء سواء في باب الأحكام والإتقان لا أنه سبحانه أتقن بعضا دون بعض ، وردّ بما دلت عليه الآية من العموم على المعتزلة في زعمهم أن العبد خالق لأفعاله والزمخشري مع أن مذهبه مذهبهم قال هنا بالعموم ولعله لم يرد العموم الحقيقي أو أراده لكن على لمعنى خلق كل شيء إما بالذات أو بالواسطة ، وجعل ذلك في أفعال العباد بأقداره سبحانه وتمكينهم على خلقها باختيارهم وقدرهم الموهوبة لهم ، وعن الكلبي خلق كل ذي روح فسوّى بين يديه وعينيه ورجليه. وعن الزجاج خلق الإنسان فعدّل قامته ولم يجعله منكوسا كالبهائم وفي كل تخصيص لا يقتضيه ظاهر الحذف (وَالَّذِي قَدَّرَ) أي جعل الأشياء على مقادير مخصوصة في أجناسها وأنواعها وأفرادها وصفاتها وأفعالها وآجالها (فَهَدى) فوجه كل واحد منها إلى ما يصدر عنه وينبغي له طبعا أو اختيارا ويسره لما خلق له بخلق الميول والإلهامات ونصب الدلائل وإنزال الآيات ، فلو تتبعت أحوال النباتات والحيوانات لرأيت في كل منها ما تحار فيه العقول وتضيق عنه دفاتر النقول. وأما فنون هداياته سبحانه وتعالى للإنسان على الخصوص ففوق ذلك بمراحل وأبعد منه ثم أبعد وأبعد بألوف من المنازل وهيهات أن يحيط بها فلك العبارة والتحرير ولا يكاد يعلمها إلّا اللطيف الخبير :

أتزعم أنك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

وقيل أي والذي قدر الخلق على ما خلقهم فيه من الصور والهيئات ، وأجرى لهم أسباب معاشهم من الأرزاق والأقوات ، ثم هداهم إلى دينه ومعرفة توحيده بإظهار الدلالات والبينات. وقيل قدر أقواتهم وهداهم لطلبها. وعن مقاتل والكلبي قدرهم ذكرانا وإناثا وهدى الذكر كيف يأتي الأنثى وعن مجاهد قدر الإنسان والبهائم وهدى الإنسان للخير والشر والبهائم للمراتع. وعن السدّي قدر الولد في البطن تسعة أشهر أو أقل أو أكثر وهداه للخروج منه للتمام وقيل قدر المنافع في الأشياء وهدى الإنسان لاستخراجها والأولى ما ذكر أولا ولعل ما في سائر الأقوال من باب التمثيل لا التخصيص. وزعم الفرّاء أن في الآية اكتفاء والأصل فهدى وأضل وليس بشيء. وقرأ الكسائي «قدر» بالتخفيف من القدرة أو التقدير (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) أي أنبت ما ترعاه الدواب غضا رطبا يرف (فَجَعَلَهُ غُثاءً) هو ما ما يقذف به السيل على جانب الوادي من الحشيش والنبات ، وأصله على ما في المجمع الأخلاط من أجناس شتى والعرب تسمى القوم إذا اجتمعوا من قبائل شتى أخلاطا وغثاء ، ويقال : غثاء بالتشديد وجاء جمعه على أغثاء وهو غريب من حيث جمع فعال على فعال والمراد به هنا اليابس من النبات أي فجعله بعد ذلك يابسا (أَحْوى) من الحوة وهي كما قيل السواد. وقال الأعلم ؛ لون يضرب إلى السواد وفي الصحاح الحوّة السمرة فالمراد بأحوى أسود أو أسمر والنبات إذا يبس اسودّ أو أسمر فهو صفة مؤكدة للغثاء وتفسر الحوة بشدة الخضرة وعليه قول ذي الرمة :

لمياه في شفتيها حوة لعس

وفي اللثات وفي أنيابها شنب

ولا ينافي ذلك تفسيرها بالسواد لأن شدة الخضرة ترى في بادئ النظر كالسواد ، وجوز كونه حالا من المرعى أي أخرج المرعى حال كونه طريا غضا شديد الخضرة فجعله غثاء ، والفصل بالمعطوف بين الحال وصاحبها ليس فصلا بأجنبي لا سيما وهو حال يعاقب الأول من غير تراخ. وسر التقديم المبالغة في استعقاب حالة الجفاف حالة الرفيف والغضارة كأنه قبل أن يتم رفيقه وغضارته يصير غثاء ومع هذا هو خلاف الظاهر وهذه الأوصاف على ما قيل يتضمن كل منها التدريج ففي الوصف بها تحقيق لمعنى التربية وهي تبليغ الشيء كماله شيئا فشيئا وقوله تعالى (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) بيان لهدايته تعالى شأنه الخاصة برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إثر بيان

٣١٦

هدايته عزوجل العامة لكافة مخلوقاته سبحانه وهي هدايته عليه الصلاة والسلام لتلقي الوحي وحفظ القرآن الذي هو هدى للعالمين وتوفيقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهداية الناس أجمعين. والسين إما للتأكيد وإما لأن المراد إقراء ما أوحي إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينئذ وما سيوحى إليه عليه الصلاة والسلام بعد فهو وعد كريم باستمرار الوحي في ضمن الوعد بالإقراء وإسناد الإقراء إليه تعالى مجازي أي سنقرئك ما نوحي إليك الآن وفيما بعد على لسان جبريل عليه‌السلام فإنه عليه‌السلام الواسطة في الوحي على سائر كيفياته فلا تنسى أصلا من قوة الحفظ والإتقان مع أنك أمي لم تكن تدري ما الكتاب وما القراءة ليكون ذلك لك آية مع ما في تضاعيف ما تقرؤه من الآيات البينات من حيث الإعجاز ومن حيث الأخبار بالمغيبات ، وجوز أن يكون المعنى سنجعل قارئا بإلهام القراءة أي في الكتاب من دون تعليم أحد كما هو العادة فقد روي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ الكتابة ولا يكتب. ويكون المراد بقوله تعالى (فَلا تَنْسى) نفي النسيان مطلقا عنه عليه الصلاة والسلام وامتنانا عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه أوتي قوة الحفظ وفيه أنه مع كونه خلاف المأثور عن السلف في الآية تأباه فاء التفريع. وجوز أيضا أن يكون المراد نفي نسيان المضمون أي سنقرئك القرآن فلا تغفل عنه فتخالفه في أعمالك ففيه وعد بتوفيقه عليه الصلاة والسلام لالتزام ما فيه من الأحكام وهو كما ترى. وقيل : فلا تنسى نهي والألف لمراعاة الفاصلة كما في قوله تعالى (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) [الأحزاب : ٦٧] وفيه أن النسيان ليس بالاختيار فلا ينهى عنه إلا أن يراد مجازا ترك أسبابه الاختيارية أو ترك العمل بما تضمنه المقروء وفيه ارتكاب تكلف من غير داع ، وأيضا رسمه بالياء يقتضي أنها من البنية لا للإطلاق وكون رسم المصحف مخالفا تكلف أيضا نعم قيل : رسمت ألف الإطلاق ياء الموافقة غيرها من الفواصل وموافقة أصلها مع أن الإمام المرزوقي صرح بأنه عند الإطلاق ترد المحذوفة ، وقيل هو نهي لكن لم تحذف الألف فيه إذ قد لا يحذف الجازم حرف العلة وحسن ذلك هنا مراعاة الفاصلة وفيه أيضا ما فيه والأهون للطالب معنى النهي أن يقول هو خبر أريد به النهي على أحد التأويلين السابقين آنفا (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) استثناء مفرغ من أعم المفاعيل أي لا تنسى أصلا مما سنقرئكه شيئا من الأشياء إلا ما شاء الله أن تنساه ، قيل : أي أبدا قال الحسن وقتادة وغيرهما : وهذا مما قضى الله تعالى نسخه وأن يرتفع حكمه وتلاوته ، والظاهر أن النسيان على حقيقته وفي الكشاف أي إلا ما شاء الله فذهب به عن حفظك برفع حكمه وتلاوته وجعل النسيان عليه بمعنى رفع الحكم والتلاوة وكناية عنه لأن ما رفع حكمه وتلاوته يترك فينسى فكأنه قيل بناء على إرادة المعنيين في الكنايات سنقرئك القرآن فلا تنسى شيئا منه ولا يرفع حكمه وتلاوته إلا ما شاء الله فتنساه ويرفع حكمه وتلاوته أو نحو هذا ، وأنا لا أرى ضرورة إلى اعتبار ذلك. والباء في برفع إلخ للسببية والمراد إما بيان السبب العادي البعيد للذهاب الله تعالى به عن الحفظ فإن رفع الحكم والتلاوة يؤدي عادة في الغالب إلى ترك التلاوة لعدم التعبد بها وإلى عدم إخطاره في البال لعدم بقاء حكمه وهو يؤدي عادة في الغالب أيضا إلى النسيان أو بيان السبب الدافع لاستبعاد الذهاب به عن حفظه عليه الصلاة والسلام رهو كالسبب المجوز لذلك ، وأيّا ما كان فلا حاجة إلى جعل معنى (فَلا تَنْسى) فلا تترك تلاوة شيء منه والعمل به فتأمل. ثم إنه لا يلزم من كون ما شاء الله تعالى نسيانه مما قضى سبحانه أن يرتفع حكمه وتلاوته أن يكون كل ما ارتفع حكمه وتلاوته قد شاء الله تعالى نسيان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم له فإن من ذلك ما يحفظه العلماء إلى اليوم فقد أخرج الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس معلومات الحديث. وكونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نسي الجميع بعد تبليغه وبقي ما بقي عند بعض من سمعه منه عليه الصلاة والسلام فنقل حتى وصل إلينا بعيد وإن أمكن عقلا ، وقيل : كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعجل بالقراءة إذا

٣١٧

لقنه جبريل عليه‌السلام فقيل : لا تعجل فإن جبريل عليه‌السلام مأمور أن يقرأه عليك قراءة مكررة إلى أن تحفظه ثم لا تنساه إلّا ما شاء الله تعالى ثم تذكره بعد النسيان ، وأنت تعلم أن الذكر بعد النسيان وإن كان واجبا إلّا أن العلم به لا يستفاد من هذا المقام. وقيل : إن الاستثناء بمعنى القلة وهذا جار في العرف كأنه قيل إلّا ما لا يعلم لأن المشيئة مجهولة وهو لا محالة أقل من الباقي بعد الاستثناء فكأنه قيل فلا تنسى شيئا إلّا شيئا قليلا. وقد جاء في صحيح البخاري وغيره أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسقط آية في قراءته في الصلاة وكانت صلاة الفجر فحسب أبي أنها نسخت فسأله عليه الصلاة والسلام ، فقال : نسيتها ثم إنه عليه الصلاة والسلام لا يقر على نسيانه القليل أيضا بل يذكره الله تعالى أو ييسر من يذكره ، ففي البحر أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال حين سمع قراءة عباد بن بشير : «لقد ذكرني كذا وكذا آية في سورة كذا وكذا». وقيل : الاستثناء بمعنى القلة وأريد بها النفي مجازا كما في قولهم قل من يقول كذا قيل والكلام عليه باب :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

البيت والمعنى فلا تنسى إلا نسيانا معدوما. وفي الحواشي العصامية على أنوار التنزيل أن الاستثناء على هذا الوجه لتأكيد عموم النفي لا لنقض عمومه. وقد يقال الاستثناء من أعم الأوقات فلا تنسى في وقت من الأوقات إلا وقت مشيئة الله تعالى نسيانك لكنه سبحانه لا يشاء وهذا كما قيل في قوله تعالى في أهل الجنة (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) [هود : ١٠٧] وقد قدمنا ذلك وإلى هذا ذهب الفراء فقال إنه تعالى ما شاء أن ينسى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا إلا أن المقصود من الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصيره عليه الصلاة والسلام ناسيا لذلك لقدر عليه كما قال سبحانه (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [الإسراء : ٨٦] ثم إنّا نقطع بأنه تعالى ما شاء ذلك وقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] مع أنه عليه الصلاة والسلام لم يشرك البتة ، وبالجملة ففائدة هذا الاستثناء أن يعرف الله تعالى قدرته حتى يعلم صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن عدم النسيان من فضله تعالى وإحسانه لا من قوته ، أي حتى يتقوى ذلك جدا أو ليعرف غيره ذلك وكأن نفي أن يشاء الله تعالى نسيانه عليه الصلاة والسلام معلوم من خارج ومنه آية (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) [القيامة : ١٦] الآية. وقد أشار أبو حيان إلى ما قاله الفراء وإلى الوجه الذي قبله وأباهما غاية الإباء لعدم الوقوف على حقيقتهما وقال : لا ينبغي أن يكون ذلك في كلام الله تعالى بل ولا في كلام فصيح وهو مجازفة منه عفا الله تعالى عنه ، ثم إن المراد من نفي نسيان شيء من القرآن نفي النسيان التام المستمر مما لا يقر عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالذي تضمنه الخبر السابق ليس كذلك. وقد ذكروا أنه عليه الصلاة والسلام لا يقر على النسيان فيما كان من أصول الشرائع والواجبات وقد يقر على ما ليس منها أو منها وهو من الآداب والسنن ونقل هذا عن الإمام الرازي عليه الرحمة فليحفظ. والالتفات إلى الاسم الجليل على سائر الأوجه لتربية المهابة والإيذان بدوران المشيئة على عنوان الألوهية المستتبعة لسائر الصفات ، وربط الآية بما قبلها على الوجه الذي ذكرناه هو الذي اختاره في الإرشاد وقال أبو حيان : إنه سبحانه لما أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتسبيح وكان لا يتم إلّا بقراءة ما أنزل عليه من القرآن وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتفكر في نفسه مخافة أن ينسى أزال سبحانه عنه ذلك بأنه عزوجل يقرئه وأنه لا ينسى إلا ما شاء أن ينسيه لمصلحة وفيه نظر لا يخفى ولو قيل إن (سَنُقْرِئُكَ) استئناف واقع موقع التعليل للتسبيح أو للأمر به فيفيد جلالة الإقراء وأنه مما ينبغي أن يقابل بتنزيه الله تعالى وإجلاله كان أهون مما ذكر ونحوه كونه في موقع التعليل على معنى هيئ نفسك للإفاضة عليك بتسبيح الله تعالى لأنّا سنقرئك فلا تنسى إلّا ما

٣١٨

شاء الله. ويتضمن ذلك الإشارة إلى فضل التسبيح وقد وردت أخبار كثيرة في ذلك وذكر الثعلبي بعضا منها ونقله ابن الشيخ في حواشيه على تفسير البيضاوي والله تعالى أعلم بصحته.

(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) تعليل لما قبله و (الْجَهْرَ) هنا ما ظهر قولا أو فعلا أو غيرهما وليس خاصا بالأقوال بقرينة المقابلة أي إنه تعالى يعلم ما ظهر وما بطن من الأمور التي من جملتها حالك وحرصك على حفظ ما يوحى إليك بأسره فيقرئك ما يقرئك ويحفظك عن نسيان ما شاء منه وينسيك ما شاء منه مراعاة لما نيط بكل من المصالح والحكم التشريعية ، وقيل توكيد لجميع ما تقدمه وتوكيد لما بعده ، وقيل توكيد لقوله تعالى (سَنُقْرِئُكَ) إلخ على أن الجهر ما ظهر من الأقوال أي يعلم سبحانه جهرك بالقراءة مع جبريل عليه‌السلام وما دعاك إليه من مخافة النسيان فيعلم ما فيه الصلاح من إبقاء وإنساء أو فلا تخف فإني أكفيك ما تخاف وقيل إنه متعلق بقوله تعالى (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) وهذا ليس بشيء كما ترى (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) عطف على (سَنُقْرِئُكَ) كما ينبئ عنه الالتفات إلى الحكاية وما بينهما اعتراض وارد لما سمعت وتعليق التيسير به صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أن الشائع تعليقه بالأمور المسخرة للفاعل كما في قوله تعالى (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) [طه : ٢٦] للإيذان بقوة تمكينه عليه الصلاة والسلام من اليسرى والتصرف فيها بحيث صار ذلك ملكة راسخة له كأنه عليه الصلاة والسلام جبل عليها أي نوفقك توفيقا مستمرا للطريقة اليسرى في كل باب من أبواب الدين علما وتعليما واهتداء وهداية فيندرج فيه تيسير تلقى طريقي الوحي والإحاطة بما فيه من أحكام الشريعة السمحة والنواميس الإلهية مما يتعلق بتكميل نفسه الكريمة صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتكميل غيره كما يفصح عنه الفاء فيما بعد كذا في الإرشاد. وقيل : المراد باليسرى الطريقة التي هي أيسر وأسهل في حفظ الوحي ، وقيل هي الشريعة الحنيفية السهلة ، وقيل الأمور الحسنة في أمر الدنيا والآخرة من النصر وعلو المنزلة والرفعة في الجنة وضم إليها بعض أمر الدين وهو مع هذا الضم تعميم حسن وظاهر عليه أيضا أمر الفاء في قوله تعالى (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) أي فذكر الناس حسبما يسرناك بما يوحى إليك واهدهم إلى ما في تضاعيفه من الأحكام الشرعية كما كنت تفعله. وقيل : أي. فذكر بعد ما استتب أي استقام وتهيأ لك الأمر فإن أراد فدم على التذكير بعد ما استقام لك الأمر من إقرائك الوحي وتعليمك القرآن بحيث لا تنسى منه إلّا ما اقتضت المصلحة نسيانه وتيسيرك للطريقة اليسرى في كل باب من أبواب الدين فذاك وإلّا فليس بشيء ، وتقييد التذكير بنفع الذكرى لما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قد ذكر وبالغ فيه فلم يدع في القوس منزعا وسلك فيه كل طريق فلم يترك مضيفا ولا مهيعا حرصا على الإيمان وتوحيد الملك الديان وما كان يزيد ذلك بعض الناس إلّا كفرا وعنادا وتمردا وفسادا ، فأمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم تخفيفا عليه حيث كاد الحرص على إيمانهم يوجه سهام التلف إليه كما قال تعالى (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) [الكهف : ٦] بأن يخص التذكير بمواد النفع في الجملة بأن يكون من يذكره كلّا أو بعضا ممن يرجى منه التذكر ولا يتعب نفسه الكريمة في تذكير من لا يورثه التذكير إلّا عتوا ونفورا وفسادا وغرورا من المطبوع على قلوبهم كما في قوله تعالى (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) [ق : ٤٥] وقوله سبحانه (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) [النجم : ٢٩] وعلمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمن طبع على قلبه بإعلام الله تعالى إياه عليه الصلاة والسلام به فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد التبليغ وإلزام الحجة لا يجب عليه تكرير التذكير على من علم أنه مطبوع على قلبه فالشرط على هذا على حقيقته ، وقيل إنه ليس كذلك وإنما هو استبعاد النفع بالنسبة إلى هؤلاء المذكورين نعيا عليهم بالتصميم كأنه قيل: افعل ما أمرت به لتؤجر وإن لم

٣١٩

ينتفعوا به وفيه تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورجح الأول بأن فيه إبقاء الشرط على حقيقته مع كونه أنسب بقوله تعالى (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) أي سيذكر بتذكيرك من من شأنه أن يخشى الله تعالى حق خشيته أو من يخشى الله تعالى في الجملة فيزداد ذلك التذكير فيتفكر في أمر ما تذكره به فيقف على حقيقته فيؤمن به وقيل إن (إِنْ) بمعنى إذ كما في قوله تعالى (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ١٣٩] أي إذ كنتم لأنه سبحانه لم يخبرهم بكونهم الأعلون إلّا بعد إيمانهم وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في زيارة أهل القبور : «وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون»

وأثبت هذا المعنى لها الكوفيون احتجاجا بما ذكر ونظائره وأجاب النافون عن ذلك بما في المغني وغيره وقيل هي بمعنى قد ، وقد قال بهذا المعنى قطرب. وقال عصام الدين : المراد أن التذكير ينبغي أن يكون بما يكون مهما لمن له التذكير فينبغي تذكير الكافرين بالإيمان لا بالفروع كالصلاة والصوم والحج إذ لا تنفعه بدون الإيمان ، وتذكير المؤمن التارك للصلاة بها دون الإيمان مثلا وهكذا فكأنه قيل : ذكر كل واحد بما ينفعه ويليق به. وقال الفرّاء والنحاس والجرجاني والزهراوي : الكلام على الاكتفاء والأصل (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) وإن لم تنفع كقوله تعالى (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] والظاهر أن الذين لا يقولون بمفهوم المخالفة سواء كان مفهوم الشرط أو غيره لا يشكل عليهم أمر هذه الآية كما لا يخفى.

(وَيَتَجَنَّبُهَا) أي ويتجنب الذكرى ويتحاماها (الْأَشْقَى) وهو الكافر المصرّ على إنكار المعاد ونحوه الجازم بنفي ذلك مما يقتضي الخشية بوجه وهو أشقى أنواع الكفرة. وقيل : المراد به الكافر المتوغل في عداوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة. وقد روي أن الآية نزلت فيهما فإنه أشقى من غير المتوغل. وقيل : المراد به الكافر مطلقا فإنه أشقى من الفاسق وقيل المفضل عليه كفرة سائر الأمم فإنه حيث كان المؤمن من هذه الأمة أسعد من مؤمنيهم كان الكافر منها أشقى من كافريهم والأوجه عندي في المراد بالأشقى ما تقدم (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) أي الطبقة السفلى من أطباق النار كما قال الفراء ولا بعد في تفاضل نار الآخرة وكون بعض منها أكبر من بعض وأشد حرارة. وقال الحسن (الْكُبْرى) نار الآخرة ، والصغرى نار الدنيا ففي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا : «ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم». وفي رواية للإمام أحمد عنه مرفوعا أيضا : «إن هذه النار جزء من مائة جزء من جهنم» فلعل السبعين وارد مورد التكثير وهو كثير (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها) فيستريح (وَلا يَحْيى) أي حياة تنفعه ، وقيل : إن روح أحدهم تصير في حلقه فلا تخرج فيموت ولا ترجع إلى موضعها من الجسد فيحيا وهو غير غني عن التقييد بنحو حياة كاملة على أنه بعد لا يخلو عن بحث وثم للتراخي في الرتبة فإن هذه الحالة أفظع وأعظم من نفس المصلي. وقال عصام الدين : يحتمل أن يكون هذا الكلام كناية عن عدم النجاة لأن النجاة عن العذاب إنما يكون بالعمل في دار يموت فيها العامل ويحيا ، والنظم أقرب إلى هذا المعنى كيف واللائق بالمعنى السابق ثم لا يكون ميتا فيها ولا حيا فتأمل انتهى. وفي كون اللائق بالمعنى السابق ما ذكره دون ما في النظم الجليل منع ظاهر والظاهر أنه لائق به مع تضمنه رعاية الفواصل وكذا في توجيه كون ما ذكر كناية عن عدم النجاة خفاء وكأنه لذلك أمر بالتأمل وقد يقال : إن مثل ذلك الكلام يقال لمن وقع في شدة واستمر فيها فلا يبعد أن يكون فيه إشارة إلى خلودهم في العذاب وأمر التراخي الرتبي عليه ظاهر أيضا لظهور أن الخلود في النار الكبرى أفظع من دخولها وصليها. واعلم أن عدم الموت في النار على ما صرح به غير واحد مخصوص بالكفرة وأما عصاة المؤمنين الذين يدخلونها فيموتون فيها ، واستدل لذلك بما أخرجه مسلم عن أبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما

٣٢٠