روح المعاني - ج ١٥

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٥

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٤

على وجه آخر غير اختلافهم في (سِجِّينٍ) فقال غير واحد : هو علم لديوان الخبر الذي دوّن فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء النقلين منقول من جمع على فعيل من العلو كسجين من السجن ، سمّي بذلك إما لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي درجات الجنان أو لأنه مرفوع في السماء السابعة أو عند قائمة العرش اليمنى مع الملائكة المقربين عليهم الاسم تعظيما له. وقيل : هو المواضع العلية واحده عليّ وكان سبيله أن يقال علية كما قالوا للغرفة علية فلما حذفوا التاء عوضوا عنها الجمع بالواو والنون وحكي ذلك عن أبي الفتح بن جني وقيل هو وصف للملائكة ولذلك جمع بالواو والنون. وقال الفراء : هو اسم موضوع على صيغة الجمع ولا واحد له من لفظة كعشرين وثلاثين. والعرب إذا جمعت جمعا ولم يكن له بناء واحد ولا تثنية أطلقوه في المذكر والمؤنث بالواو والنون (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) صفة أخرى لكتاب أي يحضرونه على أن يشهد من الشهود بمعنى الحضور وحضوره كناية عن حفظه في الخارج أو يشهدون بما فيه يوم القيامة على أنه من الشهادة ، وعلى الوجهين المراد بالمقربين جمع من الملائكة عليهم‌السلام كذا قالوا. وأخرج عبد بن حميد من طريق خالد بن عرعرة وأبي عجيل أن ابن عباس سأل كعبا عن هذه الآية فقال : إن المؤمن يحضره الموت ويحضره رسل ربه عزوجل ، فلا هم يستطيعون أن يؤخروه ساعة ولا يعجلوه حتى تجيء ساعته ، فإذا جاءت ساعته قبضوا نفسه فدفعوه إلى ملائكة الرحمة فأروه ما شاء الله تعالى أن يروه من الخير ثم عرجوا بروحه إلى السماء فيشيعه من كل سماء مقربوها حتى ينتهوا به إلى السماء السابعة فيضعونه بين أيديهم ولا ينتظرون به صلاتكم عليه فيقولون : اللهم هذا عبدك فلان قبضنا نفسه ويدعون له بما شاء الله تعالى أن يدعو له ، فنحن نحب أن تشهدنا اليوم كتابه فينشر كتابه من تحت العرش فيثبتون اسمه فيه وهم شهود فذلك قوله تعالى : (كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) وسأله عن قوله تعالى (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ) الآية فقال : إن العبد الكافر يحضره الموت ويحضره رسل ربه سبحانه فإذا جاءت ساعته قبضوا نفسه فدفعوه إلى ملائكة العذاب فأروه ما شاء الله تعالى أن يروه من الشر ثم هبطوا به إلى الأرض السفلى وهو سجين وهي آخر سلطان إبليس فأثبتوا كتابه فيها الحديث وفي بعض الأخبار ما ظاهره أن نفس العمل يكون في سجن ويكون في عليين ، فقد أخرج ابن المبارك عن صخر بن حبيب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الملائكة يرفعون أعمال العبد من عباد الله تعالى يستكثرونه ويزكونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله تعالى من سلطانه ، فيوحي الله تعالى إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه ، إن عبدي هذا لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين ، ويصعدون بعمل العبد يستقلونه ويستحقرونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه إن عبدي هذا أخلص لي عمله فاجعلوه في عليين» وبأدنى تأويل يرجع إلى ما تضمنته الآية فلا تغفل.

وقوله تعالى (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) شروع في بيان محاسن أحوالهم إثر بيان حال كتابهم والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل : هذا حال كتابهم فما حالهم؟ فأجيب بما ذكر أي إنهم لفي نعيم عظيم (عَلَى الْأَرائِكِ) أي على الأسرّة في الحجال وقد تقدم تمام الكلام فيها (يَنْظُرُونَ) أي إلى ما شاءوا من رغائب مناظر الجنة وما تحجب الحجال أبصارهم. وقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد : إلى ما أعد الله تعالى لهم من الكرامات. وقال مقاتل : إلى أهل النار أعدائهم ولم يرتضه بعض ليكون ما في آخر السورة تأسيسا وقيل : ينظر بعضهم إلى بعض فلا يحجب حبيب عن حبيبه وقيل : النظر كناية عن سلب النوم فكأنه قيل لا

٢٨١

ينامون وكأنه لدفع توهم النوم من ذكر الأرائك المعدة للنوم غالبا ، وفيه إشارة إلى أنه لا نوم في الجنة كما وردت في الأخبار لما فيه من زوال الشعور وغفلة الحواس إلى غير ذلك مما لا يناسب ذلك المقام. وعليه يكون قوله سبحانه (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) أي بهجة النعيم ورونقه لنفي ما يوهمه سلب النوم من الضعف وتغير بهجة الوجه كما في الدنيا وهو وجه لا يعرف فيه الناظر نضرة التحقيق والخطاب في تعرف لكل من له حظ من الخطاب للإيذان بأن ما لهم من آثار النعمة وأحكام البهجة بحيث لا يختص براء دون راء. وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق وطلحة وشيبة ويعقوب «تعرف» مبنيا للمفعول «نضرة» رفعا على النيابة عن الفاعل ، وجوز بعضهم أن يكون نائب فاعل (تَعْرِفُ) ضمير (الْأَبْرارَ) و (فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ) مبتدأ وخبر كأنه قيل تعرف الأبرار بأن في وجوههم نضرة النعيم وليس بشيء كما لا يخفى. وقرأ زيد بن علي كذلك إلا أنه قرأ «يعرف» بالياء إذ تأنيث (نَضْرَةَ) مجازي (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ) قال الخليل : هو أجود الخمر وقال الأخفش والزجاج: الشراب الذي لا غش فيه ، قال حسان :

يسقون من ورد البريص عليهم

بردى يصفق بالرحيق السلسل

وفسرها هنا بالشراب الخالص مما يكدر حتى الغول (مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ) أي مختوم أوانيه وأكوابه بالمسك مكان الطين كما روي عن مجاهد وذكر أن طين الجنة مسك معجون. والظاهر أن الختام ما يختم به وأن الختم على حقيقته وكذا إسناده. وقولنا : مختوم أوانيه إلخ ليس لأن الإسناد مجازي بل لأن الختم على الشيء أعني الاستيثاق منه بالختم طريقه ذلك وختم اعتناء به وإظهارا لكرامة شاربه وكان ذلك بما هو على هيئة الطين ليكون على النهج المألوف. ويجوز أن يكون ذلك تمثيلا لكمال نفاسته وإلّا فليس ثمة غبار أو ذباب أو خيانة ليصان على ذلك بالختم. وقال ابن عباس وابن جبير والحسن : المعنى خاتمته ونهايته رائحة مسك إذا شرب أي يجد شاربه ذلك عند انتهاء شربه وكان ذلك لأن اشتغال الذائقة بكمال لذته تمنع عن إدراك الرائحة فإذا انقطع الشرب أدركت وإلّا فالرائحة لا تختص بالانتهاء. وقيل : المعنى ذو نهاية نهايته وما يبقى بعد شربه ويشرب في أوانيه مسك وليس كشراب الدنيا نهايته. وما يرسب في إنائه طين أو نحوه وهو كما ترى. وقيل : إن الرحيق يمزج بالكافور ويختم مزاجه بالمسك ، فالمعنى ذو ختام ختام مزاجه مسك وهو مع كونه خلاف الظاهر وفيما بعد ما يبعده في الجملة يحتاج إلى نقل يعول عليه وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والنخعي والضحاك وزيد بن علي وأبو حيوة وابن أبي عبلة والكسائي «خاتمه» بألف بعد الخاء وفتح التاء والمراد ما يختم به أيضا فإن فاعلا بالفتح يكون أيضا اسم آلة كالقالب والطابع لكنه سماعي. وعن الضحاك وعيسى وأحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي كسر التاء أي آخره رائحة مسك ، والجمل السابقة أعني (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) و (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ) إلخ و (يُسْقَوْنَ) إلخ قيل أحوال مترادفة ، وقيل مستأنفات كجملة (إِنَّ الْأَبْرارَ) إلخ وقعت أجوبة للسؤال عن حالهم والفصل للتنبيه على استقلال كل في بيان كرامتهم.

(وَفِي ذلِكَ) إشارة إلى الرحيق وهو الأنسب بما بعد أو إلى ما ذكر من أحوالهم وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو مرتبته وبعد منزلته ، وجوز أن يكون لكونه في الجنة والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى : (فَلْيَتَنافَسِ) وقدم للاهتمام أو للحصر أي فليتنافس وليرغب فيه لا في خمور الدنيا أو لا في غيره من ملاذها ونعيمها (الْمُتَنافِسُونَ) أي الراغبون في المبادرة إلى طاعة الله تعالى ، وقيل : أي فليعمل لأجله أي لأجل تحصيله خاصة والفوز به العاملون كقوله تعالى (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) [الصافات : ٦١] أي فليستبق في

٢٨٢

تحصيل ذلك المتسابقون ، وأصل التنافس التغالب في الشيء النفيس وأصله من النفس لعزتها. قال الواحدي : نفست الشيء أنفسه نفاسة ، والتنافس تفاعل منه كأن واحد من الشخصين يريد أن يستأثر به. وقال البغوي : أصله من الشيء النفيس الذي تحرص عليه نفوس الناس ويريده كل أحد لنفسه ، ويقال : نفست عليه بالشيء أنفس نفاسة إذا بخلت به عليه. وفي مفردات الراغب : المنافسة مجاهدة النفس للتشبه بالأفاضل واللحوق بهم من غير إدخال ضرر على غيره وهي بهذا المعنى من شرف النفس وعلو الهمة ، والفرق بينها وبين الحسد أظهر من أن يخفى ، واستشكل ذلك التعلق بأنه يلزم عليه دخول العاطف على العاطف إذ التقدير و «فليتنافس في ذلك» وأجيب بأنه بتقدير القول أي يقولون لشدة التلذذ من غير اختيار من ذلك (فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) أي في الدنيا على معنى أنه كان اللائق بهم أن يتنافسوا في ذلك ، وقيل : الكلام على تقدير حرف الشرط والفاء واقعة في جوابه أي وإن أريد تنافس فليتنافس في ذلك المتنافسون ، وتقديم الظرف ليكون عوضا عن الشرط في شغل حيزه وهو أنفس مما تقدم. وقوله تعالى : (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) عطف على (خِتامُهُ مِسْكٌ) صفة أخرى لرحيق مثله وما بينهما اعتراض مقرر لنفاسته ، و (تَسْنِيمٍ) علم لعين بعينها في الجنة كما روي عن ابن مسعود وعن حذيفة بن اليمان أنه قال : عين من عدن سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه إما لأن شرابها أرفع شراب في الجنة على ما روي عن ابن عباس ، أو لأنها تأتيهم من فوق على ما روي عن الكلبي ، وروي أنها تجري في الهواء متسنمة فتنصب في أوانيهم. وقيل : سميت بذلك لرفعة من يشرب بها ولا يلزم من كونه علما لما ذكر منع صرفه للعلمية والتأنيث لأن العين مؤنثة إذ هي قد تذكر بتأويل الماء أو نحوه و (مِنْ) بيانية أو تبعيضية أي ما يمزج به ذلك الرحيق هو تسنيم أي ماء تلك العين أو بعض ذلك وجوز أن تكون ابتدائية. (عَيْناً) نصب على المدح. وقال الزجاج : على الحال من تسنيم قيل وصح كونه حالا مع جموده لوصفه بقوله تعالى (يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) أو لتأويله بمشتق كجارية وأنت تعلم أن الاشتقاق غير لازم ، والباء إما زائدة أي يشربها أو بمعنى من أي يشرب منها ، أو على تضمين يشرب معنى يروى أي يشرب راوين بها أو يروى بها شاربين المقربون أو صلة الالتذاذ أي يشرب ملتذا بها ، أو الامتزاج أي يشرب الرحيق ممتزجا بها ، أو الاكتفاء أي يشرب مكتفين بها أوجه ذكروها ، وفي كونها صلة الامتزاج مقال فقد قال ابن مسعود وابن عباس والحسن وأبو صالح : يشرب بها المقربون صرفا وتمزج للأبرار ومذهب الجمهور أن الأبرار هم أصحاب اليمين وأن المقربين هم السابقون كأنهم إنما كان شرابهم صرف التسنيم لاشتغالهم عن الرحيق المختوم بمحبة الحي القيوم فهي الرحيق التي لا يقاس بها رحيق ، والمدامة التي تواصى على شربها ذو والأذواق والتحقيق :

على نفسه فليبك من ضاع عمره

وليس له منها نصيب ولا سهم

وقال قوم الأبرار والمقربون في هذه السورة بمعنى واحد يشمل كل من نعم في الجنة. وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) إلخ حكاية لبعض قبائح مشركي قريش أبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأشياعهم جيء بها تمهيدا لذكر بعض أحوال الأبرار في الجنة (كانُوا) أي في الدنيا كما قال قتادة (مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) كانوا يستهزءون بفقرائهم كعمار وصهيب وخباب وبلال وغيرهم من الفقراء. وفي البحر روي أن عليا كرم الله تعالى وجهه وجمعا من المؤمنين معه مروا بجمع من كفار مكة فضحكوا منهم واستخفوا بهم فنزلت (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) إلخ قبل أن يصل علي كرم الله تعالى وجهه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي

٢٨٣

الكشاف حكاية ذلك عن المنافقين وأنهم قالوا : ربنا اليوم الأصلع أي سيدنا يعنون عليا كرم الله تعالى وجهه ، وإنما قالوه استهزاء ولعل الأول أصح وتقديم الجار والمجرور إما للقصر إشعارا بغاية شناعة ما فعلوا أي كانوا من الذين آمنوا يضحكون مع ظهور عدم استحقاقهم لذلك على منهاج قوله تعالى (أَفِي اللهِ شَكٌ) [إبراهيم : ١٠] لمراعاة الفواصل (وَإِذا مَرُّوا) أي المؤمنون (بِهِمْ) أي بالذين أجرموا وهم في أنديتهم (يَتَغامَزُونَ) أي يغمز بعضهم بعضا ويشيرون بأعينهم استهزاء بالمؤمنين وإرجاع ضمير (مَرُّوا) للمؤمنين وضمير (بِهِمْ) للمجرمين هو الأظهر الأوفق بحكاية سبب النزول. واستظهر أبو حيان العكس معللا له بتناسق الضمائر (وَإِذَا انْقَلَبُوا) أي المجرمون ورجعوا من مجالسهم (إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) ملتذين باستخفافهم بالمؤمنين. وكان المراد بذلك الإشارة إلى أنهم يعدون صنيعهم ذلك من أحسن ما اكتسبوه في غيبتهم عن أهلهم أو إلى أن له وقعا في قلوبهم ولم يفعلوه مراعاة لأحد وإنما فعلوه لحظ أنفسهم. وقيل : فيه إشارة إلى أنهم كانوا لا يفعلون ذلك بما رأى من المارين بهم ويكتفون حينئذ بالتغامز. وقرأ الجمهور «فاكهين» بالألف قيل هما بمعنى ، وقيل فكهين أشرين ، وقيل فرحين وفاكهين قيل متفكهين وقيل ناعمين وقيل مادحين (وَإِذا رَأَوْهُمْ) وإذا رأوا المؤمنين أينما كانوا (قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) يعنون جنس المؤمنين مطلقا لا خصوص المرئيين منهم والتأكيد لمزيد الاعتناء بسبهم (وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) جملة حالية من ضمير قالوا أي قالوا ذلك والحال أنهم ما أرسلوا من جهة الله تعالى على المؤمنين موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم ويهيمنون على أعمالهم ويشهدون برشدهم وضلالهم وهذا تهكم واستهزاء بهم وإشعار بأن ما جرءوا عليه من القول من وظائف من أرسل من جهته تعالى ، وجوز أن يكون من جملة قول المجرمين والأصل وما أرسلوا علينا حافظين إلّا أنه قيل عليهم نقلا بالمعنى على نحو قال زيد ليفعلن كذا وغرضهم بذلك إنكار صدّ المؤمنين إياهم عن الشرك ودعائهم إلى الإيمان (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي المعهودون من الفقراء (مِنَ الْكُفَّارِ) أي من المعهودين وجوز التعميم من الجانبين (يَضْحَكُونَ) حين يرونهم أذلاء مغلولين قد غشيتهم فنون الهوان والصغار بعد العز والكبر ورهقهم ألوان العذاب بعد التنعم والترفه. والظرف والجار والمجرور متعلقان ب (يَضْحَكُونَ) وتقديم الجار والمجرور قيل للقصر تحقيقا للمقابلة أي واليوم هم من الكفار يضحكون لا الكفار منهم كما كانوا يفعلون في الدنيا. وقوله تعالى (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) حال من فاعل (يَضْحَكُونَ) أي يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من سوء الحال. وقيل : يفتح للكفار باب إلى الجنة فيقال لهم : هلم هلم ، فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم يفعل ذلك مرارا حتى أن أحدهم يقال له : هلم هلم فما يأتي من إياسه ويضحك المؤمنون منهم. وتعقب بأن قوله تعالى (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) يأباه فإنه صريح في أن ضحك المؤمنين منهم جزاء لضحكهم منهم في الدنيا فلا بد من المجانسة والمشاكلة حتما والحق أنه لا إباء كما لا يخفى والتثويب والإثابة المجازاة. ويقال : ثوّبه وأثابه إذا جازاه ، ومنه قول الشاعر :

سأجزيك أو يجزيك عني مثوب

وحسبك أن يثنى عليك وتحمدي

وظاهر كلامهم إطلاق ذلك على المجازاة بالخير والشر ، واشتهر بالمجازاة بالخير وجوز حمله عليه هنا على أن المراد التهكم كما قيل به في قوله تعالى (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : ٢١ ، التوبة : ٣٤ ، الانشقاق : ٢٤] و (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان : ٤٩] كأنه تعالى يقول للمؤمنين هل أثبنا هؤلاء على ما كانوا يفعلون كما أثبناكم على ما كنتم تعلمون فيكون هذا القول زائدا في سرورهم لما فيه من

٢٨٤

تعظيمهم والاستخفاف بأعدائهم. والجملة الاستفهامية حينئذ معمولة لقول محذوف وقع حالا من ضمير (يَضْحَكُونَ) أو من ضمير (يَنْظُرُونَ) أي يضحكون أو ينظرون مقولا لهم (هَلْ ثُوِّبَ) إلخ. ولم يتعرض لذلك الجمهور. وفي البحر الاستفهام لتقرير المؤمنين والمعنى قد جوزي الكفار ما كانوا إلخ. وقيل (هَلْ ثُوِّبَ) متعلق ب (يَنْظُرُونَ) والجملة في موضع نصب به بعد إسقاط حرف الجر الذي هو إلى انتهى و (ما) مصدرية أو موصولة والعائد محذوف أي يفعلونه ، والكلام بتقدير مضاف أي ثواب أو جزاء ما كانوا إلخ. وقيل هو بتقدير باء السببية أي هل ثوب الكفار بما كانوا وقرأ النحويان وحمزة وابن محيصن بإدغام اللام في التاء والله تعالى أعلم.

٢٨٥

سورة الانشقاق

ويقال سور انشقت وهي مكية بلا خلاف وآيها ثلاث وعشرون آية في البصري والشامي وخمس وعشرون في غيرهما ، ووجه مناسبتها لما قبلها يعلم مما نقلناه عن الجلال السيوطي فيما قبل وأوجز بعضهم في بيان وجه ترتيب هذه السور الثلاث فقال : إن في انفطرت التعريف بالحفظة الكاتبين وفي المطففين مقر كتبهم وفي هذه عرضها في القيامة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)(٢٥)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) أي بالغمام كما روي عن ابن عباس وذهب إليه الفرّاء والزجّاج كما في البحر ويشهد له قوله تعالى (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) [الفرقان : ٢٥] فالقرآن يفسر بعضه بعضا ، وقيل : تنشق لهول يوم القيامة لقوله تعالى (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) [الحاقة : ١٦] وبحث فيه بأنه لا ينافي أن يكون الانشقاق بالغمام. وأخرج ابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه أنها تنشق من المجرة وفي الآثار إنها باب السماء وأهل الهيئة يقولون إنها نجوم صغار متقاربة جدا غير متميزة في الحسن ويظهر ذلك ظهورا بيّنا لمن نظر إليها بالأرصاد ولا منافاة على ما قيل من أن المراد بكونها باب السماء أن مهبط الملائكة عليهم‌السلام ومصعدهم من جهتها وذلك بجامع كونها نجوما صغارا متقاربة غير متميزة في الحسن. وخبر إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسل معاذا إلى أهل

٢٨٦

اليمن فقال له : «يا معاذ إنهم سائلوك عن المجرة ، فقل هي لعاب حية تحت العرش» ومنه قيل إنها في البحر المكفوف تحت السماء لا يكاد يصح. والقول المذكور لا ينبغي أن يحكى إلّا لينبّه على حاله. وقرأ عبيد بن عقيل عن أبي عمرو «انشقت» وكذا ما بعد من نظائره بإشمام التاء مكسرا في الوقف. وحكى عنه أيضا الكسر أبو عبيد الله بن خالويه وذلك لغة طيئ على ما قيل. وعن أبي حاتم : سمعت أعرابيا فصيحا في بلاد قيس يكسر هذه التاء أي تاء التأنيث اللاحقة للفعل وهي لغة ، ولعل ذلك لأن الفواصل قد تجري مجرى القوافي فكما أن هذه التاء تكسر في القوافي كما في قول كثير عزة من قصيدة :

وما أنا بالداعي لعزة بالردى

ولا شامت إن قيل عزة ذلت

إلى غير ذلك من أبيات تلك القصيدة تكسر في الفواصل وإجراء الفواصل في الوقف مجرى القوافي مهيع معروف كقوله تعالى (الظُّنُونَا) و (الرَّسُولَا) في سورة [الأحزاب : ١٠ ، ٦٦] وحمل الوصل على حالة الوقف موجود أيضا في الفواصل (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) أي استمعت له تعالى ، يقال : أذن إذا سمع. قال الشاعر :

صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به

وإن ذكرت بشرّ عندهم أذنوا

وقال قعنب :

إن يأذنوا ريبة طاروا بها فرحا

وإن هم أذنوا من صالح دفنوا

والاستماع هنا مجاز عن الانقياد والطاعة أي انقادت لتأثير قدرته عزوجل حين تعلقت إرادته سبحانه بانشقاقها انقياد المأمور المطواع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع ، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إليها للإشعار بعلة الحكم ، وهذه الجملة ونظيرتها بعد قيل بمنزلة قوله تعالى (أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] في الإنباء عن كون ما نسب إلى السماء والأرض من الانشقاق والمد وغيرهما جاريا على مقتضى الحكمة على ما قرروه (وَحُقَّتْ) أي جعلت حقيقة بالاستماع والانقياد لكن لا بعد أن لم تكن كذلك بل في نفسها وحد ذاتها من قولهم هو محقوق بكذا وحقيق به ، وحاصل المعنى انقادت لربها وهي حقيقة وجديرة بالانقياد لما أن القدرة الربانية لا يتعاصاها أمر من الأمور لا لأمر اختصت به من بين الممكنات. وذكر بعضهم أن أصل الكلام حق الله تعالى عليها بذلك أي حكم عليها بتحتم الانقياد على معنى أراده سبحانه منها إرادة لا نقض لها. وقيل : المعنى وحق لها أن تنشق لشدة الهول والجملة على ما اختاره بعض الأجلّة اعتراض مقرر لما قبلها ، وقيل معطوفة عليه وليس بذاك (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) قال الضحاك : بسطت باندكاك جبالها وآكامها وتسويتها فصارت قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا وقال بعضهم : زيدت سعة وبسطة من مده بمعنى أمدّه أي زاده ونحوه ما قيل جرت فزاد انبساطها وعظمت سعتها. وخرج الحاكم بسند جيد عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «تمد الأرض يوم القيامة مد الأديم ثم لا يكون لابن آدم منها إلّا موضع قدميه». (وَأَلْقَتْ ما فِيها) أي رمت ما في جوافها من الموتى والكنوز كما أخرج ذلك عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة وإليه ذهب الزجاج. واقتصر بعضهم كابن جبير وجماعة على الموتى بناء على أن إلقاء الكنوز إذا خرج الدجال وكأن من ذهب إلى الأول لا يسلم إلقاء الكنوز يومئذ ، ولو سلم يقول : يجوز أن لا يكون عاما لجميع الكنوز وإنما يكون كذلك يوم القيامة والقول بأن يوم القيامة متسع يجوز أن يدخل فيه وقت خروج الدجال ينبغي أن يلقى ولا يلتفت إليه (وَتَخَلَّتْ) أي وخلت عما فيها غاية الخلو حتى لم يبق فيها شيء من ذلك كأنها تكلفت في ذلك أقصى جهدها فصيغة التفعل للتكلف والمقصود منه المبالغة كما في قولك : تحلم الحليم ، وتكرم الكريم. وقيل (تَخَلَّتْ) ممن على ظهرها من الأحياء ، وقيل : مما على ظهرها من جبالها وبحارها وكلا القولين كما ترى. وقد أخرج أبو القاسم

٢٨٧

الحبيلي في الديباج عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أنا أول من تنشق عنه الأرض فأجلس جالسا في قبري وإن الأرض تحرك بي فقلت لها ما لك؟ فقالت : إن ربي أمرني أن ألقي ما في جوفي وأن أتخلى فأكون كما كنت إذ لا شيء فيّ» وذلك قوله تعالى (وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) في الإلقاء وما بعده (وَحُقَّتْ) الكلام فيه نظير ما تقدم ، وفيه إشارة إلى أن ما ذكر وإن أسند إلى الأرض فهو بفعل الله تعالى وقدرته عزوجل وتكرير كلمة إذا لاستقلال كل من الجملتين بنوع من القدرة (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ) أي جاهد ومجد جدا في عملك من خير وشر (إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) أي طول حياتك إلى لقاء ربك أي إلى الموت وما بعده من الأحوال الممثلة باللقاء والكدح جهد النفس في العمل حتى يؤثر فيها ، من كدح جلده إذا خدشه قال ابن مقيل :

وما الدهر إلّا تارتان فمنهما

أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

وقال آخر :

ومضت بشاشة كل عيش صالح

وبقيت أكدح للحياة وأنصب

(فَمُلاقِيهِ) أي فملاق له عقيب ذلك لا محالة من غير صارف يلويك عنه ، والضمير له عزوجل أي فملاقي جزائه تعالى. وقيل : هو للكدح أي فملاقي جزاء الكدح وبولغ فيه على نحو : «إنما هي أعمالكم ترد إليكم» والظاهر أن «ملاقيه» معطوف على (كادِحٌ) على القولين. وقال ابن عطية بعد ذكره الثاني فألقاه على هذا عاطفة جملة الكلام على الجملة التي قبلها ، والتقدير فأنت ملاقيه ، ولا يظهر وجه التخصيص والمراد بالإنسان الجنس كما يؤذن به التقسيم بعد وقال مقاتل : المراد به الأسود بن هلال المخزومي جادل أخاه أبا سلمة في أمر البعث فقال أبو سلمة إي والذي خلقك لتركبن الطبقة ولتوافين العقبة ، فقال الأسود : فأين الأرض والسماء وما حال الناس؟ وكأنه أراد أنها نزلت فيه وهي تعم الجنس ، وقيل : المراد أبيّ بن خلف كان يكدح في طلب الدنيا وإيذاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإصرار على الكفر ، ولعل القائل أراد ذلك أيضا وأبعد غاية الإبعاد من ذهب إلى أنه الرسول عليه الصلاة والسلام على أن المعنى إنك تكدح في إبلاغ رسالات الله عزوجل وإرشاده عباده سبحانه واحتمال الضرر من الكفار ، فأبشر إنك تلقى الله تعالى بهذا العمل وهو غير ضائع عنده جل شأنه وجواب (إِذَا) قيل قوله تعالى (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) إلخ كما في قوله تعالى (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : ٣٨] وقوله تعالى (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) إلخ اعتراض ، وقيل : هو محذوف للتهويل أي كان ما كان مما يضيق عنه نطاق البيان ، وقدره بعضهم نحو ما صرح به في سورتي التكوير والانفطار ، وقيل : هو ما دل عليه (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) إلخ وتقديره لاقى الإنسان كدحه ، وقيل : هو نفسه على حذف الفاء والأصل فيا أيها الإنسان أو بتقدير يقال. وقال الأخفش والمبرد : هو قوله تعالى (فَمُلاقِيهِ) بتقدير فأنت ملاقيه ليكون مع المقدر جملة ، وعلى هذا جملة (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) إلخ معترضة. وقال ابن الأنباري والبلخي هو (وَأَذِنَتْ) على زيادة الواو كما قيل في قوله تعالى (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧١ ، ٧٣] وعن الأخفش أن إذا هنا لا جواب لها لأنها ليست بشرطية بل هي في إذا السماء متجردة عنها مبتدأ ، وفي وإذا الأرض خبر والواو زائدة أي وقت انشقاق السماء وقت مد الأرض وقيل لا جواب لها لأنها ليست بذلك بل متجردة عن الشرطية واقعة مفعولا لأذكر محذوفا ، ولا يخفى ما في بعض هذه الأقوال من الضعف ولعل الأولى منها الأولان والحساب اليسير السهل الذي لا مناقشة فيه كما قيل وفسره عليه الصلاة والسلام بالعرض وبالنظر في الكتاب مع التجاوز ، فقد

٢٨٨

أخرج الشيخان والترمذي وأبو داود عن عائشة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس أحد يحاسب إلّا هلك» قلت : يا رسول الله ، جعلني الله تعالى فداك أليس الله تعالى يقول (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً)؟ قال : «ذلك العرض يعرضون ومن نوقش الحساب هلك» وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن مردويه والحاكم وصححه عن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في بعض صلاته : «اللهم حاسبني حسابا يسيرا فلما انصرف عليه الصلاة والسلام قلت : يا رسول الله ما الحساب اليسير؟ قال : «أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه» (وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) أي عشيرته المؤمنين مبتهجا بحاله قائلا (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) [الحاقة : ١٩] وقيل أي فريق المؤمنين مطلقا وإن لم يكونوا عشيرته إذ كل المؤمنين أهل للمؤمن من جهة الاشتراك في الإيمان ، وقيل : أي إلى خاصته ومن أعده الله تعالى له في الجنة من الحور والغلمان ، وأخرج هذا ابن المنذر عن مجاهد. وقرأ زيد بن علي «ويقلب» مضارع قلب مبنيا للمفعول.

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) أي يؤتاه بشماله من وراء ظهره ، قيل : تغل يمناه إلى عنقه وتجعل شماله وراء ظهره فيؤتى كتابه بشماله. وروي أن شماله تدخل في صدره حتى تخرج من وراء ظهره فيأخذ كتابه بها فلا تدافع بين ما هنا وما في سورة الحاقة حيث لم يذكر فيه الظهر ثم هذا إن كان في الكفرة وما قبله في المؤمنين المتقين فلا تعرض هنا للعصاة كما استظهره في البحر. وقيل : لا بعد في إدخال العصاة في أهل اليمين إما لأنهم يعطون كتبهم باليمين بعد الخروج من النار كما اختاره ابن عطية أو لأنهم يعطونها بها قبل لكن مع حساب فوق حساب المتقين ودون حساب الكافرين ، ويكون قوله تعالى (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) من وصف الكل بوصف البعض ، وقيل : إنهم يعطونها بالشمال وتمييز الكفرة بكون الإعطاء من وراء ظهورهم ولعل ذلك لأن مؤتي الكتب لا يتحملون مشاهدة وجوههم لكمال بشاعتها أو لغاية بغضهم إياهم أو لأنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم (فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) يطلبه ويناديه ويقول : يا ثبوراه تعالى فهذا أوانك والثبور الهلاك وهو جامع لأنواع المكاره (وَيَصْلى سَعِيراً) يقاسي حرها أو يدخلها ، وقرأ أكثر السبعة وعمر بن عبد العزيز وأبو الشعثاء والحسن والأعرج «يصلّى» بضم الياء وفتح الصاد واللام مشددة من التصلية لقوله تعالى (وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) [الواقعة : ٩٤] وقرأ أبو الأشهب وخارجة عن نافع وأبان عن عاصم والعتكي وجماعة عن أبي عمرو «يصلى» بضم الياء ساكن الصاد مخفف اللام مبنيا للمفعول من الإصلاء لقوله تعالى (وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) [النساء : ١١٥] (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ) في الدنيا (مَسْرُوراً) فرحا بطرا مترفا لا يخطر بباله أمور الآخرة ولا يتفكر في العواقب ولم يكن حزينا متفكرا في حاله ومآله كسنة الصلحاء والمتقين ، والجملة استئناف لبيان علة ما قبلها. وقوله تعالى (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) تعليل لسروره في الدنيا أي ظن أن لن يرجع إلى الله تعالى تكذيبا للمعاد ، وقيل : ظن أن لن يرجع إلى العدم أي ظن أنه لا يموت وكان غافلا عن الموت غير مستعد له وليس بشيء ، والحور الرجوع مطلقا ومنه قول الشاعر :

وما المرء إلّا كالشهاب وضوئه

يحور رمادا بعد إذ هو ساطع

والتقييد هنا بقرينة المقام و (أَنْ) مخففة من الثقيلة سادّة مع ما في حيزها مسد مفعولي الظن على المشهور (بَلى) إيجاب لما بعد (لَنْ) وقوله تعالى (إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) تحقيق وتعليل له أي بلى يحور البتة أن ربه عزوجل الذي خلقه كان به وبأعماله الموجبة للجزاء بصيرا بحيث لا تخفى عليه سبحانه منها خافية فلا بد من رجعة وحسابه ومجازاته (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) هي الحمرة التي تشاهد في أفق المغرب

٢٨٩

بعد الغروب وأصله من رقة الشيء ، يقال : شيء شفق أي لا يتماسك لرقته ومنه أشفق عليه رق قلبه والشفقة من الإشفاق وكذلك الشفق قال الشاعر :

تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا

والموت أكرم نزّال على الحرم

وقيل : البياض الذي يلي تلك الحمرة ويرى بعد سقوطها ، وفي تسمية ذلك شفقا خلاف فالجمهور على أنه لا يسمى به وأبو هريرة وعمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنهم على أنه يسمى. وروى أسد ابن عمرو عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه رجع عن ذلك إلى ما عليه الجمهور وتمام الكلام عليه في شروح الهداية. وأخرج عبد ابن حميد عن مجاهد وعكرمة أنه هنا النهار كله. وروي ذلك عن الضحاك وابن أبي نجيح وكأنه شجعهم على ذلك عطف الليل عليه وعن عكرمة أيضا أنه ما بقي من النهار والفاء في جواب شرط مقدر أي إذا عرفت هذا أو تحققت الحور بالبعث فلا أقسم بالشفق (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) وما ضم وجمع يقال : وسقه فاتسق واستوسق أي جمعه فاجتمع ، ويقال : طعام موسوق أي مجموع وإبل مستوسقة أي مجتمعة. قال الشاعر :

إن لنا قلائصا حقائقا

مستوسقات لم يجدن سائقا

ومن الوسق الأصواع المجتمعة وهي ستون صاعا أو حمل بعير لاجتماعه على ظهره وما تحتمل المصدرية والموصولة والجمهور على الثاني والعائد محذوف ، أي والذي وسقه والمراد به ما يجتمع بالليل ويأوي إلى مكانه من الدواب وغيرها. وعن مجاهد ما يكون فيه من خير أو شر وقيل ما ستره وغطى عليه بظلمته وقيل : ما جمعه من الظلمة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن جبير أنه قال (وَما وَسَقَ) وما عمل فيه ومنه قوله :

فيوما ترانا صالحين وتارة

تقوم بنا كالواسق المتلبب

وقيل : وسق بمعنى طرد أي وما طرده إلى أماكنه من الدواب وغيرها أو ما طرده من ضوء النهار ومنه الوسيقة قال في القاموس وهي من الإبل كالرفقة من الناس فإذا سرقت طردت معا (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) أي اجتمع نوره وصار بدرا (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) خطاب لجنس الإنسان المنادى أولا باعتبار شموله لأفراده والمراد بالركوب الملاقاة والطبق في الأصل ما طابق غيره مطلقا وخص في العرف بالحال المطابقة لغيرها ومنه قول الأقرع بن حابس :

إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره

وساقني طبق منه إلى طبق

و (عَنْ) للمجاوزة. وقال غير واحد : هي بمعنى بعد كما في قولهما : سادوك كابرا عن كابر وقوله :

ما زلت أقطع منهلا عن منهل

حتى أنخت بباب عبد الواحد

والمجاوزة والبعدية متقاربان والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لطبقا أو حالا من فاعل (تركبن) والظاهر أن نصب (طَبَقاً) على أنه مفعول به أي لتلاقن حالا مجاوزة لحال أو كائنة بعد حال أو مجاوزين لحال أو كائنين بعد حال كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول ، وجوز كون الركوب على حقيقته وتجعل الحال مركوبة مجازا. وقيل نصب (طَبَقاً) على التشبيه بالظرف أو الحالية وقال جمع الطبق جمع طبقة كتخم وتخمة وهي المرتبة ويقال إنه اسم جنس جمعي واحده ذلك والمعنى لتركبن أحوالا بعد أحوال هي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها ، ورجحه

٢٩٠

الطيبي فقال : هذا الذي يقتضيه النظم وترتب الفاء في (فَلا أُقْسِمُ) على قوله تعالى (بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) وفسر بعضهم الأحوال بما يكون في الدنيا من كونهم نطفة إلى الموت وما يكون في الآخرة من البعث إلى حين المستقر في إحدى الدارين. وقيل : يمكن أن يراد بطبقا عن طبق الموت المطابق للعدم الأصلي والإحياء المطابق للإحياء السابق ، فيكون الكلام قسما على البعث بعد الموت ويجري فيه ما ذكره الطيبي. وأخرج نعيم بن حماد وأبو نعيم عن مكحول أنه قال في الآية تكونون في كل عشرين سنة على حال لم تكونوا على مثلها. وفي رواية ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في كل عشرين عاما تحدثون أمرا لم تكونوا عليه ، فالطبق بمعنى عشرين عاما وقد عد ذلك في القاموس من جملة معانيه وما ذكر بيان للمعنى المراد. وقيل : الطبق هنا القرن من الناس مثله في قول العباس بن عبد المطلب يمدح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

وأنت لما ولدت أشرقت الأر

ض وضاءت بنورك الأفق

تنقل من صالب إلى رحم

إذا مضى عالم بدا طبق

وإن المعنى لتركبن سنن من مضى قبلكم قرنا بعد قرن ، وكلا القولين خلاف الظاهر. وقرأ عمر وابن مسعود وابن عباس ومجاهد والأسود وابن جبير ومسروق والشعبي وأبو العالية وابن وثاب وطلحة وعيسى والأخوان وابن كثير «لتركبنّ» بتاء الخطاب وفتح الباء وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنهما أيضا كسرا تاء المضارعة وهي لغة بني تميم على أنه خطاب للإنسان أيضا لكن باعتبار اللفظ لا باعتبار الشمول. وأخرج البخاري عن ابن عباس أن الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروي ذلك عن جماعة وكأن من ذهب إلى أنه عليه الصلاة والسلام هو المراد بالإنسان فيما تقدم يذهب إليه وعليه يراد (لَتَرْكَبُنَ) أحوالا شريفة بعد أخرى من مراتب القرب أو مراتب من الشدة في الدنيا باعتبار ما يقاسيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكفرة ويعانيه في تبليغ الرسالة أو الكلام عدة بالنصر أي لتلاقن فتحا بعد فتح ونصرا بعد نصر وتبشيرا بالمعراج ، أي لتركبن سماء بعد سماء كما أخرجه عبد بن حميد عن ابن عباس وابن مسعود وأيّد بالتوكيد بالجملة القسمية والتعقيب بالإنكارية وأخرج ابن المنذر وجماعة عن ابن مسعود أنه قال في ذلك يعني السماء تنفطر ثم تنشق ثم تحمر ، وفي رواية السماء تكون كالمهل وتكون وردة كالدهان وتكون واهية وتشقق فتكون حالا بعد حال فالتاء للتأنيث والضمير الفاعل عائد على السماء. وقرأ عمر وابن عباس أيضا «ليركبن» بالياء آخر الحروف وفتح الباء على الالتفات من خطاب الإنسان إلى الغيبة. وعن ابن عباس يعني نبيكم عليه الصلاة والسلام فجعل الضمير له صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمعنى على نحو ما تقدم. وقيل الضمير الغائب يعود على القمر لأنه يتغير أحوالا من سرار واستهلال وإبدار. وقرأ عمر أيضا «ليركبن» بياء الغيبة وضم الباء على أن ضمير الجمع للإنسان باعتبار الشمول. وقرئ بالتاء الفوقية وكسر الباء على تأنيث الإنسان المخاطب باعتبار النفس وأمر التقدير الحالية المشار إليها فيما مر على هذه القراءات لا يخفى. والفاء في قوله تعالى (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) جوز أن تكون لترتيب ما بعدها من الإنكار والتعجب على ما قبلها من أحوال يوم القيامة وأهوالها المشار إليها بقوله تعالى (لَتَرْكَبُنَ) إلخ على بعض الأوجه الموجبة للإيمان والسجود أي إذا كان حالهم يوم القيامة كما أشير إليه فأي شيء لهم حال كونهم غير مؤمنين ، أي أي شيء يمنعهم من الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسائر ما يجب الإيمان به مع تعاضد موجباته من الأهوال التي تكون لتاركه يومئذ ، وجوز أن يكون لترتيب ذلك على ما قيل من عظيم شأنه عليه الصلاة والسلام المشار إليه بقوله سبحانه (لَتَرْكَبُنَ) إلخ على بعض آخر من الأوجه السابقة فيه أي إذا كان حاله وشأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أشير

٢٩١

إليه فأي شيء يمنعهم من الإيمان به عليه الصلاة والسلام وجوز أن يكون لترتيب ذلك على ما تضمنه قوله سبحانه (فَلا أُقْسِمُ) إلخ مما يدل على صحة البعث من التغييرات العلوية والسفلية الدالة على كمال القدرة وإليه ذهب الإمام أي إذا كان شأنه تعالى شأنه كما أشير إليه من كونه سبحانه وتعالى عظيم القدرة واسع العلم فأي شيء يمنعهم عن الإيمان بالبعث الذي هو من جملة الممكنات التي تشملها قدرته عزوجل ويحيط بها علمه جل جلاله.

(وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) عطف على الجملة الحالية فهي حالية مثلها ، أي فأي مانع لهم حال عدم سجودهم عند قراءة القرآن والسجود مجاز عن الخضوع اللازم له على ما روي عن قتادة أو المراد به الصلاة. وفي قرن ذلك بالإيمان دلالة على عظم قدرها كما لا يخفى أو هو على ظاهره. فالمراد بما قبله قرئ القرآن المخصوص أو وفيه آية سجدة وقد صح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سجد عند قراءة هذه الآية. أخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن أبي هريرة قال : سجدنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) و (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) وأخرج الشيخان وأبو داود والنسائي وعن أبي رافع قال : صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) فسجد فقلت له ، فقال : سجدت خلف أبي القاسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه عليه الصلاة والسلام. وفي ذلك رد على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حيث قال : ليس في المنفصل وهو من سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل من الفتح وقيل هو قول الأكثر من الحجرات سجدة وهي سنة عند الشافعي وواجبة عند أبي حنيفة. قال الإمام : روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ ذات يوم (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) [العلق : ١٩] فسجد هو ومن معه من المؤمنين وقريش تصفق فوق رءوسهم وتصفر فنزلت هذه الآية. واحتج أبو حنيفة على وجوب السجدة بهذا من وجهين : الأول أن فعله عليه الصلاة والسلام يقتضي الوجوب لقوله تعالى (فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام : ١٥٣ ، ١٥٥] الثاني أنه تعالى ذم من يسمعه ولا يسجد وحصول الذم عند الترك يدل على الوجوب انتهى. وفيه بحث مع أن الحديث كما قال ابن حجر لم يثبت (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) أي بالقرآن وهو انتقال عن كونهم لا يسجدون عند قراءته إلى كونهم يكذبون به صريحا ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالكفر والإشعار بعلة الحكم. وقرأ الضحاك وابن أبي عبلة «يكذبون» مخففا وبفتح الياء (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) أي بالذي يضمرونه في صدورهم من الكفر والحسد والبغضاء والبغي فما موصولة والعائد محذوف وأصل الإيعاء جعل الشيء في وعاء. وفي مفردات الراغب الإيعاء حفظ الأمتعة في وعاء ومنه قوله:

والشر أخبث ما أوعيت من زاد

وأريد به هنا الإضمار مجازا وهو المروي عن ابن عباس ولا يلزم عليه كون الآية في حق المنافقين مع كون السورة مكية كما لا تخفى ، وفسره بعضهم بالجمع وحكي عن ابن زيد وجوز أن يكون المعنى والله تعالى أعلم بما يجمعونه في صحفهم من أعمال السوء وأيّا ما كان فعلم الله تعالى بذلك كناية عن مجازاته سبحانه عليه. وقيل : المراد الإشارة إلى أن لهم وراء التكذيب قبائح عظيمة كثيرة يضيق عن شرحها نطاق العبارة. وقال بعضهم : يحتمل أن يكون المعنى والله تعالى أعلم بما يضمرونه في أنفسهم من أدلة كونه أي القرآن حقا فيكون المراد المبالغة في عتادهم وتكذيبهم على خلاف علمهم ، والظاهر أن الجملة على هذا حال من ضمير (يُكَذِّبُونَ) وكونها كذلك على ما قيل من الإشارة خلاف الظاهر. وقرأ أبو رجاء «بما يعون» من وعى يعي (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) مرتب على الأخبار بعلمه تعالى بما يوعون مرادا به مجازاتهم به وقيل

٢٩٢

على تكذيبهم ، وقيل : الفاء فصيحة أي إذا كان حالهم ما ذكر فبشرهم إلخ والتبشير في المشهور الإخبار بسار والتعبير به هاهنا من باب :

تحية بينهم ضرب وجيع

وجوز أن يكون ذلك على تنزيلهم لانهماكهم في المعاصي الموجبة للعذاب وعدم استرجاعهم عنها منزلة الراغبين في العذاب حتى كأن الأخبار به تبشيرا وإخبارا بسار ، والفرق بين الوجهين يظهر بأدنى تأمل وأبعد جدا من قال إن ذلك تعريض بمحبة نبي الرحمة صلى‌الله‌عليه‌وسلم البشارة فيستعار لأمره عليه الصلاة والسلام بالإنذار لفظ البشارة تطييبا لقلبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) استثناء منقطع من الضمير المنصوب في (فَبَشِّرْهُمْ) وجوز أن يكون متصلا على أن يراد بالمستثنى من آمن وعمل الصالحات من آمن وعمل بعد منهم أي من أولئك الكفرة والمضي في الفعلين باعتبار علم الله تعالى أو هما بمعنى المضارع ، ولا يخفى ما فيه من التكلف مع أن الأول أنسب منه بقوله تعالى (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) لأن الأجر المذكور لا يخص المؤمنين منهم بل المؤمنين كافة ، وكون الاختصاص إضافيا بالنسبة إلى الباقين على الكفر منهم خلاف الظاهر على أن إيهام الاختصاص بالمؤمنين منهم يكفي في الغرض كما لا يخفى. والتنوين في (أَجْرٌ) للتعظيم ومعنى (غَيْرُ مَمْنُونٍ) غير مقطوع من منّ إذا قطع أو غير معتد به ومحسوب عليهم من منّ عليه إذا اعتد بالصنيعة وحسبها وجعل بعضهم المن بهذا المعنى من منّ بمعنى قطع أيضا لما أنه يقطع النعمة ويقتضي قطع شكرها والجملة على ما قيل استئناف مقرر لما أفاده الاستثناء من انتفاء العذاب عن المذكورين ومبين لكيفيته ومقارنته للثواب العظيم الكثير.

٢٩٣

سورة البروج

لا خلاف في مكيتها ولا في كونها اثنتين وعشرين آية ، ووجه مناسبتها لما قبلها باشتمالها كالتي قبل على وعد المؤمنين ووعيد الكافرين مع التنويه بشأن القرآن وفخامة قدره. وفي البحر أنه سبحانه لما ذكر أنه جل وعلا أعلم بما يجمعون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين من المكر والخداع وإيذاء من أسلم بأنواع من الأذى كالضرب والقتل والصلب والحرق بالشمس وإحماء الصخر ووضع أجساد من يريدون أن يفتنوه عليه ، ذكر سبحانه أن هذه الشنشنة كانت فيمن تقدم من الأمم فكانوا يعذبون بالنار وأن المعذبين كان لهم من الثبات في الإيمان ما منعهم أن يرجعوا عن دينهم وأن الذين عذبوهم ملعونون فكذلك الذين عذبوا المؤمنين من كفار قريش فهذه السورة عظة لقريش وتثبيت لمن يعذبونه من المؤمنين انتهى وهو وجه وجيه.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ)(١٠)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) أي القصور كما قال ابن عباس وغيره ، والمراد بها عند جمع البروج الاثنا عشر المعروفة وأصل البرج الأمر الظاهر ثم صار حقيقة للقصر العالي لأنه ظاهر للناظرين ، ويقال لما ارتفع من سور المدينة برج أيضا وبروج السماء بالمعنى المعروف وإن التحقت بالحقيقة فهي في الأصل استعارة فإنها شبهت بالقصور لعلوها ولأن النجوم نازلة فيها كسكانها فهناك استعارة مصرحة تتبعها مكنية ، وقيل : شبهت السماء بسور المدينة فأثبت لها البروج وقيل : هي منازل القمر وهذا راجع إلى القول الأول لأن البروج منقسمة إلى ثمانية وعشرين منزلا وقد تقدم الكلام فيها. وقال مجاهد والحسن وعكرمة وقتادة : هي النجوم. وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه فيه حديثا مرفوعا بلفظ الكواكب بدل النجوم والله تعالى أعلم بصحته. وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد عن أبي صالح أنه قال : هي

٢٩٤

النجوم العظام وعليه إنما سميت بروجا لظهورها وكذا على ما قبله وإن اختلفت الظهور ولم يظهر شموله جميع النجوم ، وقيل : هي أبواب السماء وسميت بذلك لأن النوازل تخرج من الملائكة عليهم‌السلام منها فجعلت مشبهة بقصور العظماء النازلة أو أمرهم منها أو لأنها لكونها مبدأ للظهور وصفت به مجازا في الطرف ، وقيل في النسبة والبروج الاثنا عشر في الحقيقة على ما ذكره محققو أهل الهيئة معتبرة في الفلك الأعلى المسمى بفلك الأفلاك والفلك الأطلس ، وزعموا أنه العرش بلسان الشرع لكنها لما لم تكن ظاهرة حسا دلوا عليها بما سامتها وقت تقسيم الفلك الأعلى من الصور المعروفة كالحمل والثور وغيرهما التي هي في الفلك الثامن المسمى عندهم بفلك الثوابت وبالكرسي في لسان الشرع على ما زعموا فبرج الحمل مثلا ليس إلا جزءا من اثني عشر جزءا من الفلك الأعلى سامتته صورة الحمل من الثوابت وقت التقسيم ، وبرج الثور ليس إلّا جزءا من ذلك سامتته صورة الثور منها ذلك الوقت أيضا وهكذا وإنما قيل وقت التقسيم لأن كل صورة قد خرجت لحركتها وإن كانت بطيئة عما كانت مسامتة له من تلك البروج حتى كاد يسامت الحمل اليوم برج الثور والثور برج الجوزاء وهكذا ، فعلى هذا وكون المراد بالبروج البروج الاثني عشر أو المنازل قيل المراد بالسماء الفلك الأعلى وقيل الفلك الثامن لظهور الصور الدالة على البروج فيه ، ولذا يسمى فلك البروج وقيل : السماء الدنيا لأنها ترى فيها بظاهر الحس نظير ما قيل في قوله تعالى (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) [الملك : ٥] وقيل الجنس الشامل لكل سماء لأن السماوات شفافة فيشارك العليا فيما فيها السفلى لأنه يرى فيها ظاهرا ، وإذا أريد بالبروج النجوم فقيل المراد بالسماء الفلك الثامن لأنها فيه حقيقة وقيل : السماء الدنيا وقيل الجنس على نحو ما مر ولا يراد على ما قيل الفلك الأطلس أعني الفلك الأعلى لأنه كاسمه غير مكوكب وإذا أريد بها الأبواب فقيل المراد بالسماء ما عدا فلك الأفلاك المسمى بلسان الشرع بالعرش فإنه لم يرد أن له أبوابا ، هذا وأنت تعلم أن أكثر ما ذكر مبني على كلام أهل الهيئة المتقدمين وهو لا يصح له مستند شرعا ولا يكاد تسمع فيه إطلاق السماء على العرش أو الكرسي لكن لما سمع بعض الإسلاميين من الفلاسفة أفلاكا تسعة وأراد تطبيق ذلك على ما روي في الشرع زعم أن سبعة منها هي السماوات السبع والاثنين الباقيين هما الكرسي والعرش ولم يدر أن في الأخبار ما يأبى ذلك وكون الدليل العقلي يقتضيه محل بحث كما لا يخفى. ومن رجع إلى كلام أهل الهيئة المحدثين ونظر في أدلتهم على ما قالوه في أمر الأجرام العلوية وكيفية ترتيبها قوي عنده وهن ما ذهب إليه المتقدمون في ذلك فالذي ينبغي أن يقال : البروج هي المنازل للكواكب مطلقا التي يشاهدها الخواص والعوام وما علينا في أي سماء كانت أو الكواكب أنفسها أينما كانت أو أبواب السماء الواردة في لسان الشرع والأحاديث الصحيحة وهي لكل سماء ولم يثبت للعرش ولا للكرسي منها شيء ويراد بالسماء جنسها أو السماء الدنيا في غير القول الأخير على ما سمعت فيما تقدم فلا تغفل.

(وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) أي الموعود به وهو يوم القيامة باتفاق المفسرين ، وقيل : لعله اليوم الذي يخرج الناس فيه من قبورهم فقد قال سبحانه (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) [المعارج : ٤٣ ، ٤٤] أو (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) [الأنبياء : ١٠٤] وقيل يمكن أن يراد به يوم شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما أشار إليه قوله تعالى (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩] ولا يخفى أن جميع ذلك داخل في يوم القيامة (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) أي ومن يشهد بذلك اليوم ويحضره من الخلائق المبعوثين فيه وما يحضر فيه من الأهوال

٢٩٥

والعجائب فيكون الله عزوجل قد أقسم سبحانه بيوم القيامة وما فيه تعظيما لذلك اليوم وإرهابا لمنكريه ، وتنكير الوصفين للتعظيم أي وشاهد ومشهود لا يكتنه وصفهما أو للتكثير كما قيل في (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) [التكوير : ١٤] وأخرج الترمذي وجماعة عن أبي هريرة مرفوعا : «الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة» وروي ذلك عن أبي مالك الأشعري وجبير بن مطعم رضي الله تعالى عنهما مرفوعا أيضا وأخرجه جماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه وغيره من الصحابة والتابعين. وأخرج الحاكم وصححه عنه مرفوعا أيضا : «الشاهد يوم عرفة ويوم الجمعة والمشهود يوم القيامة» وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه : «الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم النجم». وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما وكرم وجههما أن رجلا سأله عن ذلك فقال : هل سألت أحدا قبلي؟ قال : نعم ، سألت ابن عمر وابن الزبير فقالا يوم الذبح ويوم الجمعة ، قال : لا ولكن الشاهد محمد. وفي رواية جدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قرأ (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١] والمشهود يوم القيامة. ثم قرأ (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) [هود : ١٠٣] وروى النسائي وجماعة من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه والشاهد الله عزوجل والمشهود يوم القيامة. وعن مجاهد وعكرمة وعطاء بن يسار الشاهد آدم عليه‌السلام وذريته والمشهود يوم القيامة. وعن ابن المسيب الشاهد يوم التروية والمشهود يوم عرفة. وعن الترمذي الشاهد الحفظة والمشهود أي عليه الناس. وعن عبد العزيز بن يحيى هما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته عليه الصلاة والسلام ، وعنه أيضا هما الأنبياء عليهم‌السلام وأممهم. وعن ابن جبير ومقاتل هما الجوارح وأصحابها وقيل هما يوم الاثنين ويوم الجمعة ، وقيل هما الملائكة المتعاقبون عليهم‌السلام وقرآن الفجر ، وقيل هما النجم والليل والنهار وقيل الشاهد الله تعالى والملائكة وأولو العلم المشهود به الوحدانية وإن الدين عند الله تعالى الإسلام وقيل الشاهد مخلوقاته تعالى والمشهود به الوحدانية وقيل هما الحجر الأسود والحجيج ، وقيل الليالي والأيام وبنو آدم فعن الحسن ما من يوم إلّا ينادي إني يوم جديد وإني على ما يعمل فيّ شهيد فاغتنمني فلو غابت شمسي لم تدركني إلى يوم القيامة. وقيل : أمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسائر الأمم. وجوز أن يراد بهما المقربون والعليون لقوله تعالى (كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) [المطففين : ٢٠ ، ٢١] وأن يراد بالشاهد الطفل الذي قال : يا أماه اصبري فإنك على الحق كما سيجيء إن شاء الله تعالى. والمشهود له أمه والمؤمنون لأنه إذا كانت أمه على الحق فسائر المؤمنين كذلك. وقيل : وجميع الأقوال في ذلك على ما وقفت عليه نحو من ثلاثين قولا والوصف على بعضها من الشهادة بمعنى الحضور ضد المغيب ، وعلى بعضها الآخر من الشهادة على الخصوم أوله شهادة الجوارح بأن ينطقها الله تعالى الذي أنطق كل شيء وكذا الحجر الأسود ولا بعد في حضوره يوم القيامة للشهادة للحجيج ، وأما شهادة اليوم فيمكن أن تكون بعد ظهوره في صورة كظهور القرآن على صورة الرجل الشاحب إذ يتلقى صاحبه عند قيامه من قبره وظهور الموت في صورة كبش يوم القيامة حتى يذبح بين الجنة والنار إلى غير ذلك. وقال الشهاب : الله تعالى قادر على أن يحضر اليوم ليشهد ولم يبيّن كيفية ذلك فإن كانت كما ذكرنا فذاك وإن كانت شيئا آخر بأن يحضر نفس اليوم في ذلك اليوم فالظاهر أنه يلزم أن يكون للزمان زمان وهو إن جوزه من جوزه من المتكلمين لكن في الشهادة بلسان القال عليه خفاء ومثلها نداء اليوم الذي سمعته آنفا عن الحسن إن كان بلسان القال أيضا دون لسان الحال كما هو الأرجح عندي. واختار أبو حيان من الأقوال على تقدير أن يراد بالشهادة الشهادة بالمعنى الثاني القول بأن الشاهد من يشهد في ذلك اليوم أعني اليوم الموعود يوم القيامة وأن المشهود من يشهد عليه

٢٩٦

فيه ، وعلى تقدير أن يراد بها الشهادة بالمعنى الأول القول بأن الشاهد الخلائق الحاضرون للحساب وأن المشهود اليوم ولعل تكرير القسم به وإن اختلف العنوان لزيادة تعظيمه فتأمل. وجواب القسم قيل هو قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا) [البروج : ١٠] وقال المبرد هو قوله تعالى (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) [البروج : ١٢٠] وصرح به ابن جريج وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن مسعود ما يدل عليه وقال غير واحد هو قوله تعالى (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) على حذف اللام منه للطول والأصل لقتل كما في قوله :

حلفت لها بالله حلفة فاجر

لناموا فما إن من حديث ولا صالي

وقيل : على حذف اللام وقد والأصل لقد قتل وهو مبني على ما اشتهر من أن الماضي المثبت المتصرف الذي لم يتقدم معموله تلزمه اللام وقد ، ولا يجوز الاقتصار على أحدهما إلّا عند طول الكلام كما في قوله سبحانه (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) [الشمس : ٩] بعد قوله تعالى (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) [الشمس : ١] إلخ والبيت المذكور ولا يجوز تقدير اللام بدون قد لأنها لا تدخل على الماضي المجرد منها ، وتمام الكلام في محله كشروح التسهيل وغيرها وأيّا ما كان فالجملة خبرية. وقال بعض المحققين : إن الأظهر أنها دعائية دالة على الجواب كأنه قيل : أقسم بهذه الأشياء أن كفار قريش لملعونون أحقاء بأن يقال فيها قتلوا كما هو شأن أصحاب الأخدود لما أن السورة وردت لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الإيمان وتصبيرهم على أذية الكفرة وتذكيرهم بما جرى ممن تقدمهم من التعذيب لأهل الإيمان وصبرهم على ذلك حتى يأنسوا بهم ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم ويعلموا أنهم مثل أولئك عند الله عزوجل في كونهم ملعونين مطرودين ، فالقتل هنا عبارة عن أشد اللعن والطرد لاستحالة الدعاء منه سبحانه حقيقة فأريد لازمه من السخط والطرد عن رحمته جل وعلا. وقال بعضهم : الأظهر أن يقدر أنهم لمقتولون كما قتال أصحاب الأخدود فيكون وعدا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتل الكفرة المتردين لإعلاء دينه ، ويكون معجزة بقتل رءوسهم في غزوة بدر انتهى. وظاهرة إبقاء القتل على حقيقته واعتبار الجملة خبرية وهو كما ترى وحكي في البحر أن الجواب محذوف وتقديره لتبعثن ونحوه وليس بشيء كما لا يخفى و (الْأُخْدُودِ) الخد وهو الشق في الأرض ونحوهما بناء ومعنى الخق والأخقوق ومنه ما جاء في خبر سراقة حين تبع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فساخت قوائمه أي قوائم فرسه في أخاقيق جرذان.

أخرج مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث صهيب يرفعه : «كان ملك من الملوك وكان لذلك الملك كاهن يكهن له فقال له ذلك الكاهن : انظروا لي غلاما فهما فأعلمه علمي هذا فإني أخاف أن أموت فينقطع منكم هذا العلم ولا يكون فيكم من يعلمه ، فنظروا له غلاما على ما وصف فأمروه أن يحضر ذلك الكاهن وأن يختلف إليه ، فجعل الغلام يختلف إليه وكان على طريق الغلام راهب في صومعة فجعل الغلام يسأل ذلك الراهب كلما مر به فلم يزل به حتى أخبره فقال : إنما أعبد الله تعالى. فجعل الغلام يمكث عند الراهب ويبطئ على الكاهن فأرسل الكاهن إلى أهل الغلام إنه لا يكاد يحضرني فأخبر الغلام الراهب بذلك فقال له الراهب : إذا قال لك الكاهن أين كنت فقل عند أهلي ، وإذا قال لك أهلك أين كنت فأخبرهم أنك كنت عند الكاهن ، فبينما الغلام على ذلك إذ مر بجماعة من الناس كثيرة قد حبستهم دابة يقال كانت أسدا ، فأخذ الغلام حجرا فقال : اللهم إن كان ما يقول الراهب حقا فأسألك أن أقتل هذه الدابة وإن كان ما يقوله الكاهن حقا فأسألك أن لا أقتلها ثم رمى فقتل الدابة ، فقال الناس من قتلها؟ فقالوا : الغلام ففزع الناس وقالوا قد علم هذا

٢٩٧

الغلام علما لم يعلمه أحد ، فسمع أعمى فجاءه فقال له : إن أنت رددت بصري فلك كذا وكذا ، فقال الغلام : لا أريد منك هذا ولكن أرأيت إن رجع عليك بصرك أتؤمن بالذي رده عليك؟ قال نعم ، فرد عليه بصره فآمن الأعمى فبلغ الملك أمرهم فبعث إليهم فأتى بهم فقال ؛ لأقتلن كل واحد منكم قتلة لا أقتل بها صاحبه فأمر بالراهب والرجل الذي كان أعمى فوضع المنشار على مفرق أحدهما فقتله وقتل الآخر بقتلة أخرى ، ثم أمر بالغلام فقال : انطلقوا به إلى جبل كذا وكذا فألقوه من رأسه فانطلقوا به إلى ذلك الجبل فلما انتهوا به إلى ذلك المكان الذي أرادوا أن يلقوه منه جعلوا يتهافتون من ذلك الجبل ويتردّون حتى لم يبق منهم إلّا الغلام ، ثم رجع الغلام فأمر به الملك أن ينطلقوا به إلى البحر فيلقوه فيه فانطلق به إلى البحر ففرق الله تعالى الذين كانوا معه وأنجاه الله تعالى ، فقال الغلام للملك : إنك لا تقتلني حتى تصلبني وترميني وتقول : بسم الله رب الغلام ، فأمر به فصلب ثم رماه وقال : بسم الله رب الغلام فوضع الغلام يده على صدغه حين رمي ثم مات. فقال الناس : لقد علم هذا الغلام علما ما علمه أحد فإنا نؤمن برب هذا الغلام فقيل للملك : أجزعت إن خالفك ثلاثة فهذا العالم كلهم قد خالفوك فخدّ أخدودا ثم ألقى فيها الحطب والنار ثم جمع الناس فقال : من رجع عن دينه تركناه ومن لم يرجع ألقيناه في هذه النار ، فجعل يلقيهم في تلك الأخدود ، فقال : يقول الله تعالى (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) ـ حتى بلغ ـ (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ، وفيه فأما الغلام فإنه دفن ثم أخرج فيذكر أنه خرج في زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وإصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل وفي بعض رواياته فجاءت امرأة بابن لها صغير فكأنها تقاعست أن تقع في النار فقال الصبي : يا أمه اصبري فإنك على الحق.

وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن نجيّ قال : شهدت عليا كرم الله تعالى وجهه وقد أتاه أسقف نجران فسأله عن أصحاب الأخدود فقص عليه القصة ، فقال عليّ كرم الله تعالى وجهه : أنا أعلم بهم منك بعث نبي من الحبش إلى قومه ثم قرأ رضي الله تعالى عنه (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) [غافر : ٧٨] فدعاهم فتابعه الناس فقاتلهم فقتل أصحابه وأخذ فأوثق فانفلت فأنس إليه رجال فقاتلهم وقتلوا ، وأخذ فأوثق فخددوا أخدودا وجعلوا فيها النيران وجعلوا يعرضون الناس فمن تبع النبي رمي به فيها ومن تابعهم ترك. وجاءت امرأة في آخر من جاء ومعها صبي فجزعت فقال الصبي : يا أمه اصبري ولا تماري ، فوقعت. وأخرج عبد بن حميد عنه كرم الله تعالى وجهه أنه قال : كان المجوس أهل كتاب وكانوا متمسكين بكتابهم وكانت الخمرة قد أحلت لهم فتناول منها ملك من ملوكهم فغلبته على عقله فتناول أخته أو ابنته فوقع عليها ، فلما ذهب عنه السكر ندم وقال لها : ويحك ما هذا الذي أتيت وما المخرج منه؟ قالت : المخرج منه أن تخطب الناس فتقول : أيها الناس إن الله تعالى أحل نكاح الأخوات أو البنات ، فقال الناس جماعتهم معاذ الله تعالى أن نؤمن بهذا أو نقر به أو جاء به نبي أو نزل علينا في كتاب ، فرجع إلى صاحبته وقال : ويحك إن الناس قد أبوا عليّ ذلك ، قالت : إن أبوا عليك فابسط فيهم السوط فبسط فيهم السوط فأبوا أن يقروا ، قالت : فجرد فيهم السيف فأبوا أن يقروا ، قالت : فخدّ لهم الأخدود ثم أوقد فيها النيران فمن تابعك خل عنه فأخدّ لهم أخدودا وأوقد فيها النيران وعرض أهل مملكته على ذلك فمن أبى قذفه في النار ومن لم يأب خلى عنه. وقيل : وقع إلى نجران رجل ممن كان على دين عيسى عليه‌السلام فأجابوه فسار إليهم ذو نواس اليهودي بجنود من حمير فخيّرهم بين النار واليهودية فأبوا فأحرق منهم اثني عشر ألفا في الأخاديد وقيل سبعين ألفا ، وذكر أن طول الأخدود أربعون ذراعا وعرضه اثني عشر ذراعا ، ولاختلاف الأخبار في القصة اختلفوا

٢٩٨

في موضع الأخدود فقيل بنجران لهذا الخبر الأخير ، وقيل بأرض الحبشة لخبر ابن نجيّ السابق. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان بمذراع اليمن أي قراه وهذا لا ينافي كونه بنجران لأنه بلد باليمن ، وكذا اختلفوا في أصحاب الأخدود لذلك فحكي فيه ما يزيد على عشرة أقوال منها أنهم حبشة ، ومنها أنهم من النبط وروي عن عكرمة ، ومنها أنهم من بني إسرائيل وروي عن ابن عباس ، وأصح الروايات عندي في القصة ما قدمناه عن صهيب رضي الله تعالى عنه والجمع ممكن ، فقد قال عصام الدين : لعل جميع ما روي واقع والقرآن شامل له فلا تغفل. وقرأ الحسن وابن مقسم «قتّل» بالتشديد وهو مبالغة في لعنهم لعظم ما أتوا به وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما أخرج ابن أبي شيبة عن عوف وعبد بن حميد عن الحسن إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوذ من جهد البلاء.

(النَّارِ) بدل اشتمال من الأخدود والرابط مقدر أي فيه أو أقيم إلى مقام الضمير ، أو لأنه معلوم اتصاله به فلا يحتاج لرابط وكذا كل ما يظهر ارتباطه فيما قبل. وجوز أبو حيان كونه بدل كل من كل على تقدير محذوف أي أخدود النار وليس بذاك. وقرأ قوم «النّار» بالرفع فقيل على معنى قتلتهم النار كما في قوله تعالى (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ) [النور : ٣٦] على قراءة «يسبّح» بالبناء للمفعول وقوله :

ليبك يزيد ضارع لخصومة

ويكون أصحاب الأخدود إذ ذاك المؤمنين وليس المراد بالقتل اللعن ، وجوز أن يراد بهم الكفرة والقتل على حقيقته بناء على ما قال الربيع بن أنس والكلبي وأبو العالية وأبو إسحاق من أن الله تعالى بعث على المؤمنين ريحا فقبضت أرواحهم وخرجت النار فأحرقت الكافرين الذي كانوا على حافتي الأخدود ، وأنت تعلم أن قول هؤلاء مخالف لقول الجمهور ولما دلت عليه القصص التي ذكروها فلا ينبغي أن يعول عليه ، وإن حمل القتل على حقيقته غير ملائم للمقام ولعل الأولى في توجيه هذه القراءة أن (النَّارِ) خبر مبتدأ محذوف أي هي أو هو النار ويكون الضمير راجعا على الأخدود وكونه النار خارج مخرج المبالغة كأنه نفس النار (ذاتِ الْوَقُودِ) وصف لها بعناية العظمة وارتفاع اللهب وكثرة ما يوجبه ووجه إفادته ذلك أنه لم يقل موقدة بل جعلت ذات وقود أي مالكته وهو كناية عن زيادته زيادة مفرطة لكثرة ما يرتفع به لهبها وهو الحطب الموقد به لأن تعريفه استغراقي وهي إذا ملكت كل موقود به عظم حريقها ولهبها وليس ذلك لأنه لا يقال ذو كذا إلّا لمن كثر عنده كذا لأنه غير مسلم ، وذو النون يأباه وكذا ذو العرش. وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو حيوة وعيسى «الوقود» بضم الواو وهو مصدر بخلاف مفتوحه فإنه ما يوقد به. وقد حكى سيبويه أنه مصدر كمضمومه. وقوله تعالى : (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) ظرف لقتل أي لعنوا حين أحدقوا بالنار قاعدين حولها في مكان قريب منها مشرفين عليها من حافات الأخدود كما في قول الأعشى :

تشب لمقرورين يصطليانها

وباب على النار الندى والمحلق

وقيل الكلام بتقدير مضاف أي على حافاتها أو نحوه ، والجمهور على أن المراد ذلك من غير تقدير (وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) أي يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأن أحدا لم يقصر فيما أمر به ، أو يشهدون عنده على حسن ما يفعلون واشتماله على الصلاح ما قيل أو يشهد بعضهم على بعض بذلك الفعل الشنيع يوم القيامة ، أو يشهدون على أنفسهم بذلك يوم تشهد عليهم جوارحهم بأعمالهم. وقيل (عَلى) بمعنى مع والمعنى وهم مع ما يفعلون بالمؤمنين من العذاب حضور لا يرقّون لهم لغاية قسوة قلوبهم ، ومن زعم

٢٩٩

أن الله تعالى نجّى المؤمنين وإنما أحرق سبحانه الكافرين يقول هنا المراد وهم على ما يريدون فعله بالمؤمنين شهود ، وأيّا ما كان ففي المؤمنين تغليب والمراد (بِالْمُؤْمِنِينَ) والمؤمنات ومن الغريب الذي لا يلتفت إليه ما قيل إن أصحاب الأخدود عمرو بن هند المشهور بمحرق ومن معه حرق مائة من بني تميم وضمير (هُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ) لكفار قريش الذين كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ) أي ما أنكروا منهم وما عابوا. وفي مفردات الراغب يقال : نقمت الشيء إذا أنكرته بلسانك أو بعقوبة. وقرأ زيد بن علي وأبو حيوة وابن أبي عبلة «وما نقموا» بكسر القاف والجملة عطف على الجملة الاسمية وحسن ذلك على ما قيل كون تلك الاسمية لوقوعها في حيز إذ ماضوية فكان العطف عطف فعلية على فعلية. وقيل إن هذه الفعلية بتقدير وهم ما نقموا منهم (إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) استثناء مفصح عن براءتهم عما يعاب وينكر بالكلية على منهاج قوله :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

وكون الكفرة يرون الإيمان أمرا منكرا والشاعر لا يرى الفلول كذلك لا يضر على ما أرى في كون ذلك منه عزوجل جاريا على ذلك المنهاج من تأكيد المدح بما يشبه الذم ، ثم إن القوم إن كانوا مشركين فالمنكر عندهم ليس هو الإيمان بالله تعالى بل نفي ما سواه من معبوداتهم الباطلة وإن كانوا معطّلة فالمنكر عندهم ليس إلّا إثبات معبود غير معهود لهم لكن لما كان مآل الأمرين إنكار المعبود بحق الموصوف بصفات الجلال والإكرام عبر بما ذكر مفصحا عما سمعت فتأمل. ولبعض الأعلام كلام في هذا المقام قد رده الشهاب فإن أردته فارجع إليه. وفي المنتخب إنما قال سبحانه (إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا) لأن التعذيب إنما كان واقعا على الإيمان في المستقبل ولو كفروا فيه لم يعذبوا على ما مضى فكأنه قال عزوجل : إلّا أن يدوموا على إيمانهم انتهى. وكأنه حمل النقم على الإنكار بالعقوبة ، ووصفه عزوجل بكونه عزيزا غلبا يخشى عقابه وحميدا منعما يرجى ثوابه ، وتأكيد ذلك بقوله سبحانه (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) للإشعار بمناط إيمانهم. وقوله تعالى (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) وعد لهم ووعيد لمعذبيهم فإن علم الله جل شأنه الجامع لصفات الجلال والجمال بجميع الأشياء التي من جملتها أعمال الفريقين يستدعي توفير جزاء كل منهما ولكونه تذييلا لذلك واللائق به الاستقلال جيء فيه بالاسم الجليل دون الضمير (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي محنوهم في دينهم ليرجعوا عنه والمراد بالذين فتنوا وبالمؤمنين والمؤمنات المفتونين ، أما أصحاب الأخدود والمطروحون فيه خاصة وأما الأعم ، ويدخل المذكورون دخولا أوليا وهو الأظهر. وقيل : المراد بالموصول كفار قريش الذين عذبوا المؤمنين والمؤمنات من هذه الأمة بأنواع من العذاب وقوله تعالى (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) قال ابن عطية : يقوي أن الآية في قريش لأن هذا اللفظ فيهم أحكم منه في أولئك الذين قد علم أنهم ماتوا على كفرهم ، وأما قريش فكان فيهم وقت نزولها من تاب وآمن ، وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يعكر على أظهرية العموم والظاهر أن المراد ثم لم يتوبوا من فتنهم (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) أي بسبب فتنهم ذلك (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) وهو نار أخرى زائدة الإحراق كما تنبئ عنه صيغة فعيل لعدم توبتهم ومبالاتهم بما صدر منهم. وقال بعض الأجلة : أي (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) بسبب كفرهم فإن فعلهم ذلك لا يتصور من غير الكافر (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) بسبب فتنهم المؤمنين والمؤمنات وفي جعل ذلك جزاء الفتن من الحسن ما لا يخفى. وتعقب بأن عنوان الكفر لم يصرح به في جانب الصلة وإنما المصرح به الفتن وعدم التوبة فالأظهر اعتبارهما

٣٠٠