الوجيز في تفسير القرآن العزيز - ج ١

الشيخ علي بن الحسين بن أبي جامع العاملي

الوجيز في تفسير القرآن العزيز - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي بن الحسين بن أبي جامع العاملي


المحقق: الشيخ مالك المحمودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القرآن الكريم
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

سورة البقرة

[٢]

مائتان وستّ وثمانون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] ـ (الم) وباقي الألفاظ المتهجّى بها ، (١) أسماء مسمّياتها : الحروف التي منها ركّبت الكلم ، لصدق حدّ الاسم عليها وقبولها خواصّه ، وقد تسمّى حروفا مجازا.

وما في حديث : «من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها». لا أقول : «الم» حرف ، بل «الف» حرف و «لام» حرف و «ميم» حرف (٢) فلغوي ، إذ

__________________

(١) وهي الألفاظ الواردة في أوائل السّور التالية : آل عمران : ٣ ، والأعراف : ٧ ، يونس : ١٠ ، هود : ١١ ، يوسف : ١٢ ، الرعد : ١٣ ، ابراهيم : ١٤ ، الحجر : ١٥ ، مريم : ١٩ ، طه : ٢٠ ، الشعراء : ٢٦ ، النمل : ٢٧ ، القصص : ٢٨ ، العنكبوت : ٢٩ ، الروم : ٣٠ ، لقمان : ٣١ ، السجدة : ٣٢ ، يس : ٣٦ ، ص : ٣٨ ، والحواميم السبعة وهي : غافر : ٤٠ ، فصّلت : ٤١ ، الشورى : ٤٢ ، الزخرف : ٤٣ ، الدخان : ٤٤ ، الجاثية : ٤٥ والأحقاف : ٤٦ ، والألفاظ الواردة في أول سورتي ق : ٥٠ والقلم : ٦٨.

(٢) رواه الترمذي في سننه ٥ : ١٧٥ ـ كتاب فضائل القرآن ، الحديث : ٢٩١٠ ، والسيوطي في الدر المنثور ١ : ٢٢ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٦١

العرف طار.

وصدّرت اسماؤها بها لتكون أول ما يقرع السّمع ، إلّا الألف اللّينة ، استعير مكان مسمّاها ؛ لسكون الألف المتحرّكة المسماة ب «الهمزة».

وهي بدون العوامل موقوفة بلا إعراب ؛ لعدم مقتضيه ، مع قبولها له ، إذ لم تشابه مبنيّ الأصل ، ولذا جمع فيها بين السّاكنين ، فقيل : «صاد نون» ولم ترك «أين».

وإنّما افتتحت السّور بطائفة منها : ايقاظا للمتحدّى بالقرآن ، وتنبيها على أنّ المتلوّ عليهم كلام منظوم ممّا ينظمون منه كلامهم ، فلو كان من عند غير الله لما عجزوا بأجمعهم عن الإتيان بمثله مع فصاحتهم وتظاهرهم. (١) وليستقلّ أول ما يقرع الأسماع بنوع إعجاز إذ لم يعتد النطق بأسماء الحروف من الأمي الذي لا يخطّ ولا يتلو ، مع ان المورد منها في الفواتح.

__________________

(١) تحدّى القرآن الكريم عموم العرب في جميع الازمنة بأن يأتوا بمثل القرآن لكنهم عجزوا ولا يزالون عاجزين عن ذلك مع توفّر الدواعي على إتيانه ـ خصوصا في عصرنا الحاضر الذي يحاول المستعمرون فيه بكل ما أوتوا من حول وقوة صرف الناس عن الإسلام والقرآن ـ.

وآيات التحدي على انواع هي :

أـ التحدّي بإتيان كتاب يكون مثل القرآن :

قول تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الاسراء : ١٧ / ٨٨).

وقوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) (الطور : ٥٢ / ٣٣ ـ ٣٤).

ب ـ التحدّي بإتيان عشر سور :

قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (هود : ١١ / ١٣).

ج ـ التحدّي بإتيان سورة واحدة فقط :

قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (يونس : ١٠ / ٣٨).

٦٢

ويجمعها : «صراط علي حق نمسكه».

نصفها (١) الأكثر وقوعا في تراكيب الكلم. وإنّما فرّقت على السّور ولم تعدّ متجمعة في أوّل القرآن تكريرا للتحدّي والتّنبيه.

وقيل : هي أسماء للسّور. (٢)

واستكراههم التسمية بثلاثة أسماء فصاعدا إنّما هو إذا ركّبت تركيب «بعلبك» ، لا إذا نثرت نثر أسماء العدد ، فإنّها كالتسمية بالجمل المحكيّة.

وترجيح السّابق ـ بأنه أوفق بلطائف القرآن ـ ، يخدشه : أن النكات المذكورة في التّعديد من التّحدي وغيره توجد مع العلمية ـ أيضا ـ.

نعم يلزمها النّقل والاشتراك في الأعلام من واضع واحد ، المنافي للغرض منها.

وقيل : مختصرة من كلمات ، كقولهم «لم» معناه «أنا الله أعلم» ونحوه. (٣) وقيل : إشارة الى مدد وآجال بحساب الجمّل. (٤) وقيل : مقسم بها ؛ لشرف الحروف لأنّها مباني أسمائه تعالى وكتبه. (٥)

وقيل : اسماء القرآن للإخبار عنها به وبالكتاب. (٦)

وقيل : اسماء الله تعالى ، لقول علي عليه‌السلام : «يا كهيعص ، يا حمعسق» (٧)

__________________

(١) قال نظام الدين الحسن بن محمّد القمي (ت / ٧٢٨ ه‍) في تفسيره غرائب القرآن ١ : ١٣٧ : واعلم ان الباقية ـ بعد حذف المكرر ـ اربعة عشر ، نصف عدد حروف المعجم بعد الكسر ... الى آخر ما قال.

(٢) قاله زيد بن أسلم والحسن ـ كما في تفسير التبيان ١ : ٤٧ ـ.

(٣) قاله ابن عباس ـ كما في تفسير مجمع البيان ١ : ٣٢ ـ.

(٤) ينظر تفسير التبيان ١ : ٤٧.

(٥) قاله ابن عباس وعكرمة ـ كما في تفسير التبيان ١ : ٤٧ ـ.

(٦) قاله قتادة ومجاهد وابن جريج ـ كما في تفسير التبيان ١ : ٤٧ ـ.

(٧) رواه الطبرسي في تفسير مجمع البيان ٣ : ٥٠٢.

٦٣

وقيل : سرّ الله (١) تعالى. (٢)

وقيل : من المتشابه الذي استأثر الله تعالى به. (٣)

فإن جعلت أسماء لله تعالى أو السور أو القرآن فمحلّها : الرّفع ـ على الابتداء أو الخبر ـ. أو النصب ـ بتقدير «اتل» أو فعل القسم ـ ، أو الجرّ بإضمار حرف القسم ـ.

وان عددت مبقاة على معانيها فإن اولت ب «المؤلّف» فالرفع ـ كما مرّ ـ وإن جعلت مقسما بها فالنصب أو الجر ، وإلّا فلا محل لها.

[٢] ـ (ذلِكَ الْكِتابُ) الإشارة الى «الم» أي هذه الحروف الّتي ينتظم منها كلامكم ، أو هذا المؤلّف منها أو القرآن أو السّورة. وحيث شابه البعيد لتقصيه ، أتى بصيغته ، أو الى الكتاب فتكون صفته ، أي : الكتاب الموعود به. وهو مصدر اطلق على المكتوب ، ثمّ على العبارة قبل الكتب لأنّها مما يكتب.

وأصله : الجمع ، ف «الم» ـ ان جعلت اسما للسّورة أو القرآن أو مؤوّلة بالمؤلّف ـ مبتدأ ، و «ذلك» مبتدأ ثان و «الكتاب» خبره ، والجملة خبر الأوّل.

ومعناه : انه الكتاب الكامل الحقيق بأن يسمّى كتابا ، أو الخبر «ذلك» و «الكتاب» صفته. أو «الم» خبر لمحذوف. و «ذلك» خبر ثان ، أو بدل ، و «الكتاب» صفته أو «ذلك» مبتدأ و «الكتاب» خبره ، أو صفته والخبر : (لا رَيْبَ فِيهِ).

و «الرّيب» مصدر رابه كذا : إذا وجد فيه الرّبية ، وهي : قلق النّفس. سمّي به «الشك» لأنه يقلقها. وهو مبنيّ لتضمّنه معنى «من» ومحلّه النّصب ب «لا» ، و «فيه» خبره ، ولم يقدّم لعدم قصد القصر. ومعناه أنه لوضوحه دلالة وبرهانا بحيث لا يرتاب

__________________

(١) في «ط» : أمر الله.

(٢) في تفسير التبيان ١ : ٤٨ : قال بعضهم لكلّ كتاب سرّ ، وسرّ القرآن في فواتحه.

(٣) ذكر هذا القول الطبرسي في تفسير مجمع البيان ١ : ٣٢.

٦٤

فيه عاقل. أو صفته ، و «للمتّقين» خبره ، و «هدى» حال عن الضّمير المجرور ، وعامله : الظرف. أو : الخبر محذوف ولذا وقف على «ريب» ، و «فيه» خبر «هدى» قدّم عليه لتنكيره ، والتّقدير : لا ريب فيه ، فيه هدى.

وعلى الاوّل (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) خبر مبتدأ محذوف أو خبر ل «ذلك» ك «لا ريب».

والهدى : مصدر ، وهو : الدلالة ، والتوصيف به للمبالغة ، وتنكيره للتعظيم.

واختصاصه بالمتّقين ـ وإن كان هدى للناس ـ ، لأنهم المهتدون به. والمراد : زيادته وثباته لهم ك (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) أو يراد بهم المشارفون للتّقوى.

والمتقي ـ لغة ـ : اسم فاعل من وقاه فاتّقى.

والوقاية : فرط الصّيانة ، وشرعا : من يقي نفسه الذنوب.

هذا ، وأوفق الوجوه الإعرابية : كون الآية أربع جمل متناسقة تقرّر كلّ لاحقة سابقتها ، ولذا لم يتخللها العاطف.

ف «الم» جملة تفيد التّحدّي ، و «ذلك الكتاب» ـ ثانية ـ تقرير جهة التّحدّي ، و «لا ريب فيه» ـ ثالثة ـ تسجّل كماله. وهدى للمتقين ـ رابعة ـ تقرر كونه يقينا لا يشك فيه.

[٣] ـ (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ). إمّا صفة ل «المتّقين» مجرورة مخصّصة ـ إن فسّرت التّقوى بترك المعاصي ـ ، أو موضحة ـ إن فسّرت بفعل الطّاعة وترك المعصية ـ ، لاشتمالها على أساس الأعمال القلبيّة ، وام العبادات البدنية والمالية من الايمان والصّلاة والصّدقة المستتبعة لسائر الطّاعات وترك المعاصي غالبا (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) ، (١) أو مادحة بأفضل ما تضمّنه التّقوى ، أو منصوبة أو مرفوعة على المدح بتقدير : أعني ، أو : هم. وإمّا استئناف مرفوع بالابتداء ، وخبره «أولئك» ، فالوقف على المتّقين تام.

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٤٥.

٦٥

والإيمان ـ لغة ـ : التصديق ، أخذ من الأمن ، وعدّته الهمزة الى مفعولين كأنّ المصدّق أمن المصدّق التكذيب. ولتضمّنه معنى الإقرار عدّي بالباء.

وشرعا ـ : التصديق بما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع الإقرار باللسان ـ شرطا ـ أو بدونه ، وعليه الأشاعرة. أو معه ـ شطرا ـ وهو متصور الإماميّة. أو هما مع العمل ، وعليه المعتزلة.

فالمخلّ بالاعتقاد منافق ، وبالإقرار كافر ، وبالعمل فاسق ، لا كافر ـ كقول الخوارج ـ ، ولا بين المنزلتين ـ كقول المعتزلة ـ ، لاقتران الايمان بالمعاصي في آية : (وَإِنْ طائِفَتانِ) (١) ونحوها ، وبعض الأخبار. (٢) وما في بعضها من الخروج عنه بها ، (٣) محمول على نقص كماله بها ، فبطل ـ أيضا ـ إدخالهم «العمل» فيه.

و «الغيب» مصدر بمعنى : الغائب ـ ان جعلت الباء صلة للإيمان ـ فتكون للتّعدية. والمراد به : الخفيّ الّذي لا يعلمه العباد إلّا بتعليمه تعالى كالصانع وصفاته والنبوّة والشرائع والإمامة وغيبة المهدي عليه‌السلام وخروجه والقيامة وأحوالها.

وإن جعل «بالغيب» حالا ، أي : متلبّسين بالغيب ، فهو بمعنى : الغيبة ، والباء :

للمصاحبة ، أي : يؤمنون حال غيبتهم لا كالمنافقين.

وقيل : الغيب : القلب (٤) فالباء للاستعانة (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي يعدّلون أركانها وأفعالها ، فلا يقع فيها زيغ ، من : أقام العود : إذا قوّمه.

__________________

(١) في سورة الحجرات : ٤٩ / ٩ وتمام الآية : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

(٢) ذكر العلامة المجلسي اخبارا في هذا المجال في بحار الأنوار ٦٩ : ٢٢٣ الباب ١١٤ من باب الكذب. الحديث ٤٧ وما بعده.

(٣) كما ورد في بحار الأنوار ٦٦ : ٧٣ الباب ٣٠ الحديث ٢٨.

(٤) ذكر ذلك الآلوسي في تفسير روح المعاني ١ : ٣٣.

٦٦

أو : يدومون عليها ، من أقمت السّوق : إذا جعلتها نافقة ، كأنّها بالمداومة عليها جعلت نافقة.

أو : يؤدّونها ، ـ تعبيرا عن أدائها بإقامتها ، لاشتمالها على القيام ـ.

والصّلاة ـ لغة ـ الدعاء ، وسميت بها العبادة المخصوصة ، لاشتمالها عليه.

(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) الرّزق ـ لغة ـ : الحظّ ، وعرفا ـ إعطاء الله تعالى الحيوان ما ينتفع به. ويستعمل بمعنى : المرزوق.

ودلّ إسناده اليه تعالى ومدحهم بالإنفاق منه ، على أنّ الحرام ليس منه لتعاليه سبحانه عن القبائح وعدم اقتضاء إنفاق الحرام المدح. وأنفق ـ وما وافقه في «الفاء» و «العين» ـ دال على معنى الخروج والذّهاب. وتقديم المفعول للاهتمام به لحلّيته. ورعايته الفواصل وإدخال «من» التبعيضية عليه للكفّ عن التّبذير.

والمراد به ، قيل : كلّ مال صرف في سبيل الخير ـ فرضا أو نفلا ـ (١) وقيل : الزكاة المفروضة ، (٢) لاقترانه بأختها. وقيل : نفقة الرّجل على أهله ، (٣) لنزولها قبل فرض الزكاة. وعن الصادق عليه‌السلام : «معناه ممّا علّمناهم يبثّون». (٤)

[٤] ـ (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) هم إمّا : مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأمثاله ، عطف على «الذين يؤمنون بالغيب» فيشاركونهم في صفة التّقوى ، أو : على «المتّقين» ، كأنّه قيل : هدى لأولئك وهؤلاء.

وإمّا الأوّلون بأعيانهم. ووسّط العاطف على معنى : انهم الجامعون بين تلك الصفات وهذه (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) القرآن والشريعة بأسرهما. والتّعبير بالماضي مع أنّ

__________________

(١) ذكره الطوسي في تفسير التبيان ١ : ٥٨.

(٢) قاله ابن عباس ـ كما في تفسير مجمع البيان : ١ : ٣٩ وتفسير التبيان ١ : ٥٨ والجامع ١ : ١٧٩ ـ.

(٣) قاله ابن مسعود ـ كما في تفسير مجمع البيان : ١ : ٣٩ وتفسير التبيان ١ : ٥٨ والجامع ١ : ١٧٩ ـ.

(٤) رواه الحويزي في نور الثقلين ١ / ٢٦ الحديث ٥ والطبرسي في تفسير مجمع البيان ١ : ٣٩.

٦٧

بعضه مترقّب ، تغليب للموجود ، أو تنزيل للمترقّب منزلة الواقع. (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) الكتب السابقة ، ووصف الإعراض بالإنزال بتبعية المحلّ وهو الملك (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) إيقانا زال معه ما كانوا عليه من أنّه لا يدخل الجنة ألا من كان هودا أو نصارى ، (١) ولن تمسهم النار إلا أياما معدودة (٢) واختلافهم في نعيم الجنة أهو من جنس نعيم الدنيا أم غيره ، دائم أم لا. وفي تقديم الظّرف. وبناء «يوقنون» على «هم» تعريض بغيرهم من أهل الكتاب ، وأنّ ما هم عليه من أمر الآخرة غير مطابق ولا عن إيقان ـ و «الإيقان» : إحكام العلم بنفي الشك عنه ـ.

و «الآخرة» تأنيث : آخر ، صفة الدار ، لقوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) (٣) فغلبت كالدّنيا و «نافع» يحذف الهمزة ويلقي حركتها على اللام للتخفيف. (٤)

[٥] ـ (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) الجملة محلّها : الرّفع ، خبر عن «الذين يؤمنون بالغيب» ـ ان جعل مبتدأ ـ فكأنّه لمّا قيل : «هدى للمتقين» قيل : لما (٥) خصّوا بذلك؟ فقيل : «الذين يؤمنون بالغيب» إلى آخره ، وإلّا فاستئناف لا محلّ لها ، كأنّه قيل : ما نتيجة الاتّصاف بتلك الأوصاف؟ فقيل : الثّبات على الهدى الكامل عاجلا ؛ والفوز بالفلاح آجلا.

ومعنى الاستعلاء في «على هدى» : تشبيه تمسّكهم بالهدى وثباتهم عليه باعتلاء الرّاكب مركبه. ونكّر «هدى» للتعظيم ، ووصف ب «من ربهم» تأكيدا بتعظيمه بأنّه

__________________

(١) كما ورد عن قولهم في سورة البقرة : ٢ / ١١١ وفيه «لن يدخل ...».

(٢) اقتباس من قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) البقرة : ٢ / ٨١.

(٣) سورة القصص : ٢٨ / ٨٣ وتمام الآية : (... نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).

(٤) ذكر البيضاوي هذه القراءة في تفسيره ١ : ١٠٠. هكذا : وعن نافع : انّه حفّفها بحذف الهمزة وإلقاء حركتها علي اللام.

(٥) «ما» ـ هنا ـ استفهامية ، اي ما بالهم خصّوا بذلك؟

٦٨

ممنوحه وهو اللّطف والتّوفيق. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) تكرير «أولئك» يفيد اختصاصهم وتميّزهم عن غيرهم بكلّ واحدة من المزيّتين.

وادخل العاطف لاختلاف الجملتين مفهوما بخلاف (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (١) ـ إذ الثّانية مقرّرة للأولى فلا يحسن العطف. و «هم» فصل يفصل الخبر عن الصّفة ويحصره في المبتدأ ويؤكّد الحكم ، أو مبتدأ و «المفلحون» خبره والجملة خبر «أولئك».

والمفلح : الفائز بالبغية. وتعريف «المفلحون» للعهد ، أي : المتقون هم النّاس الذي بلغك أنّهم مفلحون في الآجل ، أو للجنس بإرادة حصره في المسند اليه ، أو اتحاد المسند اليه به.

فانظر كيف نبّه تعالى على اختصاص المتّقين بالأثرتين ـ بذكر اسم الإشارة المفيد للعلّيّة ، مع الإيجاز ، وتكريره ، وتعريف المفلحين ، وضمّ الفصل ـ إعلانا بفضلهم وحثّا على لزوم نهجهم.

وإرادة الكامل من الهدى والفلاح توهن تمسّك «الوعيديّة» (٢) به في دوام عذاب الفاسق.

[٦] ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) لمّا ذكر الله تعالى أولياءه بصفاتهم التي أوجبت لهم الهدى والفلاح ، قفّاهم بأضدادهم العتاة الذين لا ينفع فيهم الهدى (٣) والإنذار.

وقطعت قصّتهم عن قصّة المؤمنين لتباينهما غرضا ، إذ الاولى لكشف شأن الكتاب ، والثّانية لشرح تمرّدهم. والتأكيد ب «إنّ» لعلّه للرّواج.

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٧٩.

(٢) الوعيدية : فرقة من الخوارج وهم القائلون بتكفير صاحب الكبيرة وتخليده في النار ـ دائرة معارف القرن العشرين ١ : ٨٨.

(٣) في «ط» : لا ينفعهم الهدى.

٦٩

وتعريف الموصول إمّا للعهد ويراد ناس معيّنون ك «أبي لهب» وأضرابه ، أو للجنس ويخصّصه الخبر بالمصرّين.

والكفر ـ لغة ـ : ستر النّعمة ، من الكفر ـ بالفتح ـ وهو : السّتر.

وشرعا : عدم التّصديق بما علم ضرورة مجيء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به.

(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) «سواء» اسم بمعنى : الإستواء ، وصف به كما وصف بالمصادر ، ورفع بأنّه خبر «إنّ» ، وما بعده رفع بالفاعليّة.

والتّقدير : انّهم مستو عليهم إنذارك وعدمه. أو : بأنّه خبر لما بعده ، أي : إنذارك وعدمه سواء عليهم. والجملة خبر «إنّ» والاسناد الى الفعل لتأويله بالمصدر. وعدل إلى الفعل ملاحظة للتجدّد ، ولأليقيّته (١) بالهمزة و «أم» المقرّرتين للاستواء ، وجرّدتا عن معنى الاستفهام لمجرّد الاستواء.

والإنذار : التخويف ـ أي من عقاب الله تعالى. (لا يُؤْمِنُونَ) جملة مؤكّدة لما قبلها فلا محلّ لها ، أو حال مؤكّدة من ضمير «عليهم» ، أو خبر «أنّ» والجملة قبلها اعتراض وإخباره تعالى بأنّهم لا يؤمنون ، لا ينفي قدرتهم على الايمان ، فلا يكون تكليفهم به تكليفا بما لا يطاق. وفي الآية إخبار بالغيب واعجاز ان أريد بهم معيّنون.

[٧] ـ (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) استئناف. والختم : أخو الكتم ، إذ في الاستيثاق من الشّيء بضرب الخاتم عليه كتم له.

والغشاوة : الغطاء. والختم ، والتّغطية امّا استعارة ، شبّه جعل قلوبهم بحيث لا ينفذ فيها الحق لإعراضهم عنه وأسماعهم بحيث تمجّه (٢) بضرب الخاتم على الشيء ، وجعل أبصارهم بحيث لا تجتلي الدلائل المنصوبة بالتغطية عليها ، أو تمثيل حال قلوبهم ومشاعرهم ـ مع الحالة المانعة من الاستنفاع بها فيما خلقت له

__________________

(١) في «ط» : وليتعقّبه.

(٢) المجّ ، هو : اللفظ ـ كما في ـ مجمع البحرين ـ ، والمراد استيحاش آذانهم من سماع الحقّ.

٧٠

بحال أشياء معدّة للانتفاع بها مع المنع عنه ـ بالختم والتّغطية.

وإسناد الختم ـ مع قبحه ـ الى الله تعالى ـ المنزّه عن القبيح ـ كناية عن تمكّن إعراضهم عن الحق في قلوبهم وأسماعهم حتّى صار لهم كالجبلة الصّادرة عنه تعالى. أو تمثيل حال قلوبهم بحال قلوب البهائم التي خلقها الله تعالى خالية عن الفطن ، (١) أو من الإسناد إلى السّبب ، أو مجاز عن ترك قسرهم على الايمان كناية عن رسوخهم في كفرهم ، أو تهكّم بهم حكاية لقولهم : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) (٢) أو في الآخرة ، والتعبير بالماضي لتحقّقه بشهادة : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا). (٣)

«وعلى سمعهم» عطف على «قلوبهم» لقوله تعالى : (خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) (٤) ولوقفهم عليه ، وكرّر الجّار ليكون أدلّ على شدّة الختم في الموضعين. وإفراد السّمع لأمن اللّبس ، ولأن أصله : المصدر ، أو بتقدير حواسّ سمعهم. وإيثاره لمناسبته لوحدة المدرك كالجمع لتكثّره.

والبصر : إدراك العين ، والقوة الباصرة ، والعضو ، وكذا السمع ، والمراد : أحد الآخرين ، والقلب : محلّ العلم.

و «غشاوة» رفع بالابتداء أو الظرف ، والتنكير للتعظيم والنّوعية ، أي : نوع غير متعارف. (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) العذاب كالنكال ـ زنة ومعنى ـ ، يقال : اعذب عنه ونكل عنه : إذا امسك ، ثم سمي به كلّ ألم فادح وإن لم يكن نكالا ـ أي : عقابا يردع الجاني ـ فهو أعمّ منهما.

__________________

(١) الفطن : جمع فطنة ، وهو : الفهم ـ كما في مختار الصحاح «فطن» ـ.

(٢) كما ورد في سورة فصّلت : ٤١ / ٥.

(٣) سورة الإسراء : ١٧ / ٩٧.

(٤) سورة الجاثية : ٤٥ / ٢٣.

٧١

و «العظيم» : نقيض الحقير ، كالكبير للصّغير ، والعظيم فوق الكبير ، والحقير دون الصغير ، والتنكير للنّوعية ، أي : لهم من بين الآلام العظام نوع لا يعلم كنهه إلّا الله تعالى.

[٨] ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) افتتح سبحانه ـ في سياق شرح حال الكتاب ـ بذكر خلّص المؤمنين ، وثنّى بأضدادهم الماحضين للكفر سرّا وجهرا ، وثلّث بالمنافقين المذبذبين بين الفريقين ، الذين أبطنوا الكفر وأظهروا الايمان ، وهم أخبث [من] (١) الكفرة ، لخلطهم بالكفر تمويها واستهزاء ، ولذلك طول في وصف حالهم. وقصّتهم بأجمعها معطوفة على قصّة المصرّين ، والظرف خبر ل «من» ، أو هي خبر لمضمونه.

وأصل النّاس : أناس ، حذفت الهمزة وعوّض عنها لام التعريف ، وهو اسم جمع ، ولامه للجنس ، و «من» موصوفة كأنه قيل : ومن النّاس يقولون ، او للعهد والمعهود بالذين كفروا و «من» موصولة قيل : يراد بها : «ابن أبيّ» وأضرابه.

وخصّ الإيمان بالله وباليوم الآخر بالذّكر ادّعاء بأنّهم حازوا الإيمان من جانبيه ، وبيانا لفرط خبثهم لأنّهم كانوا يهودا ، وإيمانهم بالله واليوم الآخر ليس بإيمان ، لقولهم : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) (٢) وإنّ الجنّة لا يدخلها غيرهم (٣) ونحوه. فتمويهم على المؤمنين ـ بأنهم آمنوا مثل إيمانهم ـ كفر مضاعف ، لأنّهم لو قالوا هذا وهم على عقيدتهم بدون نفاق لم يكن إيمانا.

كيف وقد قالوه نفاقا وتمويها وتكرير «الباء» لادّعاء الإيمان بكلّ على الصحّة. و «اليوم الآخر» : من وقت الحشر إلى الأبد ، أو إلى دخول السّعداء الجنة والأشقياء

__________________

(١) الزيادة اقتضاها السياق.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ٣٠.

(٣) ينظر سورة البقرة : ٢ / ١١١.

٧٢

النّار ، إذ هو آخر الأوقات المحدودة. (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) نفي لما ادّعوه وتكذيب لهم.

وعدل عن «ما آمنوا» ـ المطابق لقولهم «آمنا» المصرّح بشأن الفعل لا الفاعل ـ إلى عكسه مبالغة ، لأنّ إخراجهم عن جملة المؤمنين أبلغ من نفي إيمانهم في الماضي ، ولذا أكدّ النّفي بالباء وأطلق الإيمان ، أي : ليسوا منه في شيء ، ويحتمل تقييده بما قيّدوا به إذ هو ردّه.

[٩] ـ (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الخدع : أن توهم غيرك خلاف ما تريده به من المكروه ، وأصله : الإخفاء. والمخادعة : تكون من إثنين. ومخادعتهم لله ـ العالم بكلّ خفي ، والمنزّه عن القبيح ، وللمؤمنين الغير اللائق بهم ـ : أن يخدعوا على معنى : أنّ صورة صنعهم معه تعالى من إظهار الإيمان وإبطان الكفر ، وصنعه تعالى معهم بإجراء أحكام المسلمين عليهم ـ وهم أبغض الكفرة إليه ـ لمصالح يعلمها.

وامتثال الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين أمره تعالى بإجراء أحكام المسلمين عليهم ، صورة صنع المتخادعين. أو مخادعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مخادعة لله تعالى ، لأنه خليفته ويعضده : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ). (١) و «يخادعون» بيان ل «يقول» أو استئناف لشرح الغرض منه ، فيحتمل إرادة : يخدعون ب «يخادعون» ، واخرج في وزن «فاعل» المفيد للمغالبة ، لأنّ الفعل متى غولب فيه جاء أبلغ منه إذا جاء بلا مغالب ويعضده قراءة : «يخدعون». (٢) وغرضهم بخداعهم : دفع ما يطرق به غيرهم من الكفرة عن أنفسهم ، وأن يكرموا كالمؤمنين ، وأن يختلطوا بهم ليظهروا على أسرارهم فيفشوها الى أعدائهم

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٨٠.

(٢) وهي قراءة حفص عن عاصم وسيذكرها المصنّف بعد قليل.

٧٣

ونحو ذلك. (وَما يَخْدَعُونَ) (١) (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) قرأه «نافع» ، و «ابن كثير» ، و «أبو عمرو» ، (٢) أي : ضرر خداعهم إنّما يعود إليهم ، أو أنهم خدعوا أنفسهم حيث منّوها الأباطيل ، وخدعتهم هي كذلك. وقرأ الباقون «وما يخدعون». (٣)

والنّفس : ذات الشّيء ؛ ثمّ قيل للرّوح والقلب ، لأنّه متعلقها أو محلّها ، وللدّم ؛ لأنّ قوامها به ، وللماء ، لفرط فقرها اليه وللرأي ؛ لانبعاثه عنها ، أو لشبهه بذات تشاور. (٤) والمراد ـ هنا ـ : ذواتهم أو أرواحهم وآراؤهم. (وَما يَشْعُرُونَ) الشّعور : الإحساس ، جعل لحوق ضرر الخداع بهم كالمحسوس ، وهم لفرط غفلتهم كفاقد الحسّ.

[١٠] ـ (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) تقرير لعدم شعورهم ، أو استئناف لذكر سببه ومرض قلوبهم إما على الحقيقة : وهو الألم ـ حيث كانت متألّمة حزنا على فوت الرئاسة منهم وحنقا على الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ـ.

أو مجاز عن الكفر والغلّ وحبّ المعاصي ونحوها مما هو آفة شبيهة بالمرض ، فإنّ قلوبهم كانت مأوّفة (٥) بذلك.

أو عن الجبن الذي داخل قلوبهم حين رأوا شوكة المسلمين وقذف الله في قلوبهم الرّعب. (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) زادهم تألّما بإعلاء شأن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو طبعا على قلوبهم.

والإسناد إليه تعالى لأنه مسبّب ، (٦) أو جبنا بتضاعف النّصر لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) في المصحف الشريف بقراءة حفص : «وما يخدعون».

(٢) حجة القراءات : ٨٧.

(٣) وهم : «عاصم» و «ابن عامر» و «حمزة» و «الكسائي» ـ كما في حجة القراءات : ٨٧.

(٤) من المشاورة وقد ورد في تفسير البيضاوي : ١ : ٨٠ ـ ٨١ أو يشبه ذاتا ما تأمره وتشير عليه.

(٥) من الآفة ، وهي العاهة ـ كما في مختار الصحاح «أوف» ـ.

(٦) في «د» لأنه سبب.

٧٤

وسلّم. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم ـ بالفتح ـ يقال : ألم فهو أليم ، وصف به العذاب مبالغة ، كضرب وجيع (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) قرأه «عاصم» و «حمزة» و «الكسائي» ، (١) أي : بسبب كذبهم في قولهم : «آمنّا» أو بمقابلته. والباقون : بالتّشديد ، لتكذيبهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقلوبهم دائما وبألسنتهم إذا خلوا إلى شياطينهم. أو للمبالغة كبيّن الشيء. أو التكثير كموتت الإبل ، ولفظ «كان» للاستمرار.

والكذب : الإخبار بالنّسبة على خلاف ما هي به ، والآية تفيد حرمته.

[١١] ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) عطف على «يكذبون» أو «يقول».

والفساد : خروج الشيء عن الاستقامة والانتفاع به ، وضدّه : الصّلاح.

وإفسادهم في الأرض : إثارة الفتن والحروب بخداع المسلمين ومعاونة الكفّار عليهم بإفشاء أسرارهم ، فإنّ ذلك يؤدي إلى فساد ما في الأرض من النّاس وغيرهم ، والقائل هو الله تعالى أو الرسول أو بعض المؤمنين. (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) جواب «إذا» وردّ للنّاصح على وجه المبالغة ، لأن «إنما» للحصر ، أي : ما شأننا إلّا الإصلاح فكيف نخاطب بذلك؟ قالوه لتصوّرهم الفساد صلاحا.

[١٢] ـ (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) ردّ لدعواهم مع المبالغة بالاستئناف به ، وتصديره بالمؤكدين «ألا» المنبّهة على تحقّق ما بعدها و «إنّ» وتوسيط الفصل ، وتعريف الخبر ، واستدراك (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) أي : بكونهم مفسدين مع ظهوره كالمحسوس.

[١٣] ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا) نصحوا بأمرين يكمل بهما الايمان : ترك الرذائل المراد ب «لا تفسدوا» واكتساب الفضائل المراد ب «آمنوا». (كَما آمَنَ النَّاسُ) في محلّ النصب على المصدر ـ ، و «ما» مصدريّة أو كافّة و «لام» الناس

للعهد ، يراد

__________________

(١) الكشف عن وجوه القراءات ١ : ٢٢٧.

٧٥

به : الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن معه ، أو من آمن من قومهم ك «ابن سلام» وأصحابه. أو للجنس ، ويراد به : الكاملون في الإنسانية ، كأنّهم الجنس كلّه ، لجمعهم خواصه. (قالُوا) فيما بينهم. (أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) استفهام إنكاريّ واللام للعهد ـ والمعهود : النّاس ـ ، أو للجنس وهم داخلون فيه ـ على زعمهم ـ.

وإنّما سفّهوهم لاعتقادهم سوء رأيهم ، أو تحقيرا لهم لفقر أكثرهم وكون بعضهم موالي.

والسّفه : ضعف رأي وخفّة ، وضدّه : الحلم. (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) رد بليغ لتجهيلهم بجهلهم المؤذن برسوخه فيهم مع ما في سابقتها وفصلت هذه ب «لا يعلمون» وتلك ب «لا يشعرون» لأنّ معرفة الحق من الباطل تحتاج إلى نظر ، والنّفاق المؤدّي إلى الفساد يدرك بأدنى تفطّن.

[١٤] ـ (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) صدر القصّه بيان لمذهبهم ، وهذه بيان لصنعهم مع المؤمنين والكفّار. فلا تكرير.

و «اللّقاء» : المصادفة كالملاقاة. (وَإِذا خَلَوْا) من خلا به وإليه : إذا انفرد معه.

او من «خلاك ذم» أي : عداك ومضى عنك. (إِلى شَياطِينِهِمْ) المظهرين للكفر المماثلين للشيطان في عتوّهم ، وأضيفوا اليه للمشاركة في الكفر ، او خلا صغار المنافقين إلى كبارهم ، ونونه أصليّة من «شطن» أي : بعد ، لبعده عن الصّلاح ، أو زائدة من «شاط» أي : بطل ، (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) أي : في العقيدة خاطبوهم بالاسميّة تحقيقا لثباتهم على دينهم وأكّدوها ب «إنّ» اعتناء بشأنه ورواجه منهم ، والمؤمنين بالفعلية (١) إخبارا بإحداث الإيمان ولم يعتنوا به ، ولم يتوقعوا رواجه. (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) تأكيد ل «إنّا معكم» لأن المستهزئ بالشّيء ثابت على نقيضه. أو بدل

__________________

(١) اي خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية وهو قولهم : «آمنا».

٧٦

منه ، إذ المحقر للإسلام معظّم للكفر. أو استئناف ، كأنّ الكفرة قالوا لهم ـ حين قالوا : «إنّا معكم» ـ : فما بالكم توافقون المؤمنين؟ فأجابوا بذلك.

والاستهزاء : السخرية والاستخفاف ، يقال : استهزاء وهزأ بمعنى.

وأصله : الخفّة.

[١٥] ـ (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) يعاملهم معاملة المستهزئ ، بإجراء حكم الإسلام عليهم مع ادّخار ما يراد بهم ، أو يجازيهم على استهزائهم ، سمّي جزاؤه باسمه ك (جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ) ، (١) او ينزل بهم الهوان الّذي هو لازم الاستهزاء.

وإنما استؤنف به ليفيد أن الله تعالى يتولّى جزاءهم انتقاما للمؤمنين ، ولم يحوجهم أن يقابلوهم ، وإن ما يفعله تعالى بهم هو الاستهزاء الأبلغ الذي لا اعتداد معه باستهزائهم ، ولم يقل : مستهزئ ـ طبق «مستهزءون» ـ ليفيد حدوث الاستهزاء وقتا فوقتا. (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) من المدد ، ومنه : مدّ الجيش وأمدّه ، أي : زاده ، لا من المدّ في العمر ، لتعدّيه باللّام ويعضده قراءة «ويمدّهم». (٢) وإسناده اليه تعالى إسناد الفعل إلى المسبّب ، لأنّه منعهم ألطافه لإصرارهم على الكفر والعمه ، فازدادت قلوبهم رينا. (٣) وسمي ذلك التّزايد : مددا ، أو لأنه مكّن الشّيطان منهم فزادهم طغيانا.

وإضافة الطّغيان إليهم قرينة المجاز : أو أريد بالمدّ : ترك القسر.

والطغيان مجاوزة الحدّ في العتوّ ، وأصله : تجاوز الشّيء عن موضعه.

والعمه ، التحيّر ، وهو في البصيرة كالعمى في البصر.

[١٦] ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) استبدلوها به. استعارة ، لأنّ

__________________

(١) في سورة الشورى : ٤٢ / ٤٠.

(٢) وهي قراءة «ابن كثير و «ابن محيص» ـ كما في تفسير الكشّاف ١ : ١٨٨ ـ.

(٣) في «ب» : ريبا ، والرين : الطبع والدنس ـ كما في مختار الصحاح «رين» ـ.

٧٧

الاشتراء فيه إعطاء بدل وأخذ آخر ، أي : تركوا الهدى ـ الّذي جعل لهم بالفطرة الّتي فطر النّاس عليها ـ إلى الضّلالة. (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) ترشيح للمجاز (١) لمّا ذكر الاشتراء أتبعه ما يشاكله تصويرا لما فاتهم بصورة خسارة التجارة.

والتجارة : طلب الرّبح بالبيع والشراء ، والرّبح : الفضل على رأس المال. وأسند إلى التّجارة لتلبّسها بالفاعل. (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) لطرق التّجارة ، إذ المطلوب بها حفظ رأس المال والرّبح وقد أضاعوا رأس مالهم باستبدالهم به الضّلالة ، ولا ربح لمن ضيّع رأس المال.

[١٧] ـ (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) بيّن تعالى صفتهم ، ثم زادها بيانا بضرب المثل فانّه أوقع في النفس لجعله المتخيّل كالمحقق.

والمثل ـ في الأصل ـ : النظير ، كالمثل والمثيل ، ثم قيل للقول السائر الممثّل به مضربه لمورده ، ولا يضرب إلّا ما فيه غرابة ، ثم استعير لكل قصّة أو صفة لها شأن نحو : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) ، (٢) (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) (٣) والمعنى : حالهم العجيبة كحال من استوقد نارا. و «الذي» بمعنى : الّذين ـ مخفّفها ـ (كَالَّذِي خاضُوا) (٤) ان عاد اليه ضمير «بنورهم».

وافراد ضميره في «استوقد» و «حوله» نظرا الى صورته او أريد به جنس المستوقدين او الجمع الذي استوقد ، او الواحد ، ولا محذور لأن التشبيه لقصتهم بقصته.

__________________

(١) ترشيح المجاز على انواع ، لغوي : وهو ذكر ما يلائم المعنى الحقيقي. عقلي : وهو ذكر ما يناسب ما استعمل له كقول أبي ذؤيب :

وإذ المنيّة انشبت أظفارها

ألفيت كل تميمة لا تنفع

(٢) سورة الرعد : ١٣ / ٣٥.

(٣) سورة النحل : ١٦ / ٦٠.

(٤) سورة التوبة : ٩ / ٦٩.

٧٨

والاستيقاد : طلب الوقود ، وهو : سطوع النّار ، وهي من «نأر» أي : نفر ، لأنّ فيها حركة. (فَلَمَّا أَضاءَتْ) النّار (ما حَوْلَهُ) حول المستوقد ـ إن تعدّى ـ ، وإلّا : فالفاعل «ما» ، والتأنيث لأنها أشياء وأمكنة ، أو ضمير النار. و «ما» موصلة بمعنى الأمكنة ، نصبت ظرفا ، أو زائدة. و «حوله» ظرف.

والاضاءة : فرط الإنارة. وتأليف الحول (١) للدّوران ، وقيل : للعام لدورانه. (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) جواب «لمّا» والضمير للّذي جمع ـ نظرا إلى المعنى ـ ، ولم يقل : بنارهم ، لأنّ المراد من إيقادها : النّور. أو استئناف ، جواب من يقول : ما بالهم شبّهت حالهم بحال مستوقد قد طفئت ناره؟ والضّمير للمنافقين ، وجواب «لمّا» محذوف ، تقديره : خمدت.

وإسناد الإذهاب إليه تعالى لأنّه المسبّب للإطفاء بسبب خفيّ أو ريح أو مطر.

وعدّي «ذهب» بالباء ، لإفادتها الاستصحاب ، بخلاف الهمزة ، أي : أخذ الله نورهم وأمسكه ، وما امسكه الله فلا مرسل له.

وعدل عن الضوء الموافق ل «أضاءت» الى النّور للمبالغة ، إذ لو قيل : ذهب بضوئهم لأوهم الذّهاب بالزيادة وبقاء ما يسمّى نورا ، والغرض طمس النّور عنهم رأسا (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) الظّلمة : عدم النّور ، وتنكيرها للتعظيم ، وجمعها للمبالغة بشدّتها ، كأنّها ظلمات متراكمة ولذا وصفها بأنّها لا يرى فيها شبح ، أو المراد : ظلمة النّفاق ، وظلمة سخط الله ، وظلمة العقاب السّرمد.

وترك بمعنى : خلّى. يتعدّى لواحد ، ثم ضمن معنى : صيّر ، فتعدّى إلى مفعولين ، ومفعول «لا يبصرون» متروك ، كأنّ الفعل لازم.

والآية مثل لانتفاعهم بكلمة الإسلام مدة حياتهم القليلة. وانقطاعه بالموت

__________________

(١) أي وضع كلمة «الحول» بهذا التأليف انما هو للدوران او للعام أي السنة. ـ ينظر تفسير كنز الدقائق ١ : ١٤٦ ـ.

٧٩

ووقوعهم في الظّلمات المتراكمة باستضاءة المستوقد الّتي حصلت بعد السّعي ، فزالت بإطفاء النّار فبقي في ظلمة شديدة.

أو مثل لهداهم الذي باعوه بالنّار الموقدة للاستضاءة ، والضلالة التي اشتروها ، فطبع بها على قلوبهم بإطفاء الله تعالى إيّاها وإذهاب نورها.

[١٨] ـ (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) لمّا لم يصيخوا (١) مسامعهم إلى الحق وأبوا النّطق به والتّبصّر للآيات جعلوا كأنّ حواسّهم مأوّفة ، وهو من التّشبيه لا الاستعارة ، إذ شرطها طيّ ذكر المستعار له بحيث يمكن الحمل على المستعار منه لو لا القرينة. وهنا وإن طوى ذكره بحذف المبتدأ لكنه في حكم المذكور.

والصّمم : فقدان حسّ السّمع ، والبكم : الخرس ، والعمى : عدم البصر عمّا من شأنه ، ويقال لعدم البصيرة (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) إلى الهدى الذي باعوه أو عن الضّلالة الّتي اشتروها.

[١٩] ـ (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) عطف على «الّذي استوقد» ، أي : كمثل ذوي صيّب لقوله : «يجعلون» ، و «أو» للإباحة. والمعنى : أنّ قصّة المنافقين مشبهة لكلّ من هاتين القصّتين فلك التّمثيل بهما أو بأيّتهما شئت.

و «الصّيّب» : المطر الّذي يصوب ، أي : ينزل ، ويقال للسّحاب ، وكل محتمل ـ هنا ـ ، وتنكيره للتّهويل ، أي : نوع من المطر هائل وتعريف «السّماء» ليدلّ على تطبيق السّحاب لكلّ آفاقها لا أفق واحد فإنّه سماء ، أو «السّماء» : السّحاب ، فاللام للجنس. (فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) إن أريد بالصّيّب : المطر ، فالظّلمات : ظلمة تكاثفة ، وظلمة غمامه مع ظلمة اللّيل ، وجعله ظرفا للرّعد والبرق لتلبّسهما به ، وإن أريد به السّحاب ، فالظّلمات : سحمته (٢) وتطبيقه مع ظلمة اللّيل ، وارتفاعها بالظّرف.

__________________

(١) أصاخ له واليه : بمعنى أصغى واستمع.

(٢) المسحمة : السواد ، والمراد سواد الليل.

٨٠