القواعد الفقهيّة - ج ٢

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٩٢

على الأدلّة التي مفادها بيان حكم الشكّ في عدد ركعات الصلاة ، والحكومة هاهنا حكومة واقعيّة في جانب الموضوع بالتضييق. وقد شرحنا الحكومة وأقسامها الثمانية في كتابنا « منتهى الأصول » (١) وإن شئت فراجع. وذلك من جهة أنّ الشكّ جعل موضوعا للبناء على الأكثر في الصلوات الرباعيّة إذا كان في الركعتين الأخيرتين منها ، أو جعل موضوعا للبطلان في الثنائيّة والثلاثيّة ، أو في الرباعيّة إن كان قبل إكمال السجدتين من الركعة الثانية ، فدليل هذه القاعدة ـ الذي هو عبارة عن قوله عليه‌السلام : « ليس في النافلة سهو » أي الشكّ ـ يرفع الشكّ تعبّدا ، وهذا معنى تضييق الموضوع تعبّدا.

وأمّا الثاني : أي موارد تطبيق هذه القاعدة : فقد عرفت كثيرا منها ولا يحتاج إلى ذكرها وإعادتها ، وبطور الإجمال : إذا كان الشكّ في عدد ركعات النافلة ، أيّ نافلة كانت ، ثنائيّة أو ثلاثيّة أو رباعيّة مخيّر بين البناء على الأقلّ والأكثر ، إلاّ إذا كان البناء على الأكثر موجبا لبطلانها فيتعيّن البناء على الأقلّ.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

__________________

(١) « منتهى الأصول » ج ٢ ، ص ٥٣٥.

٣٤١
٣٤٢

٢٥ ـ قاعدة

لا شكّ لكثير الشكّ‌

٣٤٣
٣٤٤

قاعدة لا شك لكثير الشك (*)

ومن جملة القواعد الفقهيّة قاعدة « نفي الشكّ وعدم اعتباره من كثير الشكّ في الصلاة » : أي حكمه ، ولذلك قد يعبّر عن هذه القاعدة بأنّه : « لا حكم للسهو مع كثرته ».

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى

في مدركها‌

وهو الأخبار والإجماع.

أمّا الإجماع : فقد تكرّر منّا في هذا الكتاب أنّه لا اعتبار بها في مثل هذا الموارد التي وردت فيها أخبار معتبرة ، للظنّ بل العلم بأنّ مدرك المجمعين هو هذه الأخبار ، فلا بدّ من الرجوع إليها وأنّها هل تدلّ على هذه القاعدة أم لا؟

وأمّا الأخبار : فمنها : صحيحة محمد بن مسلّم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك فإنّه يوشك أن يدعك ، إنّما هو من الشيطان » (١).

__________________

(*) « القواعد » ص ٢٤٣ ، « المبادي العامة للفقه الجعفري » ص ٢٥١.

(١) « الكافي » ج ٣ ، ص ٣٥٩ ، باب من شكّ في صلاته كلّها ... ، ح ٨ ، « الفقيه » ج ١ ، ص ٣٣٩ ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح ٩٨٩ ، « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ٣٤٣ ، ح ١٤٢٢ ، باب أحكام السهو ، ح ١٢ ، « وسائل الشيعة » ج ٥ ، ص ٣٢٩ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب ١٦ ، ح ١.

٣٤٥

ومنها : صحيحة زرارة وأبي بصير ـ أو حسنتهما ـ قالا : قلنا له : الرجل يشكّ كثيرا في صلاته حتّى لا يدري كم صلّى ولا ما بقي عليه؟ قال عليه‌السلام : « يعيد ». قلنا : فإنّه يكثر عليه ذلك كلّما أعاد شكّه؟ قال عليه‌السلام : « يمضي في شكّه » ، ثمَّ قال عليه‌السلام : « لا تعودوا الخبيث من أنفسكم نقض الصلاة فتطمعوه فإنّ الشيطان خبيث معتاد لما عود ، فليمض أحدكم في الوهم ، ولا يكثرن نقض الصلاة ، فإنّه إذا فعل ذلك مرّات لم يعد إليه الشكّ ». قال زرارة : ثمَّ قال عليه‌السلام : « إنّما يريد الخبيث أن يطاع ، فإذا عصي لم يعد إلى أحدكم » (١).

محمّد بن الحسن بإسناده عن محمّد بن يعقوب مثله (٢).

ومنها : بإسناده عن الحسين بن سعيد ، عن فضالة ، عن ابن سنان ، عن غير واحد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك » (٣).

ومنها : موثّق عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يكثر عليه الوهم في الصلاة ، فيشكّ في الركوع فلا يدري أركع أم لا. ويشكّ في السجود فلا يدري أسجد أم لا؟

فقال عليه‌السلام : « لا يسجد ولا يركع ويمضي في صلاته حتّى يستيقن يقينا » الحديث (٤).

ومنها : مرسلة الصدوق محمّد بن عليّ بن الحسين ، قال : قال الرضا عليه‌السلام : « إذا كثر عليك السهو في الصلاة فامض على صلاتك ولا تعد » (٥).

__________________

(١) « الكافي » ج ٣ ، ص ٣٥٨ ، باب من شكّ في صلاته ولم يدر زاد أو نقص ، ح ٢ ، « وسائل الشيعة » ج ٥ ، ص ٣٢٩ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب ١٦ ، ح ٢.

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ١٨٨ ، ح ٧٤٧ ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح ٤٨ ، « الاستبصار » ج ١ ، ص ٣٧٤ ، ح ١٤٢٢ ، باب من شكّ فلم يدر صلّى ركعة ... ، ح ٥.

(٣) « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ٣٤٣ ، ح ١٤٢٣ ، باب أحكام السهو ، ح ١١ ، « وسائل الشيعة » ج ٥ ، ص ٣٢٩ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب ١٦ ، ح ٣.

(٤) « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ١٥٣ ، ح ٦٠٤ ، باب تفصيل ما تقدّم ذكره في الصلاة ... ، ح ٦٢ ، « الاستبصار » ج ١ ، ص ٣٦٢ ، ح ١٣٧٢ ، باب من شكّ فلم يدر واحدة سجد أم اثنتين ، ح ٥ ، « وسائل الشيعة » ج ٥ ، ص ٣٣٠ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب ١٦ ، ح ٥.

(٥) « الفقيه » ج ١ ، ص ٣٣٩ ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح ٩٩٨ ، « وسائل الشيعة » ج ٥ ، ص ٣٣٠ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب ١٦ ، ح ٦.

٣٤٦

ومنها : ما رواه محمّد بن أبي حمزة عن الصادق عليه‌السلام قال : « إذا كان الرجل ممّن يسهو في كلّ ثلاث فهو ممّن كثر عليه السهو » (١).

ومنها : ما روى ابن إدريس في آخر السرائر منتهيا إلى أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا سهو على من أقرّ على نفسه بسهو » (٢).

هذه هي الأخبار الواردة في هذا الباب.

فنقول : أمّا دلالة صحيحة محمّد بن مسلم على عدم اعتناء كثير الشكّ بشكّه واضح بناء على أن يكون المراد من السهو هو الشكّ في قوله عليه‌السلام : « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك » وهو كذلك إذ لو كان المراد منه النسيان ـ بمعنى أنّه يعلم بنسيان الجزء الفلاني كالركوع أو السجود ـ فلا يمكن ردعه ، لأنّ حجّية العلم ذاتيّة ليس قابلا للردع ، فلا بدّ وأن يكون المراد منه الشكّ واحتمال عدم الإتيان لا القطع بعدمه ، فالمراد من قوله عليه‌السلام : « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك » هو أنّه إذا كنت شكّاكا فلا تعتن بشكّك ، واحتمال النقيصة فيما إذا كان شكّك بالنسبة إلى عدم الإتيان بجزء أو شرط ، ولا تعتن باحتمال الزيادة إذا كان شكّك بالنسبة إلى وجود مانع ، وامض في صلاتك والق احتمال عدم وجود شرط أو جزء ، أو احتمال وجود مانع في صلاتك ، أي ابن على تماميّة ما أتيت به ، وعدم خلل فيه من حيث الزيادة والنقيصة.

والفرق بينها وبين أصالة الصحّة أنّ الثانية تجري بعد الفراغ عن العمل وهذه القاعدة في الأثناء ، وبينها وبين قاعدة التجاوز هو أنّ الثانية تجري بعد التجاوز عن المحلّ وهذه تجري ولو كان في المحلّ.

وأمّا صحيحة زرارة وأبي بصير : فصدر الرواية ربما يوهم خلاف المقصود ، لأنّ جوابه عليه‌السلام بقوله « يعيد » ـ عن قولهما : الرجل يشكّ كثيرا في صلاته ـ يدلّ على‌

__________________

(١) « الفقيه » ج ١ ، ص ٣٣٩ ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح ٩٩٠ ، « وسائل الشيعة » ج ٥ ، ص ٣٣٠ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب ١٦ ، ح ٧.

(٢) « كتاب السرائر » ج ٣ ، ص ٦١٤.

٣٤٧

الاعتناء بالشكّ ولو كان كثير الشكّ ، بل الحكم بالاعتناء والإعادة في نفس مورد كثير الشكّ.

لكنّه ليس كذلك ، إذ المراد بهذه الجملة يمكن أن يكون أنّ الرجل ليس ممن يحفظ عدد الركعات دائما ، بل يشكّ كثيرا باعتبار الوقائع المتعدّدة ، مثلا في كلّ أسبوع يشكّ في عدد ركعات صلاته مرّتين وإن كان لا يصل إلى حدّ يتّصف بعنوان أنّه كثير الشك عرفا ، وأنّه يشكّ في صلاة واحدة ثلاث مرّات ، أو يشكّ في ثلاث صلوات متواليات في كلّ واحد منها مرّة واحدة.

فإذا كانت الكثرة في صدر الرواية بهذا المعنى فلا تنافي بين صدر الصحيحة وذيلها حيث يحكم عليه‌السلام في الصدر بوجوب الإعادة في موضوع كثير الشكّ ، ويحكم في الذيل بعدم الاعتناء بالشكّ والمضيّ في صلاته أيضا في هذا الموضوع ، أي موضوع كثير الشكّ ، لأنّه كما عرفت ليس كثرة الشكّ في المقامين بمعنى واحد.

واحتمل بعضهم أن يكون المراد بكثرة الشكّ في الصدر باعتبار تعدّد المتعلّق في تلك الواقعة الواحدة ، أي تعدّد احتمالاته ، مثلا يحتمل أن يكون ما بيده هي الركعة الأولى وبعد لم يتمها ، ويحتمل أن تكون هي الثانية ، ويحتمل أن تكون هي الثالثة وهكذا كثرة الاحتمالات بواسطة كثرة المحتمل ، مع أنّه شكّ واحد في واقعة واحدة.

ولكن الإنصاف أنّ هذا الاحتمال بعيد عن ظاهر قوله : « الرجل يشكّ كثيرا ».

واستظهر المقدّس الأردبيلي قدس‌سره من هذه الصحيحة التخيير (١) ، بمعنى أنّ كثير الشكّ مخيّر بين أن يعتني بشكّه ويبني على عدم إيجاد المشكوك ويعيد الصلاة ، وبين أن لا يعتني بشكّه ويبني على وجود المشكوك ويمضي في صلاته. فمفاد الصدر هو الشقّ الأوّل من شقّي التخيير ، ومفاد الذيل هو الشقّ الثاني.

وحكى في الجواهر عن المحقّق الثاني أيضا التخيير بين البناء على وجود المشكوك‌

__________________

(١) « مجمع الفائدة والبرهان » ج ٣ ، ص ١٤٢.

٣٤٨

ووقوعه ، والبناء على الأقلّ بمعنى عدم الإتيان بالمشكوك (١).

وحكى عن الشهيد في ذكري أيضا أنّ عدم اعتناء كثير الشكّ بشكّه رخصة فيجوز أن يعمل على مقتضى الشكّ فيتلافى إن كان في المحلّ مثلا (٢).

ولكن أنت خبير بأنّ التخيير ينافي ظاهر هذه الروايات ، حيث أنّه عليه‌السلام أمر بالمضي في صلاته ، والأمر ظاهر في الوجوب ، خصوصا مع هذا التعليل وأنّ المضي وعدم الاعتناء بالشكّ رغما لأنف الشيطان وعصيان له وإذا عصى لا يعود ، ونهيه عليه‌السلام عن تعويده بالاعتناء بالشكّ وأنّه إذا عصى لا يعود لأنّ الخبيث يريد أن يطاع فلا يعود إذا عصى ، ونهيه عليه‌السلام عن الإتيان بالمشكوك بقوله : « لا يسجد ولا يركع ويمضي في صلاته حتّى يستيقن يقينا » في خبر ابن سنان.

والحاصل : أنّ هذه الروايات لها ظهور تامّ في تعيّن المضي ووجوب عدم الاعتناء بالشكّ ، وآبية عن التخيير بأيّ معنى كان ممّا ذكرنا ، فما أفاده المقدّس الأردبيلي ـ ونسب إلى الشهيد في ذكري وإلى المحقّق الثاني في رسالته السهويّة ـ ممّا لا يمكن الموافقة معهم ، وليس كما ينبغي. والإنصاف أنّه لا إشكال ولا غبار في دلالة هذه الروايات على هذه القاعدة ، أي عدم الاعتناء بشكّ كثير الشكّ.

ثمَّ إنّه بناء على وجوب المضي وعدم الاعتناء بالشكّ إذا كان كثير الشكّ لو أراد أن يتلافى المشكوك المحتمل العدم وأتى به ، فالظاهر بطلان صلاته ، لأنّه زيادة منهيّة عنها في الصلاة ، إلاّ أن يكون المشكوك المحتمل العدم من الأشياء التي يجوز فعله في الصلاة لكن لا بقصد الجزئيّة ، بل يأتي بها بقصد القربة المطلقة ، فالمتعيّن هو عدم الاعتناء بالشكّ والمضي في الصلاة بأن يبني على وجود المشكوك إن كان من الأجزاء والشرائط ، وعلى عدمه إنّ كان من الموانع ، لأنّ هذا المعنى هو المتفاهم العرفي وما هو‌

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ١٢ ، ص ٤١٧.

(٢) « ذكري الشيعة » ص ٢٢٣.

٣٤٩

الظاهر من كلمة « يمضي » سواء كان بصورة الجملة الخبريّة ، أو بصورة الإنشاء كقوله امض.

الجهة الثانية

في مفاد هذه القاعدة على تقدير اعتبارها‌

فنقول : إنّ بيان هذه الجهة منوط بذكر أمور :

الأوّل : أنّه قد تقدّم أنّه المراد من السهو ـ في الروايات أو في كلامهم في مقام التعبير عن هذه القاعدة ، كما في عبارة الشرائع « لا حكم للسهو مع كثرته » (١) ـ هو الشكّ لا خصوص معناه الحقيقي أي النسيان ، ولا الأعمّ منه ومن الشكّ ، إذ لو كان المراد منه أحد هذين المعنيين يلزم أن لا يكون اعتبار بنسيان كثير النسيان ، بمعنى أنّه مثلا لو سها في صلاة واحدة ـ أي نسي الركوع والسجود كلّ واحد من ركعة ونسي أيضا الركعة الأخيرة من تلك الصلاة بعينها ـ لا يكون عليه بأس وتكون تلك الصلاة صحيحة مع العلم بفقدان المذكورات ، ولا يمكن الفقيه أن يتفوّه بمثل هذا ، بل ينبغي أن يعدّ مثل هذا الكلام من الأعاجيب.

والحاصل : أنّه فرق كثير بين الحكم بعدم الاعتناء باحتمال عدم الإتيان بالجزء أو الشرط ، أو الحكم بعدم الاعتناء باحتمال وجود المانع الذي هو عبارة عن الحكم بعدم الاعتناء بالشكّ إذا كان كثير الشكّ ، وبين الحكم بعدم الاعتناء بالعلم بعدم وجود الجزء أو الشرط أو العلم بوجود المانع ، ولو كان ترك ذلك الجزء أو الشرط أو إيجاد ذلك المانع سهوا ، لرجوع الأوّل إلى كفاية الامتثال الاحتمالي لمثل هذا الشخص ـ أي كثير الشكّ ـ والثاني إلى كفاية الإتيان بما أتى مع العلم بعدم الإتيان بالمأمور به بتمامه.

إن قلت : أيّ إشكال في هذا ، أليس مفاد « لا تعاد » هو هذا في سهو غير الأركان‌

__________________

(١) « الشرائع » ج ١ ، ص ١١٨.

٣٥٠

ونسيانها ، فإنّ مفاد صحيحة « لا تعاد » هو صحّة الصلاة مع القطع بعدم الإتيان بتمام الأجزاء والشرائط ومع القطع بإيجاد الموانع ، ولكن كلّ ذلك في غير الأركان ، لدلالة عقد المستثنى على ذلك.

قلنا : إنّ صحيحة « لا تعاد » كما تقول توسعة في مقام الامتثال ، بمعنى أنّ ما وقع فيه الخلل ـ من عدم جزء أو شرط أو وجود مانع ـ يقبل بدل التامّ ، أو مفادها نفي الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة في حال السهو والنسيان ، ولكن كلّ ذلك في غير الأركان كما هو مفاد عقد المستثنى. ولكن في موضوع كثير الشكّ لو قلنا بأنّ المراد من السهو خصوص معناه الحقيقي ـ وهو النسيان أو المراد أعمّ منه ومن الشكّ ـ فيشمل الأركان وغيرها لا استثناء هاهنا ، والالتزام بهذا للفقيه ممّا لا يمكن.

ان قلت : تقع المعارضة بين قوله عليه‌السلام : « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك » وبين عقد المستثنى في صحيحة « لا تعاد » حيث أنّ عقد المستثنى في تلك الصحيحة أخصّ من هذه الروايات ، فتخصّص هذه الروايات به ، فيصير مفادها مفاد صحيحة « لا تعاد » بعينه ، فلا يبقى إشكال ، لأنّ الصحيحة معمول بها عند كلّ الفقهاء.

قلنا : مرجع هذا الكلام إلى إلقاء خصوصيّة كثير الشكّ ، لأنّ مفاد الصحيحة حكم مشترك بين كثير الشكّ وغيره ، وهذا لا يلائم مع ظاهر هذه الأخبار مع هذا التعليل الوارد فيها لعدم الاعتناء بالسهو ، وهو أنّه لا تعودوا الخبيث ، أي الشيطان وهو يريد أن يطاع ، فإذا عصى لا يعود ، وأمثال هذه العبارات ، والإنصاف : أنّ الالتزام بأنّ السهو في هذه الأخبار هو خصوص النسيان ، أو الأعمّ منه ومن الشكّ ممّا هو مردود عند الذوق الفقهي.

وأمّا احتمال أن يكون المراد من نفي السهو في هذه الأخبار هو نفي الأثر الشرعي الذي جعله الشارع لنفس السهو أعني سجدتي السهو ـ حتّى يرجع معنى قوله عليه‌السلام « إذا كثر عليك السهو فليس عليك سجدتا السهو » وجوب سجدتي السهو على غير‌

٣٥١

كثير السهو ، لا أن يكون المراد من نفي السهو هو عدم الاعتناء باحتمال عدم السهو أو باليقين بعدمه.

فيدفعه أنّ هذا الاحتمال خلاف ظاهر هذه الأخبار ، لأنّ قوله عليه‌السلام « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك » ظاهره أنّ كثرة السهو علّة لعدم الاعتناء بعدم وجود المسهو ، وأنّه يجب عليه المضي ، لا أنّ حكم نفس السهو والأثر المترتّب عليه ساقط عنه ، وهذا واضح جدا.

الثاني : الظاهر أنّ المراد من المضيّ في صلاته ـ بعد أن التفت إلى أنّه كثير الشكّ ـ عدم الاعتناء بالخلل الوارد على صلاته من ناحية هذا الشكّ ، سواء كان احتمال الخلل من جهة احتمال عدم وجود ما يكون عدمه مضرّا كالجزء والشرط ، أو احتمال وجود ما يكون وجوده مضرّا كالمانع ، فإنّ هذا المعنى هو المناسب للتعليل بالنهي عن تعويد الشيطان.

وحاصل معنى هذه الروايات أنّ كثير الشكّ يجب عليه أن لا يعتني باحتمال الخلل مطلقا ، سواء كان ترك ركن أو الأجزاء والشرائط غير الركنيّة ، أو كان احتمال الخلل لاحتمال وجود مانع حتّى يصير الشيطان مأيوسا ، ويرى أنّ وسوسته لغو لا أثر له فلا يعود ، وإلاّ لو رأى أنّ الشاكّ يرتّب الأثر على شكّه واحتماله ـ أي إذا كان احتمال عدم وجود جزء أو شرط ولم يتجاوز المحلّ يأتي به ، وإذا كان بعد تجاوز المحلّ ، أو كان شكّه واحتماله احتمال وجود المانع يعيد الصلاة ـ فيطمع عدو الله فيه ويصرّ على الوسوسة كي يوقعه في التعب الكثير حتّى ينتهي بالآخرة إلى ترك الصلاة ، أو الاستخفاف بها لعجزه عن العمل بكلّ ما يحتمل.

الثالث : أنّ هذا الحكم تعييني لا تخييري ، كما نسب إلى المقدّس الأردبيلي (١) ،

__________________

(١) « مجمع الفائدة والبرهان » ج ٣ ، ص ١٤٢.

٣٥٢

والشهيد (١) ، والمحقّق الثاني (٢) ـ قدّس أسرارهم ـ لكمال منافرة التعليل لوجوب المضيّ ـ بأنّه من باب إرغام أنف الشيطان كي لا يعود إلى وسوسته وإيقاعه في الشكّ ـ مع التخيير فإنّ مناسبة الوجوب التعييني مع هذا التعليل في كمال الوضوح ، مضافا إلى أنّ ظاهر الوجوب المستفاد من قوله : « يمضي في صلاته » هو الوجوب التعييني ، لأنّه مقتضى إطلاق الوجوب.

وقد تقدّم منشأ قول هؤلاء الأكابر بالتخيير والجواب عنه فلا نعيد. والإنصاف أنّ ذهاب هؤلاء الأعاظم إلى التخيير عجيب.

الرابع : أنّ هذا الحكم ـ أي عدم اعتناء كثير الشكّ بشكّه ـ هل مختصّ بالصلاة أم يجري في سائر العبادات أيضا؟ وعلى تقدير اختصاصه بالصلاة هل يجري في مقدّماتها الخارجيّة أم يختصّ بنفس الصلاة؟

ربما يقال بعدم اختصاصه بنفس الصلاة ، بل يجري في مقدّماتها الخارجيّة كالوضوء والغسل والتيمم ، بل يجري في سائر العبادات المركبة كالحجّ وأمثاله لوجوه :

[ الوجه ] الأوّل : لدليل نفي العسر والحرج الثابت بالكتاب والسنّة ، إذ ترتيب كثير الشكّ أثر الشكّ على شكّه والاعتناء به حرج شديد عليه ، سواء كان في الصلاة أو في غيرها من العبادات خصوصا في مثل الحجّ ، مثلا لو شكّ في رمي الجمرات أو في السعي أو في الطواف وكان كثير الشكّ ، فترتيب أثر الشكّ وتكرار هذه الأفعال ثانيا وثالثا ورابعا مثلا في غاية الصعوبة ، وخصوصا إذا كان شكّه ممّا يوجب إعادة العمل في السنة المقبلة مع بعد بلد الشاكّ ، فهو يقينا من الحرج المنفي في الشريعة.

وفيه : أنّ الحرج ليس مختصّا بكثير الشكّ ، بل يمكن أن يتحقّق في غير كثير الشكّ أيضا ، وعلى كلّ الحرج الشخصي الرافع للحكم الإلزامي إذا وجد وتحقّق يرفع الحكم ،

__________________

(١) « ذكري الشيعة » ص ٢٢٣.

(٢) « وسائل المحقق الكركي » ج ٢ ، ص ١٤٢.

٣٥٣

سواء كان كثير الشكّ أو قليله ، وسواء كان في الصلاة أو في غيرها من العبادات ، وسواء كان في أجزاء الصلاة أو في مقدّماتها الخارجيّة.

وأمّا إذا كان الحرج النوعي الذي هو حكمة التشريع للتسهيل على المكلفين ـ كما هو كذلك في جعل وجوب الإفطار ، والتقصير على المسافر ، والطهارة الترابيّة على فاقد الماء وأمثال ذلك ـ فلا يطّرد اطّراد علّة الحكم بحيث يستدلّ بوجوده لثبوت الحكم في موضوع آخر ، بل يكون من قبيل القياس المنهي عنه في الدين ، وأنّه يوجب محقة.

ففي هذا القسم ، أي فيما هو من قبيل حكمة التشريع لا بدّ من إتيان الدليل على الحكم ، وأنّ حكمته التسهيل وعدم لزوم الحرج ، وهذا هو الفرق بين أن يكون الحرج علّة للحكم أو يكون من قبيل حكمة التشريع.

ففي القسم الأوّل : يكون هو مناط الحكم أين ما وجد ، ويكون من قبيل منصوص العلّة أو تنقيح المناط القطعي.

وفي القسم الثاني : إسراء الحكم إلى موضوع آخر لأجل وجود ذلك الحرج النوعي من قبيل القياس المردود غير المقبول.

ولا شكّ أنّ ما نحن فيه من القسم الثاني ، فلا يصحّ إثبات الحكم بالحرج النوعي في غير الصلاة من سائر العبادات.

الوجه الثاني : هو التعليل الذي في صحيحة زرارة وأبي بصير بعدم الاعتناء بالشكّ بقوله عليه‌السلام : « لا تعودوا الخبيث من أنفسكم نقض الصلاة فتطمعوه » (١) إلى آخر ما قال عليه‌السلام لعدم اختصاص هذه العلّة بالصلاة ، بل تجري في جميع العبادات المركّبة بل في المعاملات أيضا.

ويؤيّد ما ذكرنا من عموم التعليل ، وعدم اختصاصه بالصلاة وأجزائها ومقدّماتها‌

__________________

(١) سبق تخريجه في ص ٣٤٦ ، رقم (١).

٣٥٤

الداخلية ـ صحيح ابن سنان عن الصادق عليه‌السلام قال : قلت له : رجل مبتلى بالوضوء والصلاة وقلت هو رجل عاقل؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « وأيّ عقل له وهو يطيع الشيطان؟ » فقلت له : وكيف يطيع الشيطان؟ فقال عليه‌السلام : « سله هذا الذي يأتيه من أيّ شي‌ء هو؟ فإنّه يقول لك : من عمل الشيطان » (١).

والظاهر أنّ قول القائل « رجل مبتلى بالوضوء » أي كثير الشكّ وشبيه بالوسواسي ، فقول الإمام عليه‌السلام : « إنّه يطيع الشيطان » تعليل لعدم عقله بالاعتناء بشكّه وسمّاه بإطاعة الشيطان ، فهو عليه‌السلام يشنع عليه الاعتناء بشكّه وترتيب الأثر عليه ، فيستفاد لزوم عدم الاعتناء بشكّه ، مع أنّه في الوضوء وهو من مقدّمات الخارجيّة للصلاة لا نفس الصلاة ، فالحكم بعدم الاعتناء بالشكّ إذا كان كثير الشكّ ليس مختصّا بالصلاة وأجزائها ومقدّماتها الداخليّة.

وفيه : أيضا أنّ هذا التعليل من قبيل حكمة التشريع ، فلا يكون مطّردا اطرّاد العلّة.

[ الوجه ] الثالث : الإجماع على جريان حكم كثير الشكّ أي عدم الاعتناء بشكّه في الوضوء.

وفيه : أوّلا : عدم تسليم اتّفاق الكلّ. وثانيا : لو كان فليس هو الإجماع المصطلح الذي قلنا بحجيته في الأصول ، لأنّ المظنون استناد المتفقين إلى الوجوه المذكورة فلا أثر لهذا الاتّفاق ، ولا بدّ من الرجوع إلى نفس المدارك ، وقد عرفت حالها فلا نعيد.

فظهر أنّ جريان هذه القاعدة في غير الصلاة في غاية الإشكال ، لورود الروايات في مورد الصلاة فقوله عليه‌السلام : « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك » لا يشمل غير الصلاة وأجزاء وشرائطها الداخليّة ، كالقبلة والستر والطمأنينة وأمثال ذلك.

وأمّا المقدّمات الخارجيّة كالطهارات الثلاث ، فشمول القاعدة لها ـ مع أنّ موارد‌

__________________

(١) « الكافي » ج ١ ، ص ١٢ ، كتاب العقل والجهل ، ح ١٠ ، « وسائل الشيعة » ج ١ ، ص ٤٦ ، أبواب مقدمة العبادات ، باب ١٠ ، ح ٩.

٣٥٥

الروايات هو عدم الاعتناء بالشكّ والمضي في الصلاة ـ لا يخلو عن إشكال.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الاعتناء بالشكّ فيها ـ إذا حصل الشكّ في أثناء الصلاة ـ عدم المضي في الصلاة والشارع أمر بالمضي فيها ، فالمقدّمات الخارجيّة حيث أنّ الشكّ فيها ينتهي إلى الشك في إتيان الصلاة جامعة للأجزاء والشرائط ، فأمره عليه‌السلام بالمضي في الصلاة وعدم الاعتناء بالشكّ يشملها من هذه الجهة.

ثمَّ إنّه لا فرق في الحكم بعدم الاعتناء بالشكّ إذا كان كثير الشكّ ، وفي شمول هذه القاعدة بين أن يكون شكّه في عدد الركعات أو الأفعال وتشمل الجميع ، وذلك لأنّ قوله عليه‌السلام : « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك » مطلق يشمل بإطلاقه الشكّ في الأفعال وفي عدد الركعات.

هذا ، مضافا إلى أنّ موثّق عمّار نصّ في الأفعال ، لقوله عليه‌السلام في جواب لا يدري أركع أم لا؟ وهكذا في جواب لا يدري أسجد أم لا : « لا يركع ولا يسجد ويمضي في صلاته ».

وصحيحة زرارة وأبي بصير ظاهرة في عدد الركعات ، لأنّ قوله عليه‌السلام « يمضي في شكّه » في جواب ما سئلا عنه عليه‌السلام وهو أنّه يشكّ كثيرا الظاهر أنّه في عدد الركعات كلّما أعاد الشكّ ، فالدليل ـ في جريان القاعدة في كلا الموردين ـ موجود ولا يحتاج إلى التمسّك بالإطلاق.

الخامس : في أنّه لو كان كثير الشكّ في بعض أفعال الصلاة ، مثلا كان كثير الشكّ في خصوص الركوع أو السجود أو تكبيرة الإحرام ، فهل إذا شكّ في جزء آخر غير الجزء الذي هو كثير الشكّ فيه ، أو غير كثير الشكّ في ذلك الشرط يجري فيه حكم كثير الشك ـ أي عدم الاعتناء بشكّه والبناء على وقوعه ، إذا كان المشكوك من الأجزاء والشرائط ، والبناء على عدمه إذا كان من الموانع ـ أم لا يلحقه حكم كثير الشكّ؟ وكذلك لو كان كثير الشكّ في خصوص عدد الركعات دون الأجزاء والشرائط‌

٣٥٦

والموانع ، أو كان بالعكس كثير الشكّ في الأجزاء والشرائط والموانع دون عدد الركعات فهل يسري حكم كثير الشكّ ممّا هو فيه كثير الشكّ إلى ما ليس فيه كذلك ، فلو كان كثير الشكّ في الأجزاء دون عدد الركعات ، فهل يسري هذا الحكم إلى عدد الركعات أو بالعكس ، أم لا يسري فيه؟

وجهان ، بل قولان :

والأوجه هو عدم السراية ممّا هو كثير الشكّ فيه إلى غيره ممّا ليس فيه كثير الشكّ ، فلو كان كثير الشكّ في خصوص تكبيرة الإحرام ولم يدخل بعد في القراءة أي يكون الشكّ في المحلّ ، فبحكم هذه القاعدة يبني على وقوع تكبيرة الإحرام وإيجاده ، فلو شكّ بعد ذلك قبل أن يركع في أنّه هل قرأ السورة أم لا؟ ولكنه شكّ بدوي غير مسبوق بالشكّ فيه أصلا ، فلا تجري القاعدة في السورة ، بل يجب عليه أن يأتي بها ، لأنّ عمدة ما يمكن أن يتمسّك به للسراية ، صحيح ابن سنان عن الصادق عليه‌السلام قال : « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك » (١) ، فإنّه مطلق لم يذكر فيه متعلّقا لكثرة السهو ، بل رتّب حكم المضي في صلاة على كون المصلّي كثير السهو ، فيمكن أن يستفاد منها عدم الاعتناء بشكّه في أيّ جزء من أجزاء الصلاة بمحض كون المصلّي من مصاديق مفهوم كثير الشكّ ، فإذا صحّ أن يقال : إنّ هذا المصلّي كثير الشكّ فلا عبرة بشكّه في أي جزء أو شرط وقع الشك فيه ، بل ولا فرق بين أن يكون شكّه في عدد الركعات أو في أفعال الصلاة.

ولكن أنت خبير بأنّ هذه الاستفادة خلاف ظاهر الرواية ، لأنّه ليس المراد من قوله عليه‌السلام « إذا كثر عليك السهو » أنّ كثرة السهو في أيّ شي‌ء كان ، سواء أكان ممّا هو متعلّق بالصلاة كالأفعال وعدد الركعات ، أو كان متعلّقا بشي‌ء آخر ممّا هو أجنبي عن الصلاة فامض في صلاتك ، يقينا وخصوصا مع ذلك التعليل المذكور في سائر الروايات‌

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٣٤٦ ، رقم (٣).

٣٥٧

من النهي عن تعويد الشيطان ، فلا بدّ وأن يكون المراد أنّه إذا كثر عليك السهو في شي‌ء من صلاتك فامض في صلاتك ولا تعتن بشكك في ذلك الشي‌ء.

فالظاهر من هذه العبارة حسب المتفاهم العرفي أنّ متعلّق الشكّ الذي حكم الشارع بإلقائه وعدم الاعتناء به مع متعلّق الشكّ الذي في « كثر عليك الوهم » شي‌ء واحد ، فيكون ظاهر صحيح ابن سنان كظاهر سائر الروايات إذا كثر شكّك في شي‌ء من صلاتك سواء كان هو من الأفعال أو كان عدد الركعات فلا تعتني بذلك الشي‌ء.

ويؤيّد هذا الاستظهار تعليل هذا الحكم بعدم تعويد الشيطان على العود إلى الوسوسة ، وإرغام أنفه بعصيانه وعدم اطاعته.

فظهر ممّا ذكرنا أنّه لا يسري الحكم ممّا هو كثير الشكّ فيه إلى غيره ، سواء كان ذلك الغير هو أحد الأفعال من الأجزاء والشرائط أو عدد الركعات.

السادس : في أنّه ما المراد من كثير الشكّ وكثير السهو؟

أقول : لا شكّ في أنّ الألفاظ المستعملة في كلام الشارع تحمل على المعاني العرفيّة ، إلاّ أن يرد تصرّف من قبل الشارع من نقل أو تحديد ، أمّا النقل فكالصلاة والصوم والحجّ وأمثالها ، وأمّا التحديد فكالإقامة والسفر فإنّ الشارع أو المتشرّعة نقلوا ألفاظ القسم الأوّل من المعاني العرفيّة إلى ماهيّات مخترعة شرعيّة تعيينا أو تعيّنا ، وفي القسم الثاني حدّد السفر بثمانية فراسخ والإقامة بعشرة أيّام.

وأمّا لو لم يكن نقل ولا تحديد في البين فلا بدّ وأن يحمل على ما هو معناه عرفا ، وهذا واضح جدّا.

ومن جملة تلك الألفاظ والجمل التي جعلت موضوعا للحكم الشرعي في لسان الشارع كلمة « كثير الشك » أو « كثير الوهم » وقد تقدّم أنّهما بمعنى واحد في هذا المقام ، فلو لم يكن تصرّف من قبل الشارع لا بدّ من الرجوع إلى العرف في فهم المراد منه وما هو معناه.

٣٥٨

وعند العرف يحتمل أن يكون من حالات النفس وخلقا لها ، لا صرف كثرة وجود الشكّ ، فحينئذ تعيينه بثلاث مرّات في صلاة واحدة ، أو في ثلاث صلوات متواليات لا أساس له ، بل لا بدّ من وجود تلك الحالة والخلق في النفس ، سواء أكان حصولها بنفس ذلك العدد المذكور ، أو بأقلّ أو بأكثر منه. وطريق تشخيصه هو حكم العرف من الآثار كالوسواسي والقطّاع.

وأمّا إن كان عبارة عن كثرة وجود الشكّ والسهو بدون أن يكون من حالات النفس ، فلا بدّ من مراجعة العرف في حدّ الكثرة.

هذا كلّه إذا لم يكن تحديد من قبل الشرع ، وإلاّ فيجب الرجوع إلى ذلك الدليل الذي يحدّد موضوع حكمه ، لأنّ تعيين موضوع حكمه بيده ونظره لا بنظر العرف.

وما يمكن أن يكون تحديدا من قبل الشارع هو ما رواه الصدوق بإسناده عن محمّد بن أبي عمير ، عن محمّد بن أبي حمزة عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « إذا كان الرجل يسهو في كلّ ثلاث فهو ممّن يكثر عليه السهو » (١).

والاحتمالات في هذه الرواية أربعة :

أحدها : أن يكون ما أضاف إليه لفظة « كلّ » هو لفظة الصلاة مقدّرة ، فيكون المعنى والتقدير أنّه : إذا كان الرجل يسهو في كلّ صلاة ثلاث ، فلو شكّ في كلّ صلاة مرّتين لا يكون كثير الشكّ ، بل لو شكّ في أغلب الصلوات ثلاث ولكن في بعضها القليل لم يشكّ أصلا ، أو كان شكّه أقلّ من ثلاث لا يكون كثير الشكّ.

وهذا الوجه مستبعد جدّا ، ولم يقل به أحد.

ثانيها : أن يكون المحذوف أو المقدّر هو الذي أضاف إليه لفظة « ثلاث » ، لا لفظة « كلّ » كي يكون التقدير هكذا : إذا كان الرجل يسهو في كلّ ثلاث صلوات ، أي يسهو‌

__________________

(١) « الفقيه » ج ١ ، ص ٣٣٩ ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح ٩٩٠ ، « وسائل الشيعة » ج ٥ ، ص ٣٣٠ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب ١٦ ، ح ٧.

٣٥٩

في الثالث والسادس والتاسع وهكذا فهو كثير الوهم. وهذا هو حدّ الأقلّ ، فلو كان يسهو في كلّ اثنين منها فيكون كثير الشكّ بطريق أولى. ولا شكّ أنّ كلّ ثلاث بناء على هذا المعنى من قبيل العامّ الاستغراقي أو الأصولي ، أي الحكم بكونه كثير الشكّ موضوعه هو أن يشكّ في كلّ ثلاث من صلواته ، فلو شكّ في إحدى الصلوات الثلاث الأولى مثلا ـ أي في الصلاة الأولى أو الثانية أو الثالثة ـ فهو كثير الشكّ ولم يشكّ بعد ذلك في الرابعة والخامسة والسادسة ، فيخرج عن كونه كثير الشكّ. وبعد ذلك لو شكّ في أحد الثلاث الآتية يدخل في كثير الشكّ ، وهكذا على هذا النسق خروجا ودخولا.

ثالثها : أن يكون المراد من كلّ أحد ثلاث من الصلوات الخمس ، وذلك بتقدير لفظة « الأحد » المضاف إلى ثلاث ، وبتقدير من الصلوات الخمس اليومية بعد لفظة « ثلاث » كي يكون كلمة « من الصلوات الخمس » متعلّقا بثلاث ، فتكون النتيجة أنّه لو شكّ في إحدى صلوات الثلاث من الخمسة اليوميّة ، أي إمّا في الصبح ، أو في الظهر ، أو في العصر.

هذا إذا جعلنا المبدأ صبحا ، وأمّا إذا جعلنا المبدأ ظهرا فيشكّ إمّا في الظهر ، أو العصر ، أو المغرب. وإن جعلنا المبدأ عصرا فيشك إمّا في العصر ، أو في المغرب ، أو في العشاء.

رابعها : أن يكون المراد أن يشكّ في كلّ ثلاث من الخمسة في كلّ يوم ولو كان الثلاث غير متواليات ، فلو شكّ مثلا في الصبح والعصر والعشاء يكون كثير الشك ، أمّا لو شكّ في الاثنتين منها ولو كانتا متواليتين كالظهر والعصر ، أو العصر والمغرب ، أو المغرب والعشاء فليس بكثير الشكّ. فالمدار في كونه كثير الشكّ بناء على هذا هو أن يشكّ كلّ يوم وليلة في أكثر الفرائض اليوميّة ، سواء كانت الصلوات التي وقع فيها الشكّ متواليات أو منفصلات ، وأوّل مراتب الأكثر في الخمسة هي ثلاث صلوات منها.

٣٦٠