أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]
المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٣١
الفصل الثانى
فى أضداد الإرادة الحادثة
وهى تنقسم : إلى أضداد خاصة. وإلى أضداد عامة.
أما الخاصة :
فالكراهية : وهى ضد الإرادة باتفاق الأئمة. ولم يمنعوا من اتصاف الرب ـ تعالى ـ بها ، خلافا للأستاذ أبى إسحاق ، فإنه قال : الكراهة لا يوصف بها البارى ـ تعالى ـ لأن الكراهة راجعة إلى النفرة عن الشيء ، والنفرة عنده من ضروب الآلام. والرب ـ تعالى ـ لا يوصف بشيء من الآلام ، وهو على خلاف الإطلاق الشائع الذائع من الأمة بكون الله (١) ـ تعالى ـ كارها لكذا ، وغير كاره لكذا ، ولو كانت الكراهة ألما ، أو نفرة ؛ لما وصف بها الرب ـ تعالى ـ إذ هو لا يوصف بالألم ، والنفرة.
وأيضا : فإنه لو كانت الكراهية هى النفرة ، أو ضرب من الألم ؛ لكان قول القائل : كرهت بمنزلة قوله : تألّمت ، ونفرت. ولو كان كذلك ؛ لما (٢) صح (٢) قول القائل : كرهت الأمر الفلانى ؛ إذ هو بمنزلة قوله : تألمت الأمر الفلانى ، أو نفرت الأمر الفلانى ؛ وهو محال.
فإن قيل : لو كانت الكراهية ضد الإرادة ، لما اجتمعا. والمعصية الواقعة عندكم مرادة لله ـ تعالى ـ ومكروهة له.
قلنا : حدوث المعصية الواقعة عندنا هو المراد ، وحدوثها ليس بمكروه ؛ بل المكروه كونها معصية ، وكونها معصية ؛ خارج عن نفس الحدوث المراد ؛ فما اجتمعا.
وأما الأضداد العامة :
فالموت ، والنوم ؛ بالاتفاق.
وأما الغفلة ، والسهو ؛ فالإجماع منا ، ومن المعتزلة ، وكل عاقل ـ واقع على أنه لا يجامع الإرادة. بمعنى أن إرادة الشيء لا تجتمع مع السهو عن ذلك الشيء. وهل هما
__________________
(١) فى ب (الرب).
(٢) فى ب (لم يصح).
ضدان؟ فالذى عليه أصحابنا : التضاد خلافا للمعتزل ؛ فإنهم قالوا : هما غير متضادين ، وإن امتنع الجمع بينهما.
احتج الأصحاب : بأن الإرادة ، والسهو : معنيان يمتنع الجمع بينهما فى المحل الواحد بالنسبة إلى شيء واحد ، ولا يتخيل فيهما مانع للمنع من الجمع غير التضاد ؛ فهما متضادان.
وفيه نظر ؛ إذ ليس كل معنيين يمتنع الجمع بينهما فهما متضادان ؛ فإن القدرة على الحركة على أصولنا معنى ، والسكون المضاد للحركة المقدورة معنى ، ولا يتصور الجمع بين القدرة على الحركة ، والسكون ؛ ضرورة مقارنة القدرة علي الحركة للمحركة ، وليست القدرة / على الحركة ، والسكون ضدين ؛ بل للقدرة (١) على الحركة لازم ضد السكون ؛ وهو الحركة.
وقول القائل : لم يتخيل من الإرادة والكراهة ما يجعل الجمع غير التضاد ، دعوى تفتقر إلي البحث والسبر ، وهو غير يقينى كما سلف (٢).
وأما حجة الخصم : فمن وجهين :
الأول : لو كان السهو مضادا للإرادة ؛ لتعلق بمتعلقها على ضد تعلقها : كالجهل ؛ فإنه لما ضاد العلم كان متعلقا بمتعلق العلم (على) (٣) النقيض من تعلق العلم به ، والسهو ليس كذلك ؛ فإنه متعلق مثيله بالقديم ، والباقى مع استحالة تعلق الإرادة بهما.
الثانى : أنه لو كان السهو مضادا للإرادة ؛ فهو عندكم أيضا مضاد العلم ، ولو كان ضدا لهما ، لتضادا : كالسواد ؛ فإنه لما كان ضدا للبياض والحمرة ؛ كان البياض ، والحمرة ضدين. وليس العلم ضدا للإرادة ؛ فلا يكون السهو ضدا لها.
والجواب عن الحجة الأولى :
لا نسلم أنه لو كان السهو مضادا للإرادة ؛ لكان متعلقا بمتعلقها على النقيض ، ولا يلزم من وقوع ذلك فى بعض المتضادات : كالعلم ، والجهل ؛ وقوع ذلك مطلقا فى كل
__________________
(١) فى ب (القدرة).
(٢) فى ب (سبق).
(٣) فى أ (عن).
متضادين ؛ فإن السواد والبياض ضدان ، ولا تعلق لأحدهما بمتعلق الآخر على النقيض ، وكذلك الموت ؛ فإنه عندنا ضد الإرادة (١) ، وليس هو على ما ذكروه.
وإن سلمنا : أنه لا بد وأن يكون الأمر فى المتضادين على ما ذكروه ؛ ولكن لا نسلم أن السهو الّذي هو مضاد (للإرادة) (٢) غير متعلق بمتعلق الإرادة ؛ فإن إرادة الشيء يضادها السهو عن ذلك الشيء ، لا عن غيره.
وعلى هذا : فلا يلزم من كون السهو عن القديم والباقى ، غير مضاد للإرادة ، أن لا يكون السهو عن الشيء مضادا لإرادة ذلك الشيء.
أما الحجة الثانية :
فلا نسلم أن ما ضاد مختلفين ؛ أنه (٣) لا بد (٣) من تضاد المختلفين ، ولا أنه يلزم من وقوع ذلك فى بعض المتضادات ، طرده فى الباقى ؛ فإن عندنا الموت مضاد للعلم ، والقدرة ، والإرادة ؛ ولا تضاد بين العلم ، والقدرة ، والإرادة ، ومجرد الدعوى فى ذلك غير مقبولة فى ما ليس بضرورى.
ومن مذهب الشيخ : إن الإرادتين المتعلقتين بالضدين فى وقت واحد فى محل واحد ؛ ضدان : كإرادة الحركة يمنة ، وإرادة الحركة يسرة.
قال القاضى أبو بكر : والّذي يصح عندى عدم / التضاد محتجا على ذلك بأن من جهل تضاد شيئين. وقدر فى نفسه جواز اجتماعهما ؛ فإنه يتصور منه إرادتهما معا على رأى الشيخ ، ولو تضادا ، لما اختص امتناع الجمع بينهما بحالة العلم دون غيره : كالسواد ، والبياض ؛ فإنهما لما تضادا امتنع الجمع بينهما مطلقا سواء علما ، أو جهلا.
وفيه نظر ؛ إذ الإرادة على ما حققناه : عبارة عن معنى من شأنه أن يتخصص به كل واحد من الجائزين بدلا عن الآخر ، وما لا يكون كذلك ؛ فغير خارج عن القصد ، والتمنى ، والشهوة ، والميل ، والعزم ، وليس إرادة على التحقيق.
وعلي هذا : فتعلق الإرادة بالمراد لا معنى له غير تخصيص (٤) المراد (٤) بها ؛ فلا يعقل تعلقها بالمراد من غير تخصيص له بها.
__________________
(١) فى ب (للإرادة).
(٢) فى أ (الإرادة).
(٣) فى ب (فلا بد).
(٤) فى ب (تخصيصه).
وعند ذلك : فلا يخفى أن تعلق الإرادتين (بالضدين) (١) ممتنع سواء علم تضادهما ، أو لم يعلم ؛ ضرورة استحالة تخصيصهما معا فى وقت واحد ، فى محل واحد ، ولا معنى لتضاد الإرادتين غير امتناع اجتماع تعلقهما بالضدين معا.
وعلى هذا : فالمذهبان مدخولان.
أما مذهب الشيخ : فلاعتقاده أنه لا تضاد حالة الجهل.
وأما مذهب القاضى : فلاعتقاده انتفاء التضاد مطلقا. فإن قال ناصر كلام القاضى أن الإرادة الحادثة عندكم غير مخصصة للمراد كما أن القدرة الحادثة غير مؤثرة فى الإيجاد ؛ فكيف يصح هذا النبأ؟
قلنا : وإن كانت الإرادة الحادثة غير مؤثرة فى التخصيص ، فمعنى تعلقها بالمراد ، وقوع التخصيص مقارنا لها. كما أن القدرة الحادثة غير مؤثرة فى الإيجاد. ومعنى تعلقها بالمقدور مقارنته لها ، على ما تقدم.
ولا يخفى : أن تعلق الإرادة الحادثة بالمراد ـ على هذا التفسير ـ مما يمنع من الجمع بين تعلق الإرادتين بالضدين على ما عرف.
وعلى هذا : فكل ضدين لا واسطة بينهما ، ويمتنع عرو المحل عنهما ؛ فيمتنع الكراهية لهما ؛ إذ من ضرورة الكراهية لهما امتناع إرادة كل واحد منهما ؛ لاستحالة الجمع بين كراهية الشيء ، وإرادته. ويلزم من ذلك خلو المحل عنهما ؛ وهو محال.
وإن كان بينهما واسطة ؛ فلا يمتنع تعلق الكراهة (بهما) (٢) ؛ لإمكان اجتماعهما فى العدم.
__________________
(١) فى أ (لضدين).
(٢) فى أ (لهما).
الفصل الثالث
فى أن الإرادة للشىء كراهية لضده (١)
مذهب الشيخ أبى الحسن ، وكثير من أصحابه : أن عين إرادة الشيء ، كراهية لأضداد ذلك الشيء ؛ ولكن مقتضي أصل الشيخ ، وإن لم يكن مصرحا به من جهته : أن يكون المريد للشيء عالما بأن الشيء له أضداد ، فإن من لا يعلم وجود الشيء ؛ فلا يتصور أن يكون كارها له.
فإذن الإرادة للشيء : كراهية لأضداده (٢) ، حالة علم المريد بالأضداد ، لا حالة جهله بها.
وقال الاستاذ أبو إسحاق : إرادة الشيء لا تكون بعينها كراهية لأضداد ذلك الشيء مطلقا ؛ لأنها لو كانت الإرادة للشيء كراهية (٣) للضد (٣) ؛ لكان ذلك لها من صفات نفسها ، وصفات النفس لا تزول. ولو كان كذلك ؛ لكانت الإرادة للشيء كراهية لضده حالة الجهل به ؛ وهو محال لما تقدم.
وقال إمام الحرمين : هذا هو أيضا مقتضى أصل القاضى ، والحجة لمذهب الشيخ أبى الحسن : أن المريد للشيء تلازمه الكراهية لأضداده لا محالة على ما يجده كل عاقل من نفسه ، والكراهة : إما أن تكون عين الإرادة ، أو غيرها.
لا جائزة أن يقال بالمغايرة : وإلا فذلك الغير : إما أن يكون مثلا للإرادة ، أو لا يكون مثلا لها.
فإن كان مثلا : فالمثلان لا يجتمعان فى محل واحد على ما يأتى فى التضاد (٤).
وإن لم يكن مثلا : فهو خلاف ؛ والخلاف : إما ضد ، أو ليس بضد. لا جائز أن يكون ضدا : وإلا لما اجتمعا ؛ وقد اجتمعا.
وإن لم يكن ضدا : فكل خلافين ليسا بضدين أمكن وجود أحدهما دون الآخر : كالعلم ، والقدرة ، ونحوهما ؛ وهو خلاف ما قيل من التلازم ؛ بل وأمكن وجود كل واحد
__________________
(١) فى ب (لأضداده).
(٢) فى ب (لضده).
(٣) فى ب (كراهة ضده).
(٤) انظر الجزء الثانى ل ٧٨ / أوما بعدها.
منهما مع ضد الآخر. وضد الكراهية ، الإرادة ؛ وذلك يجرّ إلى جواز إرادة الشيء ، وإرادة ضد ذلك الشيء معا ؛ وهو محال ؛ لما تقدم من أن الإرادتين المتعلقتين بالضدين متضادتان.
وإذا لم يكن كارها لغير ما هو مريد له ، تعين كون الإرادة للشيء عين الكراهة لضد ذلك الشيء ؛ وبهذا عرفنا (١) أن عين القرب من المشرق (٢) ؛ هو عين البعد من (٣) المغرب (٣) ، وأن عين شغل الجوهر لحيز انتقل إليه ، عين تفريقه للحيز الآخر ، ونحو ذلك.
وهذه الحجة فيها نظر ؛ إذ لقائل أن يقول : لا نسلم أن المريد للشيء يكون كارها لضده ؛ بل غايته أن يكون كارها ، لعدم المراد. أما الضد : فأمكن أن يكون كارها له ، وأمكن أن لا يكون / وإن سلم أنه لا بد وأن يكون كارها للضد ؛ ولكن لا نسلم أن الإرادة عين الكراهة. والمختار من الأقسام : إنما هو الاختلاف من غير تضاد.
وعلى هذا : فلا نسلم إمكان وجود أحد المختلفين دون الآخر مطلقا فى كل مختلفين ؛ ليلزم ما قيل.
وما المانع من كونهما متلازمين؟ بحيث لا ينفك أحدهما عن الآخر ، ولا يلزم من جواز الانفكاك فى بعض المختلفات جوازه مطلقا.
ولهذا : فإن التحيز مع الجوهر من المختلفات ، ولا انفكاك لأحدهما عن الآخر على أصل المستدل.
وأما حجة مذهب الأستاذ أبى إسحاق : فإنما تلزم أن لو قيل : بأن إرادة الشيء عين الكراهة لضد ذلك الشيء مطلقا ؛ وليس كذلك.
وما المانع أن تكون الإرادة للشىء عين الكراهة لضده مشروطا بالعلم به؟ كما أن أصل الكراهة للشىء. أو الإرادة له مشروطا بالعلم به.
__________________
(١) فى ب (عرفت).
(٢) فى ب (الشرق).
(٣) فى ب (عن الغرب).
فإن قيل : لو جاز أن تكون الإرادة (١) للشىء (١) عين الكراهة لضده ؛ لكان العلم بالشيء جهلا بضده ؛ وهو محال ؛ فإنه لا يلزم من العلم بالسواد ، الجهل بالبياض ، ونحوه
قلنا : هذه دعوى مجردة ، وتمثيل من غير دليل جامع ؛ فلا يصح. كيف : وأن الاتفاق واقع على أن إرادة (٢) الشيء (٢) كراهية لعدم ذلك الشيء إما بعين الإرادة ، أو بغيرها ، وما لزم أن يكون العلم بوجود الشيء ؛ جهلا بعدمه ، كان الجهل بالعدم عين العلم ، أو غيره.
__________________
(١) فى ب (إرادة الشيء).
(٢) فى ب (الإرادة للشىء).
الفصل الرابع
فى أن الإرادة الحادثة لا توجب المراد
مذهب الأشاعرة : أن الإرادة غير (١) موجبة للمراد (١)
ووافقهم على ذلك الجبائى ، وابنه ، وجماعة المتأخرين من المعتزلة.
وذهب النظام ، والعلاف ، وجعفر بن حرب (٢) ، وطائفة من قدماء البصريين : إلى أن الإرادة توجب المراد ؛ إذا كان المراد فعلا للمريد ، وكانت الإرادة قصدا إلى إيقاع الفعل المقدور عند زوال الموانع.
وأما إن كانت الإرادة عزما ، أو كانت الإرادة لفصل الغير فلا.
أما حجة أصحابنا على امتناع كون الإرادة موجبة للمراد : فما أسلفناه فى امتناع كون القدرة الحادثة موجبة للمقدور ؛ فعليك بنقله إلى هاهنا (٣).
وأما النظام : فإنه قال : إذا أراد المريد الحركة إلى جهة اليمنة تقديرا ، وكانت إرادته قصدا لإيقاع الفعل مع ارتفاع / الموانع : فإما أن يقال بجواز وقوع الحركة فى الحالة الثانية من وجود الإرادة إلى جهة غير جهة اليمنة ، أو أنه لا بد من وقوع ما عينه من الحركة.
لا جائز أن يقال بالأول : وإلا فتلك الحركة : إما أن تقع مرادة ، أو غير مرادة.
لا جائز أن تقع من غير إرادة : وإلا لأمكن مثل ذلك فى كل حركة ؛ إذ ليس البعض بالاستغناء عن الإرادة أولى من البعض.
وإن كان وقوعها بالإرادة : فالإرادة لها : إما أن تكون مقارنة لها ، أو متقدمة عليها.
لا جائز أن يقال بالمقارنة : لأن الإرادة قصد ، والقصد إلى الشيء يجب أن يكون مقدما على ذلك الشيء.
__________________
(١) فى ب (لا توجب المراد).
(٢) جعفر بن حرب الهمذانى. من أئمة المعتزلة البغداديين ، أخذ الكلام عن أبى الهذيل العلاف بالبصرة ، وصنف مؤلفات فى الكلام توفى سنة ٢٣٦ ه.
(الفرق بين الفرق ١٣٣ ، ١٦٧ ، والملل ٥٩ ، ٦٩ والأعلام ٢ : ١١٦).
(٣) انظر ل ٢٢٩ / أوما بعدها.
ولا جائز أن يقال بتقدمها عليها : لأن ذلك يجر إلى اجتماع الإرادتين لضدين مع العلم بهما فى وقت واحد ؛ وذلك محال.
فلم يبق إلا القسم الثانى : وهو وجوب وقوع ما عينه من الحركة فى الوقت الثانى ، وهو المعنى بإيجاب الإرادة للمراد (١).
واعلم أن هذه الحجة إنما تلزمنا : أن لو قلنا بوجوب تأثير الإرادة فى المراد بالتخصيص ، وليس كذلك ؛ بل غايته أنا نقول بوجوب مقارنتها للمراد من غير تأثير كما قلنا فى القدرة ، وليس القول : بكون الإرادة موجبة للمراد بسبب المقارنة بينهما من غير تأثير لأحدهما فى الآخر ، بأولى من كون المراد موجبا للإرادة ؛ كما سبق فى القدرة.
وإن سمى مسم الإرادة موجبة بهذا الاعتبار ؛ فلا منازعة معه فى غير التسمية ؛ بل هذه الحجة لازمة على المعتزلة القائلين بأن الإرادة غير موجبة للمراد ، مع اعترافهم بتأثيرها فى صفة المراد ، ولصعوبة معركها على أصلهم.
اختلفوا فى جوابها ؛ بعد الاتفاق منهم على جواز وقوع الحركة فى الوقت الثانى من وجود الإرادة إلى خلاف جهة الحركة المرادة.
فمنهم من قال : بأنها (٢) تقع مرادة إذ لو وقعت غير مرادة ؛ لأمكن ذلك فى كل حركة لما سبق.
ثم من هؤلاء من قال : بأن الإرادة لضد الحركة المرادة أو لا تقع مقارنة لها ، (٣) لا مقدمة (٣) عليها ، حتى لا تجتمع إرادتان لضدين فى وقت واحد ـ مع العلم بهما ـ إذ هو محال ؛ لما سبق ؛ وهذا هو قول الجبائى.
ومنهم من قال : إنها تقع بإرادة متقدمة عليها ، ولو وقع ذلك ؛ لما كانت الإرادة الأولى ؛ وهذا هو قول أبى هاشم.
ومن المعتزلة القائلين بامتناع إيجاد الإرادة للمراد من قال : / (٤) بأن الحركة المرادة (٤) تقع فى الوقت الثانى من غير إرادة ؛ لأنها لو كانت مرادة ؛ فالإرادة : إما مقارنة لها ، أو متقدمة عليها.
__________________
(١) فى ب (للمريد).
(٢) فى ب (أنها).
(٣) فى ب (لا متقدمة).
(٤) فى ب (أن الحركة المضادة).
لا جائز أن تكون مقارنة لها ؛ لما تقدم ، ولا متقدمة عليها ، للمحال المذكور أولا.
وربما أسند بعضهم وقوعها إلى البنية المخصوصة.
وكل هذه الأجوبة فمدخولة.
أما جواب الجبائى : فإما أن يقول : بأن كل إرادة تقارن المراد ؛ كما هو المنقول عنه من أحد قوليه. وإما أن يقول بالمقارنة فى صورة الإلزام دون غيرها ، كما هو المنقول عنه فى قول آخر.
فإن كان الأول : فلا يخفى أنه يلزم من مقارنة الإرادة للمراد مع تأثير الإرادة فى صفة المراد ، أن تكون موجبة المراد : كما قال النظام ، وموافقوه.
وإن كان الثانى : فيلزم منه أن تكون الإرادة فى صورة المقارنة موجبة ، وهو خلاف مذهبه ، ثم إنه ليس القول : بمقارنة الإرادة لإحدى الحركتين ، وتقدم إرادة (١) الأخرى عليها ، أولى من العكس.
وأما جواب أبى هاشم : فحاصله راجع إلى أن الإرادة المفروضة أو لا لم تكن بتقدير وقوع الحركة المضادة ؛ وهو محال ؛ لما فيه من القول بعدم ما قيل بوجوده فى وقت وجوده.
والقول بأن الحركة المضادة ـ بتقدير وقوعها ـ لا تكون مرادة ؛ يوجب أن تكون كل حركة هكذا ؛ لما تقدم من عدم أولوية بعض الحركات بالاستغناء عن الإرادة دون البعض.
وعلى هذا : يبطل القول بإسناد الحركة المضادة إلى البنية المخصوصة أيضا.
__________________
(١) فى ب (الإرادة).
الفصل الخامس
فيما يجوز تعلق الإرادة به ، وما لا يجوز
أما (ما لا (١) يجوز (١)) تعلق الإرادة به : فالمستحيلات : كالجمع بين الضدين ، وانقلاب الحادث قديما ، والقديم حادثا. إلى غير ذلك.
ولا فرق فى ذلك بين الغائب ، والشاهد ؛ لكن مع العلم بالاستحالة شاهدا ، وكذلك الحكم فى إرادة القديم الواجب ؛ إذ الإرادة إنما هى للتحصيل ، وتحصيل الحاصل محال. وكل (٢) ذلك (٢) مما لا خلاف فيه بين العقلاء.
وأما ما يجوز تعلق الإرادة به : فكل ما هو جائز فى (٣) نفسه ، وسواء كان مقدورا للمريد ، أو غير مقدور له. وسواء كان وجودا ، أو عدما. وسواء كان العدم طارئا ، أو أصليا : كإرادة أن لا يحدث الشيء.
وذهب بعض المعتزلة : إلى امتناع إرادة العدم المحض.
/ ومنهم : من جوز ذلك ؛ لكنه لم يصف العدم بكونه مرادا ، وإن تعلقت الإرادة به كما قال أبو هاشم فى العلم بالمستحيلات.
والمذهبان باطلان.
أما الأول : فلأنه خلاف ما يجده كل عاقل من نفسه من إرادة أن لا يكون الشيء كما يجده من إرادة كونه ؛ وليس ذلك عائدا إلى إرادة الضد ؛ فإنه قد يريد ألا يحدث ما لا ضد له : كالجوهر. وليس الفناء ضدا للجوهر ليقال بتعلق الإرادة به على ما سنبينه ، وبتقدير كون الفناء ضدا ؛ فإنما يكون بعد حدوث الجوهر لا قبله ؛ فلا يمكن أن تكون إرادة ألا يحدث الجوهر إرادة لفنائه. وبتقدير تحقق الفناء قبل حدوث الجوهر ، فقد يريد ألا يحدث الجوهر من لا يخطر الفناء بذهنه.
وأما المذهب الثانى : فبطلانه بما أبطلنا به قول أبى هاشم فى علم لا معلوم له.
فإن قيل : إذا جوزتم تعلق الإرادة بكل جائز ؛ فكل باق مما ليس واجبا لذاته جائز ، (فلتكن) (٤) الإرادة متعلقة به ، ولم يقل به أحد من العقلاء.
__________________
(١) فى أ (ما يجوز)
(٢) فى ب (وذلك).
(٣) فى ب (أن يكون فى).
(٤) فى أ (ممكن)
فقد أجاب عنه : الأستاذ أبو إسحاق : بأن إرادة المعنى (١) الّذي به بقاء الباقى ممكن.
وأما الباقى من غير بقاء : فغير ممكن ؛ فلا (٢) تتعلق به الإرادة (٢). وليس بحق ؛ فإنه إن (٣) كان الباقى باقيا بنفسه ؛ فالإشكال لازم. وإن كان باقيا بمعنى : فلو قيل : لم لا يجوز أن تتعلق الإرادة بالباقى مع جوازه ، وبقطع النظر عن المعنى الموجب للبقاء؟ لم يكن ما ذكره الأستاذ فى الجواب كافيا.
والحق فى الجواب : أنه لا امتناع من تعلق الإرادة بالباقى. وإنما الّذي يمتنع تعلقها به تجدد وجود الباقى ؛ فإنه محال. وعليه معول إمام الحرمين.
هذا ما قاله الأصحاب : فى تعلق الإرادة بالمراد.
والواجب إنما هو التفصيل فى هذا الباب ؛ وهو أن يقال :
إن أريد بالإرادة : المعنى الّذي من شأنه تخصيص الحادث بوقت حدوثه وبحالة دون حالة ، كما أسلفناه فى تحقيق معنى الإرادة ؛ فيمتنع تعلقها بما لا تكون مخصصة له. وسواء كان جائزا فى نفسه ، أو لم يكن كما أسلفناه فى الفصل الثانى من هذا الأصل (٤).
وإن أريد به ما سوى ذلك : من القصد له ، أو التمنى ، أو الشهوة ، أو الميل ، أو غيره ؛ فمسلم.
وعلى كل حال ؛ فلا يتصور أن يكون الفاعل عالما بفعله ، إلا وهو مريد له بموافقة جميع المعتزلة. ما سوى المتولدات من الأسباب ؛ فإنها يجوز أن تكون عندهم مرادة ، وغير مرادة. وإن / كانت (٥) من أفعال فاعل السبب.
وأما الإرادة : فلو أقدر الله ـ تعالى ـ عبده على الإرادة ، فهل يجب أن تكون تلك الإرادة مرادة له بإرادة أخرى؟ وهل تتعلق إرادته ، بإرادته المقدورة (٦) ، أم لا؟
__________________
(١) فى ب (المعتزلة).
(٢) فى ب (ولا تتعلق الإرادة به).
(٣) فى ب (ما)
(٤) انظر ل ٢٨٢ / ب.
(٥) فى ب (كان).
(٦) فى ب (المعدومة).
فذهب أصحابنا : إلى وجوب ذلك ؛ لأنه لا يتصور فعل من فاعل ، وهو عالم به ، ذاكر له من غير إرادة له.
ومنع الجبائى من ذلك : وأحال كون الفاعل للإرادة مريدا لها بإرادة أخرى.
وأما أبو هاشم فإنه قال : إن (١) كانت الإرادة قصدا إلى الفعل مقارنة له ، أو متقدمة عليه : كتقدم القدرة على المقدور ، جاز أن تكون مرادة وأن لا تكون مرادة.
وأما إن كانت متقدمة على الفعل بأزمنة ، وكانت عزيمة على الفعل ؛ فلا بد وأن تكون مرادة. وكل ذلك يخيل فى دفع سؤال التسلسل على قولهم : بأن الله ـ تعالى ـ مريد بإرادة حادثة لا فى محل.
احتج أصحابنا : بأن الإجماع منا ، ومن المعتزلة منعقد على أن كل مقدور معلوم ، ما عدا موضع النزاع ؛ فإنه لا بد وأن يكون مرادا بإرادة مخصصة له.
وإنما افتقر إلى تعلق الإرادة به من جهة كونه جائزا ؛ فإن (٢) المخصص للجائزات (٢) : إنما هو الإرادة ـ كما سبق تقريره فى مسائل الصفات (٣) ـ والإرادة المقدورة جائزة ؛ فكان تخصيصها مفتقرا إلى مخصص من جهة الفاعل لها ؛ وذلك المخصص هو الإرادة. ولو أمكن استغناؤها ـ مع جوازها ـ عن الإرادة المخصصة ؛ لاستغنى كل جائز عن المخصص ؛ وذلك محال ؛ لما فيه من تخصيص بعض الجائزات دون البعض من غير مخصص.
فإن قيل : ما ذكرتموه : إنما يلزم منه وجود الإرادة مع جوازها من غير مخصص ، بتقدير أن لا تكون مرادة أن لو لم يكن الداعى إليها كافيا فى التخصيص ؛ فلم قلتم بأنه غير كاف؟
وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على إرادة الإرادة ؛ لكن معنا ما يدل على امتناع ذلك ، وبيانه من وجهين :
الأول : أنه لو كانت الإرادة المقدورة مرادة للفاعل (٤) ؛ لكانت تلك الإرادة الثانية مفتقرة إلى ثالثة ، والثالثة إلى رابعة ، وهلم جراء إلى ما لا نهاية له ؛ وهو محال.
__________________
(١) فى ب (إذا).
(٢) فى ب (والمخصص للجائز).
(٣) انظر ل ٦٤ / ب وما بعدها.
(٤) فى ب (بالفاعل).
الثانى : أنه لو جاز أن تراد الإرادة ؛ لجاز أن تشتهى الشهوة ، وأن يتمنى التمنى ، وكل ذلك محال.
قلنا : أما داعى الإرادة لو اكتفى به عن إرادة الإرادة ؛ لاكتفى بداعى المراد عن إرادة المراد. وأما التسلسل : فإنما يلزم أن لو كانت كل إرادة مكتسبة مرادة بإرادة / مكتسبة ؛ وليس كذلك ؛ بل أمكن قطع التسلسل بالانتهاء إلى إرادة ضرورية حاصلة للفاعل بخلق الله ـ تعالى.
فإن قيل : فلو (١) كان المراد (١) معصية ؛ فإرادته تكون معصية ؛ لأن إرادة المعصية معصية ، وهلم جرا ؛ فالإرادة المخلوقة لله ـ تعالى ـ تكون معصية ، ولا (٢) يكون الرب ـ تعالى (٢) ـ خالقها ؛ فقد سبق الجواب عن أمثال هذا (٣) فى مسألة خلق الأفعال.
وما ذكروه آخرا ؛ فدعوى مجردة ، وتمثيل من غير جامع ؛ فلا يصح على ما عرف.
كيف وأن ما ذكروه ، لازم عليهم فى الإرادة السابقة على المراد بأزمنة ؛ فإنها لا بد وأن تكون مرادة على أصلهم كما بيناه. فما هو جوابهم ثم ؛ فهو جوابنا هاهنا.
__________________
(١) فى ب (فلو كانت إرادة المراد).
(٢) فى ب (فلا يكون الرب).
(٣) فى ب (هذه الشبهة).
الفصل السادس
فى تحقيق متعلق الإرادة
ذهب القاضى أبو بكر ، والبصريون من المعتزلة : إلى أن الإرادة إذا تعلقت بقول ، أو فعل ؛ فلا بد وأن تثبت له حالة زائدة على ذاته.
أما فى القول : فكما لو قال القائل لغيره : افعل. فإنه إذا أراد به الإيجاب ، أو (١) الندب ، أو الإباحة (١) ، أو التعجيز ، أو التسخير ، أو التأديب ، إلى غير ذلك من المحامل ؛ فقد أفادت الإرادة قوله : افعل. إثبات حالة زائدة فى كل واحدة من هذه الصور : وهى ما به التمايز بين هذه الجهات. وإن كان قوله : افعل. متحدا لا اختلاف فيه.
وأما فى الفعل : فكالسجود : فإنه بالإرادة (٢) لله ـ تعالى ـ ثبتت (٣) له صفة الطاعة ، وبالإرادة (٤) للصنم يثبت له بها صفة المعصية. وإن كان السجود متحدا ؛ لا اختلاف فيه إلى نظائره.
ولهذا قال الكعبى : إن قوله : افعل ، وهو موجب ، خلاف قوله : افعل ؛ وهو نادب.
وخالفهم فى ذلك بعض أصحابنا.
احتج القاضى ، ومتبعوه : بأن الإرادة لا بد لها من مراد ، وأنه يستحيل وجود إرادة لا مراد لها ، كما يستحيل وجود علم لا معلوم له ، وقدرة لا مقدور لها. ومتعلق الإرادة فى هذه الجهات القولية ، والفعلية ، ليس هو نفس القول ، أو الفعل ، لعدم الاختلاف فيه ؛ فلم يبق إلا أن تكون صفة زائدة عليه.
وأيضا : فإن العاقل يجد من نفسه التفرقة بين هذه الأقوال ، والأفعال ؛ وليست التفرقة عائدة إلى ما به الاتفاق : من القول ، أو الفعل ؛ فلم يبق إلا أن تكون عائدة إلى ما به الافتراق. وما به الافتراق غير ما به الاتفاق ؛ وذلك هو المطلوب.
__________________
(١) فى ب (أو الإباحة والندب).
(٢) فى ب (بإرادة).
(٣) فى ب (يثبت).
(٤) فى ب (وبإرادته).
والحق عندى (١) فى / ذلك (١) : أن ما ذكره القاضى فى الدلالة على أن متعلق الإرادة فى الصور المذكورة ليس هو نفس القول ، والفعل المطلقين ؛ بل هو (٢) أمر زائد عليهما ؛ فهو (٢) مسلم لا مراء فيه ؛ لكنه إن أراد بذلك الأمر الزائد ـ الّذي هو أثر الإرادة ـ صفة وجودية ، وحالة ثبوتية للفعل ، أو القول فى جهاته المختلفة ؛ فهو ممتنع. وإلا كانت الإرادة مؤثرة فى حدوث تلك الصفة وثبوتها ؛ ويلزم من ذلك ثبوت أخص صفة القدرة للإرادة ، وأن تكون الإرادة قدرة ، والقدرة إرادة ؛ وهو قلب (٣) لحقيقة كل (٣) واحدة من الصفتين.
كيف : وأن القائل : إذا بحث مع نفسه ، ونظر بعقله (٤) نظر (٤) منصف ؛ علم أن قول القائل حالة كونه موجبا ؛ كهو حالة كونه نادبا ، وأنه ليس لأحدهما صفة ثبوتية يمتاز بها عن الآخر. وبه يبطل قول الكعبى باختلافهما فى نفسيهما.
وإن أراد به أن صيغة افعل المقدورة مما يجوز أن ترد للوجوب تارة ، وللندب أخرى. وأن كل واحد من الجائزين ؛ فمتعلق القدرة من جهة حدوثه ، ووجوده ، وأن متعلق الإرادة ، تعين أحد الجائزين لأن يوجد بالقدرة بدلا عن الآخر ، فهو الحق.
وإن أراد به غير هذين المحملين ، فلا بد من تصويره ، وبيان وجوده ، وهو غير متصور ، ولا مبرهن.
وإذ أتينا على ما أردناه من الأصول ، وأوردناه من الفصول ؛ فنعود إلى المقصود فى بيان أن كل كائن مراد لله ـ تعالى ـ وما ليس بكائن ليس مرادا له.
__________________
(١) ساقط من ب.
(٢) فى ب (بل أمرا زائدا عليهما).
(٣) فى ب (لكل).
(٤) فى ب (بعقل بنظر).
القول فى أن كل كائن فمراد (١) لله ـ تعالى ـ
وما ليس بكائن غير مراد الكون
مذهب أهل الحق من أصحابنا : أن كل جائز كائن ؛ فهو مراد لله ـ تعالى ـ وأن كل جائز ليس بكائن ؛ فغير (٢) مراد الكون (٣).
واتفقوا : على صحة إسناد جميع الكائنات إلى إرادته (٤) جملة بقولهم : جميع الكائنات مرادة لله ـ تعالى.
واختلفوا : فى جواز إسنادها إليه مفصلا :
فمنهم : (٥) من منع ذلك وأن يقال (٥) : الكفر ، والفسوق مراد لله ـ تعالى حذرا من تخيل السامع أن الإرادة هى الأمر : كما ذهب إليه بعض العلماء ، وأن الكفر ، والفسوق مأمور به.
وعند توقع الالتباس فى الإطلاق ؛ يجب التوقف فيه (٦) على ورود الشرع به ؛ ولم يرد.
وهذا (٧) كما يصح أن يقال بالإجماع ، وبالنص : الله خالق كل شيء. ولا يقال : الله خالق المستقذرات ، والنجاسات ، والكلاب ، والخنازير ، وإن كانت من مخلوقاته.
وكما يقال : إن كل شيء فى العالم لله ـ تعالى ـ بالإضافة / الملكية ، ولا يقال له الزوجة والأولاد ، وإن كان فى العالم زوجة وأولاد ، وهم مضافون إليه إضافة ملك ، وليس ذلك إلا لما فيه من احتمال اللبس ، والتوقف على ورود الشرع بالإطلاق.
ومنهم : من جوز ذلك وقال : إن الله مريد للكفر ، والفسوق معصية معاقبا عليه.
__________________
(١) فى ب (مراد).
(٢) فى ب (غير).
(٣) فى ب (لله).
(٤) فى ب (قدرته).
(٥) فى ب (من منع من ذلك ومن أن يقال).
(٦) فى ب (عليه).
(٧) فى ب (وكذا).
ومن أصحابنا : من فصل بين قوله : إن الله يريد بالكافر الكفر ، وبين قوله : يريد منه الكفر ؛ فأجاز الأول ، ومنع الثانى ؛ لإنبائه عن الرضا بالكفر بخلاف الأول.
وأما المعتزلة فإنهم قالوا : ما كان من أفعال الله ـ تعالى ـ فهو مراد له ، غير إرادته الحادثة على ما فصلنا مذهب الجبائى ، وابنه فيه (١).
وما كان من أفعال العباد المكلفين ؛ فإن كان واجبا : أراد وقوعه ، وكره تركه.
وإن كان حراما : كره وقوعه ، ولا يريد وقوعه.
وإن كان مندوبا : أراد وقوعه ، ولا يكره تركه.
وإن كان مكروها : كره وقوعه ، ولا يريده.
وإن كان مباحا : فلا يريده ، ولا يكرهه.
وما كان من أفعال غير المكلفين : كالصبيان ، والمجانين ، والبهائم ؛ فحكمها حكم الأفعال المباحة من المكلفين.
(وأما) (٢) حجة أصحابنا فى الطرف الأول ـ وهو أن كل (جائز) (٣) كائن فمراد (٤) لله ـ تعالى ـ : هو أن كل كائن فهو مخلوق لله ـ تعالى ـ ، وكل مخلوق لله ـ تعالى ـ ؛ فهو مراد له ؛ فكل كائن فهو مراد له.
أما بيان المقدمة الأولى : فما مر (٥) فى الأصل الّذي قبل هذا الأصل.
وأما المقدمة الثانية : فهو أن كل مخلوق لله ـ تعالى ـ فلا بد وأن يكون جائز الوجود ، وجائز العدم ، وإلا كان واجبا لذاته ، أو ممتنعا ؛ وخرج عن كونه مخلوقا.
وكل جائز : فلا بد له فى (٦) وجوده وحدوثه ، من مخصص ، وإلا كان وجود (٦) أحد الجائزين من غير مخصص ؛ وهو محال.
فإذن كل مخلوق لله ـ تعالى ـ لا بد له من مخصص ؛ وكل ما لا بد له من مخصص ؛ فلا بد وأن يكون مرادا ؛ إذ لا مخصص غير الإرادة ؛ على ما تقدم. فكل مخلوق
__________________
(١) ساقط من ب.
(٢) ساقط من أ.
(٣) ساقط من أ.
(٤) فى ب (فهو مراد).
(٥) فى ب (سبق).
(٦) فى ب (من مخصص فى وجوده وحدوثه وإلا لزم).
لله ـ تعالى ـ مراد ، وليس مخلوقه مرادا مخصصا بإرادة غيره ، وإلا لخرج عن كونه مستندا لخلقه ؛ وهو محال. فإذن كل كائن ؛ فهو مراد لله تعالى.
وفى الطرف الثانى : وهو أن (١) ما لا يكون غير (١) مراد الكون :
فهو أن ما ليس بكائن من الجائزات ؛ فلا بد وأن يكون الرب ـ تعالى ـ عالما بأنه لا يكون. وإلا كان جاهلا به ؛ والجهل على الله محال كما سبق. ويلزم من علمه بأن لا يكون ؛ استحالة / الكون ، وإلا لانقلب العلم جهلا بتقدير الكون ، والعلم باستحالة وقوع الشيء معلوم بالضرورة ، أنه لا يريده ، ولأنه لو أراده : فإما أن يقع مراده ، أو لا يقع.
والأول : يلزم منه انقلاب العلم جهلا.
والثانى : يلزم منه أن يكون عاجزا قاصرا عن تحقيق مراده ، والكل على الله ـ تعالى ـ محال.
ويعضد (٢) هذه الدلائل العقلية ؛ إجماع السلف والخلف ، فى جميع الأعمار ، والأمصار على إطلاق قولهم : ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، من غير نكير ، وهو دليل على الطرفين.
فإن قولهم : ما شاء الله كان. يدل على الطرف الثانى : وهو أن كل ما ليس بكائن ؛ فهو غير مراد الكون ؛ لأنه لو كان مراد الكون ، ولم يكن ؛ فيكون (٣) على خلاف قولهم : ما شاء الله كان.
وقولهم : وما لم يشأ لم يكن ، دليل على الطرف الأول : وهو أن كل كائن ؛ فهو مراد الكون له ؛ لأنه لو لم يكن مرادا له ؛ لكان كونه على خلاف قولهم : وما لم يشأ لم يكن.
فإن قيل : لا نسلم أن كل كائن مخلوق لله تعالى على ما سبق فى الأصلين المتقدمين. سلمنا أن كل كائن مخلوق لله ـ تعالى ـ ولكن لا نسلم أنه لا بد وأن يكون مريدا له.
__________________
(١) فى ب (ما ليس بكائن فغير).
(٢) فى ب (ومحصل).
(٣) فى ب (لكان).
وما ذكرتموه فى بيانه ، وإن سلم دلالته عليه ؛ لكنه معارض بما يدل على نقيضه.
وبيانه من سبعة أوجه :
الأول : أن الكفر الواقع ، والمعاصى الواقعة منهم منهية ، وكل منهى ؛ فهو مكروه غير مراد الكون.
أما أنها منهية : فبالإجماع.
وأما أنها مكروهة غير مرادة الكون : فمن وجهين :
الأول : أنه (١) لو جمع الناهي بين قوله : أنهاك عن كذا ، وأريده منك ، ولست كارها له منك. كان فى نظر أهل اللسان ، والعقل متناقضا.
الثانى : أن قوله : لا تفعل : قد يرد بمعنى النهى كقوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) (٢) ، (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) (٣). إلى غير ذلك.
وقد يرد بمعنى التحقير كقوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) (٤).
ولبيان العاقبة (كقوله (٥) ـ تعالى (٥) (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) (٦). وللدعاء كقوله (٧) تعالى (وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) (٧)) (٨).
ولليأس كقوله : (لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) (٩).
وللإشارة كقوله : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) (١٠).
وإنما يتميز النهى عن غيره من المحامل بإرادة ترك الفعل ، وكراهته.
__________________
(١) ساقط من ب.
(٢) سورة الإسراء ١٧ / ٣٢.
(٣) جزء من الآية رقم ١٥٢ من سورة الأنعام ومن الآية رقم ٣٤ من سورة الإسراء. والموجود فى أ ، ب ، ج (ولا تأكلوا مال اليتيم).
(٤) سورة طه ٢٠ / ١٣١.
(٥) ساقط من أ.
(٦) سورة إبراهيم ١٤ / ٤٢.
(٧) فى أ (ولا تكلنا إلى أنفسنا).
(٨) جزء من الآية رقم ٢٨٦ من سورة البقرة.
(٩) سورة التحريم ٦٦ / ٧.
(١٠) سورة المائدة ٥ / ١٠١.