أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]
المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٣١
وإن سلمنا قدمهما : فلا نسلم إمكان عدم التناهى فى أبعادهما ؛ على ما سيأتى تحقيقه أيضا.
وإن سلمنا عدم التناهى فى أبعادهما : فلا نسلم إمكان امتزاجهما ، فإن الامتزاج بينهما : إما بكليتهما ، أو ببعض كل واحد منهما.
لا جائز أن يقال بالأول : لأن امتزاج أحدهما بالآخر ، لا يكون إلا بحركة كل واحد منهما إلى الآخر ، أو بحركة أحدهما إلى الآخر ، وإلا فكل واحد باق فى حيزه ؛ ولا امتزاج.
والقول بالحركة عليهما ، أو على أحدهما ممتنع لوجهين.
الأول : أنه لو تحرك أحدهما إلى الآخر / لخلا عنه حيزه ، وما لا يتناهى لا يخلو حيزه عنه ، وإلا لتناهى ما لا يتناهى ؛ وهو محال.
الثانى : أن حركتهما : إما أن تكون واجبة ، أو ممكنة.
لا جائز أن تكون واجبة : فإنها صفة (للمتحرك) (١) ، والصفة مفتقرة إلى الموصوف ، والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا.
وإن كانت ممكنة : فإما أن تفتقر فى وقوعها إلى مرجح ، أو لا تفتقر.
لا جائز أن يقال بعدم الافتقار : لما تقدم فى إثبات واجب الوجود.
وإن قيل بافتقارها إلى المرجح : فإما أن يكون المرجح لحركة أحدهما إلى الآخر هو نفسه ، أو غيره.
فإن كان نفسه : فالمتحرك إن كان هو النور ، فحركته إلى الظلمة شر من وجه ؛ ويلزم منه صدور الشر عن الخير.
وإن كان هو الظلمة : فحركتها إلى النور خير من وجه ، ويلزم منه صدور الخير عن الشر ؛ وهو ممتنع على أصلهم.
__________________
(١) فى أ (للمتحرش).
وإن كان المرجح لحركة كل واحد منهما إلى الآخر غيره : فإما أن يكون المحرك لكل واحد منهما هو الآخر ، أو غيرهما : كما قالت المرقونية.
فإن كان الأول : فلا يخفى أن حركة النور إلى الظلمة خير من (وجه) (١) لخروج فعل الظلمة عن تمحض (٢) الشر ، فإذا كانت الظلمة هى الموجبة لذلك ؛ فقد صدر ما هو خير من وجه ، عن الشر المحض. وإن حركة الظلمة إلى النور شر من وجه ؛ لخروج فعل النور عن تمحض الخير. فإذا كان النور هو الموجب ؛ فقد صدر ما هو شر من وجه ، عن الخير المحض ؛ وهو ممتنع على أصلهم.
وإن كان الموجب لحركتهما غيرهما : فإما أن يكون خيرا محضا ، أو شرا محضا ، أو خيرا من وجه ، وشرا من وجه.
فإن كان الأول : فقد صدر عنه الشر من وجه.
وإن كان الثانى : فقد صدر عنه الخير من وجه ، وهو ممتنع عندهم.
وإن كان الثالث : فيلزم أن يكون ذلك الثالث مركبا لا بسيطا. وعند ذلك فالأصول تكون أكثر من ثلاثة ، ولم يقل به أحد منهم ، وبهذا الوجه الثانى يتبين امتناع امتزاج بعض كل واحد منهما ببعض الآخر.
وإن (٣) سلمنا إمكان الامتزاج بينهما ؛ فلا نسلم وقوع الامتزاج ، وبيانه من وجهين :
الأول : أن الامتزاج : إما أن يكون خيرا محضا ، وإما (٤) أن يكون (٤) شرا محضا ، وإما (٥) أن يكون (٥) خيرا من وجه ، وشرا من وجه.
فإن كان خيرا محضا : فقد صدر عن النور والظلمة ؛ والخير / المحض لا يصدر عن الظلمة.
__________________
(١) فى أ (درجة).
(٢) فى ب (محض).
(٣) فى ب (ثم وإن).
(٤) فى ب (أو).
(٥) فى ب (أو).
وإن كان شرا محضا : فقد صدر عنهما ؛ والشر المحض لا يصدر عن النور عندهم.
وإن كان الثالث : فإما أن يكون من جهة ما هو خير مقدورا على تحصيله للنور قبل حصوله ، أو معجوزا عنه.
فإن كان الأول : فترك النور له شر منه.
وإن كان الثانى : فالعجز عن تحصيل الخير شر ؛ فلا يكون خيرا محضا.
الثانى : هو أن الكذب والظلم قبيح عندهم مطلقا : ولا يتصور صدوره عن النور ؛ بل عن الظلمة. فإذا قال من صدر عنه الظلم ، أو الكذب : أنا ظلمت ، وكذبت.
فالقائل بهذا القول : إما النور ، أو الظلمة ، أو هما :
فإن كان الأول : فالنور كاذب ؛ والكذب شر.
وإن كان الثانى : فالظلمة صادقة ؛ والصدق خير.
وإن كان الثالث : فالنور كاذب ، والظلمة صادقة ، ويلزم من ذلك صدور الشر عن النور ، والخير عن الظلمة ؛ ولم يقولوا به.
فإن قالوا : الدليل على تركب أجسام العالم من النور ، والظلمة : أنا وجدنا بعض الأجسام ذا ظل : فعلمنا أن الظلمة غالبة عليه ، وبعضها لا ظل له : فعلمنا أن النور غالب عليه.
قلنا : هذا إنما يلزم أن لو كان كل ما لا ظل له يكون نيرا ، وليس كذلك. بدليل الهواء
وإن سلمنا أن كل ما لا ظل له نير : ولكن لا يلزم أن ما كان له ظل ؛ فالظلمة غالبة عليه ؛ بل هو محض ظلمة لا مركب وما لا ظل له ؛ فهو نور محض لا مركب.
وإن سلمنا أن كل جسم من أجسام العالم لا يخلو عن النور ، والظلمة ؛ فلا نسلم أنه يلزم من اتصافه بهما ؛ أن يكون مركبا منهما.
وإن سلمنا أن أجزاء العالم (١) مركبة من النور والظلمة : ولكن لا نسلم حدوث الامتزاج مع القول بقدم الممتزجين.
__________________
(١) فى ب (العلم).
فإن قالوا : لأنا وجدنا النور طالبا للخلاص من الظلمة صاعدا عنها ، ولو كان امتزاجهما أزليا ؛ لما كان طالبا لترك الأزلى.
قلنا : لو لم يكن الامتزاج أزليا : كان التباين أزليا. وكما جاز عليه طلب ترك التباين الأزلى ؛ جاز عليه طلب ترك الامتزاج بتقدير كونه أزليا.
وإن سلمنا وقوع الامتزاج : ولكن لا نسلم امتناع صدور الشر عن النور ، والخير عن الظلمة ؛ وبيانه من أربعة أوجه.
الأول : أن الظلمة قد تستر الهارب عن ظالم يقصد قتله ؛ وهو خير. والنور يدل عليه ؛ وهو شر.
الثانى /: أن الظلمة تجمع البصر ؛ وهو خير. والنور يفرقه ؛ وهو شر.
الثالث : هو أن الظلمة تعين على النوم ، والراحة به ؛ وهو خير. والنور بالضد.
الرابع : هو أن النور قد [يلازمه] (١) الحر المحرق ؛ وهو شر ؛ بخلاف الظلمة.
وعلى هذا : فلا يخفى الكلام على الكينونية أيضا.
وأما الرد على المجوس : القائلين بقدم النور ، وأنه أصل وجود العالم أن يقال :
القول بقدم النور : إنما يصح أن لو كان قائما بنفسه. وليس صفة عارضة لغيره ؛ وليس كذلك ؛ على ما سلف فى الرد على الثنوية (٢).
وإن سلمنا أن النور قائم بنفسه : فإما أن يكون واجبا ، أو ممكنا.
فإن كان ممكنا : فلا بد له من مرجح ، لوجوده على عدمه ، ويلزم من ذلك أن لا يكون قديما ؛ لما يأتى.
وإن كان قديما : فلا يكون هو الأصل الأول فى وجود العالم ؛ بل (مرجح) (٣).
وإن كان واجبا لذاته : فإما أن يكون مشاركا لباقى الأنوار فى المعنى ، أو مخالفا لها.
__________________
(١) فى أ (لا يلازمه).
(٢) انظر ل ٢٢٦ / ب وما بعدها.
(٣) فى أ (مرجحه).
فإن كان الأول : فيلزم أن يكون كل نور واجبا لذاته ؛ وهو محال. وإلا لما كان نورا قابلا للعدم ؛ وهو محال.
وإن كان الثانى : فإما أن يكون جوهرا ، أو عرضا ، أو شيئا ليس بجوهر ، ولا عرض.
لا جائز أن يقال بالأول والثانى : لما سلف فى إبطال التشبيه (١). فلم يبق إلا الثالث ؛ وهو المعنى بالإله ـ تعالى.
وعند ذلك : فلا نسلم امتناع صدور جميع الموجودات عنه من غير واسطة الظلمة كما أسلفناه.
فإن قالوا : إنا صادفنا فى العالم خيرا ، وشرا. والنور خير محض ، فلا يكون الشر صادرا عنه ؛ فلا بد من شيء يكون صدور الشر عنه ؛ وذلك هو الظلمة.
فنقول : القول بالخير والشر مبنى على التحسين والتقبيح الذاتى ؛ وهو ممتنع بما سلف فى التعديل ، والتجوير (٢) وبتقدير كون الشر ذاتيا ؛ فلا مانع من صدوره عن النور على مذهبهم ؛ وذلك لأن الشر الموجود فى العالم لا يمكن أن يكون واجبا بنفسه ؛ ضرورة حدوثه عندهم.
وإن كان ممكنا : فلا بد له من علة : وهو إما أن يكون مستندا إلى النور ، أو الظلمة كما قالوه.
فإن كان الأول : فقد لزم صدور الشر عن النور.
وإن كان الثانى : فالظلمة ليست واجبة لذاتها ضرورة اعترافهم بحدوثها فهى ممكنة ، ولا بد لها من علة موجبة لها ، وتلك (العلة) (٣) إما أن تكون هى / النور ، أو ما صدر عن النور ؛ ضرورة عدم قديم (٤) سواه (٤).
فإن كان الأول : فقد صدرت الظلمة ، وهى شر عن النور.
__________________
(١) انظر ل ١٤٢ / أوما بعدها.
(٢) انظر ل ١٧٥ / أوما بعدها.
(٣) ساقط من أ.
(٤) فى ب (قدم ما سواه).
وإن كان الثانى : كما هو مذهب الكيومرثية ، والزروانية ؛ فتلك العلة : إما أن تكون خيرا ، أو شرا.
فإن كانت خيرا : فقد صدر الشر عن الخير.
وإن كانت شرا : فقد صدرت عن النور ؛ وهو خير ؛ وفيه إبطال مذهب المسخية أيضا.
والّذي يخص الكيومرثية : فى قولهم بحدوث الظلمة من عروض فكرة ردية للنور. أنه ليس القول بقدم النور ، وحدوث الظلمة بعروض الفكرة الردية للنور أولى من القول بقدم الظلمة ، وحدوث النور بفكرة صالحة عرضت للظلمة.
وأما الزرادشتية : فإن قالوا : إن الظلمة مخلوقة لله ـ تعالى ـ لتكون سببا لوجود الشرور ؛ لامتناع إسناد الشر إليه ؛ فهو باطل ؛ لأن الظلمة شر ، وقد أوجدها. وإن لم يقولوا ذلك ؛ بل قالوا : إنه خالق الظلمة ، وكل موجود ؛ فهو المطلوب.
«الفرع السابع»
فى الرد على المعتزلة فى خلق الأفعال
واعلم أن هذا الفرع من الفروع المشكلة ، والأمور المعضلة. ولا يتم تحقيقه إلا بتقديم أصول ، وتنقيح فصول : لا بد من الإشارة إليها ، والتنبيه عليها : وهى إحدى وعشرون فصلا :
الأول : فى إثبات القدرة الحادثة.
الثانى : فى امتناع بقاء القدرة الحادثة.
الثالث : فى تعلق الاستطاعة بالفعل.
الرابع : فى امتناع تعلق القدرة الحادثة بمقدورين.
الخامس : فى أن القدرة الحادثة غير موجبة لمقدورها.
السادس : فى تماثل القدرة الحادثة ، واختلافها ، وتضادها ، وأنها هل تفتقر فى تعلقها بالمقدور إلى آلة ، وبنية مخصوصة ، أم لا؟
السابع : فى أن فعل النائم هل هو مقدور له؟ وأن النوم يضاد القدرة ، أم لا؟
الثامن : فى وجود مقدورين قادرين ، وأن الله ـ تعالى ـ قادر على مثل فعل العبد ، أم لا؟
التاسع : فى امتناع مقدور واحد. بقدرتين لقادر واحد من جهة واحدة.
العاشر : فى امتناع تعلق القدرة الواحدة بمقدور واحد من وجهين.
الحادى عشر : فى العجز ، وتحقيق معناه.
الثانى عشر : فى متعلق العجز.
الثالث عشر : فى تعلق العجز بالمعجوز عنه.
الرابع عشر : فى اختلاف / المعتزلة فى عجز القادر على حمل مائة رطل لا يتمكن معها من حمل مائة أخرى ، ومناقضتهم فى ذلك.
الخامس عشر : فى أن القادر هل يكون ممنوعا من مقدوره مع وجود قدرته عليه ، أم لا؟
السادس عشر : فى اختلافات متفرعة على المنع بين المعتزلة ، والإشارة إلى مناقضتهم فيها.
السابع عشر : فى (١) تعارض الموانع ، والرد على المعتزلة.
الثامن عشر (١) : فى تحقيق معنى المضطر.
التاسع عشر (٢) : فى الملجأ وتحقيق معناه.
العشرون (٣) : فى أن الفاعل لا يعود إليه من فعله حكم ، ولا يتجدد له بسببه اسم.
الحادى والعشرون (٤) : فى ترك (٥) الفعل (٥) ، وتحقيق معناه.
__________________
(١) فى هامش أوموجود فى ب (ويلاحظ أن الفصول ٢١ وناسخ أقد نسى فصلا ، ومن هنا اختلف الترقيم).
(٢) فى أ (الثامن عشر).
(٣) فى أ (التاسع عشر).
(٤) فى أ (العشرون).
(٥) فى ب (الترك).
«الفصل الأول»
" فى إثبات القدرة الحادثة"
ولا خلاف بين المتكلمين فى أن الفاعل المختار منا : قادر بقدرة ، إلا ما نقل عن جهم (١) وأتباعه أنه نفى القدرة الحادثة.
ثم اختلف القائلون بالقدرة : فذهب (٢) ضرار بن عمرو ، وهشام بن سالم : إلى أن القادر : قادر ببعض من أبعاضه (٢).
ومنهم : من صرف القدرة إلى بعض المقدور.
واتفقت الأشاعرة ، والمعتزلة ، وغيرهم : على أن القدرة صفة وجودية يتأتى معها الفعل المقدور ، بدل الترك ، والترك بدل الفعل ، خلافا لبشر بن المعتمر (٣) : فإنه قال : الاستطاعة عبارة عن سلامة البنية عن الآفات ، وأنها ليست بعضا من القادر ، ولا بعضا من المقدور ، وهى زائدة على كل ما يقدر من صفات الأحياء.
وهو الحق ؛ لكن اختلف هؤلاء فى طريق إثبات القدرة.
فذهب الهمذانى من المعتزلة : إلى أن طريق العلم بذلك : إنما هو العلم بتأتى الفعل من بعض الموجودين ، وتعذره من غيره.
وذهب الجبائى : إلى أن طريق العلم بها : إنما هو العلم بصحة الشخص ، وانتفاء الآفات عنه.
وهما فاسدان.
أما الأول : فهو باطل على أصل القائل به : بالممنوع ؛ فإنه قادر عنده على الفعل الممنوع منه ، وإن كان فعله متعذرا عليه غير متأت منه.
__________________
(١) انظر الملل والنحل للشهرستانى ١ / ٨٧.
(٢) فى ب (فمنهم من ذهب إلى أن القادر ببعض من أبعاضه : كضرار بن عمرو ، وهشام بن سالم).
وهو : هشام بن سالم الجواليقى ، شيخ الهشامية ، وهو من متكلمى الشيعة القائلين بالتجسيم ، والتشبيه ، (انظر الملل والنحل ١ / ١٨٤ والفرق بين الفرق ٦٨).
(٣) بشر بن المعتمر البغدادى ، أبو سهل : فقيه معتزلى ، مؤسس فرع بغداد الاعتزالى ، وتنسب إليه الطائفة البشرية منهم ، توفى ببغداد سنة ٢١٠ ه (الفرق بين الفرق ١٥٦ والملل ٦٤ والمقالات الجزء الثانى والاعلام ٢ : ٢٨).
ولمزيد من البحث والدراسة راجع ما سيأتى فى الجزء الثانى ـ القاعدة السابعة الفرقة الثامنة البشرية ل ٢٤٥ / أوهامشها.
وعند ذلك : فالجمع بين القدرة مع التعذر ، والقول باختصاص القدرة بمن يتأتى منه الفعل دون غيره ، ممتنع ، وكونه بحال يتأتى منه الفعل ، بتقدير ارتفاع المانع. لا يوجب كونه مختصا بالقدرة ، قبل (١) الارتفاع المانع ، وإلا كان العاجز مختصا بالقدرة (١) ؛ لأنه بحال يتأتى منه الفعل ، بتقدير ارتفاع العجز ؛ وهو خلاف الإجماع / ؛ ولا فاصل بينهما.
فإن قيل : كون القادر قادرا ؛ مصحح للفعل ، ولا يلزم منه وجود الفعل : كما فى الحياة مع العلم.
فنقول : لا نسلم أن الحياة بمجردها مصححة للعلم ، وإلا لصح معها ، ولا فرق بين الموجب ، والمصحح فى ذلك ؛ على ما يأتى تحقيقه أيضا (٢).
ثم إن ما (٣) ذكره : ينتقض أيضا (٣) بكون البارى ـ تعالى ـ قادرا على الأزل ، ومع ذلك فلا يتأتى منه وجود الفعل أزلا.
وأما الثانى : وهو مسلك الجبائى : فلأنه : إما أن يقول مع ذلك بجواز خلو الصحيح السليم عن الآفات ، عن القدرة ، أو لا يقول به.
فإن كان الأول : فلم يلزم من وجود ما ذكروه من الدليل ؛ وجود المدلول ؛ فيكون باطلا.
وإن كان الثانى : فهو باطل ؛ وإلا لما امتنع وجود القدرة فى حق الصحيح السليم عن الآفات مع وجود أضداد القدرة ؛ وهو محال مجمع على إبطاله.
وأما أهل الحق من الأشاعرة : فقد استدلوا على ثبوت القدرة الحادثة : بما يجده العاقل من نفسه : من التفرقة الضرورية بين حركته مرتعشا ، وحركته مختارا ، وليست هذه التفرقة راجعة إلى صفتى الحركتين ؛ إذ الاختلاف بين الحركة الاضطرارية ، والاختيارية ـ من حيث هى حركة ـ إلا فى الاضطرار ، والاختيار ، وذلك من صفة المتحرك لا الحركة.
__________________
(١) من أول (قبل الارتفاع ... بالقدرة) ساقط من ب.
(٢) فى ب (فيما بعد).
(٣) فى ب (ما ذكر ينتقض).
وعلى هذا : فقد بطل القول بعود القدرة إلى بعض المقدور ؛ فلم يبق إلا أن تكون التفرقة عائدة إلى صفة المتحرك من الاختيار ، والاضطرار.
وعند ذلك : فاختصاصه بالاختيار في إحدى الحالتين دون الأخرى : إما أن لا يكون بموجب ، أو بموجب.
لا جائز أن يقال بالأول : لما سيأتى فى إثبات الأعراض (١).
وإن كان الثانى : فذلك (٢) الموجب : إما عدم ، أو وجود.
لا جائز أن يكون عدما : لما تحقق فى مسألة الرؤية (٣) ، ولما يأتى تحقيقه فى العلل ، والمعلولات (٤) ، وإثبات (٥) الأعراض ، وبه بطل قول من جعل الموجب انتفاء الآفات.
وإن كان وجوديا : فإما ذاته نفسه ، أو بعض ذاته ، أو صفة زائدة على ذاته ونفسه.
لا جائز أن يقال بالأول : لتحقق وجود ذاته وبعضها فى الحالتين ؛ والموجب لا بد وأن يكون مختصا بإحدى الحالتين دون الأخرى.
وإن كان الثانى : فإما أن تكون تلك الصفة الحياة ، أو العلم ، أو الإرادة ، / أو البنية المخصوصة ، أو غير ذلك.
لا جائز أن تكون هى الحياة ، أو العلم : لشمولها للحالتين : حالة الاضطرار ، والاختيار ، ولا الإرادة : لأن الإرادة غير موجبة للتمكن من الفعل والاختيار في إيجاده ؛ بل لتخصيصه بحالة دون حالة.
ولا بالبنية المخصوصة : فإن الحياة غير مشروطة بالإجماع فى ثبوت كون من الأكوان.
__________________
(١) انظر الجزء الثانى ل ٣٩ / ب وما بعدها.
(٢) فى ب (فكذلك).
(٣) انظر ما سبق ل ١٢٣ / أوما بعدها.
(٤) انظر الجزء الثانى ـ الباب الثالث ـ الأصل الثانى ل ١١٧ / ب وما بعدها.
(٥) فى ب (وفى إثبات). انظر الجزء الثانى ل ٣٩ / ب وما بعدها.
وعند ذلك : فما من بنية ، وكون يقدر موجبا للاختيار : إلا ويمكن فرض وجوده في الجماد (١) ؛ مع انتفاء الاختيار عنه.
وإن كان الموجب غير ذلك : فهو المطلوب. والمعبر عنه بالقدرة الحادثة. وتمام هذا التحقيق ، ودفع ما يرد عليه من الإشكالات ؛ فسيأتى مستقصى فى إثبات الأعراض (٢). إن شاء الله ـ تعالى ـ.
__________________
(١) فى ب (الإيجاد).
(٢) انظر الجزء الثانى ل ٣٩ / ب في إثبات الأعراض.
«الفصل الثانى»
«فى امتناع بقاء القدرة الحادثة»
مذهب أهل الحق : استحالة بقاء القدرة الحادثة. ووافقهم على ذلك البلخى (١) من المعتزلة. خلافا (٢) لمعظم المعتزلة (٢) فى ذلك.
والمعتمد في ذلك أن يقال :
القدرة الحادثة عرض ، وكل عرض مستحيل البقاء ، فالقدرة الحادثة ، مستحيلة البقاء.
[أما (٣) بيان المقدمة الأولى : فما سبق فى الفصل الّذي قبله (٣)]
وأما بيان المقدمة الثانية : فما يأتى فى بيان الأعراض وأحكامها (٤).
فإن قيل : لا نسلم استحالة بقاء كل عرض. وما يذكرونه فى ذلك ؛ فسيأتى الكلام عليه.
وإن سلمنا استحالة بقاء كل عرض ما عدا القدرة ؛ فلا نسلم استحالة بقاء القدرة الحادثة.
وبيانه : أن من كان مستقرا ببغداد مثلا ؛ فغير ممتنع أن تقوم به القدرة على الكون بالبصرة ، وبيانه من ثلاثة أوجه :
الأول : أن القابل للقدرة على الكون بالبصرة ؛ إنما يكون قابلا لها بنفسه ، والأماكن لا تغير صفات النفس ، فإذا كان ببغداد ؛ فهو على حكم نفسه أن لو كان فى البصرة ؛ فيكون قابلا للقدرة على الكون بالبصرة.
الوجه الثانى : أنه لو امتنع قيام القدرة على الكون بالبصرة فى حق المستقر ببغداد : لأفضى ذلك إلى إبطال قيام القدرة به من غير وجود ضد لها ، ولا لشرطها حالة كونه ببغداد ؛ وهو ممتنع.
__________________
(١) البلخى : هو الكعبى انظر ما سبق عنه فى هامش ل ٦٤ / ب وما بعدها.
(٢) ساقط من ب.
(٣) من أول (أما بيان المقدمة الأولى ....) ساقط من أ.
(٤) انظر الجزء الثانى ل ٣٩ / أالأصل الثانى فى الأعراض وأحكامها.
الثالث : أن السيد إذا أمر عبده ـ وهو أهل للأمر ـ بالمسير إلى البصرة مثلا : وهو ببغداد أمرا جازما على الفور ، ثم انقضى من الزمان ما يمكن قطع مثل تلك المسافة ، والكون بالبصرة في مثله. وتوانى العبد فى امتثال / أمره من غير عذر ، ولم يزل فى مكانه ؛ فإنه يستحق اللوم والتوبيخ ، ولو لا اقتدار العبد على الكون بالبصرة حالة الأمر ـ مع بقائه فى مكانه ـ لما حسن اللوم ، والتوبيخ ، على ما لا قدرة للعبد عليه.
وإذا كان قيام القدرة به على الكون بالبصرة حالة كونه ببغداد ممكنا : فلنفرضه واقعا ؛ فإن الممكن لا يلزم من فرض وقوعه المحال ، وعند فرض وجود القدرة على الكون بالبصرة حالة كونه ببغداد ، فلا بد وأن تكون تلك القدرة متعلقة بمقدورها ، وإلا كان فيه قلب جنسها ، ووجود قدرة لا مقدور لها ؛ وهو ممتنع.
وإذا كانت متعلقة بمقدورها : فهى لا توقع مقدورها : وهو الكون فى البصرة إلا فى الحالة الثانية من وجود القدرة ، لا فيما بعد ذلك ؛ وذلك مستحيل فى الكون فى البصرة ، فلو استحال فرض بقائها ؛ لاستحال كونها متوقعة لمقدورها ، فلا تكون متعلقة به ، وهو محال ، وما لزم عنه المحال ؛ فهو محال.
والجواب :
أما منع استحالة بقاء الأعراض : فسيأتى وجه إبطاله ، وإبطال ما يقال عليه في موضعه إن شاء الله ـ تعالى ـ على وجه يدخل فيه القدرة الحادثة وغيرها (١).
والقول بإمكان قيام القدرة على الكون بالبصرة ، حالة كونه ببغداد ممكن ، ممنوع.
وأما الوجه الأول :
فيلزم عليه نفس الكون بالبصرة حالة كونه ببغداد ؛ فإنه قابل له بنفسه. ونفسه غير متغيرة بكونه فى بغداد ، ومع ذلك فكونه فى البصرة غير ممكن أن يقوم به حالة كونه فى بغداد ، ولا فرق فى ذلك بين الكون فى البصرة ، والقدرة عليه.
وإن قيل : بأن الكون ببغداد مضاد للكون بالبصرة ؛ فكذلك امتنع قيام الكون بالبصرة به حالة كونه ببغداد ، فما المانع من أن يقال بأن القدرة على الكون فى بغداد؟ أو أن نفس الكون فى بغداد ضد للقدرة على الكون فى (٢) البصرة (٢)؟.
__________________
(١) انظر الجزء الثانى ل ٤٤ / ب وما بعدها.
(٢) فى ب (بالبصرة).
وأما الوجه الثانى :
فلا نسلم أن امتناع قيام القدرة على الكون بالبصرة حالة كونه ببغداد من غير ضد لها ، ولا لشرطها ؛ على ما تقرر فى الوجه الّذي قبله.
وإن سلمنا انتفاء جميع الأضداد لها ، ولشرطها ؛ ولكن لم قلتم إن القول بانتفائها من غير ضد لها ، ولشرطها ؛ ممتنع؟.
وإذا جاز عندهم : امتناع وجود العلم بالشيء حالة النظر فيه ، مع أنه لا تضاد بين النظر فى الشيء والعلم به عندهم ، ولا بين النظر / وشرط العلم ؛ فما المانع من تجويزه هاهنا؟
وأما الوجه الثالث :
فمبنى على امتناع الذمّ على ما لا قدرة عليه ؛ وهو ممنوع على أصلنا : فإن المأمور عندنا بفعل غير قادر عليه قبل التلبس به ؛ وهو مذموم على تركه.
وإن قيل إن ذلك قبيح ، أو تكليف بما لا يطاق ؛ فقد أبطلنا القول بالتحسين ، والتقبيح الذاتي ، (وبينا (١)) جواز التكليف بما لا يطاق ، فى التعديل والتجوير (٢).
وإن سلمنا إمكان قيام القدرة على الكون بالبصرة حالة كونه ببغداد ، ولكن لا نسلم إمكان تعلقها بالكون فى البصرة حالة كونه ببغداد. وما المانع من أن يكون شرط تعلقها به إمكان الكون فى البصرة؟ والكون فى البصرة حالة الكون ببغداد ، ممتنع بالإجماع.
قولهم : يلزم منه وجود قدرة لا مقدور لها ؛ وهو ممتنع.
لا نسلم بامتناعه : ثم هو على خلاف مذهب الخصم فى اعتقاده : أن الأعراض التى لا بقاء لها على أصله بتخصيص وجودها بأوقات مخصوصة : والقدرة الحادثة لا تتعلق بها قبل تلك الأوقات ؛ بل إنما تتعلق بها فى تلك الأوقات. وإذا انصرمت تلك الأوقات ؛ انقطع تعلق القدرة بها : مع بقاء القدرة فى نفسها ؛ وهو قول بقدرة بلا مقدور.
__________________
(١) فى أ (وبيان).
(٢) انظر ل ١٧٤ / ب وما بعدها.
«الفصل الثالث»
«فى تعلق الاستطاعة بالفعل»
مذهب أهل الحق (١) من الأشاعرة : أن القدرة الحادثة لا تتقدم على مقدورها ، ولا تتعلق به قبل حدوثه ؛ بل وقت حدوثه.
ووافقهم على ذلك : النجار من المعتزلة ، ومحمد (٢) بن عيسى ، وابن الراوندى (٣) ، وأبو عيسى (٤) الوراق ، وغيرهم.
وذهب أكثر المعتزلة ، والبكرية ، وكثير من الزيدية (٥) ، والمرجئة (٦) : كضرار بن عمرو ، وحفص (٧) الفرد : إلى أن القدرة يستحيل تعلقها بالحادث وقت حدوثه ، وإنما تتعلق به قبل حدوثه.
ثم اختلف هؤلاء :
__________________
(١) انظر اللمع للأشعرى ص ٩٣ وما بعدها والإبانة له أيضا ص ٥٠ ـ ٥٢ والإرشاد لإمام الحرمين ٢١٥ وما بعدها.
أما عن رأى المعتزلة فى هذه المسألة : فانظر شرح الأصول الخمسة ص ٣٩٠ ـ ٤١٧.
(٢) محمد بن عيسى : الملقب ببرغوث. شيخ البرغوثية ، كان على مذهب النجار فى أكثر أقواله. (الفرق بين الفرق ص ٢٠٩ والملل والنحل ١ / ٩٠).
(٣) ابن الراوندى : أبو الحسين أحمد بن يحيى الراوندى ، فيلسوف مجاهر بالإلحاد من سكان بغداد من أهم كتبه (فضيحة المعتزلة) رد الخياط عليه فى كتابه (الانتصار والرد على ابن الراوندى الملحد) وكان قبل مجاهرته بالإلحاد من متكلمى المعتزلة ، ونسبت إليه إحدى طوائفهم (الراوندية) وقيل : إنه تاب فى أواخر أيامه ، وتوفى سنة ٢٤٥ ه.
(الوفيات ١ / ٧٨ ترجمة رقم ٣٤ والفرق بين الفرق ص ٦٦ والاعلام ١ / ٢٥٢)
(٤) أبو عيسى الوراق : محمد بن هارون الوراق ، أبو عيسى : باحث معتزلى ـ من أهل بغداد ، له مصنفات فى الاعتزال ، توفى ببغداد سنة ٢٤٧ ه (لسان الميزان ٥ : ٤١٢ والاعلام ٧ : ٣٥١).
(٥) الزّيدية : هم أتباع زيد بن على بن الحسين بن على رضى الله عنهم. قالوا : بالإمامة فى أولاد على من فاطمة رضى الله عنهما ، ولم يجوزوها فى غيرهم ـ ومعظمهم ثلاث فرق : الجارودية ، السليمانية والبترية.
(الملل والنحل ١ / ١٥٤ ـ ١٦٢ والفرق بين الفرق ص ٢٢ ، ٣٠ ـ ٣٧).
(٦) المرجئة : هم جماعة تكلموا فى الإيمان ، والعمل ، والإرجاء تأخير الحكم فى مرتكب الكبيرة إلى يوم القيامة ؛ فلا يقضى عليه بحكم فى الدنيا ـ وكانوا يقولون لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة ـ وهم أربعة أصناف : مرجئة الخوارج ، ومرجئة القدرية ، ومرجئة الجبرية ، والمرجئة الخالصة ، أما عن رأيهم بالتفصيل فانظر (الملل والنحل ١ / ١٣٩ ـ ١٤٦ والفرق بين الفرق ص ٢٠٢ ـ ٢٠٧).
(٧) حفص الفرد : من المرجئة ، وكان من رؤساء الضّرارية ، ويكنى أبا عمرو ، وكان من أهل مصر ، قدم البصرة ، وناظر أبا الهذيل العلاف ، وقد ناظره الإمام الشافعى وكفره (ميزان الاعتدال الترجمة رقم ٢١٤٣ والفرق بين الفرق ص ٢١٤ والملل والنحل ١ / ٩٠).
فمنهم : من جوز انتفاء القدرة فى الحالة الثانية من وجودها ، وجوز وجود مقدورها فى الحالة الثانية مع عدمها فى الحالة الثانية.
ومنهم : من منع من ذلك ، وأوجب بقاءها إلى حالة وجود مقدورها بحكم الاشتراط : كاشتراط النية المخصوصة ؛ وإن لم تكن قدرة عليه فى تلك الحالة.
واختلفوا أيضا : فى جواز خلو القادر بالقدرة الحادثة عن جميع مقدوراته.
فذهب أبو هاشم ، وجماعة من المعتزلة : إلى جواز ذلك.
وذهب الجبائى : إلى جوازه عند / وجود الموانع ، ولم يجوز ذلك عند عدم الموانع فى الأفعال المباشرة دون المتولدة.
واتفقوا أيضا : على انقسام الأفعال المقدورة : إلى ما لا يفتقر فى وقوعه إلى آلة : كالأفعال القائمة بمحل القدرة ، وإلى ما يفتقر : وهى الأفعال الخارجة عن محل القدرة.
واتفقوا أيضا على استحالة بقاء القدرة ، مع عدم تعلقها بمقدورها فى الدوام ؛ لكن منهم من قال : القدرة الحادثة فى وقت وجودها ، متعلقة بالمقدور فى الحالة الثانية ، والثالثة ، وما بعدها.
ومنهم من قال : لا تصير متعلقة بالمقدور فى الحالة الثالثة ، إلا فى الحالة الثانية ، وكذلك المقدور فى الحالة الرابعة ، لا تصير متعلقة به ، إلا فى الحالة الثالثة ، وهلم جرا.
ثم اختلف هؤلاء :
فذهب الجبائى ، وأبو الهذيل العلاف : إلى أن القادر فى الحالة الأولى : يقال له فيها يفعل ، وفى الحالة الثانية : عند وقوع المقدور يقال له فيها فعل ، ولا يقال يفعل.
وذهب أبو هاشم : إلى أنه لا يقال له يفعل إلا فى الحالة الثانية. وأما الحالة الأولى : فيقال له فيها سيفعل ، ولا يقال له يفعل.
وذهب بشر بن المعتمر (١) : إلى أنه يقال للقادر يفعل مطلقا غير مقيد بحالة دون حالة.
__________________
(١) فى ب (متعمر).
وذهب أبو الهذيل أحمد بن العلاف (١) : إلى الفرق بين أفعال القلوب ، وأفعال الجوارح.
فقال : القدرة على أفعال القلوب لا بد وأن تكون معها ، بخلاف القدرة على أفعال الجوارح ؛ فإنه قال : بتقدمها (٢) عليها إلى غير ذلك من الاختلافات التى لا معول عليها ، ولا مستند لها فيما بينهم. يظهر فسادها بأوائل النظر لمن له أدنى تنبه. آثرنا (٣) الإعراض عن ذكرها (٣) شحا على الزمان بتضييعه فى غير مهم.
ومعتمد أهل الحق :
أنه لو لم تكن القدرة الحادثة متعلقة بالفعل حالة حدوثه ؛ لما كانت متعلقة به أصلا ، واللازم ممتنع ، فالملزوم ممتنع.
أما بيان الملازمة : فهو أنه : لو لم تكن القدرة الحادثة متعلقة بالفعل الحادث وقت حدوثه : فإما أن تكون متعلقة به قبل حدوثه ، أو بعد حدوثه ، أو فى الحالتين ، أو أنه لا تعلق لها به أصلا :
لا جائز أن تكون متعلقة به قبل حدوثه : لوجهين :
الأول : أنه قبل حدوثه : إما أن يكون ممكن الحدوث فى ذلك الوقت ، أو لا يكون ممكنا.
فإن كان / ممكنا : فلا يلزم من فرض وقوعه فيه المحال لذاته ، ولو فرضناه حادثا فيه ، فالقدرة تكون متعلقة به وقت حدوثه ؛ وقد قيل بامتناعه.
وإن لم يكن حدوثه فيه ممكنا : فليس بواجب ؛ فيكون ممتنعا. وتعلق القدرة بالمستحيل يوجب كونه مقدورا ، وخرج عن كونه مستحيلا ؛ وهو خلاف الفرض. ثم ولجاز تعلقها بكل مستحيل ؛ ضرورة عدم الفرق ؛ ولم يقل به قائل.
الوجه الثانى : أنه لو تعلقت القدرة الحادثة بالفعل قبل حدوثه ؛ فالمقدور إما نفيه ، أو ثبوته :
__________________
(١) فى ب (علاف).
(٢) فى ب (بتقدمه).
(٣) فى ب (آثرنا عنها الإعراض).
لا جائز أن يكون المقدور ثبوته ؛ إذ هو غير ثابت قبل وقت ثبوته.
وإن كان المقدور نفيه : فالثبوت ليس هو المقدور ؛ وهو خلاف الفرض.
كيف وأن من أصل الخصم أن المقدور لا بد وأن يكون أثرا للقدرة ؛ وأثر القدرة ؛ إنما هو الحدوث ، فانتفاء الحدوث لا يكون مقدورا.
ولا جائز أن تكون القدرة الحادثة متعلقة بالفعل الحادث بعد وقت حدوثه ؛ لأن متعلق القدرة : إنما هو الحدوث الممكن بالاتفاق ، وحدوث الحادث بعد حدوثه غير ممكن ؛ فلا يكون متعلق القدرة ، كيف وأنه لم يقل به قائل. وعلى ما حققناه : فلا يخفى امتناع تعلق القدرة بحدوث الفعل ، فى الحالتين معا ، وهما القبلية ، والبعدية ؛ فلم يبق إلا أن لا تكون القدرة متعلقة به أصلا ؛ وهو ممتنع ؛ لما ذكرناه فى إثبات القدرة الحادثة ، ولأنه على خلاف الإجماع من الفريقين.
فإن قيل : لا نسلم أنه لو لم تكن القدرة متعلقة بالفعل وقت حدوثه ؛ لما كانت متعلقة به أصلا.
وما ذكرتموه من الوجه الأول فى التقرير ؛ فمندفع بتفسير معنى تعلق القدرة بالحادث قبل وقت حدوثه : وذلك أن معنى هذا التعلق : أن القدرة إذا حدثت فى وقت أثرت فى الإيجاد ، والحدوث فى الحالة الثانية من ذلك الوقت.
وعلى هذا : فلا يلزم من استحالة الحدوث المقدور مع القدرة : أن لا تكون متعلقة به بالتفسير المذكور ، لا الحدوث فى الوقت الثانى من وقت حدوث القدرة ؛ وخرج عليه امتناع تعلق القدرة بالمستحيلات ؛ لعدم إمكانها فى كل وقت.
وعلى هذا : فلا يخفى إبطال الوجه الثانى أيضا ؛ فإنه ليس المقدور هو الحدوث قبل وقت الحدوث ولا نفيه ؛ بل المقدور هو الإيجاد (١) بالقدرة الحادثة (١) للفعل فى ثانى الحال من وقت وجودها / ؛ وهو معنى تعلقها بالحدوث قبل وقت الحدوث.
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على تعلق القدرة الحادثة بالفعل حال حدوثه ، لكنه معارض بما يدل على امتناعه. وبيانه من ثمانية أوجه (٢) :
__________________
(١) فى ب (الحادث).
(٢) ذكرها الآمدي هنا على أنها وجوه ورد عليها وسماها شبها.
الأول : أنه لا معنى لتعلق القدرة بالفعل الحادث غير تأثيرها فى إيجاده : فلو كانت متعلقة به وقت وجوده ؛ لكان ذلك إيجادا للموجود ؛ وهو ممتنع ؛ فإن الموجود إذا تحقق ؛ استقل بنفسه ، واستغنى عن تعلق القدرة به.
الثانى : هو أن القدرة ممتنعة التعلق بالباقى حالة بقائه : وإنما كان ذلك ممتنعا ؛ لكون الباقى متحقق الوجود ، والحادث حال حدوثه متحقق الوجود ؛ فلا تكون القدرة متعلقة به.
الثالث : هو أن وجود الباقى ، هو نفس الوجود فى وقت الحدوث ؛ فلو كانت القدرة متعلقة به فى وقت الحدوث ؛ لكانت متعلقة به فى حالة البقاء ؛ لاتحاد المتعلق وامتناع تأثير تعاقب الأوقات فى أحكام الأنفس ؛ واللازم ممتنع ؛ فالملزوم ممتنع.
الرابع : أنه لو كان حدوث الفعل ووجوده حال وجوده مشروطا بتعلق القدرة به حال وجوده ؛ للزم طرد هذا الشرط في كل ما هو من جنسه من أفعال الله ـ تعالى ـ ويلزم من ذلك امتناع وجود مثل مقدور العبد ، ضرورة فوات شرطه على ما تقرر فى بيان كون الله ـ تعالى ـ قادرا ، لا بقدرة ؛ وذلك ممتنع.
الخامس : هو أنكم معاشر الأشاعرة أثبتم لله ـ تعالى ـ قدرة قديمة أزلية ، وقضيتم بأنه لا بد لها من مقدور تتعلق به فى الأزل ، وأحلتم (١) إمكان المقدور أزلا ، ولا بد وأن تكون القدرة القديمة ، متعلقة بمقدورها قبل وقت حدوثه ، ولو كان ذلك ممتنعا في القدرة الحادثة ؛ لكان ممتنعا فى القدرة القديمة أيضا.
السادس : هو أن الاتفاق من الأمة واقع ، على أن المكلف مأمور بالإيمان حالة كفره ، فلو لم يكن قادرا عليه حالة الأمر ، لكان مأمورا بما لا يقدر عليه ، ولو ساغ ذلك ، لساغ التكليف بكل ما لا يقدر عليه من الجواهر ، والأعراض ؛ وهو محال.
السابع : هو أن أقوى أعذار المكلف ، التى يجب قبولها ، لدفع المؤاخذة عنه ، كون ما كلف به غير مقدور له ؛ فإذا كان المكلف بالفعل ـ قبل الفعل ـ غير قادر عليه ؛ وجب رفع المؤاخذة عنه ، بعدم الفعل المكلف به ؛ وهو خلاف الإجماع من الأمة ؛ وهذا المحال / إنما لزم من امتناع تقدم (٢) القدرة ؛ فيكون ممتنعا (٢).
__________________
(١) فى ب (واحللتم).
(٢) فى ب (تعلق القدرة عليه فيكون محالا).