تراث الشيعة الفقهي والأصولي - ج ١

مهدي المهريزي ومحمد حسين الدرايتي

تراث الشيعة الفقهي والأصولي - ج ١

المؤلف:

مهدي المهريزي ومحمد حسين الدرايتي


الموضوع : الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-21-8
الصفحات: ٦٣٢

 

٦١

٦٢

نخبة العقول في علم الاصول

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله الأوّل فلم يقاربه البداية ، والآخر فلا يناسبه النهاية ، الذي صنع لنا اصولا ، فجعلنا من الذين بها يفقهون ، وفرّع لنا فروعا ، فجنّبنا من الذين في طغيانهم يعمهون.

وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، لا يستطيع العقول على الاهتداء لتحديد صفته ، ولا على الانزواء عمّا أوجب عليه من معرفته !

وأشهد أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله عبده ورسوله المنتجب ، لا يقارن فضله ، ولا يوازن عدله.

وأشهد أنّ الأئمّة من بعده امراء المؤمنين ، وحجج الله على العالمين صلوات الله عليهم أجمعين شهادات السرّ فيها وفق الإعلان ، والقلب فيها طبق اللّسان.

وبعد ، فإنّي قد رتّبت هذا الكتاب ـ المسمّى ب « نخبة العقول في علم الاصول » الملقّب بالسبع المثاني ـ على مقدّمة ، وأبواب ، وخاتمة معتصما بالله ، هو مولاي ، نعم المولى ، ونعم النصير.

أمّا المقدّمة

فيذكر فيها تنبيهات لا بدّ منها ، ولطائف لم يسبق إليها ، مسبوقة بتنبيهة (١) اعتذاريّة ، وهي أنّي كاتب هذه الأسطر في غبرى الغريّ في غريب (٢) السنة وأنا غريب السنّ وأئيب

__________________

(١) الف : ـ بتنبيهة.

(٢) المراد من كلمة « غريب » سنة ١٢١٢ كما يؤيّده حساب الجمّل في حروف الأبجد.

٦٣

الابن (١) ، والغريب معذور ، والأئيب حرور جسور ؛ لأنّه غير مستأنس بالسليقة المعروفة ، ولا مستأنس للطريقة المألوفة ، (٢) فإن عثرتم زللا أو خللا (٣) فاعتذروني فهو خير عملا ﴿ إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (٤) والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (٥)

الاولى : (٦) اعلم أنّ معظم مباحث هذا العلم إنّما هي دلالات الألفاظ ، ولا سبيل لنا إلى ثبوتها وتحقّقها إلّا النقل أو التبادر والظهور عند القوّة الذهنيّة ولو بالتأمّل والنظر كما في صورة الدلالات الالتزاميّة ، فمهما لم يوجد فيها تبادر ولا ظهور ، فإثباتها بالاستدلالات العقليّة والكلمات الوهميّة تحكّم وزور. وكذلك إذا حصل شيء منهما ، فالاستدلال على خلافهما من التجاهل والغرور ، وعلى وفاقهما بالتمسّك بأشياء أخر زيادة مستغنى عنها ، إلّا إذا افتقر إلى مؤيّد لضعفهما مثلا.

ثمّ هذا القدر من التبادر والظهور كاف في إثبات الدلالات ؛ لأنّ بناء إثباتها على ما تسمّيه (٧) الظنّ والرجحان ، لا البتّ واليقين العقلي ، (٨) بل ولا يمكن إثباتها بغيرهما ؛ لأنّ منشأها إنّما هو الوضع لا غير ، ولا سبيل لنا إليه إلّا النقل أو (٩) التبادر ، ولا يفيدان القطع إلّا نادرا ؛ فعلى هذا إيراد الاحتمالات العقليّة المخالفة لهما لا يصير إبطالا ولا نقضا. ولقد كثر في هذا العلم ممّا ذكرت لك من المنكرات حتّى صار أكثر اغتشاش هذا العلم من أجلها.

ولعمري إنّها ليست إلّا من جهل وجدال ، أو عناد وضلال ، أو تفاخر وتكاثر في أندية (١٠) الرجال.

__________________

(١) كذا. ولعلّ المراد : غائب الابن. راجع : لسان العرب ، ج ١ ، ص ٢١٩ ( ا وب ) .

(٢) ب : لأنّه غير مستأنس بالطريقة المألوفة ولا مستأنس للسليقة المعروفة.

(٣) ب : خللا أو زللا.

(٤) النساء (٤) : ١٤٩.

(٥) ب : ـ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(٦) أي اللطيفة الاولى.

(٧) الف : ـ ما تسمّيه.

(٨) الف : ـ العقلي.

(٩) الف : و.

(١٠) الأندية : المجالس لسان العرب ، ج ١٥ ، ص ٣١٤ ( ندى ) .

٦٤

الثانية (١) : قد وقع اختلاف عظيم في هذا العلم بحيث ما سلم منه مسألة حتّى كاد أن يزول من كثرته عن العلميّة.

وهذا الاختلاف الشديد وتدوينه في الكتب :

إمّا من جهة أنّ المسألة محلّ خلاف وموقعه ، لاختلاف أدلّتها وحصول الترجيح لبعض في بعض صورها ، ولبعض آخر في بعض آخر ، وهذا هو الخلاف الحقيقي الذي يضطرب بسببه المسألة ، ولا يحصل معه الاتّفاق ، ولا ينعقد مع وجوده الإجماع.

وإمّا من جهة أنّه قد يذكر (٢) إظهارا لبشاعته (٣) وفضاحته ، وتعرّضا لردّه وإبطاله وإن لم يكن في الحقيقة خلافا يعتدّ به ، أو أنّه قد يذكر ويستكثر منه تنبيها للغير ، أو إظهارا للفضيلة والإحاطة بالمسألة.

وإمّا من جهة المعاندة مع القائل ، كما في بعض المسائل عنادا للأشاعرة أو غيرهم وإن كان قولهم حقّا.

أو إنّه ذكر على سبيل الوجه والاحتمال دون أن يقول به أحد ويتّخذه مذهبا ، حتّى أنّه قد يتبرّأ عنه كلّ طائفة ، كتعيين الواجب عند الله تبارك وتعالى من دون تعيينه عند المكلّف (٤) في خصال الكفّارات مثلا.

أو أنّه قد يتوهّم من ظاهر عبارات بعضهم دون تنصيصهم كتخصيص الوجوب بأوّل الوقت في الواجب الموسّع على ما توهّم من ظاهر عبارة المفيد رحمه‌الله (٥) مثلا.

أو أنّ للخلاف في الحقيقة ونفس الأمر قائلا ولكن لا اعتماد بشأنه من جهة شذوذه أو جهل حاله أو غير ذلك ، كبشر المريسي في مسألة التصويب ، (٦) وكعبّاد في مسألة

__________________

(١) ب : اللطيفة الثانية.

(٢) أي قد يذكر الاختلاف.

(٣) رجل بشع النفس ، أي خبيث النفس. لسان العرب ، ج ٨ ، ص ١١ ( بشع ) .

(٤) في حاشية « ب » : + لكنّه إذا اختار المكلّف وفعل واحدا منها فهو ذلك الواجب المعيّن عند الله ، فاختلف باختلاف المكلّفين. فإنّه قد تبرّأ منه المعتزلة ونسبه إلى الأشاعرة وبالعكس.

(٥) المقنعة ، ص ٩٤.

(٦) نقل عنه الشيخ في عدّة الاصول ، ج ٢ ، ص ٧٢٥.

٦٥

وضع الألفاظ (١) مثلا.

أو من جهة أنّه في الكلام تقييد وإطلاق ، أو عموم وخصوص ، أو إجمال وبيان كما في بعض المقامات ، ولا يخفى على المتدرّب.

أو من جهة عدم فهم المراد من بعض العبارات من جهة النقص وعدم التدبّر ، أو حبّ إيقاع التفرقة والخلاف في البين كما هو مقتضى الطبائع الشيطانيّة ، كما في مسألة كون العلم علّة ؛ أو اشتباه محلّ النزاع ، أو غير ذلك كما في مقدّمة الواجب حيث اسند الخلاف إلى السيّد رحمه‌الله (٢) مثلا.

أو من جهة عدم استهدائهم إلى وجه التخلّص عن حيرة وقعوا فيها ، فتمسّكوا ببعض المنكرات اضطرارا ، كالقول بأنّ ما يجوز تركه يجب فعله ، وكالقول بوجوب العزم في الواجب الموسّع ؛ فرقا بينه وبين المندوب مثلا.

أو من جهة الغفلة عن الجهات والحيثيّات ، كما في الشّبهة الكعبيّة ، وكما في مسألة اقتضاء الأمر الإجزاء مثلا.

أو محض الافتراء ، كافتراءات الواقعة بين الأشاعرة والمعتزلة ، وبين العامّة والخاصّة ، كافتراء المخالفين علينا باشتراطنا دخول المعصوم في إفادة المتواتر القطع ، مثلا.

أو محض أن يجعل لنفسه مذهبا غير مذهب الناس من دون دليل ، بل باتّباع هوى نفسه ، مضافا إلى غير ذلك من الأسباب المذكورة في اللطيفة الاولى كما لا يخفى على المنصف.

كم أعدّ ؟ وكم اقول ؟ فإنّهم لا يزالون مختلفين إلّا من رحم ربّك ، (٣) ولكن ما اختلف

__________________

(١) نقل عنه الميرزا القمّي في قوانين الاصول ، ص ١٩٤ ؛ والحائري في الفصول الغرويّة ، ص ٢٣.

(٢) راجع : معالم الدين ، ص ١٠٠ ؛ هداية المسترشدين ، ص ١٠٤.

(٣) إشارة إلى الآية ١١٧ ـ ١١٨ من سورة هود.

٦٦

فيه إلّا الّذين اوتوه من بعد ما جاءهم العلم ، (١) فجعل كلّ هذه خلافات ، وعدّت جميعها أقوالات ، مع أنّ هذه كلّها ـ غير القسم الأوّل ـ لا تعدّ عند العقلاء شيئا ، كيف ؟ ولو عدّت أمثال هذه الأشياء خلافا ، لما بقي شيء متّفق عليه حتّى أبده البديهيّات كضوء الشمس ، فإنّه قد ينكره الذي في عينه رمد ، وكذلك الذي في قلبه مرض ينكر حقائق محكمة ، ويتّبع طرائق مظلمة ، بل الذي في قلبه مرض أعظم داء ، وأبعد شفاء ؛ لأنّ مرض الجوارح ربّما يعترف به صاحبه ولا يزيده شيئا ، ومرض القلوب لا يعترف به صاحبه ، ويزيده وعرا وإعضالا وزيغا وإضلالا حتّى يجعل صدره ضيّقا حرجا كأنّما يصّعّد في السماء.

وأمّا صاحب القلب السليم ، والناظر بعين الإنصاف والرأي المستقيم ، فهداه الله لما اختلفوا فيه من الحقّ بإذنه ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

الثالثة : قد كثر في هذا العلم في جميع أبوابه التعرّض والبحث عن أشياء لا تليق بالتعرّض ، ولا يمكن البحث عنها لكونها بديهيّات تعرّضا مجاوزا عن الحدّ ، لا سيّما في باب الحدود والتعريفات ، كالتعرّض لتعريف كتاب الله وأمثاله ، وكالتعرّض لتحقيق معنى الواجب المخيّر والكفائي والموسّع وأمثاله.

ومن البيّن أنّ استخفاء البديهيّات والإغماض عن نور بداهتها ثمّ البحث عن أحوالها والتعرّض لتحديدها من الحماقة البيّنة ؛ لأنّهما مختصّان بالنظريّات الخفيّة ، ولا يجاوزان إلى البديهيّات الجليّة ، ولهذا لا يزداد صاحبه إلّا حيرة وإشكالا ، وظلمة وضلالا ، كمن أغمض عينه عن ضوء النهار والشمس ، ومشى بظلمة وهمه وخياله باللمس والهمس ، (٢) وكذلك قد يتعرّض لأشياء لا مدخل لها في هذا العلم أصلا ، أو لها مدخل ولكنّه قد بحث عن أحوالها في علوم أخر موضوعة لأجلها ؛ وكذلك

__________________

(١) إشارة إلى الآية ٢١٣ من سورة البقرة.

(٢) الهمس : الخفيّ من الصوت. لسان العرب ، ج ٦ ، ص ٢٥٠ ( همس ) .

٦٧

قد يتعرّض لأشياء لا حقيقة لها ، بل هي محض خيالات فاسدة ، وتفكّرات غير راشدة ، أو لا سبيل لنا إليه أبدا وإن صرفنا جهدنا وبذلنا طاقتنا ، أو ما كلّفنا بها بل كلّفنا بالسكوت عنها ، أو لا تثمر ثمرة بل ولا تفيد علما ، وهل هذه إلّا إبعاد القريب ، واستصعاب السهل اليسير ، واستعظام الشيء الحقير ، واستكثار القليل ، المورث لزيادة مرض العليل ، وحرقة الغليل ، فهل يهلك إلّا القوم العادون.

وأعظم من ذلك كلّه أنّه قد يتكلّم بكلامات لا نعرف (١) من يتكلّم بها ولا غيره ، فإن كان هذه الأشياء علما وتحقيقا ، واستفسارا وتدقيقا ، وبها صاروا عالمين محقّقين مدقّقين ، فهنيئا لهم خاصّة ، فإنّا منهم برآء وممّا يعملون.

الرابعة : قد عسر التحصيل في هذه الأزمان على أكثر المحصّلين مع كثرة اشتغالهم وبذل جهدهم وطاقتهم ، وذلك لعدم استهدائهم إلى طريقته وعدم الأخذ بطوره وسيرته ، وأنا أشير في هذه التنبيهة (٢) إلى بعض طرقه ، فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، (٣) فأقول :

اعلم : أنّ شرف العلم وعزّته وعظمه وجلالته إنّما هو لأجل أدائه إلى غاية هي غاية الغايات ونهاية الحاجات ؛ وأعظم المهمّات رضوان الله تعالى الذي هو الفوز العظيم ، والثواب الجسيم ، والمنجي من العذاب الأليم ، بواسطة معرفته والإيمان به بالقلب السليم ، والخوض في الأعمال الصالحة خالصا لوجهه الكريم ، والعلم الذي إلى شيء منها لا يؤدّيك ، ولا إلى طريقها يهديك ليس علما ، بل هو جهل في انحطاط رتبته وسفليّة درجته ؛ فليكن تحصيلك للعلوم واشتغالك بالرسوم لوجه الله ، وطلبا لمرضاته ، ونيلا لثوابه ، لا لأغراض فاسدة ، وغايات غير مقتصدة كالتكاثر والتفاخر ، والتطوّل والتكبّر ، والمراء والمجادلة ، والمناقشة والمقاولة ، فقد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) الف : لا يعرف.

(٢) كذا في النسختين والصحيح : هذا التنبيه.

(٣) اقتباس من الآية ٢٩ من سورة الكهف.

٦٨

« من تعلّم العلم للكثرة مات جاهلا ؛ ومن تعلّم العلم للتكبّر والطول مات زنديقا ؛ ومن تعلّم العلم للمجادلة مات منافقا ؛ ومن تعلّم العلم للمقالة مات عاصيا ؛ ومن تعلّم العلم للعمل مات مؤمنا مخلصا » . (١)

ثمّ اعلم : أنّ اكتساب العلوم بالقلوب ليس كاكتساب المنافع بالجوارح ، بل إنّما العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء (٢) من عباده الصالحين وأوليائه المتّقين ؛ فكن في جميع أحوالك معتصما بالله مولاك ، منقطعا عن غيره بظاهرك وباطنك ، عاملا بما علمت من فرائضه ونوافله.

واعلم : أنّ من جملة الفرائض الصلوات الخمس ، فراعها حقّ رعايتها بتعاهدك أمرها ، وتقرّبك إلى الله تعالى بها ، ومحافظتك على أوقاتها وأفعالها وأقوالها ؛ فإنّ الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ، (٣) وإنّها معراج كلّ مؤمن تقيّ ؛ فإيّاك وأن يراك ربّك في أوقاتها مشغولا بغيرها فتكون مرجوما من رحمته ، مطرودا من حضرته ، فاجعلها قرّة لعينك ، وحمّة (٤) لدرنك ، (٥) واعرف حقّها كما عرفته الذين وصف الله في كتابه ، فقال تعالى : ﴿ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ (٦) .

واعلم : أنّ من جملة المحافظة عليها الإتيان بنوافلها ؛ فإنّها جعلت ذريعة لإكمالها وجبيرة لانكسارها ، فلا ينبغي لك تركها ، فإن تركت فأنت المضيّع للصلوات ، والمتّبع للشهوات ، فأخذ منها حظّك ، وأقمها في آناء الليل وأطراف النهار ، فإنّ العبد يتقرّب إلى الله تعالى بالنوافل حتّى يحبّه. (٧)

__________________

(١) المواعظ العدديّة ، ص ٢٦٢ مع اختلاف يسير.

(٢) اقتباس من الحديث الشريف المنقول في مصباح الشريعة ، ص ١٦ ، الباب السادس : في الفتيا.

(٣) إشارة إلى الآية ١٠٣ من سورة النساء.

(٤) الحمّة : العين الحارّة يستشفى بها الأعلّاء والمرضى. الصحاح ، ج ٥ ، ص ١٩٠٤ ( حمم ) .

(٥) الدّرن : الوسخ. الصحاح ، ج ٥ ، ص ٧١١٦ ( درن ) .

(٦) النور (٢٤) : ٣٧.

(٧) الكافى ، ج ٢ ، ص ٣٥٢ ، باب من آذى المسلمين واحتقرهم ، ح ٧ و٨ ؛ المؤمن ، ص ٣٢ ، ح ٦١ و٦٢ ؛ المحاسن ، ص ٢٩١ ، ح ٤٤٣ ؛ التوحيد ، ص ٣٩٨ ، ح ١ ؛ علل الشرائع ، ج ١ ، ص ١٢ ، ح ٧.

٦٩

ثمّ اعلم : أنّ القرآن هو حبل الله المتين ، وسبيله الأمين ، وواعظه الناصح ، وبيانه الواضح ، وهاديه الذي لا يضلّ ، ومحدّثه الذي لا يكذب ، وعهده بين عباده ، فانظر فيه كلّ يومك ، واجعله ربيع قلبك ، وشفاء لما في صدرك ، وهدى لضلالتك ، وأنيسا لوحدتك ، وانسا لوحشتك ، وتذكرة لغفلتك ، ودليلا على ربّك ، وشافعا لذنوبك ، ونصيحا لنفسك ، وراعه حقّ رعايته ، وكن من أهله وحرثته ، واتله حقّ تلاوته بترتيلك لأجزائه ، وتطهير قلبك عند قراءته ، وتفكّرك في آياته وإصغاء مسامع قلبك إليه ، وائتمارك بأوامره ، وانتهائك بنواهيه ، وارتعادك عند تخويفه ، وركونك إلى تشويقه ، وتحليلك حلاله ، وتحريمك حرامه ، ورضاك بحدوده وأحكامه ، والاعتبار بقصصه ، والاتّعاظ بمواعظه ، وتعظيمك إيّاه ، وتصغيرك ما سواه.

ثمّ اعلم أنّه إذا انتصف الليل ، فهي أفضل الأوقات لمن اشتاق إلى المناجاة ، وعرض الحاجات ، ونيل الطلبات ، فلا تترك قيامها حيث كنت ، وعلى أيّ حال أنت ، فإنّ ناشئة الليل هي أشدّ وطئا وأقوم قيلا ، (١) وإنّ ليلة الجمعة هي ليلة غرّاء أفضل الليالي ، ويومها وهو يوم أزهر أفضل الأيّام ، فاجعل لك في ليلتها ويومها حظّا من القربات زيادة على سائر الأوقات.

ثمّ اعلم : أنّ نفسك هي العزيزة التي لا ثمن لها إلّا الجنّة ، فاعرف قدرها ، فقد قال الإمام عليه‌السلام : « العالم من عرف قدره » . (٢) فراقبها على الدوام ، وحاسبها في جميع الأيّام ، واشغلها بعملها ، وأرها أجلها ، وكذّب أملها ؛ فإنّ فيها سدّ جرأتها ، وكسر شوكتها ، وقمع شهوتها ، وبها حصول كمالها ، وإصلاح حالها ، واستمالتها إلى مآلها.

واعلم : أنّك لا تكلّف إلّا نفسك ، فإيّاك والتفكّر في امور الناس والتعرّض لمساويهم أو محاسنهم ، والتجسّس لعيوبهم ، والتعيير بذنوبهم ؛ فإنّ المسلم من سلم

__________________

(١) إشارة إلى الآية ٦ من سورة المزّمّل.

(٢) نهج البلاغة ، ص ١٤٩ ، ضمن الخطبة ١٠٣ ؛ الإرشاد للمفيد ، ج ١ ، ص ٢٣١ ؛ إرشاد القلوب ، ج ١ ، ص ٣٥.

٧٠

المسلمون من يده ولسانه ، وأنّ من شغل نفسه بغير نفسه تحيّر في الظلمات وارتبك في الهلكات ، ومدّت به شياطينه في طغيانه ، وزيّنت له سيّئ أعماله. وكن مؤدّب نفسك ، فإنّ مؤدّب النفس أحقّ بالإجلال من مؤدّب الناس ، وإنّ في شغل نفسك كفاية عن شغل غيرك ، فلتكن نفسك منك في تعب والناس منك في راحة ، فإنّ الله ربّك وربّهم أولى بهم ، وما أنت عليهم بحفيظ.

واعلم أنّهم لا يرضون منك أبدا ؛ لأنّ آراءهم مختلفة ، وقلوبهم غير متآلفة ، ولا يملكون لك خيرا ، ولا يصرفون عنك شرّا ؛ فلا تعمل لرضاهم ، ولا ترج منهم خيرا ، ولا تخف منهم شرّا ، بل جاهد في الله حقّ جهاده ، ولا تخف لومة لائم ، ولا ترج إلّا من ربّك ، ولا تخف إلّا من ذنبك.

واعلم : أنّك لن تبرأ من التقصير في حقّك ، والإسراف على نفسك ؛ فجنّب الإصرار والاستصغار ، والزم التوبة والاستغفار ، لا سيّما عند محاسبة نفسك في آخر النهار ، وإبرازها بين يدي ربّك في الأسحار.

ثمّ اعلم أنّ الله تبارك وتعالى جعلك عبدا لنفسه بمعنى أنّه جعل روحك في قبضته وحياتك بقدرته ، ورزقك بيده ، وقضاء حاجتك من عنده ، وحصول مآربك لديه ، ورجوعك إليه ، وحسابك عليه ؛ فليكن فيه طمعك ، ومنه طلب رزقك ، وعنده استقضاء حاجتك ، وبه انسك واستيناسك ، ومنه خوفك وخشيتك ، ولا تطمع في غيره ، ولا تجعل نفسك عبدا لمن سواه ، فإنّه ليس من في السماوات والأرض إلّا آتي الرحمن عبدا ، وكلّهم عباد أمثالك.

ولا تسأل أحدا أبدا ولو متّ جوعا ، فقد ورد عنهم عليهم‌السلام : « إنّ شيعتنا من لم يسأل أحدا ولو مات جوعا » (١) وكذلك مدح به إبراهيم عليه‌السلام ؛ بل اعتصم بالذي خلقك وسوّاك

__________________

(١) صفات الشيعة ، ص ١٧ ، ح ٣٤ ؛ كنز الفوائد ، ج ١ ، ص ٨٨ ؛ أعلام الدين ، ص ١٣٨ ؛ عدّة الداعي ، ص ٩٩. وعنه في وسائل الشيعة ، ج ٩ ، ص ٤٤٣ ، ح ١٢٤٤٨.

٧١

ثمّ رزقك وهداك ، وليكن له تعبّدك ، وإليه رغبتك ، ومنه خشيتك ، فإنّ بيده خزائن السماوات والأرض ، وقد أذن لك في الدعاء ، وتكفّل بالإجابة ، وأمرك أن تسأله ليعطيك ، وتسترحمه ليرحمك ، ولم يجعل بينه وبينك من يحجبه عنك ، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه ، وإن أسأت فلم يمنعك من التوبة ، ولم يعرك بالإنابة ، ولم يعاجلك بالنقمة ، ولم يؤيسك من الرحمة ، بل جعل نزوعك عن الذنب حسنة ، وحسب سيّئتك واحدة ، وحسنتك عشرا ، وفتح لك باب المتاب ، فإذا ناديته سمع نداك ، وإذا ناجيته علم نجواك ، فاطلب منه حاجتك ، واشك إليه همومك ، واستكشف منه كروبك ، واستعنه على جميع امورك ، واسأل من رحمته ما لا يقدر على إعطائه غيره من زيادة عمرك ، وصحّة بدنك ، وسعة رزقك.

واعلم : أنّه تبارك وتعالى أعطى بيدك مفاتيح خزائنه ، وأذن لك في مسألته ، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمه ، واستمطرت سحائب رحمته ، ولا يقنطنّك إبطاء إجابته ، فإنّ العطيّة على قدر النيّة ، وربّما تؤخّر الإجابة ليكون أعظم لأجر السائل ، وأجزل لعطاء الآمل ، وربّما تسأل شيئا ولا تؤتاه ، واوتيت خيرا منه عاجلا وآجلا ، أو صرف عنك ما هو خير لك ؛ فلربّ أمر قد طلبته وفيه هلاك دينك لو أوتيته ، وليكن مسألتك فيما يبقى (١) لك جماله ، وينفى عنك وباله ، فإنّ المال وأمثاله لا يبقى لك ولا تبقى له.

ثمّ اعلم : أنّ الله تعالى ما جعل واسطة بينك وبينه إلّا من هو أهل الوساطة ، ولائق الشفاعة من كتابه المبين ، ورسوله الأمين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعترته الطاهرين ؛ فحيثما أردت السؤال فتوسّل بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعترته الطاهرين وبالقرآن وحرمته ، فإنّهم أئمّتك وقادتك وشفعاؤك ليوم فقرك وفاقتك.

ثمّ اعلم : أنّه تبارك وتعالى لا يزال يذكرك ولا ينساك ، وما ودّعك ربّك وما قلاك ، (٢)

__________________

(١) الف : بقي.

(٢) إشارة إلى الآية ٣ من سورة الضحى.

٧٢

وحيث كنت وبأيّ عمل أنت فهو معك وشاهد عملك كما أخبرك بقوله : ﴿ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً (١) و﴿ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا (٢) فإيّاك والغفلة ، واصرف عمرك في خدمته مصاحبا لجناب أحديّته ، مستدركا لفيض صحبته ، معتكفا في مقام خشيته ، مستغرقا في بحر معرفته ، معتزلا عمّن سواه في زاوية طاعته ، مستفرغا لعبادته ، متفكّرا في آثار قدرته ، مستكينا لجلالته وعظمته ، مستسلما لسلطانه وعزّته ، ذاكرا لجميع (٣) ما أحاط بك من خيره ونعمته ولمقرّبي حضرته من رسله وأنبيائه وملائكته لا سيّما محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعترته ، شاكرا لآلائه ونعمائه كما هو أهل لحضرته ، حامدا لجميع أفعاله وصفاته ، غير آئس من روحه ورحمته ولا مأمونا من مكره وحيلته ، والاستدراج والإتراف عند توفّر الخير وكثرته ، محتسبا للاختيار عند إمساكه ومنعته ، متنبّها عند استفساره وفتنته ، راضيا بقضائه وحكمته في نفسك وفي سائر بريّته.

ثمّ اعلم : أنّ عمرك عبارة عن سنين معيّنة التي أنت تعيش فيها ، وهي عبارة عن الشهور ، والشهور عبارة عن الأيّام ، والأيّام عبارة عن الساعات ، وهي عبارة عن الدقائق ، والدقائق عبارة عن أنفاس لك معدودة ، وهي ثلاثة : النفس الذي مضى ولست تدركه ، والذي بعدك ولا تدري ما ذا عاقبته ؛ ففي الحقيقة ليس عمرك إلّا النفس الذي أنت فيه ، فلا تصرفه إلّا فيما فيه منفعتك ، وبه نجاتك ، وإليه حاجتك ، ومنه استعانتك ، ولا تشغله في الأباطيل ، ولا تجعله محلّا للأقاويل ، ودع الفضول ، والتكلّم بغير المعقول ، والقول فيما لا يعرف ، والخطاب بما لا تكلّف ؛ فإنّ الأقوال من جملة الأعمال و﴿ ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (٤) ولا تقل ما لا تعلم وإن قلّ ما تعلم ، فإنّ الوقوف عند الشبهات أسهل من الارتباك في الهلكات.

ثمّ اعلم : أنّه ليس العلم إلّا ما علمته بعين بصيرتك ، وتحمّلته بنور معرفتك ، فإيّاك

__________________

(١) يونس (١٠) : ٦١.

(٢) المجادلة (٥٨) : ٧.

(٣) ب : بجميع.

(٤) ق (٥٠) : ١٨.

٧٣

وتصديق الرجال من غير تعقّل ، واتّباع الأقوال من دون تأمّل ، بل ابدأ أوّلا بالاستعانة بإلهك ، والرغبة إليه في توفيقك ، ثمّ تأمّل فيما تريده حقّ تأمّلك بعد أن تجد أهليّة التأمّل من نفسك ، فإن وجدته صحيحا فاقبله وإن كان من الأذلّاء ، وإن وجدته سقيما فاردده وإن كان من الأجلّاء ، فإنّ كلامهم إذا كان صوابا كان دواء ، وإذا كان خطاء كان داء ، واحذر عن (١) التنازع والشقاق ، والزيغ والانعماق ممّا أشرت لك في التنبيهات الاول الثلاثة ، فقد ورد : « إنّ من تعمّق لم ينل (٢) إلى الحقّ ، ومن كثر نزاعه دام عماه عن الحقّ ، ومن زاغ ساءت عنده الحسنة وحسنت عنده السيّئة ، وسكر سكر الضلالة ، ومن شاقّ وعرت عليه طرقه ، وأعضل عليه أمره ، وضاق مخرجه » . (٣)

واعلم : أنّك خلقت للآخرة لا للدنيا ، وللفناء لا للبقاء ، وللعمل لا للأمل ، فابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ، ولا تنس نصيبك من الدنيا ، وأحسن إلى نفسك كما أحسن الله إليك ، ولا تصرف عمرك فيما يفارقك ولا يجامعك ، وينقطع عنك ولا يشايعك ، ويضرّك ولا ينفعك ، ويضلّك ولا يهديك ، وإلى شيء من منافعك لا يؤدّيك ، كجمع الكتب واستكثارها ، واستكتاب الحواشي واستفسارها ، وإصلاح ظاهرك وأمثالها ممّا أنت أعلم به لاشتغالك بأعمالها ، ولا يغويك الاستطالة في المجادلات ، والتفاخر في المكالمات ، والتفوّق في الاجتماعات ، وطلب الدرجات ، والميل إلى التفضيلات ، فإنّ الآخرة أكبر درجات ، وأكبر تفضيلا.

ولا يحملنّك على الخوض في الشبهات والتورّط في الظلمات قول فلان محقّق مدقّق ، (٤) ولا يوهننّك عمّا أنت فيه قول فلان صاف صادق ؛ فإنّ اشتهارك في الملأ الأعلى أحسن منه في الملأ الدنيا ، وعلم ربّك بحالك خير من علمهم بقالك ، ورضا

__________________

(١) الف : ـ عن.

(٢) نهج البلاغة : لم ينب. وفى روضة الواعظين : لم ينسب.

(٣) نهج البلاغة : ص ٤٧٣ ، ضمن الحكمة : ٣١ ؛ روضة الواعظين ، ج ١ ، ص ٤٣.

(٤) كذا. والصحيح المحقّق والمدقّق ؛ لكون « فلان » بمنزلة العلم. وكذا ما يأتي.

٧٤

ربّك بأعمالك أنفع لك (١) من رضاهم بأفعالك ، فلا تجاوز عمّا كلّفت به ؛ فإنّ فيه كفاية وشغلا عمّا منعت منه.

واعلم : أنّ الاجتهاد وإن عظم في نظر الجهّال ، وجسم في صدور (٢) أهل الضلال الذين رضوا بالحياة الدنيا واطمأنّوا بها كالأطفال ، ولكنّه أوّل مرتبة من مراتب التكليف والعبادة ، وأوّل مرحلة من وادي العمى والجهالة ، فلا يغرّنّك شهرته عند الناس ، وكبرته عند أهل التقليد والوسواس ، ولا يكون هذا نهاية قصدك وغاية جهدك ، فإنّ وراءه شيئا أعلى منه وهو المقصود.

واعلم : أنّ الدنيا مزرعة الآخرة ، فكلّ شيء زرعته وعملته فيها حصدته ورأيته في الآخرة ، فاصرف علمك في عملك ، وشغلك في زراعتك ، ولا تصرفه في زهرة الحياة (٣) الدنيا وزخرفتها ، ولا تجعله مكسبا لمالها وجيفتها ، فقد صرفت باقيتك في فانيتك ، واشتريت دنياك بآخرتك ، وأكلت في أوّل مرحلتك (٤) ما في سفرتك.

ولا يغويك تعظيم الناس ، فإنّ وراءه تحقيرا ، ولا مدحتهم فإنّ وراءها مذلّة ، ولا رضاهم فإنّ وراءه سخطا ؛ ولا يهمّك أمر رزقك ، فإنّ الذي خلق الموت والحياة قدّر أن لا تموت نفس قبل استكمال رزقها ، ولا يستكمل رزقها قبل استكمال عدّتها ، وقد قال الإمام عليه‌السلام : « اعلموا علما يقينا أنّ الله لم يجعل للعبد ـ وإن عظمت حيلته ، واشتدّت طلبته ، وقويت مكيدته ـ أكثر ممّا سمّي له في الذكر الحكيم ، ولم يحل بين العبد في ضعفه وقلّة حيلته وبين أن يبلغ ما سمّي له في الذكر الحكيم ؛ والعارف بهذا (٥) العامل به أعظم الناس راحة في منفعة ، والتارك له الشاكّ فيه أعظم الناس شغلا في مضرّة » . (٦)

__________________

(١) ب : ـ لك.

(٢) ب : صدر.

(٣) ب : ـ الحياة.

(٤) الف : رحلتك.

(٥) نهج البلاغة : لهذا.

(٦) نهج البلاغة ، ص ٥٢٣ ، الحكمة : ٢٧٣. وفي الكافي ، ج ٥ ، ص ٨١ ، باب الإجمال في الطلب ، ح ٩ ؛ وتهذيب الأحكام ، ج ٦ ، ص ٣٢٢ ، ح ٤ مع اختلاف يسير.

٧٥

واوصيك ألّا تصادق أحدا إلّا بعد الاختبار ، ولا تناصح أحدا إلّا بعد الاستفسار ، ولا تتمسّك بكلّ شيء قبل الاستبصار ، فإنّ الشيطان قد يتلبّس بالإنسان ، والظالم بالعالم ، والمجرم بالمحرم ، والبور بالنور ، والسنّور بالسمور.

وليكن آخر كلامي أن أقول لك : ﴿ وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ ، (١) ولا تكن كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون. (٢) فإن وجدت في قلبك خشوعا ممّا قلت ، وفي رأيك قبولا لما ذكرت ، وإلّا فاعلم أنّك لفي ضلالك القديم ، وأنّي نفخت بمزمار الموعظة عند أهل القبور ، وضربت بدفّ النصيحة عند أهل الاستبداد والزور ، ودققت بطبل التذكرة عند من لا يتذكّر إلّا يوم ينفخ في الصور ، فالصواب سكوني عن حركتي ، وسكوتي عن موعظتي ، فإنّ هذا قباء لم يخط بقدّ كلّ ذي قدّ ، وعطاء لم يجده كلّ ذي جدّ ﴿ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ (٣) ومن طلبه فعليه بالنور المستور ، في رقّ منشور ، فإنّ فيه لبلاغا لقوم عابدين ، وهذا أو ان اختتام المقدّمة.

ولكن لمّا وجدت بعد مجالا ، ختمتها بمنارين :

المنار الأوّل : اعلم أنّي وجدت ما قيل في هذا العلم على أقسام ثلاثة : اصول ، وفضول ، ولا معقول. ولمّا لم يكن اصولها خالية عن الخلاف ، وكان رفعه ممكنا في أكثر المواضع على ما يرتضيه أهل الإنصاف ، جمعت بين أقوالها ، ورفعت من البين خلافها مع أنّ فريقا من المؤمنين لكارهون.

وسمّيت اصولها بالنخبة ، وجمع أقوالها بالمحاكمة ، وفضولها ولا معقولها بالبالوعة ، واقتصرت في هذا الكتاب بذكر نخباتها ومحاكماتها ، (٤) وأحلت ما سواهما على موضعهما ، فمن اقتصر على قدر حاجته وتكليفه ، فليواثر نخباته ، ومن أراد إصلاح ذات البين ، فلينظر في محاكماته ، ومن عمره طويل وله صكّ من ربّ جليل

__________________

(١) يونس (١٠) : ١٠٦.

(٢) إشارة إلى الآية ٢١ من سورة الأنفال.

(٣) المائدة (٥) : ٥٤ ؛ الحديد (٥٧) : ٢١ ؛ الجمعة (٦٢) : ٤.

(٤) ب : محاكمتها.

٧٦

على تضييع عمره ومخالفة (١) أمره والإعراض عن (٢) ذكره ونسيان شكره فليدور في بالوعاته.

المنار الثاني : اعلم أنّ الفقه هو العلم بفروع الدين عن الدليل ، وهو هاهنا الكتاب والسنّة والإجماع ودليل العقل. والمراد بالسنّة ما استحدث من الشارع دالّا على حكم.

وأنّ هذا العلم موضوع للبحث عن أحوال هذه الأربعة ، وأنّ البحث في الأوّلين مرّة في دلالة ألفاظهما التي تستنبط منها الأحكام كالأوامر والنواهي ، ومرّة في أحوالها (٣) من جهة تعارضها وتخالفها ، ومرّة في أحوالها من جهة تحمّلها ونقلها ؛ فصار أبواب هذا العلم خمسة :

الباب الأوّل : في الأوامر والنواهي.

الباب الثاني : في العامّ والخاصّ ، والمطلق والمقيّد ، والمجمل والمبيّن ، والناسخ والمنسوخ.

الباب الثالث : في الأخبار.

الباب الرابع : في الإجماع.

الباب الخامس : في دليل العقل.

الخاتمة : في الاجتهاد والتقليد.

حريم للباب الاوّل.

نخبة : الحقيقة الشرعيّة ـ وهو لفظ استعمله الشارع (٤) حتّى صار حقيقة ـ ثابتة ، والدليل

__________________

(١) الف : مخالفته.

(٢) الف : من.

(٣) ب : أحوالهما.

(٤) في حاشية الف ، ب : + بنفسه أو بتابعيه ، أي ارتضى باستعماله ( منه ) .

٧٧

ثبوتها في الجملة ، وتسميتها بالعرفيّة لفظيّة ، ولم يحصل (١) إلّا باستعماله (٢) كذلك ، وأعمّيّة الاستعمال إن كانت قبل الاشتهار فلا حقيقة ولا مجاز ، أو بعده فحقيقة لا مجاز ، فلا معنى لها (٣) .

محاكمة للمنصفين بين المثبتين والنافين : لا نزاع في ثبوتها عند المتشرّعة ، وكذلك لا ينبغي عند الشارع ؛ لاستعماله كثيرا ، والمنكر مكابر ، وكثرته مستلزمة للشهرة المستلزمة للتبادر ، فلا محلّ له (٤) إلّا أوّل الاستعمال ، ومن المعلوم أنّ اللفظ إذا كان مرتجلا لا يصير في أوّل الوضع قبل الاشتهار حقيقة ، فضلا عن أن يكون منقولا ، فلا محلّ له أصلا.

شجرة وعليها ثمرة :

خطاب الله تعالى والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام المتعلّق بالتكليف ـ وهو الذي يسمّونه حكما ـ يحمل على الحقيقة الشرعيّة ، وإن لم توجد فعلى العرفيّة الغالبة على اللغويّة ، وإلّا فهو مشترك مجمل ، وإن لم توجد فعلى اللغويّة.

نخبة :

استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى لا يجوز مطلقا (٥) إذا كان مفردا أو (٦) واقعا في إثبات ، ويجوز (٧) حقيقة إذا كان تثنية أو جمعا أو واقعا في نفي.

أمّا الأوّل ، فإنّه لمّا لم تكن المعيّة (٨) داخلة في الموضوع له ولا بين المعنيين علاقة مصحّحة (٩) لا جرم كان جائزا.

__________________

(١) أي الثبوت.

(٢) أي الشارع عليه‌السلام.

(٣) أي للأعميّة.

(٤) أي للنزاع.

(٥) ب : غير جائز ؛ بدل : لا يجوز مطلقا.

(٦) ب : ـ أو.

(٧) ب : ـ يجوز.

(٨) ب : المعينة.

(٩) ب : ـ ولا بين المعنيين علاقة مصحّحة.

٧٨

وأمّا الثاني ، فإنّه حينئذ مستعمل في الموضوع له وهو الاثنان والثلاثة.

وأمّا الثالث ، فلأنّ فهم الاستغراق من النكرة المنفيّة شيء ولا ينكره إلّا منكر ، والعموم البدلي كاف لثبوته بل هو محلّه في المنفيّ.

محاكمة للسامعين بين المجوّزين والمانعين :

سند المنع لو جاز للزم التجامع بين الوحدة والجمعيّة ، ومقتضاه عدم شموله للتثنية والجمع ولا المنفيّ مطلقا ، فمحلّ النزاع إنّما هو المفرد (١) المثبت.

والمجوّز بطريق المجاز لا يقول ببقاء الوحدة حتّى يلزم التناقض ، وإنّما يلزم على القول بطريق الحقيقة ، ودليله ضعيف مدخول ، مع أنّ الوحدة لو سلّمت أمر اعتباري لا حقيقة لها حتّى يناقض الجمعيّة ، مع أنّا لا نقول بها ؛ لأنّ الموضوع له إنّما هو الماهيّة لا بشرط ، والوحدة المتبادرة ليست شيئا وراء الماهيّة قيدا لها ، بل إنّما هو معنى نفي الجمعيّة.

قطع ثمرة من شجرة :

المجازيّة والاشتراك والنقل والتخصيص والإضمار على خلاف الأصل ، وإذا تعارضت فالمجاز أولى من الاشتراك والنقل ؛ لأكثريّته وهي مناط الفهم ، ومساو للتخصيص والإضمار ؛ لكثرتهما أيضا ، فهما خير منهما أيضا.

وفي تساوي الاشتراك مع النقل ، أو ترجيحه لكثرته بالنسبة إلى النقل ، أو ترجيح النقل باعتبار وحدة الحقيقة المقتضية لعدم الإخلال تردّد.

والتخصيص والإضمار متساويان ؛ لكثرة ورودهما على السواء فهذه عشرة ، ولكن بهذه الترجيحات لا تثبت الأحكام الشرعيّة كما لا يخفى ، فالتوقّف حتّى يطلع الفجر.

__________________

(١) ب : ـ المفرد.

٧٩

الباب الأوّل

في الأوامر والنواهي

دهليز فيه تميز :

الراجح فعله الممنوع نقضه (١) يسمّى واجبا ، وجائزه مندوبا ، وعكس الأوّل حراما ، والثاني مكروها ، والمساوي طرفاه مباحا ، والمأمور به في الأخبار مرادف الواجب وهو فيها أعمّ ، والمنهيّ عنه فيها مرادف الحرام وهو ليس أعمّ.

نخبة :

صيغة « افعل » وما في معناها حقيقة في الإيجاب.

والدليل تبادره عند الإطلاق وتسميتها صيغة الأمر ، والإضافة للاختصاص ، ولا معنى للأمر سوى الوجوب ، وغيرهما ممّا لا تعدّ.

محاكمة لمن له إدراك بين أهل الاختصاص والاشتراك :

دليل الاشتراك الاستعمال ؛ والأصل الحقيقة وهو حقّ ، وأعمّيّة الاستعمال لا تعارضه ، بل هو محلّ أجزائه ولكن لا منافاة ؛ لإمكان كون اللفظ مشتركا مع تبادر معنى من معانيه عند الإطلاق ، وبجعله قرينة ، أو لأكثريّة الاستعمال فيه كما في العين ، بل ولا يمكن استواء الاستعمال في الجميع عادة ، وكذلك لا منافاة بين كون اللفظ موضوعا للقدر المشترك وبين تبادر فرد من أفراده كما في المشكّك.

وأمّا القول باختصاصها بالندب فشاذّ ، ودليله ضعيف مدخول بل مقلوب عليه.

استدراك :

دلالة الوارد بعد الحظر على ما سوى الإذن غير معلومة ، ووجود المقتضي للإيجاب وهو الأمر عين المتنازع فيه ، ولهذا لم يقل به هنا كلّ من قال به هناك.

__________________

(١) ب : نقيضه.

٨٠