تراث الشيعة الفقهي والأصولي - ج ١

مهدي المهريزي ومحمد حسين الدرايتي

تراث الشيعة الفقهي والأصولي - ج ١

المؤلف:

مهدي المهريزي ومحمد حسين الدرايتي


الموضوع : الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-21-8
الصفحات: ٦٣٢

ثالثها : نكاح المشتبهة بالمحرّم ، ولبس أحد الثوبين المشتبهين في الصلاة مع وجود متيقّن الطهارة ، واستعمال أحد الإناءين المشتبهين ونحو ذلك حرام ، وليس ذلك إلّا لوجوب اجتناب المحرّم والنجس وتوقّف اجتنابهما على اجتناب الآخر منها (١) ، وإذا حرّم الشيء من جهة أنّ تركه وسيلة للواجب ، كان تركه موصوفا بالوجوب (٢) من تلك الجهة.

وهذه الوجوه وإن كان يمكن الخدش فيها (٣) إلّا أنّ المسألة ظنّيّة ، لا يبعد الاكتفاء فيها بهذا القدر ، فالظاهر الوجوب.

احتجّ أصحاب القول الثاني بوجوه :

الأوّل : لو وجبت للزم تعقّل الموجب له ؛ ضرورة أنّ الإيجاب خطاب اقتضاء لا يمكن بدون تعقّل متعلّقه ، لكنّ التالي باطل ؛ لانفكاكه عن تعقّل الموجب فضلا عن وجوبه.

الجواب : منع الملازمة ، وإنّما يجب تعقّل الموجب فيما أوجبه أصالة لا تبعا كما في دليل الإشارة والإيماء ، ولو سلّمت فهو هنا حاصل ؛ لأنّ الموجب هو الله تعالى ، و﴿ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ (٤) .

وفي هذا الأخير نظر ؛ لأنّ في المقدّمة الغرض نفي الاستلزام (٥) لذات الأمر مع ثبوته في الوجوب ، لا نفي الوقوع ، وقد ثبت عدم الاستلزام (٦) ؛ لتحقّق الانفكاك ، واتّفاق

__________________

(١) ألف وب : ـ منها.

(٢) حاشية الأصل : « الشرعي ، بمعنى أنّه يجب من الشارع إيجابه ، وفيه منع ؛ لأنّه إنّما يجب الإيجاب إذا علم أن لا يحصل ذلك الترك ، وأمّا إذا علم أنّ بدون الإيجاب يحصل ذلك الترك فلا نسلّم وجوب إيجابه بمعنى تعلّق الخطاب به ، والبحث ليس إلّا فيه غاية الأمر أنّه قد يوجبه [ ؟ ] الصور المعروضة ، ولم ينقل أنّه يجب عدم الإيجاب ، لا يقال : فالإيجاب عبث. قلت : البحث فيه لا في السوالب من وجوبه ، ولا نسلّم أنّ الشارع [ ... ] بلحاظ تلك الصور فتدبّر » .

(٣) ألف : فيها الخدش.

(٤) سبأ (٣٤) : ٣.

(٥) ألف : + في المقدّمة.

(٦) ب : ـ « لذات الأمر مع ثبوته في الوجوب ، لا نفي الوقوع ، وقد ثبت عدم الاستلزام » .

٣٤١

الوقوع لأمر آخر أو لزومه لأمر آخر ـ وهو عموم العلم مثلا ـ لا ينافي عدم الاستلزام لذات الأمر إلّا أن يمنع لزوم استلزام الأمر لذاته لتعلّق متعلّقه ، وإن سلّم لزوم تعقّله في الجملة وهو مكابرة.

الثاني : الواجب متعلّق الخطاب ؛ لأنّ تعلّق الخطاب داخل في حقيقة الوجوب ؛ (١) لأنّه أحد أقسام الحكم ، فكلّ واجب متعلّق الخطاب ، وما ليس بمتعلّقه فليس بواجب بعكس النقيض ، واللازم ـ أعني مقدّمة الواجب ـ ليس متعلّق الخطاب ، فليس بواجب.

وضعفه ظاهر ؛ لأنّ كون الواجب متعلّق الخطاب إن اريد به أصالة منعنا (٢) ، ودخول تعلّق الخطاب في حقيقة بهذا المعنى ممنوع ؛ إنّما (٣) الداخل فيها تعلّقه بالجملة كما في دلالة الإشارة ، وإن اريد الأعمّ منعنا انتفاءه ؛ فإنّا ندّعي تعلّق الخطاب به تبعا.

الثالث : (٤) لو استلزم وجوب ذي المقدّمة وجوبها ، لامتنع التصريح بعدم الوجوب ، لكنّه ممكن (٥) ؛ لصحّة أن يقال : أوجبت عليك الصعود ولم اوجب نصب السلّم.

الجواب : منع الملازمة فيمن يقدر على الصعود بدونه ، ومنع بطلان التالي فيمن لا يقدر ، أو منع الملازمة إن أراد صرف الأمر عن ظاهره إلى التقييد ، ومنع بطلان التالي إن لم يرد التقييد.

وعلى ما ذكرناه من أنّ المسألة ظنّيّة يمنع الملازمة ؛ لأنّ الاستلزام ظنّي ، فيجوز التصريح بخلافه.

الرابع : لو وجبت لعصي بتركها ؛ لاستلزام ترك الواجب العصيان ، وتارك نصب السلّم إنّما يعصي بترك الصعود لا بتركه حتّى لو تصوّر الصعود بدونه لم يعص.

__________________

(١) حاشية الأصل : « وما يقال من أنّ التعلّق في الوجوب والطلب ليس ذاتيّا غايته أنّه لازم بيّن لا يمكن تعقّلها بدونه ، فليس بصائر من المقصود ؛ لحصوله على التقديرين » .

(٢) ألف : منعناه.

(٣) ألف : وإنّما.

(٤) حاشية الأصل : « هذا الدليل اعتمد عليه الشيخ حسن البصري » .

(٥) حاشية الأصل : « أي مطلقا كانعدام الوجوب [ ؟ ] » .

٣٤٢

الجواب : منع بطلان التالي ؛ فإنّه أوّل المسألة ، وعدم العصيان مع تصوّر الفعل بدونه لانتفاء جهة وجوبه حينئذ ؛ لخروجه (١) عن كونه مقدّمة.

وقد يجاب أيضا بأنّ المقدّمة كالجزء ، فلا يتوزّع عليها العقاب ، ذكره الغزالي وغيره. (٢)

وفيه نظر.

الخامس : لو وجبت المقدّمة لصحّ قول الكعبي في إنكار المباح إنّه واجب ؛ لكونه مقدّمة ترك الحرام الواجب كما هو مشهور التقرير. (٣)

الجواب : منع الملازمة ، وإنّما يتمّ لو لم يتمّ ترك الحرام إلّا به ، لكنّه يتمّ بغيره من الواجبات والمندوبات والمكروهات ، والتحقيق منع كون المباح مقدّمة ترك الحرام ؛ لعدم مدخليّته في تحقّق ترك الحرام وإن اتّفق ترك الحرام معه (٤) ، وله تدقيق ليس هذا محلّه.

وقد يجاب أيضا بمنع بطلان التالي كما ألزمه بعضهم ، وكون الفعل مباحا بحسب ذاته لا ينافي وجوبه باعتبار جهة اخرى ، والإجماع على إباحته بالنظر إلى غير ذاته ممنوع.

السادس : لو وجبت ، لوجبت نيّتها (٥) ، لكنّ الإجماع على عدم وجوب نيّة المتوضّئ غسل جزء من الرأس.

الجواب : منع الملازمة ، وإنّما ذلك في الواجب أصالة ، أو فيما قصد به التعبّد ؛

__________________

(١) ألف وب : بخروجه.

(٢) انظر : قوانين الاصول ، ج ١ ، ص ١٠١ ؛ هداية المسترشدين ، ص ١٩٥ ؛ نهاية الأفكار ، ج ١ ، ص ٢٧٠ ؛ بدائع الأفكار ، ج ١ ، ص ٣١٣ ؛ مطارح الأنظار ، ص ٤٠ ؛ المنخول ، ص ١٨٥.

(٣) انظر : الاحكام للآمدي ، ج ١ ، ص ١١٢ ؛ زبدة الاصول ، ص ٧٩.

(٤) ب : بعد.

(٥) حاشية الأصل : « لأنّ فعل الواجب عبادة ، وكلّ عبادة لا يصحّ بدون النيّة لقوله عليه‌السلام : إنّما الأعمال بالنيّات » .

٣٤٣

ضرورة عدم وجوب النيّة في كثير من الواجبات كأداء الدين وردّ الوديعة ؛ لحصول المقصود منها (١) بدون النيّة ، وكذلك المقدّمة ؛ لأنّ (٢) الغرض منها (٣) التوصّل لا التعبّد فيتحقّق (٤) بدون النيّة ، ولزوم مساواة مقدّمة العبادة لها في إرادة التعبّد غير ظاهر.

السابع : لو وجبت لكانت مقدّرة شرعا حذرا من التكليف بما لا يطاق ، لكن لا تقدير لها.

الجواب : منع الملازمة ، والتكليف بما لا يطاق غير لازم ؛ للتخيير في المقادير ، وإنّما يلزم لو اريد مقدار معيّن في نفسه مبهم عندنا ، ولئن سلّمت ، لكن نمنع بطلان التالي ؛ لأنّها مقدّرة بأقلّ ما يتحقّق به التوصّل بناء على أنّ الواجب فيما نيط الوجوب فيه باسم أقلّ ما صدق عليه الاسم (٥) .

الثامن : لو وجبت المقدّمة لكانت زيادة على النصّ والزيادة عليه نسخ باطل.

الجواب : لا نسلّم أنّه زيادة عليه ، كيف ونحن نقول : إنّ له مدلولين أصليّا وتبعيّا ، مع أنّ النسخ رفع مدلوله لا إثبات ما لا يدلّ عليه مع بقاء مدلوله.

التاسع : لو وجبت لترتّب الثواب عليها ، والملازمة ظاهرة.

الجواب : منع بطلان التالي ، كيف والحجّ من بعد أكثر ثوابا منه من قرب ، كذا ذكره الغزالي.

وفي الأخير مناقشة ؛ لأنّ الخصم لا ينكر زيادة الثواب بزيادة المشقّة اللازمة من المقدّمات ، لكنّه (٦) يجعل الثواب على الفعل باعتبارها ، لا عليها إلّا أنّ هذا كلام على السند.

__________________

(١) ألف : فيها.

(٢) الأصل وب : ـ لأنّ.

(٣) ألف : فيها.

(٤) ب : ـ فيتحقّق.

(٥) انظر للمزيد : تهذيب الوصول ، ص ١١٠ و١١١.

(٦) ب : لكن.

٣٤٤

احتجّ أصحاب القول الثالث أمّا على عدم وجوب غير السبب ، فبأصالة عدم تعلّق الخطاب به ، وبالوجوه المذكورة ، وأمّا على وجوب السبب ، فبوجوه :

الأوّل : الإجماع ، نقله جماعة منهم الآمدي. (١)

الثاني : التوصّل إلى الواجب واجب إجماعا ، وليس بالشرط لما ذكر ، فتعيّن انحصار الوجوب في الأسباب.

الجواب عنهما : منع الإجماع ، كيف والخلاف مشهور ، وفي كلام ابن الحاجب إشارة إلى هذا المنع.

الثالث ـ وهو العمدة ـ : أنّ التكليف يجب أن يكون لمتعلّق القدرة ، والقدرة إنّما تتعلّق بمباشرة الأسباب ، فهي إذا متعلّقة التكليف والخطاب ، وإن تعلّق ظاهرا بالمسبّبات ، لكنّه في الحقيقة مصروف إلى الأسباب ؛ لأنّها متعلّقة القدرة ، وهذا بخلاف الشروط ، فإنّه يبقى للقدرة بعدها تعلّق بنفس الفعل ، فيصحّ انفكاك وجوبه عن وجوبها.

لا يقال : الفعل المكلّف به (٢) حادث ، فله علّة حادثة تامّة تقارنه ؛ لاستحالة تخلّف المعلول عن علّته بالزمان ، فإذا أراد المكلّف فعلا فلا بدّ من إيجاد الجزء الأخير لعلّته (٣) التامّة ، فله علّة حادثة ، وينقل الكلام إليه ، ويلزم عدم التناهي وهو ملزم عدم تحقّق ما يتّصف بالوجوب والتكليف بما لا يتناهى ، وهما محالان ، وأيضا لا يبقى لقضيّة ما لا يتمّ الواجب إلّا به موضوع محصّل ؛ لأنّ السبب نفس الواجب الذي تعلّق به الخطاب أصالة لا مقدّمته (٤) وغيره من المقدّمات غير واجب.

لأنّا نقول : ما ذكره أوّلا ليس نقضا على وجوب السبب وحده ، بل على إمكان

__________________

(١) انظر : الإحكام للآمدي ، ج ١ ، ص ١١١.

(٢) الأصل : ـ به.

(٣) ألف وب : للعلّة.

(٤) ألف : « حقيقة لا أصالة في مقدّمته » بدل « أصالة لا مقدّمته » .

٣٤٥

التكليف بالمسبّب ، ضرورة أنّ القدرة عليه إنّما تتعلّق بالذات بتحصيل أسبابه ، سواء وصفناها بالوجوب أم لا ، وننقل الكلام إلى سبب المسبّب وهكذا ، فيلزم من التكليف بالسبب القدرة على ما لا يتناهى ، فظهر أنّ هذه شبهة يتمسّك بها في نفي التكليف ، أو في نفي اختيار العبد ، لا في نفي وجوب السبب ، وكلّ ما اجيب عنها هناك ، فهو كاف في ما نحن فيه ، لكنّا نقول هنا : لا يلزم الإتيان بما لا يتناهى ؛ لانتهائه إلى الإرادة ، وكيف يتحقّق ما لا يتناهى بين حاصرين وهما الإرادة ووجوب الفعل.

و[ أمّا ] ما ذكره ثانيا فمناقشة في العبارة بعد ظهور المراد ؛ فإنّ القائل بوجوب الأسباب يجعل القول بكونها من باب ما لا يتمّ الواجب إلّا به قولا ظاهريّا مبنيّا على ما يتعارفه الجمهور من وصف المسبّبات بالوجوب.

والتحقيق عنده أنّ الموصوف بالوجوب ليس إلّا نفس السبب ، وهذا كما أنّ الخطاب بحسب الظاهر مصروف إليه ، وهو في الحقيقة مصروف إلى السبب.

ثمّ له أن يقول : إنّ للعبد فعلين على رأي أكثر المعتزلة : مباشريّا وتوليديّا ، والأوّل مقدّمة الثاني.

وقولنا : إنّ الخطاب في الحقيقة مصروف إلى الأوّل ، فيه نوع تساهل ، والغرض باعتبار كون متعلّقه مقدورا إنّما يتعلّق بالذات بالأوّل ، وتعلّق القدرة بالثاني غير تعلّقها بالأوّل.

والسبب (١) والمسبّب أمران يتعلّق بهما الخطاب في الجملة ، ويوصفان بالوجوب ، فليتأمّل.

[ احتجاج ابن الحاجب على القول الرابع : ]

احتجّ ابن الحاجب على نفي وجوب ما عدا الشرط الشرعي بما مرّ ، وعلى وجوبه بأنّه لو لم يجب لم يكن شرطا ، (٢) والتالي ظاهر البطلان ، فالمقدّم مثله.

__________________

(١) ألف : فالسبب.

(٢) انظر : الإحكام للآمدي ، ج ١ ، ص ١١٢.

٣٤٦

وبيان الملازمة أنّه على تقدير عدم وجوبه يكون الفعل صحيحا ؛ لأنّ المكلّف حينئذ يكون آتيا بجميع ما امر به.

واجيب بأنّ الشرط الشرعي لا خفاء في أنّه مأمور به ؛ إذ لا معنى لكونه شرطا إلّا وجوب الإتيان به عند الإتيان بالمشروط ، وإنّما النزاع في أنّ الأمر بالمشروط يتناوله أم لا ؟

وحينئذ إن اريد بنفي وجوبه في مقدّم الشرطيّة نفي وجوبه مطلقا ، سلّمنا الملازمة وبطلان التالي ، لكنّ اللازم وجوبه في الجملة ؛ لأنّه نقيض عدم الوجوب مطلقا ، وإن اريد نفي وجوبه بهذا الأمر ، منعنا الملازمة ؛ لأنّ عدم وجوبه بهذا الأمر لا يستلزم تحقّق الصحّة بدونه ؛ لكونه مأمورا به في الفعل بأمر آخر.

وفيه نظر ؛ لأنّ تفسير الشرطيّة بوجوب الإتيان به بعد (١) الإتيان بالمشروط إن كان بمعنى الوجوب الشرعي ، فلا يصحّ تفسير الشرطيّة (٢) إلّا عند من ينفي الحكم الوضعي ويردّه إلى الشرعي ـ والتحقيق عند المستدلّ خلافه ـ وإن كان بمعنى أنّه لا بدّ منه في صحّة المشروط شرعا ، لم يستلزم الشرطيّة كون الشرط مأمورا به لغير الأمر بالمشروط ، (٣) والتحقيق أنّ معنى الشرطيّة مجرّد كون الفعل موقوف الصحّة عليه مع قطع النظر عن تعلّق الخطاب به.

وحينئذ إذا علم وجوب شيء (٤) وشرطيّة شيء (٥) آخر في صحّته ، ولم يصرّح بوجوب هذا الشرط ، فهل يكون تعلّق الخطاب بالمشروط تعلّقا له بالشرط تبعا أم لا ؟

والتحقيق في الجواب منع الملازمة ؛ فإنّ توقّف الصحّة عليه لا يستلزم وجوبه كما ذكرنا ، وهل هو إلّا أوّل البحث ؟

__________________

(١) ألف : عند.

(٢) ألف وب : + به.

(٣) ب : بالشرط.

(٤) ألف : أمر.

(٥) ألف وب : أمر.

٣٤٧

ولا نسلّم أنّه على تقدير عدم الوجوب آت بالمأمور به فضلا عن الإتيان بجميع المأمور به ، فإنّ المأمور به هو الصلاة بعد الطهارة ، كالصلاة بعد الوقت وإن لم يكن الطهارة موصوفة بالوجوب شرعا ، غاية ما في الباب أنّه لا بدّ منها في صحّة الفعل شرعا كما أنّ الشرط (١) العقلي لا بدّ منه في تحقّق الفعل عقلا (٢) وإن كان المنع هناك أظهر ، ومنشأ الفرق بينه وبين العقلي أمران :

أحدهما : أنّ لابدّيّته شرعيّة ولابدّيّة ذاك عقليّة ، وقد عرفت أنّ هذا لا يصحّح الفرق ، فإنّ اللابدّيّة الشرعيّة غير الوجوب ، بناء على التحقيق من مغايرة الحكم الوضعي للشرعي.

وثانيهما : أنّ الشرط الشرعي لا ينفكّ غالبا عن صريح الوجوب من الشرع ، فظنّ أنّ استفادة وجوبه من الخطاب بالمشروط ، وممّا يوضح عدم الفرق أنّ القدر المعقول من الشرطيّة في شرط الواجب والمندوب كالطهارة في (٣) النافلة أمر واحد ، وهو لابدّيّته في صحّة الفعل ، فالشرطيّة من حيث هي (٤) لا تستلزم الخطاب بالوجوب ، والخطاب بالمشروط بها كالخطاب بالمشروط بالعقليّة.

وأمّا تقرير الكلام على الوجه الثاني ، فنقول : إنّ (٥) قدماء الاصوليّين لمّا أطلقوا وجوب ما لا يتمّ الواجب إلّا به ، ومنهم جماعة فيهم (٦) السيّد ـ رضي الله عنه ـ والإمام الرازي في بعض مختصراته ، كما أشرنا إليه ، وربّما ظهر من كلام أبي الحسين البصري ، وكلام النهاية ـ كما أشرنا إليه ـ لا يخلو أيضا من دلالة عليه أنّ المراد من هذا أنّ التكليف بالواجب ثابت على كلّ حال ، غير مقيّد بوجود المقدّمة ، وأنّ القول المقابل لهذا أنّ الأمر يصير مقيّدا بوجودها ، والفعل لا يجب إلّا مع اتّفاق وجود المقدّمة ، ولم يفرق القائلان بين السبب وغيره.

__________________

(١) ب : شرطه.

(٢) ألف : شرعا.

(٣) حاشية الأصل : + الفريضة و.

(٤) ب : ـ هي.

(٥) ألف : ـ إنّ.

(٦) ألف : ـ جماعة فيهم.

٣٤٨

ولمّا رأى السيّد ـ قدس‌سره ـ أنّ القول الثاني لا يمكن جريانه في السبب ؛ (١) لما ذكرنا من استلزام ذلك تقييد وجوب الشيء بوجود نفسه قيّده بغير السبب وصار إليه.

فقد تلخّص في المسألة على هذا التحرير بحسب الظاهر ثلاثة أقوال :

أحدها : إبقاء الأمر مطلقا على إطلاقه واستلزم الخطاب به الخطاب بمقدّمته كما أطلقه القدماء وعبّروا عنه بوجوب ما لا يتمّ الواجب إلّا به.

ثانيها : عدم إبقاء الأمر مطلقا على إطلاقه ، وتقييد وجوبه بوجود مقدّمته ، فلا يجب إلّا مع اتّفاق المقدّمة ولا يجب تحصيلها.

ثالثها : الفرق بين السبب وغيره ، فيبقى الواجب المطلق بالنسبة إلى السبب على إطلاقه ، ولا يتقيّد وجوب المسبّب بوجوده ، ويصرف إلى التقييد في غيره ، وهو مختار السيّد قدس‌سره. (٢)

ولمّا كان الخلاف على هذا الوجه غير متصوّر في السبب ـ كما قلنا ـ سقط القول الثالث ، وإنّما ذكرناه نظرا إلى الظاهر.

وانحصر الخلاف في غير السبب على قولين :

الأوّل (٣) وجوب المقدّمة والبقاء على الإطلاق.

والثاني صرف الأمر إلى التقييد بالشرط.

حجّة القول الأوّل ظاهرة ممّا سبق ، وحاصلها التمسّك بأصالة البقاء على الإطلاق والهرب مع بقائه ، وعدم وجوب الشرط عن تكليف ما لا يطاق.

وقد عرفت ما فيه.

__________________

(١) انظر : الذريعة إلى اصول الشريعة ، ج ١ ، ص ٨٣ و٨٤.

(٢) انظر : الذريعة إلى اصول الشريعة ، ج ١ ، ص ٨٣ و٨٤.

(٣) ألف وب : ـ الأوّل.

٣٤٩

وحجّة القول الثاني وجهان :

أحدهما ـ وهو المستفاد من كلام السيّد قدس‌سره ـ : أنّ الواجب قسمان : مطلق ومشروط ، والثابت مطلق الوجوب وهو الأعمّ (١) من الوجوب المطلق ، ولا دلالة للعامّ على شيء من خصوصيّاته ، وحينئذ فالمعلوم المقطوع به وجوبه حال وجود المقدّمة ، ووجوده قبلها مشكوك فيه ؛ لأنّه إنّما يثبت إذا كان الواجب مطلقا ـ أي غير مقيّد بها ـ وهو غير متحقّق ؛ لما ذكرنا من عدم دلالة مطلق الوجوب على النوع الخاصّ منه ، والأصل براءة الذمّة من الوجوب في غير المتحقّق.

وضعفه ظاهر ؛ فإنّ إطلاق الأمر ظاهر في الوجوب في جميع الحالات ، وليس مدلوله مطلق الوجوب بل الوجوب المطلق ، فإنّ السيّد إذا قال لعبده : اصعد السطح ، لم يصحّ منه الاعتذار بأنّه موقوف على نصب السلّم ولم تكلّفني به ، ولم يتّفق وجوده بعد ، فلا يجب عليّ ، بل المتبادر عند العقلاء أنّه أوجبه في جميع أوقات القدرة ، ولهذا يلومونه على عدم التوصّل إلى الواجب باعتبار استلزام إخلاله بالواجب.

وثانيها : لو بقي الأمر على إطلاقه ، ولم يتقيّد بالمقدّمة ، لزم إمّا خلاف الأصل أو التناقض ، والتالي بقسميه باطل ؛ أمّا الأوّل ، فلأنّ مخالفة الأصل لشغل الذمّة بلا دليل باطل بالإجماع ، وأمّا الثاني فظاهر ، ووجه الملازمة أنّا إذا أبقينا الأمر على إطلاقه وأوجبنا الفعل على كلّ حال ، فإمّا أن يوجب المقدّمة وجوبا شرعيّا ، فيلزم مخالفة الأصل ، لأصالة عدم الوجوب ، وإمّا أن لا يوجبها ، فيلزم وجوب التوصّل إلى الواجب بما ليس بواجب.

الجواب (٢) : منع استحالة التالي بقسميه ؛ أمّا الأوّل فلوجود ما يخالف الأصل ، وهو إطلاق الأمر الشامل لجميع الحالات وعدم دليل التقييد.

__________________

(١) ألف : أعمّ.

(٢) ألف : والجواب.

٣٥٠

لا يقال : ليس إثبات الوجوب حال عدم المقدّمة المخالف للأصل أولى (١) من تقييد المطلق بحال وجودها.

لأنّا نقول : بل القول بوجوب المقدّمة أولى من تقييد المطلق ؛ لأنّه إثبات ما لم يدلّ ظاهر على نفيه (٢) ، والتقييد يخالف ظاهر اللفظ.

وأمّا الثاني فلما مرّ سابقا.

هذا ، وقد نقل الإمام الرازي في بعض مختصراته لأصحاب هذا القول حجّة رديّة لا يستحقّ أن تذكر (٣) ، ويجاب عنها ، [ و] أضربنا عنها لذلك.

فقد ظهر أنّ الحقّ وجوب السبب ، وأنّ الظاهر بقاء المطلق ووجوب المقدّمة ، والله الموفّق.

تنبيهات :

الأوّل : محلّ الخلاف ـ كما ذكرنا ـ على التقديرين الامور الخارجة عن ظاهر ما يتناوله الأمر من الأسباب والشروط ، أمّا الأجزاء فكأنّه لا ريب في أنّ الأمر بالكلّ أمر بها من حيث هي في ضمنه ؛ لأنّ إيجاد الكلّ هو إيجادها كذلك ، وليس لإيجاد الكلّ أمر (٤) غير إيجاد أجزائه (٥) .

وأمّا الاستدلال عليه باستحالة وجوب المركّب بدون وجوبها ، أو باستحالة وجوده بدون وجودها فكما ترى ، وليس هو (٦) إلّا مثل قولك في الشرط : لامتناع وجوب المشروط بدون وجوب شرطه ، أو وجوده بدون شرطه.

والظاهر منه (٧) أنّ الأوّل مصادرة ، والثاني غير مستلزم للمطلوب وليس نصّا

__________________

(١) ألف وب : بأولى.

(٢) ألف : + به.

(٣) انظر : المحصول للرازي ، ج ٢ ، ص ١٩١ ـ ١٩٤.

(٤) ألف وب : + آخر.

(٥) هداية المسترشدين ، ص ٢١٦.

(٦) ألف : هذا.

(٧) ألف : ـ منه.

٣٥١

لوجوب المقدّمة من حيث عدم تعلّق الخطاب بها أصالة ، أو من حيث أصالة (١) استحقاق الذمّ بتركها أصلا ليتّجه مثله في الجزء ، أو لينتقض دليلها به ، بل (٢) لعدم ثبوت تناول الخطاب بها بوجه من الوجوه.

وعدم تحقّق كون تركها سببا للذمّ عليه ـ وإن قارنه استحقاق الذمّ على ترك الواجب الموقوف عليها كما في كلام بعض شرّاح التهذيب ـ ضعيف في هذا المقام جدّا ، وما نقله عن المواقف غير صحيح.

الثاني : تعلّق هذه المسألة بالفروع العمليّة على تقرير الخلاف بالوجه الأخير ظاهر لا شبهة به ، وأمّا على النمط المشهور فقد يظهر فائدة الخلاف في المشتبهات المشروطة بالنيّة كالصلاة في الثوبين المشتبهين ، فإنّ بعض الأصحاب منع منه وأوجب الصلاة عاريا مستدلّا باعتبار النيّة وعدم إمكان الجزم هنا مجيبا عن تحقّق الجزم بعد الفراغ منها ، بأنّ وجوه الأفعال يجب مقارنتها لأوّلها ، ولا يجوز تأخّرها عنها.

ولا ريب أنّ هذا الاستدلال إنّما يصحّ على القول بعدم وجوب المقدّمة ، أمّا على القول بوجوبها ، فالجزم بالوجوب متحقّق ، وإن لم يتميّز منعه (٣) من الأصل وغيره ، وليس ذلك شرطا في الصحّة قطعا وإن كان الجواب عن الاستدلال ممكنا بوجه آخر (٤) ، وكذا يتفرّع على المسألة المذكورة نيّة الوجوب الجازم في قضاء مجهولة التعيين ، وفي الصلاة إلى أربع جهات ، وكذا يتفرّع عليه وصف المشتبهة بالأجنبيّة بالتحريم على القول بالتصويب ، ونحو ذلك ممّا لا يخفى على الفطن في تصانيف كتب الفقه.

ويمكن أيضا تفريع بعض المسائل اللفظيّة كما لو نذر شغل الزمان بواجب ، أو علّق

__________________

(١) ألف وب : ـ أصالة.

(٢) ألف : ـ بل.

(٣) كذا.

(٤) حاشية الأصل : « وهو منع وجوب الجزم في النيّة مطلقا ، بل إنّما ذلك ممّا يمكن فيه الجزم وهاهنا لا يمكن ».

٣٥٢

الظهار على فعله ونحو ذلك.

الثالث : قسّم أبو الحسين البصري وتبعه الفخر الرازي مقدّمة الواجب إلى وصلة وغير وصلة ، والوصلة إلى سبب وغيره ، وغير السبب إلى شرط شرعي وغيره ، وغير الوصلة إلى فعل وترك ، والفعل إلى ما يفرغ الذمّة من المشتبه كالصلاة في المشتبهين وإلى ما يستوفى به الواجب كإدخال جزء من الليل في الصوم ، والترك لا يكون إلّا لالتباس الشيء بغيره إمّا في نفس الشيء الواحد كالماء المختلط بالنجاسة ، أو في شيئين فصاعدا كماء الإناءين. (١)

وهذا التقسيم لا كثرة (٢) فائدة فيه ، مع أنّه إذا اريد بالوصلة ما يتناول غير السبب ، فجميع مقدّمة الواجب وصلة ، أي له دخل في التوصّل إلى الواجب ؛ فإنّ تكرار الصلاة مع الاشتباه وصلة إلى أداء ما في الذمّة ، وإدخال جزء من الليل وصلة إلى استيفاء الواجب بيقين ، وترك الماء (٣) المختلط وصلة لاجتناب النجس ، وكذا ترك الإناءين إلّا أن يراد بالوصلة معنى آخر.

الرابع : جرت العادة أن يذكر من توابع هذا الأصل الواجب المنوط باسم إذا لم يقدّر له قدر هل يوصف ما زاد منه على أقلّ الواجب بالوجوب أو بالاستحباب ؟ وكأنّ وجه تفريعه على هذه القاعدة أنّ الواجب حيث كان هذا الأمر الكلّي الذي لا يمكن تحقّقه إلّا في ضمن فرد (٤) أو المختلفة المقادير كانت هذه الأفراد كلّها ممّا (٥) يمكن وصفها بالوجوب ، فاختلف النظر فيها ، فتارة يقال : إنّ الزائد على الأصل موصوف بالوجوب ؛ لأنّ نسبة الأمر إلى المقادير المختلفة نسبة واحدة ؛ لتساوي الجزئيّات وتناول الكلّ لها وإمكان التخيير بين القليل والكثير ، وتارة يقال : إنّ الزائد لا يوصف بالوجوب ، لجواز

__________________

(١) انظر : المحصول ، ج ٢ ، ص ١٩١ ؛ المنخول ، ص ١٨٥. وفي ألف : « كالإناءين » بدل « كماء الإناءين » .

(٢) ألف : « كثير لا » بدل « لا كثرة » .

(٣) ألف : + النجس.

(٤) ألف : الأمر.

(٥) ألف : فيما.

٣٥٣

تركه لا إلى بدل (١) ، وهو ينافي معنى الواجب.

واورد على هذا أنّ الزائد إنّما يجوز تركه إلى بدل وهو الأقلّ ، ولا استحالة أن يكون الأقلّ في ذاته فردا مستقلّا من الواجب وجزءا من فرد آخر ، وغايته التخيير بين الجزء والكلّ وهو جائز عقلا ، واقع شرعا كما في أماكن التخيير بين القصر والتمام في مشهور الأصحاب ، وقد يفرق بين متعاقب الأجزاء ودفعتها ، فيوصف الزائد في الثاني بالوجوب دون الأوّل ؛ لتحقّق البراءة في المتعاقب بالمسمّى أوّلا بخلاف الدفعي ؛ لتساوي الأجزاء في صلاحية الامتثال وعدم الترجيح.

وفيه ضعف ؛ لأنّ جواز الترك لا إلى بدل قائم في الصورتين ، واستواء الأجزاء عندنا لا يقدح ، فإنّ الله يحتسب المسمّى واجبا (٢) ، ويلغي الزائد من الوجوب ، وإن وقع في صحبة الواجب ، وهذا كما لو دفع خصال الكفّارة دفعة ، فإنّ الموصوف بالوجوب أحدها ، وتساويها في صلاحية الامتثال دفعة لا يخرجها كلّها إلى وصف الوجوب ، والمسألة محلّ إشكال ؛ إذ يمكن أن يقال : المتبادر من الواجب ما لم يجز تركه إلّا إلى بدل ابتداء بحيث يكون المكلّف عند أوّل إيقاعه لا مندوحة له عنه إلّا بالعدول إلى بدله بعد تركه. وما نحن فيه كذلك ، وإنّما يصير الأقلّ المنقول قبله بدلا.

ويمكن أن يقال : إذا ثبت التخيير بين الجزء والكلّ ، كان الامتياز بينهما ابتداء بالقصد ، فلا يقع الأقلّ بدلا إلّا إذا قصد ابتداء ، فيصدق أنّ العدول عن الأكثر إلى بدل هو الأقلّ ، ويتفرّع عليه ما ذكره بعض المتأخّرين من أنّه لو قصد الامتثال بالأكثر ابتداء ، لم يجز الأقلّ ؛ لوقوعه في ضمن قصد الجزئيّة. ويؤيّد هذا الوجه أنّ ظاهرهم الإجماع على وصف الزائد بالرجحان ولا أمر ثمّة إلّا الأمر المقتضي للوجوب لأصالة عدم ما سواه ، ولأنّه لو كان ثمّة أمر آخر بوجوب أو ندب ، لارتفع الخلاف.

وإذا انحصر الدليل في أمر الوجوب ، كان الحكم باستحباب الزائد قولا بلا دليل ،

__________________

(١) ألف : ـ لا إلى بدل.

(٢) ألف : زائدا.

٣٥٤

فإنّ الدليل إن أفاد الوجوب ، وإلّا بقي على أصل الإباحة.

والتحقيق أنّ وصف الزائد بالوجوب وإن كان ممكنا ؛ لجواز التخيير بين الجزء والكلّ ، إلّا أنّ الوجوب (١) منفيّ بالأصل ، وبأنّه خلاف الغالب ، بل قد يناقش في تحقّقه ، ويقال : (٢) التخيير بين القصر والتمام قد يخدش بأنّ كلّا من صلاتي القصر والتمام صنفان متغايران خصوصا على القول بوجوب التسليم ، ولا يكون من قبيل التخيير بين الجزء والكلّ ، والتخيير بين الفردين بمجرّد القصد إثبات ما لم يدلّ عليه دليل ، ومجرّد الاحتمال لا يكفي في ارتكاب مخالفة الظواهر والاصول ، فالقول بعدم وجوب الزائد أظهر.

وأمّا الحكم برجحان الزائد مع انتفاء دليل آخر غير الأمر بالمسمّى ، فإن ثبت الإجماع عليه فهو الدليل ، وإلّا منعنا وصفه بالرجحان أيضا ، ويمكن توجيه الرجحان في الجملة بأنّ المكلّف حيث لم يقدّر له قدر (٣) ، فلا بدّ غالبا من زيادته على المسمّى زيادة متفاوتة غير مضبوطة ، فلو لم يكن الزائد راجحا ، لزم إضاعة عمله ، حتّى لو أراد الاحتراز عن إضاعة العمل ، لم يمكنه غالبا أو شقّ عليه ، فالظاهر من فحوى الشرع ترتّب الثواب عليه وهو كما ترى.

ثمّ في الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة (٤) اقتضاء الأمر التكرار أو الوحدة ، أو عدم اقتضاء أحدهما نظر ، فإنّ موضوع هذه وإن كان هو الأمر بالمسمّى الصادق مع المقادير المختلفة ، وموضوع تلك الأمر بالماهيّة المتحقّقة في ضمن التكرار والوحدة إلّا أنّ معنى الامتثال فيهما بالأقلّ والأكثر واحد كما لا يخفى ، بل نسبة الامتثال هنا إلى الأكثر أقرب منه هناك (٥) ؛ لأنّ جعل المجموع الواحد بالاتّصال ـ الذي يسمّى في العرف

__________________

(١) ب : ـ « وإن كان ممكنا لجواز التخيير بين الجزء والكلّ ، إلّا أنّ الوجوب » .

(٢) ب : + إنّ.

(٣) ألف وب : + معيّن.

(٤) ب : ـ مسألة.

(٥) ألف : ـ هناك.

٣٥٥

واحدا ـ فردا (١) من المسمّى يتناوله الأمر به تناول تخيير أولى من جعل الأفراد المتعدّدة كلّها فردا واحدا.

فالقول بأنّ المأمور به في مسألة (٢) اقتضاء الأمر الوحدة أو التكرار أو عدم اقتضائه أحدهما الماهيّة الكلّيّة الصادقة في ضمن المرّة والمرّات المتعدّدة ، وفي هذه المسألة هو الأقلّ ، والزائد موصوف بالاستحباب ، كما ذكره جماعة منهم الغزالي والفخر الرازي والآمدي وشيخنا (٣) وبعض المتأخّرين من مشايخنا بعيد جدّا ، والعكس أقرب إلى الظاهر ، فإنّ المقدار المتّصل مثلا في المسح قد يعدّ فردا واحدا ، وداخلا في المسمّى ، ولا يعدّ مجموع المسمّيات المتكرّرة فردا واحدا ، وعلى ما يذهب إليه في مسألة أنّ الأمر يقتضي الوحدة أو التكرار أو لا يقتضي أحدهما من أنّه (٤) بحسب اللغة لا يقتضي شيئا منهما لكنّه بحسب (٥) العقل ظاهر في الوحدة بمعنى تحقّق الامتثال بها وعدم دخول المرّات الزائدة في الامتثال لما أشرنا إليه في هذه المسألة بعينه (٦) ، فالمسألتان عندنا واحدة ، والله وليّ التوفيق ، وكتب السيّد (٧) ماجد بن هاشم الحسيني بخطّه دام ظلّه (٨) .

__________________

(١) ب : فردا واحدا.

(٢) ألف : ـ « المأمور به في مسألة » .

(٣) ألف : + العلّامة.

(٤) ب : « شيئا منهما لكنّه » بدل « أحدهما من أنّه » .

(٥) ب : ـ « اللغة لا يقتضي شيئا منهما لكنّه بحسب » .

(٦) حاشية الأصل : « فإنّ المعلوم من الأمر طلب إيجاد الماهيّة ، وهو يتحقّق في ضمن الواحدة ، فالباقية يقع لغوا ، وإلّا لزم طلب الحاصل ؛ إذ الماهيّة المطلوبة حاصلة بالأوّل ، فإذا كان الأفراد الباقية داخلة تحت امتثال الأمر ، لزم أن يكون الظاهر خصوصيّة الأفراد لا الماهيّة ، وليس كذلك » .

(٧) ألف : الفقيه.

(٨) ألف : ـ « بخطّه دام ظلّه » . وفي حاشية ألف : « هذه صورة خطّ المصنّف ، أوجب الله له الجنّة بحرمة محمّد وعترته الطاهرة المطهّرة » . وفي ب : « والله الموفّق المعين ، والحمد لله ربّ العالمين » بدل « والله وليّ التوفيق ـ إلى ـ دام ظلّه » .

٣٥٦

٥

نزهة الأسماع في حكم الإجماع

محمّد بن الحسن الحرّ العاملي ( م ١١٠٤ ق )

تحقيق

محمّد حسين الدرايتي

٣٥٧
٣٥٨

مقدّمة التحقيق

ترجمة المؤلّف (١)

هو المحدّث المتبحّر الخبير محمّد بن الحسن بن عليّ بن محمّد الحرّ العاملي ، ترجم لنفسه في الأمل بقوله :

مؤلّف هذا الكتاب كان مولده في قرية مشغرى ليلة الجمعة ثامن رجب سنة ١٠٣٣ ، قرأ بها على أبيه وعمّه الشيخ محمّد الحرّ ، وجدّه لامّه الشيخ عبد السلام بن محمّد الحرّ ، وخال أبيه الشيخ عليّ بن محمود وغيرهم ، وقرأ في قرية جبع على عمّه أيضا ، وعلى الشيخ زين الدين بن محمّد بن الحسين بن زين الدين ، وعلى الشيخ حسين الظهيري وغيرهم.

وأقام في البلاد أربعين سنة وحجّ فيها مرّتين ، ثمّ سافر إلى العراق فزار الأئمّة عليهم‌السلام ، ثمّ زار الرضا عليه‌السلام بطوس واتّفق مجاورته بها إلى هذا الوقت مدّة أربع وعشرين سنة ، وحجّ فيها أيضا مرّتين ، وزار أئمّة العراق عليهم‌السلام أيضا مرّتين.

ثمّ ذكر مؤلّفاته وبعض أشعاره (٢)

__________________

(١) مصادر ترجمته : أمل الآمل ، ج ١ ، مقدّمة التحقيق ، وج ١ ، ص ١٤١ ـ ١٥٤ ؛ وسائل الشيعة ، ج ١ ، مقدّمة التحقيق ، وج ٣٠ ، ص ٤٦٨ ـ ٤٦٩ ، فائدة ١٢ ؛ جامع الرواة ، ج ٢ ، ص ٩٠ ؛ سلافة العصر ، ص ٣٥٩ ـ ٣٦٠ ؛ خلاصة الأثر ، ج ٣ ، ص ٤٣٢ ـ ٤٣٥ ؛ لؤلؤة البحرين ، ص ٧٦ ـ ٨٠ ؛ روضات الجنّات ، ج ٧ ، ص ٩٦ ـ ١٠٥ ؛ خاتمة المستدرك ، ج ٢ ، ص ٧٧ ؛ الكنى والألقاب ، ج ٢ ، ص ١٥٨ ؛ الفوائد الرضوية ، ص ٤٧٣ ـ ٤٧٧ ؛ أعيان الشيعة ، ج ٩ ، ص ١٦٧ ـ ١٧١ ؛ طبقات أعلام الشيعة ( الكواكب المنتثرة ) ، ج ٦ ، ص ٦٥٥ ـ ٦٥٩ ؛ مصفى المقال ، ص ٤٠١ ؛ الغدير ، ج ١١ ، ص ٣٣٥ ـ ٣٤٠ ؛ شهداء الفضيلة ، ص ٢١٠.

(٢) أمل الآمل ، ج ١ ، ص ١٤١ ـ ١٤٢.

٣٥٩

وصرّح في خاتمة الأمل (١) أنّ وروده المشهد الرضوي كان سنة ١٠٧٣.

قال المحبّي في خلاصة الأثر :

قدم مكّة سنة ١٠٨٧ أو ١٠٨٨ ، وفي الثانية منهما قتلت الأتراك بمكّة جماعة من العجم لمّا اتّهموهم بتلويث البيت الشريف حين وجد ملوّثا بالعذرة ، وكان صاحب الترجمة قد أنذرهم قبل الواقعة بيومين وأمرهم بلزوم بيوتهم لمعرفته على ما زعموا بالرمل ، فلمّا حصلت المقتلة فيهم خاف على نفسه ، فالتجأ إلى السيّد موسى بن سليمان أحد أشراف مكّة الحسنيين ، وسأله أن يخرجه من مكّة إلى نواحي اليمن ، فأخرجه مع أحد رجاله إليها. (٢)

وفي الروضات :

وقد مرّ قدس‌سره في طريق سفره إلى المشهد المقدّس بأرض أصفهان ، ولاقى بها كثيرا من علمائنا الأعيان ، ومن آنسهم به صحبة وأمسّهم به اخوّة في تلك البلدة هو سميّنا العلّامة المجلسي أعلى الله مقامه ، وكان كلّ واحد منهما أيضا قد أجاز صاحبه هناك ، حيث يقول صاحب الترجمة في بيان ذلك ـ بعد تفصيله أسماء الكتب المعتمدة التي ينقل عنها في كتاب الوسائل ـ : ونرويها أيضا عن المولى الأجل الأكمل الورع المدقّق مولانا محمّد باقر بن الأفضل الأكمل مولانا محمّد تقي المجلسي أيّده الله تعالى ، وهو آخر من أجازني وأجزت له ... وذكر سميّنا العلّامة أيضا نظيره في مجلّد الإجازات من البحار. (٣)

كان رحمه‌الله متوطّنا في المشهد المقدّس الرضوي واعطي شيوخة الإسلام ومنصب القضاء إلى أن توفّي في ٢١ شهر رمضان سنة ١١٠٤ ودفن في الصحن العتيق.

قال أخوه الشيخ أحمد في درّ المسلوك :

__________________

(١) أمل الآمل ، ج ٢ ، ص ٣٧٠.

(٢) خلاصة الأثر ، ج ٣ ، ص ٤٣٢ ـ ٤٣٣.

(٣) روضات الجنّات ، ج ٧ ، ص ١٠٣ ـ ١٠٤.

٣٦٠