مجاز القرآن خصائصه الفنيّة وبلاغته العربيّة

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

مجاز القرآن خصائصه الفنيّة وبلاغته العربيّة

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المؤرّخ العربي
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨٢
١٤١

١ ـ المجاز اللغوي بين الاستعارة والمجاز المرسل

ليس جديدا أن يكون عبد القاهر ( ت : ٤٧١ هـ ) هو أول من تنبه شخصيا ، ونبه الآخرين الى الفروق المميزة بين الاستعارة والمجاز المرسل في حديثه عن المجاز اللغوي ، حينما قرن المجاز بالاستعارة ، باعتبار علاقته غير المشابهة ، وعلاقة الاستعارة هي المشابهة(١).

وقد سبق لنا القول فيما مضى من هذا الكتاب(٢) : إن المجاز اللغوي ذو فرعين في التقسيم البلاغي ، لأن مجاله رحاب اللغة في الانتقال بالألفاظ من معنى الى معنى ، مع وجود القرينة الدالة على المعنى الجديد.

وحديثنا هو القرينة في علاقتها ، فإن كانت العلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي هي المشابهة ، فالمجاز يسمى إستعارة ، وإن كانت العلاقة هي غير المشابهة ، فهو المجاز المرسل.

ويتضح هذا التقسيم من خلال بلورة الحد الاصطلاحي لكل من الاستعارة المجاز المرسل بإيجاز حد الاستعارة كما يراه أبو عثمان الجاحظ ( ت : ٢٥٥ هـ ) هو تسمية الشيء باسم غيره إذا قام مقامه(٣).

وبديهي من تعريفه عنايته بالجانب اللغوي لعدم تجلي حدود هذه المعالم إصطلاحيا في عصره ، وإن انطبق تعريفه على جزء المعنى الإصطلاحي.

وهناك حدود متقاربة المعنى ، ومتشابكة المبنى في تعريف الاستعارة عند كل من :

__________________

(١) عبد القاهر ، أسرار البلاغة : ٣٧٦.

(٢) ظ : تقسيم المجاز القرآني في هذا الكتاب.

(٣) ظ : الجاحظ ، البيان والتبيين : ١/ ١٥٣.

١٤٢

ابن قتيبة ( ت : ٢٧٦ هـ ) (١)

ثعلب ( ت : ٢٩١ هـ ) (٢)

ابن المعتز ( ت : ٢٩٦ هـ ) (٣)

القاضي الجرجاني ( ت : ٣٦٦ هـ ) (٤)

علي بن عيسى الرماني ( ت : ٣٨٦ هـ ) (٥)

وهذه التعريفات وما تبعها من التفريعات متشابهة في الإشارة الى المصطلح حسنا ، والى العناية بالموروث اللغوي للاستعارة حينا آخر (٦).

ومع هذا فإننا نميل الى الكشف العلمي فيما أبانه : ابو الهلال العسكري ( ت : ٣٩٥ هـ ) في تعامله مع المصطلح الاستعاري معاملة جديدة. إذ أعطى التعريف بوضوح مع التمثيل القرآني الدقيق فقال عن الاستعارة أنها :

« نقل العبارة عن موضع استعمالها في أصل اللغة الى غيره لغرض وذلك الغرض إما أن يكون : شرح المعنى وفضل الإبانة عنه ؛ أو تأكيده والمبالغة فيه ، أو الإشارة اليه بالقليل من اللفظ ؛ أو تحسين المعرض الذي يبرز فيه.

وهذه الأوصاف موجودة في الاستعارة المصيبة ، ولولا أن الاستعارة المصيبة تتضمن ما لا تتضمنه الحقيقة من زيادة فائدة ، لكانت الحقيقة أولى منها استعمالا » (٧).

إن هذه الإبانة في تلخيص النقل للمعنى من لفظ الى لفظ ، وإن عبّر

__________________

(١) ظ : ابن قتيبة ، تأويل مشكل القرآن : ١٠٢.

(٢) ثعلب ، قواعد الشعر : ٤٦.

(٣) ظ : ابن المعتز ، البديع : ٢.

(٤) ظ : القاضي الجرجاني ، الوساطة بين المتنبي وخصومه : ٤١.

(٥) ظ : الرماني ، النكت في إعجاز القرآن ، ضمن ثلاث رسائل : ٧٩.

(٦) ظ : تفصيلات ذلك عند المؤلف : أصول البيان العربي : ٩٠.

(٧) العسكري ، الصناعتين : ٢٧٤.

١٤٣

عنه بالعبارة تجوزا ، واستحداث معنى جديد في اللفظ ، وجعل الكلمة ذات دلالة لم تجعل لها في أصل اللغة ، وإضافة الفائدة في النقل الاستعاري بدلا من الاستعمال الحقيقي ، إنما هو جوهر الاستعارة وروحها ، فضلا عن كونه كشفا جديدا متوازنا في صنوف الاستعارة وشؤونها ؛ وهو متناسب مع ما أكده فيما ضربه من نموذج قرآني رفيع ، شاهدا على ذلك بقوله :

« والشاهد على أن للاستعارة المصيبة من الموقع ما ليس للحقيقة أن قوله تعالى : ( يوم يكشف عن ساق ) (١) أبلغ وأحسن وأدخل مما قصد له من قوله لو قال : يوم يكشف عن شدة الأمر ، وأن كان المعنيان واحدا ، ألا ترى أنك تقول لمن تحتاج الى الجد في أمره : شمر عن ساقك فيه ، وأشدد حيازمك له. فيكون هذا القول أوكد في نفسه من قولك : جد في أمرك » (٢).

وما ذهب اليه أبو هلال منتظم لما وجدنا عليه أرسطوا من ذي قبل حينما عدّ الاستعارة : من أعظم الأساليب الفنية ، وأنها آية الوهبة التي لا يمكن تعلمها من الآخرين (٣).

ويرى عبد القاهر ( ت : ٤٧١ هـ ) في الاستعارة : أنك تثبت بها معنى لا يعرف السامع ذلك المعنى من اللفظ ، ولكنه يعرفه من معنى اللفظ(٤). وهو هنا يتحدث عن عائدية الاستعارة وفضلها ، ويعرفها بقوله :

« الاستعارة أن تريد تشبيه الشيء وتظهره ، وتجيء الى اسم المشبه به فتعيره المشبه وتجريه عليه » (٥).

ويتضح من عايدية الاستعارة وتعريفها عند عبد القاهر : أن هناك لفظا ومعنى ، وهناك معنى اللفظ ، والاستعارة تختص بالألفاظ ، ولكنه قد أشرك المضمون بالإضافة الى الشكل في جلاء الصورة الاستعارية ، أو المعنى في

__________________

(١) القلم : ٤٢.

(٢) العسكري ، الصناعتين : ٢٧٤.

(٣) ظ : شكري عياد ، أرسوط طاليس ، فن الشعر : ١٧٦.

(٤) عبد القاهر ، دلائل الإعجاز : ٣١.

(٥) المصدر نفسه : ٥٣.

١٤٤

إدراك مؤدي اللفظ ، وكأنه يريد بذلك : معنى المعنى ، أو المعاني الثانوية في الألفاظ.

إن ما أبداه عبد القاهر في الصيغة الإصطلاحية قد تتبعه بالإشارات بعده كل من :

فخرالدين الرازي ( ت : ٦٠٦ هـ ) (١)

السكاكي ( ت : ٦٢٦ هـ ) (٢)

ابن الأثير ( ت : ٦٣٧ هـ ) (٣)

ابن أبي الأصبع ( ت : ٦٥٤ هـ ) (٤)

ابن مالك ( ت : ٦٨٦ هـ ) (٥)

الخطيب القزويني ( ت : ٧٣٩ هـ ) (٦)

حقا لقد استفاد هؤلاء من منهج عبد القاهر في تحديد الاستعارة. وقد خلص لنا مما أرساه أبو هلال ، وما أبانه عبد القاهر : أن الاستعارة جارية في الألفاظ على سبيل النقل اللغوي لغرض تشبيهي.

أما المجاز المرسل فحقيقته جاءت على أساس عدم ارتباطه بعنصر المشابهة في ملابسته للمعنى بغير التشبيه ، وتسميته جاءت لخلوه من القيود وسلامته من الحدود ، فالإرسال لغة : الإطلاق. وأرسله بمعنى أطلقه ، لا شك في هذا ، ولما كانت الاستعارة مقيدة بادعاء أن المشبه من جنس المشبه به ، كان المجاز المرسل مطلقا من هذا القيد ، وحرا من هذا الأرتباط ، فهو طليق مرسل وكفى.

ويبدوا أن السكاكي ( ت : ٦٢٦ هـ ) هو أول من أطلق هذه التسمية

__________________

(١) ظ : الرازي ، نهاية الإيجاز : ٨٢.

(٢) ظ : السكاكي ، مفتاح العلوم : ١٧٤.

(٣) ظ : ابن الأثير ، المثل السائر : ١/ ٣٦٥.

(٤) ظ : ابن أبي الأصبع ، بديع القرآن : ١٩.

(٥) ظ : ابن مالك ، المصباح : ٦١.

(٦) ظ : القزويني ، الإيضاح : ٢٧٨ ـ ٤٠٧ تحقيق الخفاجي.

١٤٥

عليه(١). وأن كان من سبقه قد أدرك الفرق بين الاستعارة وهذا النوع من المجاز ، ولكنه لم ينص عليه إلا من خلال علاقة غير المشابهة كما هي الحال عند عبد القاهر(٢).

وجاء الخطيب القزويني ( ت : ٧٣٩ هـ ) فتابع السكاكي في التسمية والتعريف معا ، فقال عنه :

« وهو ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه ، وما وضع له ملابسة غير التشبيه ، كاليد إذا استعملت في النعمة ، لأن من شأنها أن تصدر عن الجارحة ، ومنها تصل الى المقصود بها ، ويشترط أن يكون في الكلام إشارة الى المولي لها ، فلا يقال : اتسعت اليد في البلد ، أو اقتنيت يدا ، كما يقال : اتسعت النعمة في البلد ، أو اقتنيت نعمة ، وإنما يقال : جلّت يده عندي ، وكثرت أياديه لدي ونحو ذلك » (٣).

وفي هذا التعريف والتنظير تبدو العلاقة بين الاستعمال الحقيقي والمعنى المجازي ، وتظهر الفروق المميزة بين الاستعارة والمجاز المرسل. فبالنسبة لليد ، وهي وإن كانت جارحة لا تتصرف إلا بأمر من الإنسان نفسه ، إلا أنها تستعمل فيما يصدر عنها من العطاء في مقام النعمة ، والبطش في مقام القوة ، والضرب عند التأديب والانتقام ، وبها يتعلق الأخذ والعطاء ، والمنع والدفع ، والصد والرد ، وكل صادر عنها بعلاقة ومناسبة غير المشابهة لدى الاستعمال المجازي ، وإنما بالأثر والقوة والقدرة والوطئة ، ولا مشابهة بين هذه الآثار وبين الجارحة نفسها ماهية وحقيقة.

لهذا فقد كان اختيار علاقة غير المشابهة للمجاز المرسل ، وعلاقة المشابهة للاستعارة ، اختيار موفقا لدى التفريق بينهما ، فكما كانت الملابسة بين اليد والنعمة واضحة في غير المشابهة بين الحقيقتين ، فكذلك ملابسة المشابهة واضحة في الاستعمال الاستعاري بين المشبه والمشبه به

__________________

(١) ظ : السكاكي ، مفتاح العلوم : ١٩٥ وما بعدها.

(٢) ظ : عبد القاهر ، أسرار البلاغة : ٣٧٦.

(٣) القزويني ، الإيضاح : ٢٨٠ ، ٣٩٧ تحقيق الخفاجي.

١٤٦

في كلمة « نسلخ » من قوله تعالى : ( وءاية لهم الليل نسلخ منه النهار ... ) (١).

فشبه سبحانه سلخ النهار من الليل ، بسلخ جلد الشاة ، والسلخ حقيقة إنما يستعمل في هذا المعنى ونظائره فكما كانت الشاة وجلدها ملتحمين ففك التحامهما بالسلخ ، فأصبح كل منهما حقيقة قائمة بذاتها ، فكذلك فك التحام الليل بالنهار فأصبح كل منهما حقيقة قائمة بذاتها ، وأجرى على هذه العملية لفظ السلخ بلحاظ المشابهة بين الحقيقتين في الالتحام قبل السلخ والانفصال التام بعد السلخ ، فكما هو هناك فهو هنا ، وذلك جار على الاستعمال المجازي أيضا ، ولكن بمنظور المشابهة ، وهذه هي علاقة المشابهة التي تختص بالاستعارة ، وما تقدم علاقة غير المشابهة التي تختص بالمجاز المرسل.

٢ ـ انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن

نحن في غنى عن القول بانتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن ، فذلك أمر له دلائله وشواهده في القرآن العظيم ، والسبب في هذا الذيوع وذلك الأنتشار ، أن المجاز المرسل هو وسيلة العربية في إضافة المعاني الجديدة ، وهو وسيلة اللغة في الإضاءة والتنوير ، وهو طريق المبدعين في الإفاضة والبيان ، وانتشار ذلك في القرآن دربة لأهل اللغة من وجه ، ودليل على الإعجاز البياني من وجه آخر ، ولعل في خصائص المجاز الفنية فيما سبق إشارة موحية بهذا الملحظ بالذات ، ومعبرة عن هذا المدرك نفسه بما لا مزيد عليه.

وسترى في نماذج المجاز المرسل ووجوه علاقته في النقل عن الأصل اللغوي ، كيف أن هذا المجاز قد تخطى حدود الدائرة اللغوية الى الدائرة الفنية ، وكيف تجوز بالاتساع الى مناخ الغنى في المفردات والمعاني ، وكيف استطاع فيه القرآن أن ينقل الذهن العربي الى أفق جديد ، متمّيز بالابتكار ويمدّه بحياة لغوية ثانوية متسمة بالشمولية والإبداع.

كان سبيل هذه النظرات الصائبة هو المجاز اللغوي المرسل في

__________________

(١) يس : ٣٧.

١٤٧

سلامة أدائه ، ودقة تعبيره ، واستقرار قاعدته في المسيرة البيانية واللغوية المتطورة.

إن استقراء ذيوع المجاز اللغوي المرسل ، وسيرورة انتشاره في القرآن يمكن رصده بعدة ظواهر إيحائية ، نرصد جزءا حيويا منها في هذا المبحث ويتكفل مبحث علاقة المجاز بالجزء الآخر منها. وهنا نقف عند ظاهرتين إيحائيتين تضيفان على اللفظ الجاري أكثر من معناه الأولي السائر في الأذهان ؛ هاتان الظاهرتان تلتمسان باعتبارهما دلائل فنية على صدق الدعوى ، وبرمجة الموضوع ، تلك الدلائل لا تعدو كونها إمارات وعلامات وضعت في الطريق لمن أراد الهداية والاستزادة معا ، وليست هي كل شيء ، إذ جاءت على سبيل التمثيل لا سبيل الإحصاء والاستقصاء ، لأنه أمر قد يتعذر الوصول اليه ، أو الوقوف عليه ، لبعد أغواره ، وتجاوز أبعاده حد الاستيعاب.

وسيكون التماسنا لهاتين الظاهرتين مؤشرا بارزا على سيرورة المجاز اللغوي المرسل في القرآن ، وذيوعه ، ويقاس ـ حينئذ ـ عليه ما هو قريب اليه ، إذ لا ضرورة لاتخام الموضوع بالإضافات التي قد يتوصل اليها الباحث بعد الإعلام.

الظاهرة الاولى : ـ وتتجلى أبعادها في رد المتشابه من الآيات الى المحكم منه ، لحسم النزاع ورد الإشكال ، ومعالجة النصوص في ضوء التعبير المجازي ، فلا عنت ولا تعسف ولا غلو ، ومن أمثلته الوقوف عند إزاغة القلوب المنسوبة الى الله تعالى في كل من قوله تعالى :

أ ـ ( ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة أنك أنت الوهاب * ) (١)

ب ـ ( فلمّا زاغوا ازاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين ) (٢) فقد حملت الآية الأولى على ظاهرها إزاغة القلوب له سبحانه ، بدعوى أنها إن لم تكن منه تعالى فما معنى الدعاء بأن لا يفعلها ، وهذا ما لا يجوز عليه

__________________

(١) آل عمران : ٨.

(٢) الصف : ٥.

١٤٨

سبحانه إلا على سبيل المجاز والاتساع ، لأن الله تعالى لا يضل عن الأيمان ، ولا يوقع في الضلالة والكفران ، والنظر في هذا ملحوظ بعين القبح العقلي.

وقد نصت الآية الثانية : أن الله تعالى يزيغ من زاغ ، ونسبته اليه ظاهرة.

حقا إن الاتساع في المجاز هو الذي يتجاوز هذه العقبات بيسر ، ويدرأ هذه الشبهات بمرونة.

فقد ذهب بعضهم في معنى ذلك أنه دعاء الى الله وتوجه إليه بأن : ثبتنا بألطافك ، وزد من عصمك وتوفيقك ، كي لا نزيغ بعد إذ هديتنا ، فنكون زائغين في حكمك ، ونستحق أن تسمينا بالزيغ وتدعونا به وتنسبنا إليه ، لأنه لا يجوز أن يقال :

إن الله سبحانه أزاغهم إذ سماهم بالزيغ ، وإن كانوا هم الفاعلين له ، على مجاز اللغة ، لا أنه تعالى أدخلهم في الزيغ ، وقادهم الى الاعوجاج والميل ، ولكنهم لما زاغوا عن أوامره ، وعَنِدوا ما فرض الله من فرائضه ، جاز أن يقال : قد أزاغهم كما قال سبحانه بالنسبة للسورة ( فزادتهم رجسا الى رجسهم (١٢٥) ) (١) وفيما اقتصه عن نوج عليه‌السلام ( فلم يزدهم دعآءي إلاّ فرارا (٦) ) (٢) أو يكون لما منعهم ألطافه وفوائده جاز أن يقال : أنه أزاغهم مجازا ، وإن كان تعالى لم يرد إزاغتهم (٣).

ولقد وقف الشريف الرضي ( ت : ٤٠٦ هـ ) من هذه المدارك موقف الناقد الخبير ، والفاحص الرائد ، فأورد جملة من آراء العلماء في ذلك ، وأفاض برأيه بعد إيرادها ، وحملها على الاتساع في اللغة ، والمجاز من القول ، ورد المتشابه من الآي الى المحكم منها ، وذهب في هذه الآية أن لا يكون معناها محمولا على ظاهره ، لأنه يقودنا الى أن نقول : إن الله

__________________

(١) التوبة : ١٢٥.

(٢) نوح : ٦.

(٣) ظ : الشريف الرضي ، حقائق التأويل : ٥/ ١٩.

١٤٩

سبحانه يضل عن الإيمان ، وقد قامت الدلائل على أنه سبحانه لا يفعل ذلك لأنه قبيح ، وهو غني عنه ، وعالم باستغنائه عنه ، ولأنه تعالى أمرنا بالايمان وحببنا إليه ، ونهانا عن الكفر وحذرنا منه ، فوجب إلا يضلنا عما أمرنا به ، ولا يقودنا الى ما نهانا عنه ، وإذا لم يكن ذلك محمولا على ظاهره ، فاحتجنا الى تأويله في الوجوه التي قدمنا ذكرها ، فهو متشابه ، لأن موقفه من صفة المتشابه إلا يقتبس علمه من ظاهره وفحواه ، فوجب رده الى ما ورده من المحكم في هذا المعنى ، وهو قوله تعالى :

( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) (١).

قال الشريف الرضي « فعلمنا أن الزيغ الأول كان منهم ، وأن الزيغ الثاني كان من الله سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، وعلمنا أيضا أن الزيغ الأول غير الزيغ الثاني ، وأن الأول قبيح إذ كان معصية ، والثاني حسن إذ كان جزاء وعقوبة ، ولو كان الأول هو الثاني لم يكن للكلام فائدة ، وكان تقديره :

فلما مالوا عن الهدى أملناهم عن الهدى ، فكان خلفا من القول يتعالى الله عنه ، لأن الكفر الذي حصل في الكفار الذين وصفهم سبحانه بميلهم عن الأيمان ، وإزاغته تعالى لهم إنما كانت عن طريق الجنة والثواب ، وأيضا فإن هذا الفعل لما كان من الله سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، علمنا أنه من غير جنس الذي فعلوه ، لأن العقوبة لا تكون من جنس المعصية إذ كانت المعصية قبيحة ، والعقوبة عليها حسنة » (٢).

فالشريف الرضي في رده المتشابه الى المحكم ، قد حمل معنى الإزاغة اتساعا على معنى الجزاء والعقوبة كما هي الحال في قوله تعالى : ( فمن اعتدى عليكم فأعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) (٣).

وكقوله تعالى : ( وجزاؤُا سيّئةٍ سيئّةٌ مثلُها ... ) (٤).

__________________

(١) الصف : ٥.

(٢) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : ٥/ ٢٣ وما بعدها.

(٣) البقرة : ١٩٤.

(٤) الشورى : ٤٠.

١٥٠

فقد أطلق الاعتداء على ظاهره ، وأريد به الجزاء والعقوبة في واقعه ، إذ ليس الجزاء اعتداء ، وقد عبر عن المقاصة بالسيئة ، وليس ذلك سيئة ، ولكنه سبب منها ، فأطلقت عليه ، وكذلك معنى الإزاغة ههنا فيما حمله عليه الشريف الرضي ، فاعتبر الزيغ الأول غير الزيغ الثاني ، فالأول زيغ عن الإيمان ، والثاني العقوبة على الميل ، والانحراف عن الهدى الى الضلال ، فهو ليس من جنسه ، وإنما سمي كذلك مجازا ، وهو يعقب على ذلك ، ويدافع عن وجهة نظره فنيا فيقول : « وبعد فإنه سبحانه لم يذكر في هذه الآية أنه ابتدأ بأن أزاغ قلوبهم ، بل قال : ( فلمّا زاغوا أزاغ الله قلوبهم )(١). فأخبر تعالى أنه إنما فعل ذلك بهم عقوبة على زيغهم ، وجزاء على فعلهم ، فمنعهم الألطاف والفوائد التي يؤتيها سبحانه من آمن به ، ووقف عند حدّه ، وخلاّهم واختيارهم ، وأخلاهم من زيادة الهدى التي ذكر سبحانه في كتابه فقال : ( والذين اهتدوا زادهم هدى وءاتاهم تقواهم (١٧) ) (٢).

فأضاف سبحانه الفعل بالإزاغة الى نفسه ، على اتساع مناهج اللغة في إضافة الفعل الى الأمر ، وإن وقع مخالفا لأمره ، لما كان وقوعه مقابلا لأمره ، ويكشف عن ذلك قوله تعالى : ( إنّه كان فريق من عبادي يقولون ربّنا ءامنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين (١٠٩) فاتّخذتموهم سخريّا حتّى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون (١١٠) ) (٣).

وهؤلاء الفريق عباد الله لم ينسوا الفريق الآخر ذكر الله ، وكيف يكون وهم يحادثون أسماعهم وقلوبهم بذكره سبحانه وعظا وتخويفا ، وتنبيها وتحذيرا ، ولكنهم لما اتخذوهم سخريا ، وأقاموا على سيّيء أفعالهم وذميم اختيارهم ، أنسوهم ذكر الله ، فأضيف الإنساء الى ذلك الفريق من عباد الله ، إذ كان نسيان من نسي ذكر الله سبحانه إنما وقع في مقابلة تذكيرهم به ، وتخويفهم منه ، ودعائهم إليه ، فحسنت الإضافة على الأصل الذي قدمناه.

وأقول : إنه قد جاء الاتساع في اللغة بالزيادة على هذه المرتبة التي

__________________

(١) الصف : ٥.

(٢) محمد : ١٧.

(٣) المؤمنون : ١٠٩ ـ ١١٠.

١٥١

ذكرناها من إضافة الفعل الى الأمر ، وإن لم يأمر به ، بل أمر بضده ، لما وقع مقابلا لأمره. فسمي من كان سبب الضلال مضلا ، وإن لم يكن منه دعاء الى الضلال ، ولا الى ضده فوقع الضلال عند دعائه ، قال سبحانه : ( وإذ قال إبراهيم ربِّ اجعل هذا البلد ءامنا واجنبّني وبنيّ أن نّعبد الأصنام (٣٥) ربِّ إنّهنّ أضللن كثيرا من النّاس فمن تبعني فإنّه مني ومن عصاني فإنّك غفور رحّيم (٣٦) ) (١).

فأضاف تعالى ضلال القوم الى الأصنام إذ جعلوهم سببا لضلالهم وهي جماد ، لا يكون منها صرف عن طاعة ، ولا دعاء الى معصية.

ومما يكشف عن ذلك أن زيغ الزائغين فعل لهم ، وإزاغة الله تعالى لهم فعل له ، فإذا ثبت أن زيغهم عن الأيمان علمنا أن إزاغتهم عن الثواب ، والا لكان الفعلان واحدا ، وقد علمنا أن جهتي الفعل مختلفان » (٢).

ويمكن الرجوع في هذا الملحظ الى مبحث الخصائص العقلية فيما تقدم لإثراء هذا الجانب ، ويستند اليه والى أشباهه في ظاهرة انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن واعتبار ذلك مما ينطبق جملة وتفصيلا على هذه الظاهرة.

الظاهرة الثانية : ـ

وتبرز حقائقها في مجال التصديق بالأمر ووقوعه ، واستمرارية الصفات وغلبتها ، وملابسة الوقائع بعضها لبعض ، وتأكيد بإطلاق ضده عليه ، وهنا يتوالى رصد المجاز اللغوي المرسل في التعبير القرآني :

١ ـ ففي تصديق الخبر ، وإبرام الأمر ، وحتمية الإرادة نتلمس قوله تعالى : ( إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ثمّ قال له كن فيكون (٥٩) ) (٣).

__________________

(١) إبراهيم : ٣٥ ـ ٣٦.

(٢) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : ٥/ ٢٥ وما بعدها.

(٣) آل عمران : ٥٩.

١٥٢

فإن لفظة كن تدل على الأمر ، ولكن المراد بها الخبر والتقرير ، والتقدير فيها يكون فيكون ، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي فهو يكون ، والرأي لأبي علي الفارسي(١).

وهذا الباب من فرائد القرآن وبدائعه لإثبات حقائق الأشياء دون تردد.

٢ ـ وفي ملحظ التغليب وديمومة الصفات ، وكون الشيء جزءا من الأصل ، وأصلا في الكل المنظور إليه يبرز كل من قوله تعالى :

أ ـ ( وكانت من القانتين ) (٢)

ب ـ ( إلاّ امرأته كانت من الغابرين ) (٣)

ج ـ ( فلولا أنّه كان من المسبّحين (٤٣) ) (٤)

فبالنسبة لمريم إبنة عمران في الآية الأولى غلب عليها صفة الذكور ، ولو لم يرد المعنى المجازي في ذلك لجاء بالأصل الموضوع للأناث وهو القانتات ، ولكنه أطلق القانتين على الإناث من باب التغليب ، والارتفاع بمستوى مريم الى مصاف الرجال القانتين. وما يقال هنا يقال بالنسبة « للغابرين » فإن اللفظ موضوع للذكور المتصفين بهذا الوصف ، فإطلاقه على الإناث على غير ما وضع له ، وإذا كان كذلك فهو مجاز.

وفي الآية الثالثة يراد بالمسبحين المصلين ، ولما كان التسبيح أحد الأجزاء المهمة في الصلاة ، ولملازمة الصلاة للتسبيح ، وكون التسبيح جزءا منها ، فأطلق عليها تجوزا ، والمعني الصلاة.

٣ ـ وفي ملابسة واقع الحال للشيء حتى عاد جزءا منه ،

__________________

(١) ظ : الزركشي ، البرهان ٢/ ٢٩٠.

(٢) التحريم : ١٢.

(٣) الأعراف : ٨٣. العنكبوت : ٣٢.

(٤) الصافات : ١٤٣.

١٥٣

ومندمجا فيه اندماجا تاما يبرز قوله تعالى : ـ ( وأُشرِبوا في قلوبهم العِجل (٩٣) )(١).

والعجل ليس موضع ذلك ، بل المراد حب العجل ، فحذف المضاف وأقام مقامه المضاف إليه ، للدلالة على هذه الحقيقة الثابتة ، إذ أنزل العجل منزلة الحب ، لملابسته لهم في قلوبهم ، وتشرب قلوبهم بهذا الحب الأعمى ، حتى عاد ذلك سمة من سماتهم ، وحقيقة تكشف عن واقع حالهم في الهوى والضلال.

٤ ـ وفي التأكيد على الشيء بإطلاق اسم ضده عليه نقف عند قوله تعالى : ( فبشّرهم بعذاب أليم ) (٢).

والبشارة إنما يصح التعبير بها في مواطن الخير والكرامة ، لا في مظاهر الشدة والعناء ، وليس العذاب من مواطن الخير ، حتى يبشر به العاصي ، ولكنه تعالى أطلقه عليه تجوزا من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر للنكاية والتشفي ، أو السخرية والتهكم ، وكلاهما يأتيان هنا لتأكيد وقوع العذاب دون شك.

وقد حمل أبو مسلم ، محمد بن بحر قوله تعالى : ( فبصرك اليوم حديد ) (٣) على هذا الملحظ ، باعتباره إخبارا مؤكدا عن قوة المعرفة ، لا من باب التأكيد على الشيء باسم ضده ، لأن الجاهل بالله سبحانه في هذه الدنيا سيكون عارفا به تماما ، فأرادوا بذلك العلم والمعرفة لا الإبصار بالعين (٤).

مما تقدم ، يتجلى لنا مدى سيرورة المجاز اللغوي المرسل في القرآن ، وكثرة ذيوعه وانتشاره ، لأن مفردات هاتين الظاهرتين ما هي إلا الرصد لمفردات مماثلة دون استيعاب ، ولكنها بالإضافة لما سبق من

__________________

(١) البقرة : ٩٣.

(٢) آل عمران : ٢١.

(٣) ق : ٢٢.

(٤) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : ٣/ ٤٣٠ بتصرف وإيضاح.

١٥٤

الفصول ، وما سيأتي في علاقة المجاز المرسل تشكل سمة بارزة.

٣ ـ علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن

كما هي الحال في وجوه المجاز العقلي فقد توسع البلاغيون في استخراج وجوه المجاز المرسل بما لا مسوغ لتكثيفه بلاغيا ، إذ بلغ حد التفريط المتعمد في علاقات مجازية قد تكون منفصلة حقا ، ولكن أغلبها قد يكون متداخلا ، يصح أن يندرج تحت صنف فصل عنه أو هو في مجراه ومقتضاه ، لذلك فتكثير هذه الأصناف إنما يحتاج الى دقة فلسفية أو منطقية لا ذائقة بلاغية ، والفلسفة والمنطق شيء والبيان العربي شيء آخر ، ونريد التعريض هنا بهذا المنحى بقدر ما نريد من استنباط الحالات المتواترة في مجاز القرآن اللغوي ، دون التأكيد على تلك التسميات التقليدية التي سبق منا القول فيها ضمن علاقة المجاز العقلي في القرآن : كالجزئية والكلية ، والسببية والمسببية ، والمحلية والحالية ، والآلية والمجاورة ، والملزومية واللازمية ، والمطلقية والمقيدية ، وأضراب ذلك من التفريعات المتشابكة ، والتصنيفات المتقاربة علاقات أهملنا الارتباط بها إلا جزئيا مما تقتضيه ضرورة البحث.

الحق أن علاقة المجاز اللغوي المرسل في استنباط وجوه احتمالاته ، ومقتضيات مسبباته من الكثرة والوفرة والتشعب بحيث قد تخرج عن دائرة الذائقة والفطرة الى دائرة الولع بالتخريجات المضنية دون حاجة بلاغية الى ذلك ، سوى متابعة البيئات الكلامية التي نشأ بها علم البلاغة التقليدي ، فانطبعت آثار تلك البيئات على مسميات مفردات البلاغة تصنيفا وتطويلا ليس غير.

لقد ضم هذه الوجوه بعضها الى بعض الدكتور أحمد مطلوب فأوصلها الى عشرين علاقة ووجها ، عدا اجتهاداته في التفريعات الأخرى (١).

وفي بحث مستقل أضفنا عدة وجوه للمجاز اللغوي المرسل مما

__________________

(١) ظ : أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : ١١١ ـ ١١٨.

١٥٥

يتناسب ومناخ التدقيق المنطقي للقضايا العقلية ، فهل ثمة من حاجة ملحّة الى تجديد هذا الأمر(١).

أعتقد أن في طريق انتخاب النماذج القرآنية ، واستيعاب أكبر أجزائها ـ دون هذه التسميات المخترعة ـ مندوحة عن الخوض في تقسيمات نود استبعاد المنهج البلاغي من ركابها ، أو استدارته على عجلتها ، ذلك ضمن حدود اجتهادية موجهة نحو الخلاصة المجدية ، والمهمة البلاغية النقية من الشوائب بإذن الله تعالى.

١ ـ في كل من قوله تعالى :

أ ـ ( قم اللّيل إلاّ قليلا (٢) )(٢)

ب ـ ( لا تقم فيه أبدا )(٣)

ج ـ ( ويبقى وجه ربّك )(٤)

د ـ ( كلّ شيء هالك إلاّ وجهه )(٥)

هـ ـ ( فتحرير رقبه مومنة )(٦)

و ـ ( وجوه يومئِذ خاشعة (٢) عاملة نّاصبة (٣) )(٧)

ز ـ ( واضربوا منهم كلّ بنان )(٨)

نتلمس عدة علاقات متينة السبب في هذه الآيات كافة ، مما يدفع الى حملها على المجاز اللغوي المرسل ، ولولا هذه العلاقات لكان الاستعمال

__________________

(١) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : ١٦٢ وما بعدها.

(٢) المزمل : ٢.

(٣) التوبة : ١٠٨.

(٤) الرحمن : ٢٧.

(٥) القصص : ٨٨.

(٦) النساء : ٩٢.

(٧) الغاشية : ٢ ـ ٣.

(٨) الأنفال : ١٢.

١٥٦

حقيقيا ، فكشف علاقة كل مجاز هو دليل مجازية التعبير ، ولو لم تدرك العلاقة ، لما صح لنا التعبير عن هذا وذاك بالمجاز.

ففي قوله تعالى : ( قم اللّيل إلاّ قليلا (٢) ) (١) وقوله تعالى : ( لا تقم فيه أبدا ) (٢) ندرك ـ والله العالم ـ أن القيام في هذين الموضعين بحسب العلاقة والعائدية التعبيرية : هو الصلاة ، كما هو منظور إليه في الاستعمال القرآني عند إطلاق لفظ القيام بمعنى الإقامة ، إن دلالة الكلمة هنا تعطي معنى : صلّ ، والعلاقة في ذلك كون القيام ركنا أساسيا ، وجزءا مهما في الصلاة ، فعبّر به لهذا الملحظ.

وفي قوله تعالى : ( ويبقى وجه ربّك ... ) (٣) وقوله تعالى : ( هو كلّ شيء هالك إلاّ وجهه ) (٤) ، يبدو أن المراد بالوجه هنا الذات القدسية لله عز وجلّ ، وإلا فليس لله وجه بالمعنى الحقيقي على جهة التجسيم والمكان والإحلال والعينية والمشاهدة ، ولما كان الوجه هو ذلك الجزء الذي لا يستغنى عنه في الدلالة على كل ذات ، عبر به هنا عن الذات الإلهية مجازا على طريق العرب في الاستعمال بإطلاق اسم الجزء وإرادة الكل.

وأن كان الأمر بالنسبة لقوله تعالى : ( وجوه يومئذ خاشعة (٢) عاملة ناصبة (٣) ) (٥) إذ المراد بذلك أجساد هؤلاء بقرينة العمل والنصب الذي تؤدي ضريبته الأجساد بتمامها ، لا الوجوه وحدها ، وإنما عبر عنها بالوجوه باعتبارها جزءا من الأجساد ودالا عليها.

وفي قوله تعالى : ( فتحرير رقبة مؤمنة ) (٦) فإن المراد هو تحرير

__________________

(١) المزمل : ٢.

(٢) التوبة : ١٠٨.

(٣) الرحمن : ٢٧.

(٤) القصص : ٨٨.

(٥) الغاشية : ٢ ـ ٣.

(٦) النساء : ٩٢.

١٥٧

الرجل المؤمن أو العبد المؤمن ، ولما كانت الرقبة جزءا من هذا الكل ، وكان الاستعمال جاريا على هذا السنن في القرآن وعند العرب ، وذلك بدلالة الرقبة على النسمة ، كان ذلك مجازا لهذه العلاقة.

وفي قوله تعالى : ( واضربوا منهم كلّ بنان ) (١) فإن المراد ضرب الأيدي بما فيها البنان والرسغ والمعصم ، ولما كان البنان جزءا منها عبر به للدلالة عليها بهذه العلاقة.

وأمثال هذا كثير في التعبير القرآني ، وهو باب متسع فيه.

٢ ـ وفي كل من قوله تعالى :

أ ـ ( يجعلون أصابعهم في ءاذانهم من ) (٢)

ب ـ ( والسّارق والسّارقة فاقطعوا أيديهما ) (٣)

نلمس مجازا مرسلا ، ولو تأملت فيه لوجدت علاقته عكسية بالنسبة للنماذج السابقة ، لأن المراد بجعل الأصابع ، هو وضع الأنامل في الآذان ، وهو القدر الذي تستوعبه ، وهي جزء من كلي الأصابع.

والمراد بالأيدي جزءا منها لا كليّها ، لأن حدود القطع معروفة ومحددة عند الفقهاء ، ولا تشمل كلي الأيدي ، بل المقصود جزءا من هذه العلاقة كانت ( أصابعهم ) و ( أيديهما ) من الآيتين الكريمتين ، على سبيل من المجاز اللغوي المرسل ، وذلك بإطلاق اسم الكل على الجزء ، وإرادة الجزء ذاته فحسب.

٣ ـ وفي كل من قوله تعالى :

أ ـ ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) (٤)

ب ـ ( وجزاؤا سيّئةٍ سيئةٌ مثلها ) (٥)

__________________

(١) الأنفال : ١٢.

(٢) البقرة : ١٩.

(٣) المائدة : ٣٨.

(٤) البقرة : ١٩٤.

(٥) الشورى : ٤٠.

١٥٨

جـ ـ ( ونبلوا أخباركم )(١)

نقف على حدود مجاز لغوي مرسل على الوجه الآتي :

ففي الآية (أ) أطلق الاعتداء على الجزاء ، وواضح أن الاعتداء الثاني في الآية غير الاعتداء الأول ، لأن الاعتداء الأول جرم ، والثاني جزاء ، وفرق بين الجرم والجزاء ، فلا يراد به الاعتداء حقيقة بالمعنى الأول ، بل المراد المجازاة فقط ، إذ لا يأمر الله بالاعتداء قطعا ، وإنما سمي كذلك لأنه مسبب عن الاعتداء الحقيقي ، فكان التعبير عنه بالاعتداء مجازا لأنه حصل بسبب الاعتداء وإن كان جزاء في واقعه.

قال القزويني ( ت : ٧٣٩ هـ ) « وإنما سمي جزاء الاعتداء اعتداءً لأنه مسبب عن الاعتداء »(٢).

في الآية (ب) عبّر سبحانه عن الاقتصاص بلفظ السيئة ، والسيئة الثانية في الآية غير السيئة الأولى ، لأن السيئة الأولى ذنب والسيئة الثانية مقاصة ، وفرق بين الذنب والاقتصاص ، إذن فليس الاقتصاص سيئة ، ولكنه مسبب عنها ، فسمي باسمها ، وهذا المعنى هو المعني بقولهم : تسمية المسبب باسم السبب ، وذلك بأن يطلق لفظ السبب ويراد به المسبب كما في الآية (جـ) إذ أطلق تجوزا اسم البلاء على العرفان ، وليس البلاء عرفانا ، ولكنه مسبب عنه ، فكأنه تعالى قد أراد : ونعرف أخباركم ، لأن البلاء الاختبار ، وفي الاختبار حصول العرفان ، فعبر رأسا عن العرفان بالبلاء كما هو ظاهر في الاستعمال عند العرب ، فإنهم يقولون : رعينا الغيث ، والغيث هو المطر ، والمطر لا يرعى ، ومرادهم النبات والأعشاب لأنه سببهما الغيث.

ويحمل على هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته(٣).

ألا لا يجهـلـن أحد عليـنـا

فنجهل فـوق جهـل الجاهلينـا

__________________

(١) محمد : ٣١.

(٢) القزويني ، الإيضاح في علوم البلاغة : ٤٠٠ تحقيق الخفاجي.

(٣) ظ : الزوزني ، شرح المعلقات السبع : ١٧٨.

١٥٩

فالجهل الأول جار على وجهه الحقيقي ، والجهل الثاني محمول على الوجه المجازي ، لأنه ناجم عن الجهل الأول ، فعبر بالجهل مجازا عن مقابلة الجهل وصدّه ، وليس صدّ الجهل جهلا بل هو مكافأة له.

وكذلك الحال فيما حمل عليه قوله تعالى : ( ومكروا ومكر الله )(١) من الاستعمال المجازي ، إذا أريد به العقوبة ، لأن المكر سببها ، وقيل : « ويحتمل أن يكون مكر الله حقيقة ، لأن المكر هو التدبير فيما يضر الخصم ، وهذا محقق من الله تعالى ، باستدارجه إياهم بنعمه مع ما أعدّ لهم من نقمة »(٢).

٤ ـ وفي كل من قوله تعالى :

أ ـ ( وينزل لكم من السّماء رزقا )(٣)

ب ـ ( إنّ الّذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنّما يأكلون في بطونهم نارا )(٤)

ج ـ ( وكم من قرية أهلكناها فجآءها بأسنا بياتا أو هم قآئلون (٤) )(٥)

نرصد مجازا لغويا مرسلا ، أريد به عكس ما أريد في النوع السابق في علاقته ، وهو المعني بقولهم : تسمية السبب باسم المسبب ، وذلك بأن يطلق لفظ المسبب ويراد به السبب بالذات.

ففي الآية (أ) أطلق لفظ الرزق على الغيث أو المطر تجوزا ، لأن الرزق لا ينزل من السماء بهيئته وكيفيته المركزية المتبادرة الى الذهن ، وإنما ينزل الله المطر ، ولما كان المطر سببا في الرزق عبر عنه سبحانه بالرزق باعتبار السببية.

وفي الآية (ب) عبر سبحانه عن أكل المال الحرام بأكل النار ،

__________________

(١) آل عمران : ٥٤.

(٢) القزويني ، الإيضاح : ٤٠٠ تحقيق الخفاجي.

(٣) غافر : ١٣.

(٤) النساء : ١٠.

(٥) الأعراف : ٤.

١٦٠