مجاز القرآن خصائصه الفنيّة وبلاغته العربيّة

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

مجاز القرآن خصائصه الفنيّة وبلاغته العربيّة

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المؤرّخ العربي
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨٢

متروكة على ظاهرها ، ويكون معناها مقصودا في نفسه ، ومرادا من غير تورية ولا تعريض.

والمثال فيه قولهم : نهارك صائم وليلك قائم ، ونام ليلي ، وتجلى همي ، وقوله تعالى : ( فما ربحت تجارتهم ... ) (١).

وقول الفرزدق :

سقاها خروق في المسامع لم تكن

علاطا ولا مخبوطة في الملاغم

وقد عقب على هذه النماذج بقوله :

« أنت ترى مجازا في هذا كله ، ولكن لا في ذوات الكلم وأنفس الألفاظ ، ولكن في أحكام أجريت عليها ، أفلا ترى أنك لم تتجوز في قولك : « نهارك صائم وليلك قائم » في نفس « صائم »« وقائم » ولكن في أن أجريتهما خبرين عن الليل والنهار ، كذلك ليس المجاز في الآية في لفظة « ربحت » نفسها ، ولكن في إسنادها الى التجارة. وهكذا الحكم في قوله : سقاها خروق ، ليس التجوز في نفس « سقاها » ولكن في أن أسندها الى الخروق. أفلا ترى أنك لا ترى شيئا منها إلا أريد به معناه الذي وضع له على وجهه وحقيقته؟ فلم يرد بصائم غير الصوم ، ولا بقائم غير القيام ، ولا بربحت غير الربح ، ولا بسقت غير السقي .. »(٢).

فتشخيص المجاز العقلي إنما يتم بمعرفة الأحكام التي أجريت على الألفاظ في إسناد بعضها لبعض ، والألفاظ بذاتها محمولة على ظاهرها لا تجوز فيها ، واكتشف المجاز العقلي لدى اقترانها ، وكان طريق ذلك العقل في حكمه على النصوص ، إذا كان المجاز واقعا ومتحققا في الإثبات ، وهو ما تبحثه الصفحات الآتية :

٢ ـ المجاز العقلي في القرآن بين الإثبات والإسناد

بعد وضع اللمسات الأولية على تشخيص المجاز العقلي في القرآن ،

__________________

(١) البقرة : ١٦.

(٢) عبد القاهر الجرجاني ، دلائل الاعجاز : ١٩٣.

١٢١

وعند العرب في الاستعمال والاستنباط ، لا بد لنا من إجمال القول في أمرين مساعدين على اكتشاف المجاز العقلي في القرآن من خلال استعراض عبد القاهر لذلك في حالتي الإثبات دون المثبت ، والإسناد في الجملة دون الألفاظ.

١ ـ ذهب عبد القاهر ( ت : ٤٧١ هـ ) أن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من العقل ، وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من اللغة (١).

ومسألة الإثبات والمثبت أشرنا إليها في كتابنا : « أصول البيان العربي » ، وهنا نلخص ما أوضحناه هناك وما استجد لدينا في فهمها من خلال النظر في التنظير :

أ ـ حينما نمعن النظر في قوله تعالى : ( يجعلون أصابعهم في ءاذانهم ) (٢).

نرى أن الجعل هنا هو الوضع ، والوضع حاصل على حقيقته ، ولا مجاز فيه ، باعتباره جاريا على الأصل ، ولو تحقق فيه فرضا لكان مجازا لغويا ولا شاهد لنا معه ؛ وإنما المجاز في الإثبات دون المثبت ، ولما كان الجعل مثبتا دون ريب ، وضعنا أيدينا على الإثبات ، وهو في الآية الأصابع ، لأن المراد بهذا الوضع من الأصابع : ذلك القدر المحدود من الأصابع الذي تستوعبه الآذان في الوضع ، وهو عادة : الأنامل فحسب ، والأنامل بعض الأصابع ، وهنا تحقق المجاز في الإثبات ، وهو الأصابع لإرادة الأنامل منها ، لأن المثبت ، وهو أصل الوضع حاصل على حقيقته اللغوية ، وقد اكتشف في الإثبات عن طريق الإسناد وبحكم الدلالة العقلية ، على أن هذا الانطباق في المجاز العقلي قد يصدق أيضا في المجاز اللغوي في هذا الملحظ بالذات ، ويكون ذلك من باب إطلاق الكل وإرادة الجزء(٣).

ب ـ وفي قوله تعالى : (يوم نبطش البطشة الكبرى إنّا منتقمون (١٦)) (٤).

__________________

(١) ظ : عبد القاهر الجرجاني ، أسرار البلاغة : ٣٤٤.

(٢) البقرة : ١٩.

(٣) ظ : المؤلف ، أصول البيان العربي ، رؤية بلاغية معاصرة : ٤٥.

(٤) الدخان : ١٦.

١٢٢

نلحظ أن البطش واقع لا محالة ، ومن قبل الله سبحانه وتعالى ، فهو جار على حقيقيته ، وهذا هو المثبت ، فالبطش إنما يقع حقيقة في اليد ذات الطول والقوة والتحطيم ، فإذا أريد به المجازية نقلناه الى المعنى الذي يصدر عادة من الجوارح ، وهو هنا ـ والله العالم ـ ليس كذلك إذ لا يصدر عن يد ، ولا يخرج من جارحة ، فالله منزه عن الجوارح ، بدلالة عقلية وهنا يأتي الإثبات محل الإشكال ، فهو بطش لا كالبطش المعتاد ، وانتقام لا كالانتقام المتعارف ، وهو واقع دون شك ، ولكن بغير الأدوات المعتادة ، وإذا كان واقعا فالإثبات فيه حاصل ، بل وأكثر من ذلك فقد أسند للبطشة الكبرى ليشمل جميع أصناف البطش ، ويستوعب أشد نماذجه وأقساها ، فهو كبير من كبير ، وليس مما اعتاده البشر ، ولا سمع به الناس ، ويكفي في الدلالة على غير ذلك نسبته الى ذاته القدسية ( إنا منتقمون ) لتأكيد صرامة هذا البطش ، وقوة هذه الإرادة ، دون استعمال الوسائل المعتادة في البطش البشري ، بل فوق تصور الإنسان ، بل وليس في مقدوره الإحاطة بكنهه المتطاول ، وقد جاء في إثباته من الوعيد الصارم ، والترهيب القاطع ما هو جلي عند أهل اللسان.

إن هذه الملاحظة لا يمكن أن تنسب الى اللغة في دلالتها ، وإنما يرجع فيها الى العقل في إشارته وتوجيهاته في الحمل على الإرادة المجازية في النظر العقلي.

ج ـ وقد تنقلب الحال فيقع المجاز في المثبت ، وتكون الحقيقة في الإثبات ، فمثال ما دخل المجاز في مثبته دون إثباته قوله تعالى : ( أوَ من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس ... )(١).

ويعقب عبد القاهر على ذلك ، ويعده من باب المجاز اللغوي بناء على قاعدته السابقة : إذا وقع في الإثبات فالمجاز عقلي ، وإذا وقع في المثبت فالمجاز لغوي ، يقول :

« وذلك أن المعنى والله أعلم ، على أن جعل العلم والهدى والحكمة

__________________

(١) الأنعام : ١٢٢.

١٢٣

حياة للقلوب على حد قوله تعالى : ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ... ) (١).

فالمجاز في المثبت وهو الحياة ، فأما الإثبات فواقع على حقيقته لأنه ينصرف الى أن الهدى والعلم والحكمة فضل من الله وكائن من عنده. ومن الواضح في ذلك قوله تعالى : ( فأحيينا به الأرض بعد موتها ) (٢) وقوله تعالى : ( إن الذي أحياها لمحي الموتى ) (٣). جعل خضرة الأرض ونضرتها وبهجتها بما يظهره الله تعالى فيها من النبات والأنوار والأزهار وعجائب الصنع حياة لها ؛ فكان ذلك مجازا في المثبت من حيث جعل ما ليس بحياة حياة على النسبية ، فأما نفس الإثبات فمحض الحقيقة لأنه إثبات لما ضرب الحياة مثلا له فعلا لله تعالى ، ولا حقيقة أحق من ذلك(٤).

ويتابع عبد القاهر تقرير حقيقة الفصل بين المجاز اللغوي والعقلي ، بما يشبه الحكم القاطع الذي لا تردد معه ، فيقول :

ومما يجب ضبطه في هذا الباب أن كل حكم يجب في العقل وجوبا حتى لا يجوز خلافه فإضافته الى دلالة اللغة ، وجعله مشروطا فيها محال ، لأن اللغة تجري مجرى العلامات والسمات ، ولا معنى للعلامة والسمة حتى يحتمل الشيء ما جعلت العلامة دليلا عليه وخلافه(٥).

* * *

٢ ـ ولما كان المجاز العقلي إنما يعرف باعتبار طرفيه ، وهما المسند والمسند إليه ، لأنه إنما يقع في الجملة ، والجملة تعرف بالتركيب ، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون إسنادها ، لأنه ليس من باب اللفظ المفرد فينظر له بالاستعارة ، ولا يرى في الكلمة المنقولة عن الأصل فينظر له في المجاز المرسل ، وإنما هومكتشف من الإسناد وما يؤول اليه المعنى في

__________________

(١) الشورى : ٥٢.

(٢) فاطر : ٩.

(٣) فصلت : ٣٩.

(٤) عبد القاهر الجرجاني ، أسرار البلاغة : ٣٤٣ وما بعدها.

(٥) المصدر نفسه : ٣٤٧.

١٢٤

ضوئه ، والإسناد يعرف بطرفيه ، وهذان الطرفان في المجاز العقلي في القرآن لهما صيغ مختلفة تحدد بما يأتي :

أ ـ الطرفان حقيقيان : ولا علاقة لهما بالمجاز منفردين إلا بضم بعضهما الى البعض الآخر كقوله تعالى : ( وأخرجت الأرض أثقالها (٢) )(١).

فإن الإخراج حقيقي ، والأرض حقيقة ، ولا مجاز بهما وحدهما ، ولكن المجاز العقلي مستنبط من أقترانهما ، وبإسناد الإخراج الى الأرض ، لأن المخرج حقيقة هو الله تعالى ، وليس للأرض قابلية الإخراج ، فلا إرادة لها ، وفاقد الشيء لا يعطيه ، فلما أسند لها الإخراج علمنا ضرورة بمجازية الأستعمال إسنادا بحكم العقل.

ب ـ الطرفان مجازيان : نحو قوله تعالى : ( فما ربحت تجارتهم ... ) (٢).

فالربح هنا مجازي ، ولا يراد به الزيادة على رأس المال في بيع البضائع ، والتجارة هنا مجازية ، فلا يراد بها المعاملات السوقية ، وإنما المراد بالربح تحقيق المعنى المجازي منه بالفائدة وعدم خسران الأعمار ، والمراد بالتجارة المعنى المجازي منها بالإنابة وصالح الأعمل.

ونظير هذا المجاز العقلي في طرفيه المجازيين كثير في القرآن الكريم ، ومن أبرز مظاهره في مثالين بآية واحدة قوله تعالى : ( أُولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين (١٦) )(٣).

فالشراء هنا مجازي ، ولا يراد به إجراء العقد في إنجاز صفقات البيع ، والضلالة وإن كانت حقيقة ، إلا أنها ليس مما يشترى بالهدى ، ولا مما يباع به ، وكلا الإسنادين مجازي ، وبقية الآية تقدم فيها الكلام.

وكذلك قوله تعالى : ( بئسما اشتروا به أنفسهم ... ) (٤).

ج ـ الطرفان مختلفان كقوله تعالى : ( تؤتي أُكلها كلّ حين ) (٥).

__________________

(١) الزلزلة : ٢.

(٢) (٣) البقرة : ١٦.

(٤) البقرة : ٩٠.

(٥) إبراهيم : ٢٥.

١٢٥

فإن نسبة إيتاء الأكل الى الشجرة مجازية ، لأن المؤتي هو الله تعالى ، ولكن الأكل هنا حقيقة ، وهو ثمرة الشجرة فكان أحد الطرفين مجازيا والثاني حقيقيا.

وعليه يحمل قوله تعالى في نموذجين مختلفين بآية واحدة ، وهو قوله تعالى :

( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (٨١) ) (١).

( فكسب ) و ( أحاطت ) كلاهما مجازان ، و ( سيئة ) و ( خطيئة ) كلاهما حقيقيان ؛ ونسبة الكسب الى الإنسان في السيئات مجازية ، لأن السيئات ليس مما يكتسب به الإنسان حقيقة ، ولا هي قابلة لهذا الإعتبار ، إلا أنها استعملت ونسبت عقليا بحكم الإسناد ، وكأن صاحبها قد عمل فكان كسبه خسرانا لأن نتيجة هذا الكسب هو السيئات ، وكذلك الحال بالنسبة لإسناد الإحاطة بالخطيئة ، فالإحاطة تتطلب مكانا ومحلا يمكن الأستدارة عليه كإحاطة الخاتم بالأصبع ، أو السوار باليد ، أو السجن بالسجين ، وهكذا ، فكان الأول مجازا والثاني حقيقة ، واكتشف المجاز العقلي من اقتران الطرفين.

٣ ـ قرينة المجاز العقلي في القرآن

وانتشار المجاز العقلي في القرآن يوحي بأصالة كنهه البلاغي دون ريب في نص هو أرقى النصوص العربية على الإطلاق ، وهو وإن كان متعلقا بالإسناد الجملي لا بألفاظ مجردة ، ولكن لا بد من قرينة تدلنا على إرادة الاستعمال المجازي دون الحقيقي ، وقد قسموا هذه القرينة الدالة على ذلك الى :

١ ـ قرينة لفظية ، وتستفاد من إطلاق اللفظ فتدرك بها موضع المجاز باعتبارات لفظية تنطق بها الكلمات ، حتى أنك بعد التحقيق لا يخامرك شك في إرادة المجاز ، وأمثلة ذلك كثيرة في القرآن الكريم :

__________________

(١) البقرة : ٨١.

١٢٦

أ ـ قوله تعالى : ( وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي ) (١).

لقد عبر سبحانه وتعالى عن إرادته في الكينونة المطلقة ، على سبيل المجاز بـ « قيل » وإنما هي أمر كائن لا محالة ، وكانت قرينة هذا المجاز خطاب من لا يعقل ، وهو الجماد الذي لا يخاطب « يا أرض » و « يا سماء » إذ هو ليس مما يعي الخطاب ، أو يدرك الإمثال ، فكان ذلك قرينة لفظية في دلالة هذا المجاز العقلي.

ولك أن تقول أن الله قادر على أن يخاطب الجماد ، ويجيب ذلك الجماد ، فيكون ذلك على سبيل الحقيقة ، وحتى لو حصل هذا على سبيل الإعجاز ، فلا مانع منه ، ويبقى المدرك مجازيا لأنه في العموم خطاب لمن لا يعقل ولا يجيب ولا يسمع ولا يتكلم ، وإن سمع وأجاب وأمتثل على سبيل الإعجاز.

ب ـ وفي قوله تعالى : ( فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لتّخذت عليه أجرا ) (٢).

يتجلى المجاز العقلي مستشرفا إذ الجدار ليس كائنا ذا إرادة ، ولا هو بمريد شأن من يريد في الفعل أو الترك ، ولكنه البعد المجازي الذي وهب الحياة للجماد ، وأشاع الحسّ في الكائنات ، وكذلك التعبير الموحي الذي أضفى صفة من يصدر عنه الفعل على من لا يصدر عنه الفعل ، وحقيقة من يريد على من لا يريد في الأصل. وكانت قرينة هذا المجاز إرادة هذا الجماد وهو لا يريد.

وتلك طريقة العرب المثلى في هذا المنظار ، وأنشدوا للحارثي : (٣)

يرد الرمح صدر أبي براء

ويرغب عن دماء بني عقيل

فإرادة الرمح ورغبته هنا كإرادة الجدار في الآية سواء بسواء.

قال أبو عبيدة : « وليس للحائط إرادة ، ولا للموات ، ولكنه إذا كان

__________________

(١) هود : ٤٤.

(٢) الكهف : ٧٧.

(٣) ظ : أبو عبيدة ، مجاز القرآن : ١/٤١٠ ، ابن قتيبة ، تأويل مشكل القرآن : ١٣٣.

١٢٧

في هذه الحال من ربه فهو إرادته »(١).

وأنشد أبو زكريا الفراء(٢) :

إن دهرا يلف شملي بسلمى

لزمان يــهــم بالإحســان

فأنت ترى في هذه النماذج الإرادة والرغبة للرمح ، والهم بالإحسان للزمان ، كما شاهدت في الآية إرادة الجدار.

ولم تخرج هذه الألفاظ جميعها عن حقيقتها الأولى في اللغة ، ولكنها خرجت الى المجاز في الإسناد ، والقرينة فيها جميعا هي التي أفادت مجازا عقليا دلت عليه قرينة مقالية ، لأن الجدار في واقع الحال لا يريد ، والرمح لا يريد ولا يرغب ، والزمان لا يهم بالإحسان واقعا ، وإن هم به مجازا.

ج ـ وفي هذا السياق يجب أن نلاحظ ما لاحظه ابن قتيبة ( ت : ٢٧٦ هـ ) من ذي قبل ، من أن هذه الأفعال ونظائرها ـ ونعني بها أفعال المجاز كما في الأمثلة السابقة ـ أفعال لا تخرج منها المصادر ، ولا تؤكد بالتكرار ، فلا تقول : أراد الحائط أن يسقط إرادة شديدة ، فليس هذا من كلام العرب ، فإذا جاء التوكيد بالمصدر علمت أن ذلك مبني على الحقيقة ، والله تعالى يقول : ( وكلم الله موسى تكليما (١٦٤) ) (٣) فوكد بالمصدر معنى الكلام ، ونفى عنه المجاز. وقال تعالى : ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون (٤٠) ) (٤) فوكد القول بالتكرار ، ووكد المعنى بإنما ، فكان ذلك على سبيل الحقيقة لا المجاز(٥).

وهكذا الحال فيما سبق مما أنشدوا ، فلا يقال : « أراد الرمح صدر أبي براء إرادة قوية ، ولا همّ الزمان بالإحسان هما موكدا.

* * *

__________________

(١) أبو عبيدة ، مجاز القرآن : ١/٤١٠.

(٢) ظ : العسكري ، كتاب الصناعتين : ٢١٢ ، والبيت غير منسوب.

(٣) النساء : ١٦٤.

(٤) النحل : ٤٠.

(٥) ظ : ابن قتيبة ، تأويل مشكل القرآن : ١١١.

١٢٨

٢ ـ قرينة غير لفظية ، وتستفاد من الجملة باستحالة صدور ذلك الشيء من فاعله عقلا ، وإنما يكون من أمره ، وفي نطاق مقدوره ودائرته ، وقد ورد ذلك في القرآن العظيم بأكثر من موضع ، وتكرر وجوده في مختلف الجزئيات بأكبر من ملحظ :

أ ـ قوله تعالى : ( وجاء ربّك والملك صفا صفا (٢٢) ) (١).

فالمجيء هنا لأمر الله وقدرته وقوته وإرادته ، وليس لذاته القدسية ، لأنه لا يوصف بالذات المتنقلة : القادمة او الذاهبة او المتحركة. تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وإنما هذا على سبيل من قوله تعالى : ( فإذا جآء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون )(٢).

وقوله تعالى : ( يا إبراهيم أعرض عن هذا إنّه قد جاء أمر ربك ... ) (٣) وقوله تعالى : ( هل ينظرون إلاّ أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربّك ) (٤).

وهنا نكتة بلاغية جليلة ، فالله سبحانه وتعالى كما لا يجوز عليه المجيء بالوجه الذي بيناه ، فإن أمره لا يمكن أن يأتي أو يجيء إلا على وجه مجازي محض ، فأمر الله تعالى يصدر ، ولا يأتي ، وينفذ ولا يجيء ، ويطبق ولا يناقش ، ولما جاء التعبير عنه بالقرآن بالإتيان تارة ، والمجيء تارة أخرى ، علمنا هنا من دلالة النص الفنية ، وبذائقة فطرية خالصة أن تأكيد صدوره وكونه قدرا مقضيا ، قد أكد بالإتيان والمجيء للتعبير عن حتمية وقوعه جزما ، وتجسيد نفاذه فورا حتى شخص وكأنه قادم آت متمثل قائم.

ب ـ وفي كل من قوله تعالى :

( الرحمن على العرش أستوى (٥) ) (٥).

__________________

(١) الفجر : ٢٢.

(٢) غافر : ٧٨.

(٣) هود : ٧٦.

(٤) النحل : ٣٣.

(٥) طه : ٥.

١٢٩

( ثمّ استوى الى السّماء ) (١).

( ثمّ استوى على العرش ) (٢).

مجاز عقلي تقتضيه ضرورة أن الله سبحانه وتعالى ليس قالبا حسيا ، ولا مثالا مرئيا ، ولا جسما متحركا يعرض للتنقل كأجسامنا ، فاستواؤه هنا سيطرته وقدرته وإحاطته حتى لا يفوته شيء ، كما يستوي صاحب الملك على أطراف مملكته ، إذ ليس لمعنى الأستواء بالنسبة اليه تعالى تطبيق خارجي ، أو مدرك وجودي ينطبق على ذاته القدسية ، كانطباقه على إستوائنا وسيطرتنا من إحكام للأمر ، أو ضبط للشؤون ، بأسباب وحراس أو قوى وأجهزة مادية ، وإنما ذلك بالنسبة للباري عزّ وجلّ فوق مدرك عقولنا إذ هو حقيقة تعبيرية عن الإحاطة المطلقة التي لا تفوتها الجزئيات غير المرئية ، وتنظير للاستقطاب التام الذي لا يحتاج معه الى مساعد أو معين أو موقت ، وتمثيل لاستيلائه على العوالم الكونية ، والمكنونات العلوية والسفلية دون النظر في الوسائل والأسباب والمعدات ، فيكفي أنه استولى على هذه الشؤون بهذه الشمولية في سيطرة فعلية أفادها معنى الاستواء بالنسبة اليه ، وهذا لا يمانع أن يكون لفظ العرش في الآيتين قد جاء على طريقة المجاز اللغوي في نقله عن الأصل ، للدلالة على الملك المطلق غير المحدود مراعاة لإدراكنا المحدود في تصور العرش حينما يجلس عليه ذو الملك وهو في أطراف دولته ، أو جالسا على سرير مملكته ، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

وما يقال هنا يقال بالنسبة لقوله تعالى : ( وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفضهما ... ) (٣) وذلك بلحاظ لفظ « الكرسي » فالعرب في سنن كلامها أن تعبر عن مظاهر الحكم ، وملامح الملك ، وتوليه الأمور بـ « الكرسي » وإن كان صاحبهما جالسا على الأرض ، أو ليس لديه كرسي أصلا ، فهو مستول على سرير الملك وكرسي الحكم ، وهذا جار عند

__________________

(١) البقرة : ٢٩.

(٢) الأعراف : ٥٤.

(٣) البقرة : ٢٥٥.

١٣٠

العرب الى اليوم ، وقد يشاركهم فيه جملة من العالم في الشرق والغرب بهذا الفهم وهذا التعبير ليس غير ، وهم يريدون ما تريد الآية من الإطلاق لدى التبادر الذهني العام ، إذ ليس لله كرسي يجلس عليه هذه صفته بالكبر والاستطالة والتوسع ، ولكنه ترحيل باللفظ الى المعنى المعبر عن مدى ملكه ، واتساع مملكته ، وترامي أطرف حكمه في المناحي السماوية والأرضية ، والسياق القرآني يساعد على هذا الحكم العقلي ، لنفي الجسمية والتشبيه والمكانية عنه عزّ وجلّ.

وهذه السعة المدركة عقليا بضم العبارة بعضها لبعض ، لا تنافي أن يكون لفظ « الكرسي » بمفرده ، من المجاز اللغوي ، أو على سبيل الأستعارة ، ليلتقي المجازان العقلي في العبارة ، واللغوي في المفردة في التعبير عن تمكنه وسلطانه سبحانه وتعالى.

ج ـ وفي قوله تعالى : ( سنفرغ لكم أيّه الثّقلان (٣١) ) (١) ، نلمس مجازا عقليا نستفيده لا بقرينة لفظية مقالية ، بل بقرينة معنوية حالية ، أدركها العقل ، وسلّمت بها الفطرة من خلال أحكام الألفاظ في العبارة ، وسياق الإسناد في التركيب ، فالله سبحانه وتعالى لا يشغله أمر عن أمر ، ولا يلهيه شأن عن شأن ، فهو قائم لا يسهو ، وإنما أراد بهذا التفرغ ، التوجه نحو الثقلين توجه المتفرغ الذي لا يعنيه غير هذا الموضوع في الوقت الذي يدير فيه جميع العالم ، ويستوعب جميع صنوف التدبير ، وذلك على طريقة العرب في سنن الكلام لدى التعبير عن التهيؤ والجد والتشمير ، فهو قاصد إليهم بعد الترك في فسحة الحياة ومحيط بهم الإمهال قبل الموت ، لا أنه كان مشغولا ففرغ ، أو في كائنة وانتهى منها ؛ وإنما هو المجاز بعينه الذي أشاع روح الرهبة في الوعيد ، وانتهى بأجراس النقمة في المجازاة ، دون شغل أو عمل صارفين.

د ـ وتبقى ميزة التعبير القرآني مقترنة بالأسلوب العربي المبين ، في وضع المجاز بموضعه المناسب من الفن القولي ، حتى يكتسب ذلك التعبير في مجازيته العقلية طائفة مشرقة من الاعتبارات الإيحائية ، التي تلتصق

__________________

(١) الرحمن : ٣١.

١٣١

بالمعاني الأصلية ، أو هي مقاربة ومجاورة لها ، كما هي الحال في استعمالات المجاز العقلي في القرآن ، بما يتوصل اليه بقرينة ذهنية نصل معها الى مناخ مجازيته الفعلية بما أضفته من مسلك دقيق قد لا تتوصل اليه الا الأفهام الثاقبة ، والطباع الرقيقة ، كما في قوله تعالى : ( والسماء ذات الرّجع (١١) والأرض ذات الصّدع (١٢) إنه لقول فصل (١٣) وما هو بالهزل (١٤) ) (١).

فأنت ترى أن الفصل والهزل ، وهما ههنا وصفان للقرآن الكريم ، والوصفية هنا قد تكون أدل على المعنى المراد من المصدرية ؛ وذلك لأن الوصفية قد تغطي الدلالة الإيحائية مضافا الى الدلالة المركزية بأن : هذا الوصف فضلا عن كونه مصدرا فهو مما يصلح أن يوصف به هذا الكتاب العظيم ، فيكون التأكيد على جديته وحاكميته أرقى من خلال التعبير النافذ ، فيكون ذلك ألصق به ، والمراد منه أشد وضوحا من إرادة المصدر بمفرده ، فاشتمل على المعنيين بوقت واحد ، وهذا أبرز معلم من معالم الاستعمال المجازي في القرآن.

وقد عقب أستاذنا الجليل المرحوم الدكتور أحمد عبد الستار الجواري على هذا الملحظ الدقيق فقال مشيرا للنموذج القرآني الآنف :

« ولعل من أهم الأسباب التي ميزت أساليب العربية بمثل هذه المزية قدم اللسان العربي ، وطول تداوله ، وكثرة تصرفه في المعاني ، بحيث تكتسب الألفاظ المفردة فيه معاني مضافة مجاورة لمعانيها الأصلية ، فتمتد هذه فضل امتداد ، حتى تصير المعاني المجاورة ، بعد لأي وطول إلاف ، كأنها جزء من تلك المعاني الأصلية ، أو قرين مقارن مساو لها في الدلالة ، وذلك هو الذي يعبر عنه علماء البلاغة بقولهم في ( المجاز العقلي ) أنه : إسناد الفعل أو ما هو بمنزلته (٢).

وما يقال هنا يقال بالنسبة لقوله تعالى : ( فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين (٢٩) ) (٣). ومعلوم أن إسناد البكاء الى السماء والأرض معا ،

__________________

(١) الطارق : ١١ ـ ١٤.

(٢) أحمد عبد الستار الجواري ، نحو المعاني : ١٢٤.

(٣) الدخان : ٢٩.

١٣٢

وليس من شأن السماء البكاء ، ولا من طبيعة الأرض أن تكون باكية ، دلالة على إرادة الاستعمال المجازي عقلا ، فالمساء على حقيقتها والبكاء على حقيقته وكذلك الأرض ، ووصف السماء والأرض بأنهما يبكيان ، أو نفي بكائهما كما في الآية ، يقتضي أن هذا الإسناد ألصق في تصور الفجيعة ، وأبلغ في تصوير النازلة ، وذلك حينما أخذ هؤلاء على عجل دون أهبة أو استعداد.

ونظير هذا كثير في المجاز العقلي من القرآن.

٤ ـ علاقة المجاز العقلي في القرآن

والمراد بعلاقة المجاز العقلي في القرآن ههنا ، وجه الاستعمال المجازي وسببه الداعي اليه ، والركيزة المقتضية التي يستند اليها هذا المجاز ، ولك أن تتجوز في ذلك فتقول : إن العلاقة هنا هي المسوغ الفني ، أو المبرر الاستعمالي لهذه الصيغة المجازية دون الأصل الحقيقي.

ولقد توسع علماء البلاغة القدامى والمحدثين ـ بالتبعية ـ في إيراد مبررات هذه العلاقة ، وتفننوا بالتقسيمات المضنية ، وتعللوا بالتخريجات المنطقية تارة ، والكلامية أخرى ، والنحوية سواهما ، حتى بلغوا بذلك حد الإفراط ، مما ذهب برونق هذه العلاقة المتينة وبهائها ، فبدلا من حصرها ، وتسليط الأضواء على مضمونها ، لجأوا الى التفصيلات المملة ، والأسماء المخترعة ، فكانت السببية مثلا ، والمسببية ، والزمانية ، والمكانية ، والفاعلية ، والمفعولية ، والمصدرية وأضراب ذلك من نماذج علاقة المجاز العقلي.

وكانت : تسمية الكل باسم الجزء الذي لا غنى عنه في الدلالة على ذلك الكل ، وتسمية الجزء باسم الكل ، وتسمية المسبب باسم السبب ، وتسمية السبب باسم المسبب ، وتسمية الشيء باسم ما كان عليه ، وتسميته باسم ما يكون عليه أو يؤول اليه ، وإسناد الفاعلية أو الصفة الثبوتية للزمان ، ووضع النداء موضع التعجب ، وإطلاق الأمر وإرادة الخبر به ، وإضفاء الفعل الحسي على الأمر المعنوي ، والتغليب : بإعطاء الشيء حكم غيره ، وأضراب ذلك من نماذج علاقة المجاز اللغوي المرسل.

١٣٣

ولا نريد أن نعيد هذا المعجم المشحون بنماذجه التطبيقية ، إذ أفردناه فيما مضى بعمل بلاغي مستقل تابعنا فيه من سبق ، فمن شاء فليرجع اليه ففيه الغنية والمزيد ، من هذه الأبعاد الشاقة (١).

والذي نريد أن نشير اليه هنا ، أن القرآن الكريم في نصه الإعجازي لم يكن ناظرا الى تلك التفصيلات لدى إيراده علاقة المجاز العقلي ، وإنما كان متنقلا بالذهن العربي الى آفاق جديدة من التعبير الموحي والبيان الطلق ، ومتحدثا الى الطبيعة الإنسانية بما يلائم فطرتها النقية ، دون تزيد في المراد ، أو عنت في الإداء ، وكان انتشار العلاقة تابعا لمذاق الباحث في الاستنتاج ، ولا تعنيه الأسماء والتقسيمات لأنها مع صنع البلاغيين ، لهذا نجده في هذا الملحظ ، وإن استخرج علماء البلاغة كل أصناف العلاقات من آياته الكريمة ، يدور في فلك النفس فيملأ فراغها ، ويسد نقصها ، بما يجعلها أهلة لتلقي النص بذائقة سليمة ، لهذا نجده يشيع الحس بالكائنات الصامتة ، ويضفي القدرة على ما لا حول له ولا قوة ، ويسند الفاعلية الى الجمادات ، وإذا بها متحركة بعد سكون ، ويستنطق المعالم المبهمة وإذا بها مبينة بعد سكوت ، وما ذلك إلا من مظاهر الاعتداد بظاهرة المجاز البيانية ، بعيدا عن التساؤلات المقحمة ، أو الهذر في التفصيلات الأعجمية ، وهو بهذا الملحظ يفجر روافد بلاغية جديدة ، ذات إطار تجدّدي سليم ، على مجموعة الممارسات البيانية الحسية والعقلية في اللغة العربية الكريمة ، والتي يمكن أن ننظر لها بمجموعة فياضة من شتى العلاقات في المجاز العقلي للقرآن الكريم ، دون اللجوء الى ظاهرة التعقيد أو التقعيد :

١ ـ في قوله تعالى : ( إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم واذا تليت عليهم ءاياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون (٢) ) (٢) ، نسبت زيادة الإيمان الى آيات الله تعالى في قرآنه الكريم ، ولما كان الأصل في الإيمان وزيادته هو التوفيق الإلهي الصادر عن الله عزّ وجلّ ، علم بالضرورة أن نسبة زيادة الإيمان الى الآيات بإضافتها إليها ، إعلاء منه تعالى لشأن هذه الآيات

__________________

(١) ظ : المؤلف ، أصول البيان العربي : ٤٨ ـ ٥٦.

(٢) الأنفال : ٢.

١٣٤

المجيدة ، وكأنها المؤثر الحقيقي ، وإن كان الأثر من الله ، والتأثير بتوفيقه ، وكان ذلك من المجاز المرصود عقليا لكون الإثبات سببا في زيادة هذا الإيمان ، ولعل في ذلك إشارة واعية الى النتائج الإيجابية في تلاوة الآيات أو الاستماع إليها ، أو الإنصات لدقائقها ، فيكون الحث عليها بهذا الأسلوب الجديد ، وكأنه أمر بصيغة الإخبار ، وتحضيض عن طريق الإنباء.

٢ ـ وفي قوله تعالى : ( وضرب الله مثلا قرية كانت ءامنة مطمئنّة يأيتها رزقها رغدا من كلّ مكان فكفرت بأنعم الله فاذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون (١١٢) ) (١) ، عدة استعمالات مجازية متطورة ، يتعلق بعضها بالمجاز العقلي ، والآخر بالمجاز اللغوي في الاستعارة ، ولا حديث لنا معه ، والشأن في المجاز العقلي حيث وصف القرية بكونها أمنة مطمئنة ، وقد علم بالضرورة أن الأمن والأطمئنان لا تتصف بهما مرافق القرية وجدرانها ، وإنما يتنعم بهما أهلها وسكانها ، فعبر مجازا عن طريق إطلاق اسم المحل وهو القرية ، على الحال فيها وهم الأهل والساكنون ، وعبّر عن الرزق بأنه يأتي ، الرزق ليست له حركة ولا إرادة في التنقل والقصد ، وإنما الله تعالى هو الذي يسخر من يجلب الأرزاق إليها ، ويأتي بها ـ وهو الرزاق ذو القوة المتين ـ من كل مكان الى تلك القرية أو هذه تعبيرا عن تنعمها وعيشها الرغيد فكأن الرزق يقصدها سائرا سادرا متوافرا.

وفلسفة هذا المثل القرآني الفريد ، أن لا يكفر ذوو النعم بنعمهم ، فيصيبهم ما أصاب هذه القرية من التلبس بالجوع والخوف والإذلال.

فالمجاز ـ إذن ـ وهو في سياق التشبيه التمثيلي المنتزع من صور متعددة من باب القياس التمثيلي ، وذلك من خصائص المجاز الفنية.

٣ ـ وفي قوله تعالى : ( ألم تر الى الّذين بدّلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار (٢٨) ) (٢) ، أضافت الآية إجلال البوار الى الذين بدلوا نعمة الله كفرا ، وذلك بسبب من سوء أعمالهم وكفرهم وطغيانهم وكان ذلك

__________________

(١) النحل : ١١٢.

(٢) إبراهيم : ٢٨.

١٣٥

نتيجة لكفرهم ، ومظهر كفرهم إطاعتهم أكابرهم بالكفر ، في حين أن الذي أحل هؤلاء وهؤلاء دار البوار ـ على سبيل العقوبة والمجازاة ـ هو الله تعالى جلّ شأنه. وهنا تلمس قيمة المجاز وتدرك خصائصه الفنية ، وذلك حينما تعلم موقع تبديل النعم بالكفر في الإحلال بدار البوار ، والكفر ـ بحد ذاته ـ ليس بقادر ولا متصرف ولا متمكن ، ومع هذا فهو السبيل الى دار البوار بالقوة والفعل والعيان ، وإن كان المحدث للأمر غيره دون ريب ، فالمراد أجتنابه ، والابتعاد عن دائرته ، وإحلال الشكر محله ، تطبيقا لقوله تعالى : ( لئن شكرتم لأزيدنّكم ) (١).

٤ ـ وفي قوله تعالى : ( مثل الجنّة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أُكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتّقوا وعقبى الكافرين النار (٣٥) ) (٢) ، تجد جرسا موسيقيا ، وتخامر لذة علوية ، تأنس لها النفس ، وتهش لها الطبيعة الإنسانية ، وذلك عندما تتحدث الآية عن الملذات الحسية فضلا عن الملذات الروحية وأنت تتخيل الأنهار جارية ، وحولها الضلال الفسيحة ، والأكل الدائم ، وفي الجنة التي وعد المتقون. والأنهار وعاء للماء ومستقر له ، راكد أو سارب بأمر الله تعالى ، وهي ثابتة غير متنقلة ، فهي مكان الجري ، وما يجري فيها هو الماء ، فلما أسند الجري الى الأنهار علمنا عقلنا بالحكم عليه : أنه مجاز لأن الماء هو الجري إلا ان مكانه الأنهار ، فعبّر عن جريان ذلك الماء بجري الأنهار نفسها بوصفها مكانا له ، أو باعتبار الكثرة والغزارة في هذا الجري حتى ليخيل أن هذه الأنهار تجري بنفسها ، وإنما اعتبر المكان باعتبار الإسناد إليه ، والعامل الحقيقي غيره ، وما يدريك فلعل في هذا الاستعمال ـ وهو كذلك ـ من القوة في الاندفاع ، والسيطرة على النفس ، وعظيم التصوير الفني ، أضعاف ما في الاستعمال الحقيقي من الدلالة على المعنى المراد أداؤه بالضبط.

٥ ـ وفي قوله تعالى : ( والضحى (١) والليل إذا سجى (٢) ) (٣) ، تبرز

__________________

(١) إبراهيم : ٧.

(٢) الرعد : ٣٥.

(٣) الضحى : ١ ـ ٢.

١٣٦

دلالة المجاز العقلي في إسناد العامل المؤثر الى الزمان ، فسجى بمعنى سكن ، والليل وإن وصف بالسكون فسكونه مجازي لأنه غير قابل للحركات المباشرة الت قد توصف بالهدوء حينا ، وبالفعالية حينا آخر ، وإنما أراد به سكون الناس عن الحركات ، وخلودهم الى السبات ، واستسلامهم الى الراحة.

قال الراغب ( ت : ٥٠٢ هـ ) « وهذا إشارة الى ما قيل : هدأت الأرجل » ، (١) فهو يعني بذلك هدوء الناس بهدوء حركاتها المنطلقة من أرجلها وجوارحها حينا ، ومن ضجيجها وصخبها حينا آخر.

وهذا لا يمانع من القسم برب الضحى والليل إذا سجى ، أو بهما معا لما فيهما من عجائب الصنع ، وعلى الإيجاد ، وتقلب الكواكب ، وعظم الإبداع.

٦ ـ وقد يتوسع بعضهم في المجاز العقلي في القرآن حتى يخالف فيه الظاهر ، أو يؤول تأويلا كلاميا ، ونحن وإن أعرضنا عن الخوض في هذا الملحظ بالذات ، لأن القرآن أسمى علاء وبيانا من الجزئيات الكلامية إلا أننا نورد هنا نموذجا من ذلك لئلا تكون ثغرة في البحث ، عسى أن لا يقال ذلك فيه ، والكمال لله وحده. ففي قوله تعالى : ( إنّ الّذين ءامنوا والّذين هادوا والنصارى والصابئين من ءامن بالله واليوم الأخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (٦٢) ) (٢) ، قال الشيخ الطوسي ( ت : ٤٦٠ هـ ).

« وقد استدلت المرجئة بهذه الآية على أن العمل الصالح ، ليس من الإيمان ، لأن الله تعالى أخبرهم عنهم بأنهم آمنوا ، ثم عطف على كونهم مؤمنين. إنهم إذا عملوا الصالحات ما حكمها؟ قالوا : ومن حمل ذلك على التأكيد أو الفضل ، فقد ترك الظاهر. وكل شيء يذكرونه مما ذكر بعد دخوله في الأول مما ورد به القرآن : نحو قوله تعالى : ( فيهما فاكهة ونخل ورمان

__________________

(١) الراغب ، المفردات في غريب القرآن : ٢٢٥.

(٢) البقرة : ٦٢.

١٣٧

(٦٨) ) (١) ونحو قوله : ( وإذ أخذنا من النّبيّن ميثاقهم ومنك ومن نوح ) (٢) ، ونحو قوله : ( والّذين كفروا وكذّبوا بآياتنا ) (٣) ، وقوله : ( حم (١) ) (٤).

قالوا : جميع ذلك مجاز.

ولو خلينا والظاهر ، لقلنا : إنه ليس بداخل في الأول. فإن قالوا : أليس الإقرار والتصديق من العمل الصالح؟ فلا بد لكم من مثل ما قلناه ، قلنا : عنه جوابان؟

أحدهما : أن العمل لا يطلق إلا على أفعال الجوارح ، لأنهم لا يقولون : عملت بقلبي ، وإنما يقولون : عملت بيدي أو برجلي.

والثاني : أن ذلك مجاز ، وتحمل عليه الضرورة. وكلامنا مع الإطلاق (٥).

ولا نريد الاسترسال في تطبيق أمثلة الممارسات البيانية الجديدة في مجاز القرآن العقلي من خلال علاقته في وجوه الاستعمال بل نريد التأكيد مجددا أن تتبع شذرات هذا المجاز في هذا العطاء الضخم ، قد مثل لنا الإرادة الاستعمالية المتطورة ، والمناخ الفني المضيء ، بما أفاده من قدرة خارقة في استيحاء التلازم الذهني بين الأصل وهو على طبيعته لم ينقل منها ، وبين الفرع الذي هو المجاز في إداركه من خلال الترابط البياني لدى الانتقال من معنى الى معنى جديد بحكم الإسناد ، لا بحكم الألفاظ ، وتلك ميزة المجاز العقلي في القرآن العظيم ، إفصاحا منها في ترجمة المشاعر ومسايرة العواطف ، وصيانة اللغة والتراث والشريعة دفعة واحدة.

وبذلك يتحقق الغرض الفني والغرض الديني بلحاظ مشترك أنيق.

__________________

(١) الرحمن : ٦٨.

(٢) الأحزاب : ٧.

(٣) الحديد : ١٩.

(٤) محمد : ١.

(٥) ظ : الطوسي : البيان في تفسير القرآن : ١/ ٢٨٥.

١٣٨
١٣٩

الفصل الخامس

المجاز اللغوي في القرآن

١ ـ المجاز اللغوي بين الاستعارة والمجاز المرسل

٢ ـ انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن

٣ ـ علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن

١٤٠