مستند الشيعة في أحكام الشريعة - المقدمة

مستند الشيعة في أحكام الشريعة - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : الفقه
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMostanad_Shia-part01-subimages001.png

١

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMostanad_Shia-part01-subimages002.png

٢

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMostanad_Shia-part01-subimages003.png

٣

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEMostanad_Shia-part01-subimages004.png

٤

المُقَدَّمةُ



بسم الله الرحمن الرحيم

بعد حمد الله على عظيم منّه وإفضاله والصلاة والسلام على مفخر قطّان أرضه وسمائه محمّد وآله خير البريّة أجمعين.

لا ريب أنّ لكلّ أُمّة ـ تريد المجد وتنشد الرقي ـ أن ترسم لنفسها دستوراً للعمل ومنهجاً في الحياة ، والأمم الإِلٰهيّة ـ بما فيها الْأُمة الإِسلامية ـ أخذت دستور عملها ومنهاجها من تعاليم السماء ، وهي أجدر وأسمى من القوانين الوضعية التي رسمتها كثير من الأمم لغرض إيصال الإِنسان إلى مجده ورقيّه.

وهذا الهدف الذي يجسّد السعادة بذاتها لا يمكن تحقّقه إلّا عبر الجمع بين مفردات الفكر وواقع الممارسة ، فالعالم الذي لا يعمل بعلمه لا أنّه لن يصل إلى غايته ومطلوبه فحسب ، بل يكون العلم وبالاً عليه ، وقد جعل الله سبحانه وتعالى ابليس المثال البارز للعالم غير العامل.

إذن ، فالعمل هو الخطوة الثانية بعد المعرفة والعلم ، وذلك طبق المفاهيم المستوحاة من القرآن الكريم .. ونعني بالعمل : إتيان ما أمر الله أن يؤتى به والانتهاء عمّا نهى عنه.

٥

هذا ، والمعروف من التعاليم السماوية أنّها تعطي للجانب العملي أهمية خاصة مع الحفاظ على تقوية الجانب الروحي في آنٍ واحد ، وبهما يرتفع الإِنسان من حضيض النفس البهيميّة إلى ذروة المجد والمراتب الكماليّة ، حتى يعدّ بمنزلة الملائكة ، بل بمنزلته تبارك وتعالى ، كما ورد في قوله عزّ من قال : « عبدي أطعني تكن مَثَلي ، أو مثلي ».

ولقد تألّق علماؤنا وفقهاؤنا في عكس الصورة الواضحة والسليمة عن أسس ومبادئ الدين الإِسلامي الحنيف الذي يمثّل مرحلة الكمال في التعاليم السماوية ، فهو الناسخ لكل الأديان والرسالات التي انتشرت قبله ، ثم إنّه لا شريعة بعده مطلقاً.

وإنّنا والحال هذه نجد أنفسنا أمام كنز غني من الفكر والثقافة يدعو أهل الفن والخبرة إلى السعي لإِظهاره بالشكل المطلوب ، بل إنّ التضلّع باحيائه يعدّ محوراً مهماً من محاور تحقق المجد والسعادة.

وللمناسبة فإنّ إطلاق لفظة « الإِحياء » كان من باب الكناية والمجاز ، وإلّا فإن التراث حيّ حاضر لا غبار عليه ، سيّما وأنّه مستنبط من شريعة خاتم المرسلين والأئمّة الميامين صلوات الله عليهم أجمعين ، التي تكاملت بحذافيرها ـ على المشهور من مذهب الأصوليين ـ في زمنه صلّى الله عليه وآله ؛ أو أنّ خطوطها العريضة وكلياتها قد بيّنها بنفسه صلّى الله عليه وآله وأوكل التفصيل والتوسعة فيها إلى الأئمة عليهم السلام ، كما هو رأي البعض.

ويشهد للقول المشهور ، قوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) (١).

__________________

(١) المائدة : ٣.

٦

والنصّ المرويّ عن مولانا الباقر عليه السلام ، قال : « خطب رسول الله صلّى الله عليه وآله في حجة الوداع ، فقال : يا أيّها الناس ، ما من شيء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم عن النار إلّا وقد أمرتكم به ، وما من شيء يقرّبكم من النار ويباعدكم عن الجنّة إلّا وقد نهيتكم عنه » الخبر (٢).

أضف إلى ذلك ، فإنّ الْأُمّة من الظرف الراهن على الخصوص محفوفة بالمخاطر والدسائس من كلّ جانب ، بل عاد النضوج المعنوي والحسّ الروحي منحصراً ، وغدا التعقّل والتدبّر والاشتغال بالعلم مرتبطاً بفئة قليلة جدّاً ، وصار السواد الأعظم يهوى التطوّر الكاذب ، ويلهث وراء الدنيا ومظاهرها ، تاركاً القيم السامية والمبادئ الرفيعة وراء ظهره.

ومن هنا فقد برزت بوضوح ضرورة تجاوز هذه الاخفاقات الغريبة عن الفكر الاسلامي وعقيدته المتكاملة من خلال التصدي لجملة من المناهج التربوية ، واهمهما الاغتراف من المعين الصافي للتراث الاسلامي ، والمتمثل بمدرسة أهل البيت عليهم السلام.

ثم إنّ التعامل مع التراث يحتاج إلى منهجية عمل متكاملة ذات أسس وقواعد متينة تضمن قطف اينع الثمار ، ولضيق المجال ، فإننا نكتفي بالاشارة إلى أهم محاورها ، فنقول :

لا بُدّ أولاً من تشخيص ماهية التراث وتثبيت موضوعه ، فما وصل بأيدينا منه مختلف ألوانه ، والذي نقصده هو ما يعكس هوية الأمة الحقيقية ، ويوضّح قيمها وتعاليمها ، ويحفظها من كيد أعدائها ، ويصون أصالتها الإِلهيّة ، وبالتالي هو ما يشكّل القناة الرئيسية التي توصل الانسان إلى الرقيّ المعنوي والغنى الدنيوي والأخروي.

__________________

(٢) الكافي ٢ : ٦٠ / ١.

٧

فالمطلوب إذن مراعاة أعلى مراحل الدقّة في الانتخاب ، حيث فيه خدمة عظيمة للأمّة ، وإلّا فإنّ التهاون فيه سيترك أسوأ الأثر وتكون له عواقب وخيمة لا تحمد عقباها.

وأمّا ثانياً : فهو تهيئة الكادر المتخصّص الذي يلقى على عاتقه تنفيذ هذه المهمة الحسّاسة ، وهذا ما يستدعي توفّر عدّة مواصفات ومميّزات ، كالعشق والغيرة والدقّة والذكاء والتواضع والصبر والأمانة والذوق الرشيق والالتزام الديني والاستعانة بأهل الخبرة ، وغير ذلك.

ونجد لزاماً أن نقول : إنّنا بالقدر الذي ندعو فيه إلى إحياء التراث ، ندعو إلى السعي الحثيث لتدعيم جانب التصنيف والتأليف ، فالعصر الحاضر  ـ بمستحدثاته ومستجداته ، وبما يحمل من تساؤلات وشبهات مصدرها التآمر الفكري الثقافي الذي يتّسع يوماً بعد آخر ضد الدين الإِسلامي وقيمه الرفيعة ، وغير ذلك من العوامل والأسباب ـ يبرز الحاجة الملحّة لردم الهوّة الفاصلة بينه وبين التراث ، ونؤيد دعوانا هذه بأنّ التغاير المكاني والزماني لهما أقوى الأثر في توسيع الثغرة بينهما .. لذا لا بُدّ من مسايرة أحدهما للآخر من أجل عكس الصورة الكاملة والمتينة عن الثقافة الإِسلامية ، وهو مما يشكّل بطبيعته الخطوة الأساس على سبيل تحقيق الاكتفاء الذاتي في مختلف الأصعدة ، سيّما الصعيد الفكري منها.

ولكون إحياء التراث هو مدار البحث ، ارتأينا عطف الضوء على بعض زواياه تاركين الخوض في باب التصنيف لفرص أخرى.

ولنا الجرأة بأن ندّعي بالدليل القاطع : أنّ الأمة الاسلامية تمتلك تراثاً هائلاً من الآثار النفسية التي حرّرت في مختلف ألوان العلم والمعرفة ، كالفقه والْأُصول والأدب والكلام والطبّ والهندسة والفلك والرياضيات ، حتى عاد المخزون الثقافي لها من أهم ما اعتمدته النهضات المختلفة في برامج

٨

عملها ، بل إنّ الأمة الاسلامية بذاتها لمّا كانت رائدة العلم والتطور ، كان الفضل الأول والأخير في ذلك يعود إلى اعتمادها الاسلام كفكر وممارسة ؛ ولخصوصية تكيّفه مع مختلف الأعصار والأماكن فإنه يجدر بنا أن نستلهم ونستنبط من كنوزه نظاماً أرقى وواقعاً أعزّ وأرفع.

وفي نفس الوقت الذي نشدّ فيه على الأيدي التي طرقت هذا الجانب ـ أي عملية إحياء التراث ـ من مؤسسات ومجامع ومعاهد علمية وأفراد ، وسعت لنشره بعد إجراء سلسلة من مراحل التصحيح والتحقيق والطبع وتسهيل مهمة إيصاله بين أيدي القرّاء بالوفرة المطلوبة بعد ما كان مغموراً مخطوطاً لا تتجاوز نسخه عدد الأصابع.

نؤكّد على ممارسة أعلى مراحل الدقة والأمانة المقترنين بالالتزام الديني ، لما لهذه المميزات من أثر بارز في عرض تراثٍ سليم يترجم الطموحات المرجوة على أحسن الوجوه وأكملها.

ولسنا في مقام التعريض أو المساس بهذا النتاج أو ذاك ، بل غاية مقصودنا هو الدعوة إلى الاهتمام التام بالكيفية والنوعية ، وأن لا تكون الوفرة والتسابق على حسابهما ، فلا ضرورة ـ مثلاً ـ في البدء بمشروعٍ قطع الآخرون منه شوطاً طويلاً ، فإنه لدينا من التراث المخزون ما يحتاج معه إلى سنين طوال لانجازه ، فاللازم ان تنسّق كافة الجهات أعمالها بالنحو الذي يرتفع معه التكرار وإضاعة الوقت ، وأن يتم تبادل الآراء وتلاقح الأفكار ، كي لا تكون بضاعةً مزجاة وتجارةً قد تبور .. وإلّا فكم من المصنّفات قد نالتها يد التحقيق والتصحيح ويا ليتها لم تنلها ، وكم من غيرها ينتظر فرصة الظهور بشوق لا يوصف ، لكنه شوقٌ مشوب بالخوف من عاقبة ما آل إليها نظيره.

وبحكم التخصّص ، فلا نرى بدّاً من الميل بالبحث إلى علم الفقه من حيث الأهمية والمكانة .. فهو أشرف العلوم وأفضلها ، وقد وردت به

٩

الروايات المستفيضة الدالّة بوضوح على علوّ مرتبته وعظم منزلته ، كيف لا ؟! وهو برنامج الحياة المتكامل والموجّه لكلّ الأفعال والممارسات على النحو الصحيح.

والقوانين التشريعية التي صاغها الفقه الإِسلامي تعدّ من أرقى القوانين التي تضمن سعادة الإِنسان المطلقة وتوفر له كامل حقوقه وتبين وظائفه من الواجبات والمنهيات والمباحات ، بل والوضعيات من الأحكام ، بشكل يعطي لنظام الحياة رونقاً خاصّاً.

ولذا قد ورد عن مولانا الصادق عليه السلام أنّه قال : « لوددت أنّ أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقّوا » (١).

وقال عليه السلام أيضاً : « تفقّهوا في الدين فإنّه من لم يتفقه منكم في الدين فهو أعرابي ، إنّ الله يقول في كتابه : ( لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (٢) » (٣).

وكذا قال عليه السلام : « عليكم بالتفقّه في دين الله ولا تكونوا أعراباً ، فإنّه من لم يتفقّه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة ولم يزكّ له عملاً » (٤).

وعنه أيضاً : « إذا أراد الله بعبد خيراً فقّهه في الدين » (٥).

وعن أبيه الباقر عليه السلام أنّه قال : « الكمال كلُّ الكمال التفقّه في الدين » الخبر (٦).

__________________

(١) الكافي ١ : ٣١ / ٨.

(٢) التوبة : ١٢٢.

(٣) الكافي ١ : ٣١ / ٦.

(٤) الكافي ١ : ٣١ / ٧.

(٥) الكافي ١ : ٣٢ / ٣.

(٦) الكافي ١ : ٣٢ / ٤.

١٠

وقد روت العامّة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله قوله : « من يرد الله به خيراً فقّهه في الدين » (٧).

وغير ذلك من النصوص الدالّة على شرف الفقه ورفيع مكانته ومقدار أهميّته.

والفقه الإِمامي يمثّل الوجه الناصع والانعكاس الحقيقي لما ورد في القرآن والسنة من مفاهيم وأحكام ، فقد جاء عن الإِمام الباقر عليه السلام قوله : « يا جابر ، لو كنّا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نفتيهم بآثار من رسول الله صلّى الله عليه وآله ، وأُصول علمٍ عندنا نتوارثها كابراً عن كابر ، نكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضّتهم » (٨).

والتصانيف الفقهيّة التي ألّفها علماء الشيعة الإِماميّة ـ بمختلف الطرق والأساليب ـ تعدّ النموذج الأرقى للفقه الإِسلامي ، والبرهان الساطع على علوّ كعب هذه الطائفة ، سواء كان ذلك من حيث الكمّ أو الكيف ، ولقد جدّت الخطى وتآزرت الجهود وبذلت أقصى الإِمكانيات لإِظهار ما جادت به أقلام عباقرة العلم والمعرفة والفكر والفضيلة بلباس جديد مسبوقاً بالتصحيح والتحقيق ، مراعاً فيه الذوق الرشيق والفن المبتكر والجاذبية العالية.

ولا يخفى على أهل الفن والخبرة من المتخصصين والباحثين والمحققين ما لمؤسسة آل البيت عليهم السلام من دور فعّال ونشاط ملموس وإكبار لمسؤولية إحياء التراث ونتاجات فقهاء مدرسة آل البيت عليهم السلام.

وقد شهد لها القريب والداني من كل حدب وصوب أن عنوانها لم يكن

__________________

(١) صحيح البخاري ١ : ٢٧ ، صحيح مسلم ٣ : ١٥٢٤ / ١٧٥ ، سنن ابن ماجة ١ : ٨٠ ب ١٣ ، موطأ مالك ٢ : ٩٠٠ / ٨ ، سنن الترمذي ٤ : ١٣٧ / ٢٧٨٣ ، مسند أحمد ١ : ٣٠٦.

(٢) بصائر الدرجات ٣٢٠ / ٤ ب ١٤ ، الاختصاص : ٢٨٠ بتفاوت يسير ، وعنهما في البحار ٢ ١٧٢ / ٣.

١١

مجرّد رؤية أو شعار ، بل أثبتت على مستوى التطبيق والإِنجاز أنّها تتحسّس الضرورة وتؤمن إيماناً عميقاً بالاهداف التي شيّدت لأجلها ، فكان أنه جاءت نتاجاتها رفيعة المستوى ، متينة العرض ، فريدة الأسلوب ، حسنة الذوق ، يهفو إليها الجميع. وهذا ما يعكس الهوية الحقيقية لها.

ويشغل الجانب الفقهي حيّزاً واسعاً ومهمّاً من برنامج عملها ، يلمس ذلك بوضوح ممّا صدر عنها من نتاج ، وما هو في طور الصدور أو قيد التحقيق .. وهذا ما يؤكد حجم اهتمامها بلزوم رفع المستوى الفقهي عموماً وعلى صعيد الحوزات العلمية خصوصاً ، وكذا إحساسها بعلوّ مرتبة الفقه وشرفه ومنزلته.

ولعل السبب الأساس في نجاحها يعود وبفضل الله تبارك وتعالى إلى سلامة المنهجية التحقيقية التي سلكتها في إنجاز أعمالها وهو ما نقصد به أسلوب العمل الجماعي.

وإن كانت المؤسسة قد استطاعت أن ترفد المكتبة الإِسلامية بما تفتقره من آثار نفيسة ـ بعدما علا عليها غبار الدهر وبنى ـ وبحلّة قشيبة ، محققة ، مصحّحة ، تختزل عناء البحث ولوازمه ؛ فإنّها ولله الحمد تكون قد ترجمت أهدافها إلى واقع ملموس ، مع أن الطموح يرقى يوماً بعد آخر.

وأقلّ ما يقال : إنّ المؤسسة قد أحكمت القدم على طريق إحياء تراث آل البيت عليهم السلام.

نحن والكتاب :

صنّف فقهاؤنا العظام الكثير في الفقه الاستدلالي ، ولكلّ واحد من هذه الكتب سماته ومميّزاته ، من متانة الاستدلال والجامعية وكثرة التفريعات ونقل الأقوال والإِيجاز وغيرها.

١٢

ويمتاز كتاب مستند الشيعة بالاضافة إلى ذلك بالدقة البليغة والأسلوب العميق ، مع فرز جهات المسألة وجوانبها المختلفة وبيان تعارض الآراء وأسانيدها بالنقض أو الإِبرام ، كلّ ذلك ببضع أسطر أو صفحات.

وقد قال بعض الأعلام في مقدّمة الطبعة الحجرية من الكتاب ما نصّه :

لا يعادله كتاب في الجامعية والتمامية ، لاشتماله على الأقوال ، مع الإِحاطة بأوجز مقال ، من غير قيل وقال ، وارتجاله في الاستدلال ، وما به الإِناطة بأخصر بيان ومثال ، من دون خلل وإخلال ، فلقد أجمل في الايجاز والإِعجاز ، وفصّل في الإِجمال حقّ الامتياز ، فهو بإجماله فصيل ، وفي تفصيله جميل ، سيّما في كتاب القضاء ، فقد اشتهر بين الفضلاء أنّه لم يكتب مثله.

ثم إنّه لا يدع برهاناً أو دليلاً إلّا واستقرأه واستقصاه إثباتاً لمختاره ومدّعاه ، غير غافل عن التعرض لما تُمسِّك به للأقوال الْأُخرى من الوجوه والأسانيد ، خائضاً فيها خوض البحر المتلاطم ناقضاً عليها بألوان الوجوه والحجج.

ولعل ما يكسب الكتاب قيمةً ومكانةً تفرّسه ـ رحمه الله ـ في سائر العلوم ، كالفلك والرياضيات ، وترى آثار هذه المقدرة الفذة بارزة في بحث القبلة وكتاب الفرائض والمواريث وغيرها من المباحث التي يشتمل عليها الكتاب.

والمشهور والمعروف عن مستند الشيعة أنّه اختصّ وامتاز بكثرة تفريعاته إلى غاية ما يمكن ، وذلك بعد تحقّق أصل المسألة عنده وإثبات مشروعيتها ، وعلى سبيل المثال لا الحصر تراه في مبحث : أنّ نصف الخمس لليتامى والمساكين وأبناء السبيل من أهله عليه السلام دون غيرهم ،

١٣

يذكر أولاً اعتبار السيادة أو عدمها ، ثم يعرّف السادة ويبيّن أدلّة استحقاقهم الخمس ، ثم يتناول كيفية النسبة إلى بني هاشم .. هذا ، مع أنّه يذكر لكلّ فقرة من فقرات البحث الأقوال المختلفة فيها مع ذكر أدلتها ثم الإِشكال والردّ على المخالف منها وتدعيم وتوجيه المختار.

وحكي عن الفقيه المتتبع آية الله العظمى السيد محمد كاظم اليزدي الطباطبائي صاحب الأثر الجليل كتاب العروة الوثقى أنّه كان يراجع كتاب المستند في تفريعاته الفقهية ، ويأمر تلامذته بالاستخراج منها.

هذا ويستفاد من مطاوي الكتاب عدّة مبان للمؤلّف ، فإنّا نشير إليها لا بنحو الاستقصاء ، بل هي شوارد جالت للبصر وفي فترة كتابتنا للمقدّمة.

منها : انقلاب النسبة فيما كان التعارض بين أكثر من دليلين.

منها : أنّ الشهرة الفتوائيّة جابرة وكاسرة لسند الرواية.

منها : أنّ قاعدة التسامح تفيد الاستحباب وتجري حتى لفتوى الفقيه.

منها : أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ.

منها : أنّ الجملة الخبريّة لا تفيد الوجوب والتحريم.

منها : ذهابه إلى عدم اجتماع الأمر والنهي.

منها : أنّ مقتضى القاعدة في تعارض الخبرين بعد فقدان المرجّح هو التخيير لا التساقط.

منها : عدم جريان الاستصحاب في الحكم الكلّي.

ترجمة المؤلّف :

هو المولى أحمد بن المولى مهدي بن أبي ذرّ النراقي الكاشاني.

ولد في قرية نراق من قرى كاشان ، في ١٤ من جمادى الآخرة سنة ١١٨٥ هـ. ق ، الموافق لسنة ١١٥٠ هـ. ش ، وقيل سنة ١١٨٦ هـ. ق.

١٤

أخذ مقدّمات دروسه من النحو والصرف وغيرهما في بلده ، ثم درس المنطق والرياضيات والفلك على اساتذة الفنّ حتى برع فيها وبلغ درجة عالية غبطه عليها زملاؤه.

ثم قرأ الفقه والْأُصول والحكمة والكلام والفلسفة عند والده المولى مهدي النراقي كثيراً.

وقد امتاز من أوائل عمره الشريف بحدة الذهن النقّاد والذكاء الوقّاد ، وهذا ما أعانه في تسلّمه مراحل الفضل والعلم بالسرعة المذهلة.

ألقى دروسه في « المعالم » و « المطوّل » ، مرات عديدة ، وكان يجمع بغيرته الكاملة مستعديّ الطلّاب ، وفي ضمن التدريس لهم يلتقط من ملتقطاتهم ما رام ، ويأخذ من أفواههم ما لم يقصدوا فيه الإِفهام إلى أن بلغ من العلم ما أراد وفاق كل اُستاذ ماهر.

رحل إلى العراق سنة ١٢٠٥ هـ لغرض الزيارة ومواصلة الدراسة والتلمّذ على فقهاء الطائفة وزعماء الْأُمّة ، فحضر في النجف مجلس درس السيد محمّد مهدي بحر العلوم والشيخ جعفر كاشف الغطاء ، والفتوني كما قيل ، وكان حضوره حضور المجدّ المثابر ، حتى ارتوى من نمير منهلهم العذب بقدر ما اراد.

ثم قصد كربلاء لغرض الاستفادة ، والاستزادة من نور العلم أكثر فأكثر ، فحضر دروس السيّد علي الطباطبائي صاحب الرياض والسيّد ميرزا محمّد مهدي الشهرستاني ، وحكى في « نجوم السماء » عن « الروضة البهية » قوله : سمعت أنّ ملّا أحمد كان يحضر درس استاذ الكلّ الوحيد البهبهاني برفقة والده.

عاد إلى كاشان : فانتهت إليه الرئاسة بعد وفاة والده سنة ١٢٠٩ هـ ، وحصلت له المرجعية ، وكثر إقبال الناس عليه وصار من أجلّة العلماء

١٥

ومشاهير الفقهاء.

وأقوى دليل وأسطع برهان على مكانته العلمية وشهرته الطائلة أن الشيخ الأعظم مرتضى الانصاري رحل إليه للحضور عليه والإِفادة منه.

غادر بلده مرة أخرى قاصداً العراق ، وذلك في سنة ١٢١١ هـ لغرض الزيارة والاتصال بالشخصيات العلمية هناك.

هذا ، ومن جملة صفاته أنّه كان ـ قدّس سرّه ـ وقوراً غيوراً صاحب شفقة على الرعيّة والضعفاء وهمّة عالية في كفاية مؤوناتهم وتحمّل أعبائهم وزحماتهم.

وكان له من البنين ثلاثة ، أشهرهم وأعظمهم ملّا محمّد ، فقد كان عالماً جليلاً فاضلاً نبيلاً ، صاحب تصنيف ، توفي بكاشان سنة ١٢٩٧ هـ.

والآخر ميرزا نصير الدين ، له مصنّفات ، منها شرحه على الكافي.

والثالث ملّا محمّد جواد ، وهو عالم فاضل تقي نقي ، فقيه فطين ، وكان لا يتوانى عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مواظباً على إقامة صلاة الجماعة ، يطمئن الناس في الائتمام به ، توفي سنة ١٢٧٨ هـ عن عمر يناهز السادسة والخمسين.

ومن البنات واحدة ، هي حليلة ملّا أحمد النطنزي ، ومن أبنائها الميرزا أبو تراب.

تلامذته :

وقد تلمّذ عليه الكثير من طلبة العلم والمعرفة ، أعظمهم وأجلّهم وأشهرهم حجّة الحق شيخ الطائفة الأعظم الشيخ الأنصاري أعلى

١٦

الله مقامه الذي يروي عنه أيضاً.

ومن تلامذته ابنه ملّا محمّد.

وميرزا حبيب الله المعروف بـ : ميرزا بابا ، جدّ ملّا حبيب الله لأُمه ، صاحب « لباب الألقاب ».

السيّد محمّد تقي البشت المشهدي.

وأخوه ميرزا أبو القاسم النراقي.

وملّا محمّد حسن الجاسبي.

وفاته :

توفي رحمه الله تعالى في نراق احدىٰ قرىٰ كاشان اثر الوباء الذي اجتاح تلك البلاد آنذاك ، غير انه لم يحصل القطع في تاريخها ، إلّا ان الاقوىٰ كونها في ليلة الأحد ٢٣ ربيع الآخر عام ١٢٤٥ هـ (١) ، ويعضدها ما ذهب اليه تلميذه الملا محمّد حسين الجاسبي في قصيدته التي ارخ فيها عام وفاته ، والتي قول فيها :

أضحى فؤادي رهين الكرب والألم

أضحى فؤادي أسير الداء والسقم

تلك الضحى أورثت ما قد فجعت به

يا ليتها لم اُصادفها ولم أدم

لو حملت كربات قد أصبت به

مطية الفلك الدوار لم تقم

ما ذاك إلّا لرزء قد نعيت به

للعالم العلم ابن العالم العلم

علامة في فنون الفقه والأدب

مجموعة الفضل والأخلاق والشيم

مبدى المناهج هادي الخلق مستند

الأنام في جمل الأحكام للأمم

__________________

(١) وقيل إنّه توفّي عام ١٢٤٤ هـ ، وقيل غير ذلك.

١٧

جزاه خيراً عن الإِسلام شارعه

جزاء رب وفي العهد بالذمم

إلى أن قال :

قضىٰ على الحقّ أعلىٰ الله منزله

وأيتم الناس من عرب ومن عجم

من النراق سرى صبح الفراق إلى

كل العراق صباحاً غير منكتم

بل عمّ أهل الولا هذا المصاب فما

لواحد منهم شمل بمنتظم

لم يبق للخلق جيب لم يشقّ ولا

عمامة لحدوث الحادث العمم

لا بل على ما روينا الدين ينثلم

لمثل ذاك فيا للدين من ثلم

لي سلوة أنّ شمس العلم إن أفلت

بدت كواكب منها في دجى الظلم

إن شئت تدري متى هذا المصاب جرى

وقد تحقق هذا الحادث الصمم

عام مضى قبل عام الحزن يظهر من

قولي (له غرف) تخلو من الألم

فقد أرَّخ الشاعرُ العامَ السابق لعام الحزن (عام الوفاة) ، بقوله (عامٌ مضىٰ) وأنّ هذا (العامَ) يظهر من قوله (له غرفٌ ـ تخلو من ـ الألمِ) حيث يكون الحساب الأوّلي للحروف لعبارة (له غرف) ١٣١٥ ، وبطرح ٧١ لعبارة (الألم) يكون الباقي ١٢٤٤ ، فيلحقه العامُ التالي (عام الحزن) وهو سنة وفاته ، فيكون عام ١٢٤٥هـ ، وهو ما ذهبنا إليه آنفاً.

وحمل رحمه الله تعالى إلى النجف الاشرف حيث دفن في الصحن العلوي بجانب والده في الايوان جهة باب الطوسي من أبواب الحضرة الشريفة.

١٨

مؤلّفاته :

قد صنّف المحقّق ملّا أحمد النراقيّ الكثير من الكتب الفقهيّة والْأُصوليّة والأخلاقيّة ، طبع منها البعض وبقي الآخر ليرى النور ، فإنّا نسجّل قائمة بأسمائها وفق ما جاء في كتاب الذريعة وغيره :

١ : مناهج الأحكام في اُصول الفقه (١) : في مجلّدين ، وقد طبع بطهران سنة ١٢٦٩ بعنوان (مناهج الْأُصول).

٢ : مفتاح الأحكام في اُصول الفقه (٢).

٣ : أساس الأحكام في تنقيح عمدة مسائل الْأُصول بالأحكام (٣).

٤ : وسيلة النجاة (٤) : رسالتان كبيرة وصغيرة ، وهما فتوائيتان عمليّتان فارسيّتان ، الكبيرة في مجلّدين ، وأورد فيها الضروريّات في الأعمال.

__________________

(١) منه مخطوطة في مكتبة مدرسة المروي في طهران رقم ٢٨٠ كتبت سنة ١٢٢٩ وصححت سنة ١٢٣٢ واخرى في مكتبة سبهسالار رقم ٨٩٤ كتبت سنة ١٢٤١ وثالثة في مكتبة شاه جراغ في شيراز رقم ٣٣١ كتبت سنة ١٢٤٦ ومخطوطة في مكتبة المرعشي رقم ٦١٣٢ كتبت سنة ١٢٤٢ واخرى فيها رقم ٧٠٥٠ كتبت سنة ١٢٥١ مصححة وعليها تعليقات للمؤلف منقولة من خطه ، وفيها اخرى رقم ٨٠٩٦ كتبت سنة ١٢٥٦ ، واخرى في جامعة طهران برقم ٧٦٤٠ و ٧٦٦٧ / ٢ و ٧٧٠٤ / ٢ و ٨٧٠٩. ومنها نسخ في مكتبات اخرى.

(٢) منه مخطوطة في مكتبة شاه جراغ في شيراز رقم ٣٤٩ ربما هي بخط المؤلف ، واخرى في مكتبة مدرسة نمازي في خوي رقم ٣١٦ تاريخها سنة ١٢٢٨ وفي مكتبة المرعشي رقم ٧١٤٧ م كتبت سنة ١٢٢٨ ورقم ٦٣٢٢ م كتبت سنة ١٢٤٩ ورقم ٥١٩٣ كتبت سنة ١٢٥٧ ، واخرى في مكتبة جامعة طهران برقم ٢٩٢٦ و ٩٧٣ كما في فهرستها ج ٥ : ١٧٢٤.

(٣) منه مخطوطة في مكتبة كلية الإِلهيات في مشهد رقم ٩٦٥ وفي مكتبة الامام الرضا عليه السلام في مشهد ، رقم ٩٦٢٣ كتبت سنة ١٢١٧ ومنه مخطوطتان في المرعشية ٤٨٠٥ و ٦٤٢٨.

(٤) منه مخطوطة في جامعة طهران برقم ٩١١٤.

١٩

٥ : سيف الْأُمّة وبرهان الملّة (١) : فارسي ، كتبه باسم السلطان فتح عليّ شاه القاجاري ، مرتّباً على ثلاثة أبواب ، وطبع بإيران سنة ١٢٦٧ وسنة ١٣٠٠ وسنة ١٣٣٠. وهو في الردّ على البادري النصراني الذي أورد الشبهات على دين الاسلام. وكان من أفضل ثلاثة كتب صنّفت في هذا المورد.

٦ : عين الْأُصول ، في اُصول الفقه (٢).

٧ : مشكلات العلوم ، وقد جاء في الروضات بعنوان : (كتاب في مشكلات العلوم) ، وهو غير مشكلات العلوم الذي لوالده ، وغير الخزائن.

٨ : الخزائن (٣) ، فارسيّ بمنزلة التتميم والذيل لمشكلات العلوم تأليف والده ، وكلاهما مطبوعان ، والخزائن طبع مكرّراً منها سنة ١٢٩٠ ، ١٢٩٥ ، ١٣٠٧ ، ١٣٠٨ ، ١٣١٠ ، و١٣٨٠ هـ.

٩ : شرح تجريد الْأُصول : شرح كبير في ٧ مجلدات ، مشتمل على جميع ما يتعلّق بعلم الْأُصول ، فرغ منه سنة ١٢٢٢ هـ.

١٠ : عوائد الأيّام في مهمّات أدلّة الأحكام (٤) ، وقد طبع بإيران في سنة ١٢٤٥ و ١٢٦٦ هـ ، وعليه بعض الحواشي للشيخ الأنصاري سنة ١٣٢١

__________________

(١) منه مخطوطة في مكتبة البرلمان الايراني السابق رقم ٢٠٧١ قوبلت وصححت باشراف المؤلف وفيها اخرى برقم ٤٩٨٢ م كتبت سنة ١٢٤٣ في حياة المؤلف ، وفي جامعة طهران برقم ٢٧٢٠ و ٩٣٠ كما هو مذكور في فهرستها ج ٣ : ٥٨٤.

(٢) فرغ منه المؤلف ٢٥ جمادى الآخرة سنة ١٢٠٨ منه مخطوطة في مكتبة البرلمان السابق رقم ٥٥٣٨ من مخطوطات القرن ١٣.

(٣) منه مخطوطة في جامعة طهران برقم ٨٣٧ كما جاء في فهرسها ٣ : ٢٥٨.

(٤) منه مخطوطة في مكتبة جامعة طهران رقم ٩٣٣٧ كتبت سنة ١٢٦٠ ذكرت في فهرسها ١٧ / ٣٥٠ ، ومخطوطة برقم ٨٦٨٨ ورقم ٨ / ١٠٥٣ وفي مكتبة المرعشي ٧١٤٨ كتبت في عهد المؤلف ومصححة.

٢٠