جامع المقاصد في شرح القواعد - ج ٩

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي

جامع المقاصد في شرح القواعد - ج ٩

المؤلف:

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٦

أو غصبته من زيد لا بل من عمرو ، أو غصبته من زيد وغصبه زيد من عمرو ،

______________________________________________________

ذلك ، ولأنّ الإقرار بالغصب إقرار باليد للمغصوب منه وهي تقتضي الملك ، فيكون مقرا لكل منهما بما يقتضي الملك. ولأنّ الإقرار بالغصب إما أن يقتضي الإقرار بالملك أولا ، فإن لم يقتضه لم يجب الدفع في صورة النزاع الى زيد ، لعدم دليل يدل على كونه مالكا ، وإن اقتضاه وجب الغرم لعمرو لاستواء الإقرار بالنسبة إليهما.

فإن قيل : نختار الشق الثاني من الترديد ، ووجوب الدفع الى زيد لثبوت استحقاقه اليد بغير معارض ، أمّا الإقرار لعمرو بذلك فإنّه غير نافذ بالنسبة إلى الغير لاستحقاق زيد إياها لسبق الإقرار له ، ولا بالنسبة إلى القيمة لانتفاء دلالة الغصب منه على كونه مالكا ، والأصل براءة الذمّة.

قلنا : الإقرار بالغصب إقرار باليد وهي ظاهرة في الملك ، ولهذا يجوز أن يستند الشاهدان في الشهادة بالملك الى اليد كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى فيجري مجرى ما لو أقر بالملك لأحدهما ثم للآخر ، وفيه قوة. وأعلم أنّه قد احتمل بعضهم كون الإشكال في المسألة الأولى أيضا ، لأنّ الإقرار الثاني إقرار بملك الغير فلا ينفذ.

قوله : ( أو غصبته من زيد لا بل من عمرو ، أو غصبته من زيد وغصبه زيد من عمرو ).

سوق العبارة يشعر بأنّ الاشكال إنّما هو في المسألة السابقة دون ما بعدها ، فلا يكون عنده في هاتين المسألتين وما بعدهما إشكال ، وإن كان الاحتمال بحسب الواقع قائما ، ووجه الغرم يعلم ممّا سبق في المسألة السابقة.

ووجه الترجيح هنا إنّه لمّا نفى الغصب من زيد المقر به بقوله : لا كان رجوعا عن الإقرار إلى الإنكار فلم يكن مسموعا ، فصح الإقرار الأول ووجب أن ينفذ الثاني ويجب الغرم ، لأنّه قد حصر الغصب واليد في عمرو المقتضي للملكية فوجب الغرم ، للحيلولة بإقراره لزيد الذي رجع عنه.

٣٢١

وكذا استودعته من زيد بل من عمرو ، وسواء اتصل الكلام أو انفصل.

ولو قال : لزيد بل لعمرو بن خالد حكم للأول وغرم لكل من الباقيين كمال القيمة.

ولو قال : بل لعمرو وخالد فقيمة واحدة لهما ،

______________________________________________________

ويحتمل عدم الغرم ، لأنّ كون عمرو مغصوبا منه لا يقتضي كونه مالكا ، ولأنّ الإقرار الثاني إقرار على الغير ـ وهو المقر له الأول ـ ، وضعفه ظاهر.

قوله : ( وكذا استودعته من زيد بل من عمرو ).

هذه مثل قوله : ( غصبته من زيد بل من عمرو ) في وجوب الغرم للثاني ، بل هذه أولى بعدم الغرم ، لأنّ الإقرار بالغصب من كل منهما إقرار بالخيانة في مال كل منهما وهو موجب للضمان ، بخلاف الوديعة ، ووجه الغرم : اعترافه باليد للأول ثم للثاني وهي ظاهرة في الملك.

قوله : ( سواء اتصل الكلام أو انفصل ).

أي : في المسائل المذكورة كلها ، لأنّ الإضراب ببل يجعل ما بعدها منفصلا عمّا قبلها فلا عبرة بالاتصال الزماني.

قوله : ( ولو قال : لزيد بل لعمرو بل لخالد حكم للأول وغرم لكل من الباقين كمال القيمة ).

تقريبه مستفاد ممّا سبق.

قوله : ( ولو قال : بل لعمرو وخالد فقيمة واحدة لهما ).

أي : لو قال : هذا الشي‌ء لزيد بل لعمرو وخالد وجب دفعه الى زيد ثم يغرم لعمرو وخالد قيمته ، لأنّه لو أقر به لهما لكان بينهما ، فإذا أقر به كذلك بعد الإقرار به لزيد غرم لهما قيمة واحدة.

٣٢٢

ولو قال : لزيد وعمرو نصفين بل لخالد غرم لخالد الجميع ، ولو قال : بل ولخالد فالثلث ، ولو قال بل لزيد وخالد فالنصف.

ولو صدّقه الأول في ذلك كله فلا غرم.

ولو قال : غصبته من زيد وملكه لعمرو ، أو وهو لعمرو لزمه الدفع الى زيد ، ولا يغرم لعمرو ، لأنّه يجوز أن يكون في يد زيد بحق إجارة أو وصية أو عارية ، فلا تنافي ملكية عمرو ، ولم يوجد منه تفريط يوجب الضمان ، بخلاف هذا لزيد بل لعمرو ، لأنّه أقر للثاني بما أقر به للأول فكان الثاني رجوعا عن الأول بخلاف ما قلناه ، ولا يحكم بالملك لعمرو إذ هو بمنزلة من أقر لغيره‌

______________________________________________________

قوله : ( ولو قال : لزيد وعمرو نصفين بل لخالد غرم لخالد الجميع ).

لأنّ الإضراب يقتضي أن يكون لخالد الجميع فيجب غرم جميع القيمة له. وأعلم أنّه لو سكت في الإقرار عن قوله : نصفين لم يتفاوت الحكم.

قوله : ( ولو قال : بل ولخالد فالثلث ).

لأن العطف بالواو يقتضي التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه ويحتمل النصف ، لأنّ بل للإضراب وهو يقتضي المغايرة ، والواو تقتضي التشريك فوجب كونه مع أحدهما لا غير ، ليحصل معنى التشريك وتتحقق المغايرة.

ويضعّف بأنّه يكفي في المغايرة حكمه أولا بكونه للاثنين ثم حكمه بكونه للثلاثة ، وهذا هو ظاهر اللفظ ، وتمحل غيره تعسف.

قوله : ( ولو قال : غصبته من زيد وملكه لعمرو ، أو وهو لعمرو لزمه الدفع الى زيد ولا يغرم لعمرو ، لأنّه يجوز أن يكون في يد زيد بحق إجارة أو وصية أو عارية فلا ينافي ملكية عمرو ، ولم يوجد منه تفريط يوجب الضمان ، بخلاف هذا لزيد بل لعمرو ، لأنّه أقر للثاني بما أقر به للأول فكان الثاني رجوعا عن الأول بخلاف ما قلناه ، ولا يحكم بالملك لعمرو إذ هو‌

٣٢٣

بما في يد آخر ، ويحتمل الضمان.

______________________________________________________

بمنزلة من أقر لغيره بما في يد آخر ، ويحتمل الضمان ).

أي : لو قال : غصبت هذا الشي‌ء من زيد وملكه لعمرو ، أو قال : وهو لعمرو ـ لأن اللام تقتضي اختصاص الملك ـ لزمه الدفع الى زيد ، لاعترافه بالغصب منه الموجب للرد عليه والضمان له ، وفي غرمه لعمرو احتمالان :

أحدهما : لا يغرم ـ وهو اختيار المصنف هنا وفي التحرير ـ (١) لعدم التنافي بين الإقرارين ، فإنّه يجوز أن يكون في يد زيد بحق إجارة ، أو وصية بمنفعته ، أو عارية فلا ينافي ملكية عمرو إياه ، ولم يوجد من المقر تفريط يوجب الضمان ، بخلاف هذا لزيد بل لعمرو فإنّه مفرّط حيث أقر للأول بما هو حق للثاني بإقراره فكان مضيّعا لماله فوجب غرمه له. بخلاف ما قلناه في المسألة التي هي محل النزاع ، إذ لم يقر للأول بالملك الّذي أقر به للثاني ، وحينئذ فلا يحكم لعمرو بالملك ، لأنّ الإقرار له بما قد أثبت لغيره عليه حقا إقرار بما في يد شخص لغيره فلا يكون مسموعا.

واعلم ان ما ذكرناه أدخل في الاستدلال من قول المصنف : ( لأنّه أقر للثاني بما أقر به للأول فكان الثاني رجوعا عن الأول ) لأن المطلوب إثبات التفريط بالنسبة الى الثاني ليثبت الغرم له ، وهذه العبارة لا تؤدي هذا المعنى إلاّ بتكلف.

والثاني : انه يضمن ويغرم ، للحيلولة بين من أقر له بالملك وبين ما له بالإقرار للأول ، ودعوى عدم التنافي بين الإقرارين غير ظاهرة ، فإن اليد ظاهرة في الملك ، ولهذا لم ينفذ إقراره بملكية الثاني بعد الإقرار باليد للأول ، ومنه يظهر تفريطه بالنسبة الى الثاني بالإقرار للأول المقتضي للحيلولة ، وهذا أصح.

__________________

(١) التحرير ٢ : ١١٩.

٣٢٤

وكذا لو قال : هذا لزيد وغصبته من عمرو ، فإنّه يلزمه الدفع الى زيد ويغرم لعمرو على إشكال.

ج : هل يصحّ البدل كالاستثناء؟ الأقرب ذلك إن لم يرفع مقتضى الإقرار ، كما لو قال : له هذه الدار هبة أو صدقة.

______________________________________________________

واعلم أن الشارح الفاضل ولد المصنف حقق هنا انه إن قلنا بتضمينه في المسألة الاولى ـ وهي قوله : غصبته من زيد بل من عمرو ـ فالضمان هنا قطعي ، وإن قلنا بعدمه احتمل هنا عدم الضمان لما ذكره المصنف (١).

وما ذكره من القطع على التقدير الأول غير ظاهر بل قد يدعى العكس لأن الغصب يقتضي الرد والضمان بالجناية على مال الغير ، وقد أقر به لكل منهما ، بخلاف قوله : وملكه لعمرو فإنه لا يلزم منه جناية على مال الغير ، ولا اعتراف بما يقتضي الرد والضمان.

قوله : ( وكذا لو قال : هذا لزيد وغصبته من عمرو فإنه يلزمه دفعه الى زيد ويغرم لعمرو على اشكال ).

ينشأ : من أنه لم يقر لعمرو بالملك ، وغصبه منه لا يستلزم كونه مملوكا له. ومن أن الغصب يقتضي وجوب الرد والضمان ويتضمن الإقرار باليد ، وهي ظاهرة في الملك ، وقد أحال بين الثاني والشي‌ء المقر به للأول فيغرم له القيمة ، وهو الأصح.

قوله : ( ج : هل يصح البدل كالاستثناء؟ الأقرب ذلك إن لم يرفع مقتضى الإقرار كما لو قال : له هذه الدار هبة أو صدقة ).

__________________

(١) إيضاح الفوائد ٢ : ٤٥٨.

٣٢٥

أمّا لو قال : له هذه الدار عارية أو سكنى ففيه نظر ينشأ : من كونه رفعا لمقتضى الإقرار ، ومن صحة بدل الاشتمال لغة.

ولو قال : له هذه الدار ثلثها أو ربعها ففيه الإشكال.

______________________________________________________

وجه القرب أن البدل‌ المعتبر في اللسان مستعمل في القرآن وغيره ، فهو من جملة أجزاء الكلام جار مجرى التفسير فوجب أن يكون في كلام المقر معتبرا إذا لم يكن رافعا لمقتضى الإقرار ، لأن الكلام لا يتم إلاّ بآخره فهو جار مجرى الاستثناء ونحوه. نعم لو كان رافعا لمقتضى الإقرار لم يصح ، لأن الإنكار بعد الإقرار غير مسموع.

ويحتمل ضعيفا عدم صحته ، لأنه يتضمن الرجوع عن ظاهر الإقرار ، وضعفه بيّن ، لأن غير المسموع هو رفع أصل الإقرار فقط دون مخالفة ظاهره ، فعلى الأصح لو قال : له هذه الدار هبة صح وكان له الرجوع فيها حيث يصح الرجوع في الهبة.

قوله : ( أما لو قال : له هذه الدار عارية أو سكنى ففيه نظر ينشأ : من كونه رفعا لمقتضى الإقرار ، ومن صحة بدل الاشتمال لغة ).

إنما كان ذلك رفعا لمقتضى الإقرار ، لأنه اقتضى الملك للدار ، والعارية واستحقاق السكنى لا ملك معهما.

ولا يخفى ضعف هذا النظر ، لأنه قد سبق في كلامه أن البدل يصح إن لم يرفع مقتضى الإقرار ، فلا أثر لصحة بدل الاشتمال في اللغة ووقوعه في الاستعمال في صحته في الإقرار ، كما لا أثر لصحة الإضراب في اللغة والاستعمال في صحته في الإقرار ، والأقوى عدم صحته.

قوله : ( ولو قال : له هذه الدار ثلثها أو ربعها ففيه الاشكال ).

٣٢٦

د : لو قال : كان له عليّ ألف وقضيته ، أو قضيته منها خمسمائة لم يقبل قوله في القضاء إلاّ ببينة.

______________________________________________________

المفهوم من سوق‌ العبارة أنّ الإشكال الذي دلّ عليه قوله في المسألة التي قبل هذه : ( ففيه نظر ) آت هنا ، ومعلوم أنّه ليس بآت ، لأنّ أحد طرفيه هو رفع مقتضى الإقرار ، وذلك منتف هنا ، لأنّ هذا بدل البعض من الكل فهو جار مجرى قوله : هذه الدار له وهذا البيت لي ، وقد أسلف في أول البحث أنّ البدل صحيح ان لم يرفع مقتضى الإقرار. وقد ذكر الشارحان منشأ الاشكال : أنّه جحود بعد الاعتراف ، وأنّ بدل البعض صحيح في اللغة. واختار ولد المصنف عدم القبول (١) وليس بشي‌ء ، لأنّ استعمال لفظ الإقرار في مجازه مع وجود الصارف عن الحقيقة جائز كما في الاستثناء ، وكما في : له هذه الدار وهذا البيت لي ، فإنّ الفرض أنّ الدار اسم للمجموع ، فإطلاقها على ما عدا البيت مجاز وكذا العشرة حقيقة في العدد المخصوص فاستعمالها فيما بعد المستثنى مجاز ، ونحو ذلك ، والّذي يقتضيه الدليل صحة ذلك.

قوله : ( د : لو قال : كان له عليّ ألف وقضيته أو قضيته منها خمسمائة لم يقبل قوله في القضاء إلاّ ببينة ).

الضمير في ( قضيته ) يعود إلى الألف ، وكذا الضمير في قوله ( منها ) ، فإنّ الألف قابل للتذكير والتأنيث ، ويجوز أن يعود ضمير ( قضيته ) الى المقر له. وإنّما لم يقبل قوله في القضاء إلاّ ببينة ، لأنّه مدع للمسقط بعد الثبوت بالإقرار ، فلم يكن بدّ من البينة.

__________________

(١) إيضاح الفوائد ٢ : ٤٦٠.

٣٢٧

ولو قال : لي عليك مائة ، فقال : قضيتك منها خمسين فالأقرب لزوم الخمسين خاصة ، لاحتمال قوله منها مما يدّعيه.

ولو قال : أخذت منه ألف درهم من ديني ، أو من وديعتي عنده فأنكر السبب وادعى التملك حكم للمقر له بعد الإحلاف.

______________________________________________________

قوله : ( ولو قال : لي عليك مائة ، فقال : قضيتك منها خمسين فالأقرب لزوم الخمسين خاصة ، لاحتمال قوله : منها ممّا يدّعيه ).

أي : لاحتمال قوله : قضيتك منها خمسين أن يكون مرجع ضمير منها هو ما تدّعيه.

وتوضيحه : أنّ قوله : قضيتك منها كما يحتمل أن يكون المراد منه : قضيتك من المائة التي لك علي ، كذا يحتمل أن يكون المراد منه ، قضيتك من المائة التي تدعى بها.

ولا ريب أنّه ليس في اللفظ ما يدل على تعيين الأول ، ولا على أنّه ظاهر اللفظ وإن كان قد يفهم عند المحاورة كثيرا ، إلا أنّ شغل الذمة البرية يتوقف على قاطع يقتضيه.

ويحتمل لزوم المائة ، لفهم ثبوت المائة في مثل هذا اللفظ باعتبار المحاورات العرفية ، ويضعّف بما قدمناه.

قال الشارح الفاضل في توجيه الأقرب ورجوع الضمير : يمكن أن يكون باعتبار مجرد الاسم لا الوصف بأنّه عليه (١) ، ومرادهما قدمناه من احتمال عود الضمير إلى المائة الموصوفة بكونها مدعى بها دون الموصوفة بأنّها عليه. والمضي في قوله المصنف : ( ممّا يدعيه ) يعود الى ما ، والمراد : المائة المدعى بها ، ولفظ ما مذكر.

قوله : ( ولو قال : أخذت منه ألف درهم من ديني أو من وديعتي عنده فأنكر السبب وادعى التملك حكم للمقر له بعد الإحلاف ).

أي : لو وصل المقر بإقراره ما يقتضي سقوطه ، بأن قال : أخذت منه ألف درهم‌

__________________

(١) إيضاح الفوائد ٢ : ٤٦٠.

٣٢٨

هـ : لو قال : له عليّ ألف من ثمن خمر أو خنزير ، أو ثمن مبيع هلك قبل قبضه ، أو لم أقبضه ، أو ثمن بيع فاسد لم أقبضه ، أو ضمنت به على أني بالخيار لزمه الألف ، ولم يقبل قوله في المسقط.

______________________________________________________

من ديني أو من وديعتي عنده فأنكر المقر له السبب ـ وهو ثبوت دين أو وديعة عنده للمقر ـ وادعى كون المأخوذ على ملكه حكم له ، ولم يسمع قول المقر بمجرده في الدين والوديعة لكن بعد إحلاف المقر له على نفي دعوى المقر ، لأنّ الإقرار لا يسقط بمجرد دعوى المسقط.

ولا يخفى ما في العبارة من التكلّف ، فإنّه لمّا أقام المظهر مقام المضمر في قوله : ( حكم للمقر له ) أوهم أنّ المنكر للسبب غيره ، ولو أنّه قال : فأنكر المقر له السبب حكم له لكان أولى.

قوله : ( ه‍ : لو قال : له عليّ ألف من ثمن خمر أو خنزير ، أو ثمن مبيع هلك قبل قبضه ، أو لم أقبضه ، أو ثمن بيع فاسد لم أقبضه ، أو ضمنت به على أني بالخيار لزمه الألف ولم يقبل قوله في المسقط ).

هذه عدّة صور وصل فيها الإقرار بما يقتضي سقوطه ، فإنّ الخمر والخنزير لما لم يملكا في شرع الإسلام لم يكن لهما ثمن وامتنع أن يقابلا بمال ، فإذا وصل المسلم إقراره بألف بكونها من ثمن أحدهما اقتضى ذلك سقوط الإقرار فلم يلتفت الى المسقط ، لأنّ الإنكار بعد الإقرار غير ملتفت اليه. ومثله قوله : من ثمن مبيع هلك قبل قبضه ، لأنّ هلاكه قبل القبض يقتضي بطلان البيع وسقوط الثمن.

أمّا لو وصله بقوله : من ثمن مبيع لم أقبضه فإنّه يقتضي عدم استحقاق المطالبة بالثمن مع ثبوته في الذمّة ، لما سبق في البيع من أنّ البائع لا يستحق المطالبة بالثمن إلاّ مع تسليم المبيع ، فهذا مسقط لوجوب التسليم لا للثبوت في الذمّة ، وللأصحاب في قبول ذلك قولان :

٣٢٩

______________________________________________________

أحدهما : القبول ، واختاره الشيخ (١) ، لأنّ قوله : لم أقبضه لا ينافي إقراره الأول ، لأنّه قد يكون عليه ألف درهم ثمنا ولا يجب عليه التسليم قبل قبض المبيع ، ولأنّ الأصل عدم القبض ، والأصل براءة الذمّة. والمصنف في المختلف قال : إنّه ليس بعيدا من الصواب ، لأنّ للإنسان أن يخبر بما في ذمته على ما هو ثابت في الذّمة ، وقد يشتري الإنسان ولا يقبض المبيع ، فكان له أن يخبر بذلك ، فلو الزم بغير ما أقر به كان ذلك ذريعة إلى سدّ باب الإقرار ، وهو مناف لحكمة الشارع (٢).

والثاني ـ واختاره ابن إدريس (٣) ، عدم القبول فيلزمه الألف ، لأنّه أتى بالمسقط بعد الاعتراف.

ولقائل أن يقول : أنّا لا نسلّم إنّه أتى بالمسقط فإنّ ذلك لا ينافي وجوب الألف وثبوتها في الذمّة ، إنّما ينافي استحقاق المطالبة بها الآن فهو بمنزلة ما لو أقر بألف مؤجلا.

والتحقيق : أنّ ذلك وإن لم يكن مسقطا لكنه في حكم المسقط ، فانّ استحقاق الألف والوصول إليها إنّما يكون ببذل ما زعمه مبيعا من أموال المقر له ، ففي الحقيقة كأنّه لم يقر له بشي‌ء ، فقول ابن إدريس لا يخلو من قوة.

وهنا نكتة سنح ذكرها هنا ، وهو أنّ المؤاخذ بهذا الإقرار ، ونظائره من المواضع المختلف فيها هل هو كلّ مقر ، سواء كان ممن له أهلية الاجتهاد أم لا ، معتقدا قبول مثل ذلك أم لا؟ أم يقال : إنّ من يعتقد قبول مثل ذلك وعلم ذلك من مذهبه يعامل بمعتقده؟ لا أعلم في ذلك كلاما للأصحاب ، والذي يقتضيه النظر أنّه يلزمه بمعتقد الحاكم كائنا ما كان.

__________________

(١) المبسوط ٣ : ٣٤.

(٢) المختلف : ٤٤٠.

(٣) السرائر : ص ٢٨٣ باب الإقرار.

٣٣٠

ولو قال : له عليّ ألف لا تلزم لزمه.

ولو قال : عليّ ألف ثم سكت ، ثم قال : من ثمن مبيع لم أقبضه لزمه الألف.

______________________________________________________

ومثله ما لو قال : من ثمن مبيع فاسد لم أقبضه ، لأنّ فساد البيع يقتضي عدم ثبوت الثمن. ولا دخل للقبض وعدمه حينئذ في اللزوم ، وذكره في العبارة للاحتراز من لزوم ضمان القيمة أو المثل بالقبض.

وفي بعض النسخ : من ثمن بيع فاسد ، والبيع أربط بالفاسد من المبيع ، إلا أن ضمير ( لم أقبضه ) لا مرجع له حينئذ ، ومثله : ضمنت به على اني بالخيار. والضمير المجرور يعود إلى الألف ، والمراد ضمنته ، لأنّ ضمن يتعدى بنفسه وبالباء كما صرح به في القاموس (١). وبناء ذلك على أنّ اشتراط الخيار مفسد للضمان ، وإلاّ كان بمنزلة ابتعت بخيار ، فان بينهما فرق وان كان المصنف لا يراه ، وسيأتي إن شاء الله تعالى.

قال في التذكرة ما صورته : أو قال : تكفلّت ببدن فلان بشرط الخيار ، وقلنا بثبوت الخيار في الكفالة يقتضي بطلانها. أو قال : ضمنت لفلان كذا بشرط الخيار وأبطلناه به ، وما أشبه ذلك (٢). هذا كلامه ، وقد يراد بقوله هنا ضمنت به كفالته.

قوله : ( ولو قال : له عليّ ألف لا يلزم لزمه ).

لأنّ الإقرار يقتضي اللزوم ، فقوله : ( لا يلزم ) لا يسمع ، لمنافاته الإقرار. ويحتمل القبول بأن يكون له عليه ثمن مبيع غير لازم ، أو من هبة له الرجوع فيها ، ويضعّف بأنّ ذلك في حكم المسقط.

قوله : ( ولو قال : عليّ ألف ثم سكت ، ثم قال : من ثمن مبيع لم أقبضه لزمه الألف ).

__________________

(١) القاموس المحيط ٤ : ٢٤٥.

(٢) التذكرة ٢ : ١٦٦.

٣٣١

ولو قال : عليّ ألف من ثمن مبيع ثم سكت ، ثم قال : لم أقبضه احتمل القبول إن سمع مع الاتصال ، أو التصديق واللزوم.

ولو قال : عليّ ألف من ثمن عبد إن سلّم سلّمت احتمل لزوم ألف‌

______________________________________________________

المراد : اللزوم هنا‌ وعدم قبول التفسير وإن قلنا بقبوله فيما تقدم ، والفرق : إنه مع الاتصال محسوب مع الإقرار كلاما واحدا بخلاف الانفصال.

قوله : ( ولو قال : عليّ ألف من ثمن مبيع ثم سكت ، ثم قال : لم أقبضه احتمل القبول إن سمع مع الاتصال أو التصديق واللزوم ).

هذه صورة ثالثة من صور تفسير المقر به بكونه من ثمن مبيع ، واحتمال القبول هنا إنّما يجي‌ء إذا قلنا بالقبول في المسألة الاولى وهي قوله : ( من ثمن مبيع لم أقبضه ) متصلا. ووجهه : إنّ الأصل في المبيع عدم القبض ، فإذا صدّقناه في كونها من ثمن مبيع كان على البائع إثبات القبض.

واختار الشيخ في المبسوط والخلاف القبول (١) ، ويحتمل اللزوم وإن قلنا بالقبول في السابقة ، لانفصال قوله : ( لم اقبضه ) عن الإقرار بالألف ، ومقتضى الإقرار اللزوم ، والأصح اللزوم هنا بطريق أولى.

وقول المصنف : ( أو التصديق ) ظاهره أنه معطوف على قوله : ( مع الاتصال ) ، ولا بحث في القبول مع التصديق هنا وفي غيره من المواضع ، فأي وجه لافراد هذا بالتقييد؟

وجوابه : أنّ المراد تصديق المقر له على أنّ الألف من ثمن مبيع ، إلاّ أنّ احتمال عدم القبول حينئذ ضعيف جدا ، لأنّ المقر له مدع للإقباض والأصل عدمه ، والأصح اللزوم إلاّ مع التصديق على ما حققناه.

قوله : ( ولو قال : عليّ ألف من ثمن عبد إن سلّم سلّمت احتمل‌

__________________

(١) المبسوط ٣ : ٣٤ ، الخلاف ٢ : ٩٤ مسألة ٢٤ كتاب الإقرار.

٣٣٢

معجلا وبعد تسليم العبد خاصة.

ولو قال : له ألف مؤجلة ، أو زيوف ، أو ناقصة لم يقبل مع الانفصال ، ومع الاتصال إشكال ،

______________________________________________________

لزوم الألف معجلا ، وبعد تسليم العبد خاصة ).

لا فرق بين هذه وبين ما سبق ، إلاّ أنّ المبيع معيّن هنا عبدا ومطلق في السابق والحكم واحد. والاحتمال الثاني وهو اللزوم بعد تسليم العبد قول الشيخ بشرط الاتصال (١) والمختار ما تقدم في السابق.

قوله : ( ولو قال : له ألف مؤجلة أو زيوف أو ناقصة لم يقبل مع الانفصال ومع الاتصال إشكال ).

أما مع الانفصال فلا بحث في عدم القبول ، لأنه رجوع عما ثبت واستقر عليه الإقرار.

وأما مع الاتصال فمنشأ الإشكال : من أن مقتضى الإقرار إلزام المقر بما أقر به دون غيره ، والحق أن المؤجل غير الحال ، فإذا أقر بالمؤجل لم يلزمه غيره. وكذا حكم الإقرار بنقد معيّن أو وزن ناقص أو مال معيب ، ولأنّ الكلام إنما يتم بآخره ، وإنما يحكم به بعد كماله فلا يتحقق الإقرار إلاّ بآخره ، وإنما يلغى المسقط إذا اقتضى إبطال الإقرار من رأس ، وهو منتف هنا ولأنّه لو لا اعتبار مثل ذلك لأدى إلى سد باب الإقرار في الحق المؤجل ونحوه ، وهو باطل.

ومن حيث أن الأصل الحلول والسلامة ، وانّ وصل الإقرار بذلك وصل له بالمسقط للمطالبة ولبعض الحق.

ويضعّف بأنه لو سلّم أن الأصل ما ذكر ، إلاّ أن خلاف الأصل يصار إليه إذا‌

__________________

(١) المبسوط ٣ : ٣٤.

٣٣٣

ولو قال : له ألف مؤجل من جهة تحمل العقل قبل قطعا ، ولو قال من حيث القرض لم يقبل قطعا.

______________________________________________________

صرح به في الإقرار ، ولما لم يتم الإقرار إلاّ بآخره لم يتحقق ثبوت شي‌ء ليطرأ عليه السقوط. والثاني اختيار ابن الجنيد (١) وابن إدريس (٢) ، وهو أحد قولي الشيخ (٣) ، والأول القول الآخر للشيخ رحمه‌الله (٤) ، واختاره المصنف في المختلف والتذكرة (٥) ، وعليه الفتوى.

واعلم أنه قد سبق في الأقارير المجهولة في البحث الرابع من هذا الكتاب قبول تفسير الدرهم بالناقص النادر مع الاتصال ، وكذا المغشوش ، فيكون ما هنا رجوعا عن الفتوى الى التردد. واعلم أن الدراهم الزيوف هي المردودة لغش ، ذكره في القاموس (٦).

قوله : ( ولو قال : ألف مؤجل من جهة تحمل العقل قبل قطعا ، ولو قال : من حيث القرض لم يقبل قطعا ).

ما سبق من الاشكال إنما هو فيما إذا كان الدين المقر به مطلقا ، أو مسندا الى سبب يقبل التأجيل والتعجيل. أما إذا أسنده إلى جهة يلازمها التأجيل كالدية على العاقلة ، فإن ذكر ذلك في صدر إقراره بأن قال : قتل عمي فلانا خطأ ولزمني من دية ذلك القتل كذا مؤجلا إلى سنة انتهائها كذا فهو مقبول لا محالة.

ولو قال : له عليّ ألف مؤجل من جهة تحمل العقل ففي القبول وجهان : أحدهما : القبول ـ وقطع به المصنف ـ لملازمة المقر به التأجيل ، والثاني : العدم لأن أول‌

__________________

(١) نقله عنه العلامة في المختلف : ٤٤١.

(٢) السرائر : ٢٨٤.

(٣) المبسوط ٣ : ٣٥.

(٤) الخلاف ٢ : ٩٤ مسألة ٢٨ كتاب الإقرار.

(٥) المختلف : ٤٤، التذكرة ٢ : ١٦٧.

(٦) القاموس المحيط ٣ : ١٥٤ « زيف ».

٣٣٤

ولو قال : ابتعت بخيار ، أو كفلت بخيار لم يقبل تفسيره.

______________________________________________________

كلامه ملزم فلا يسمع منه المسقط ، فيطرد فيه الاشكال السابق. وينبغي أن يكون القطع بالقبول هنا إنما هو إذا صدّقه المقر له على السبب ، أما بدونه فإنه غير ظاهر. بل يطرد فيه الاشكال السابق.

ولو أسنده إلى جهة لا تقبل التأجيل كما لو قال : له عليّ ألف أقرضنيها مؤجلة لغى ذكر الأجل قطعا. ونقل فيه المصنف في التذكرة الإجماع (١) ، ولولاه لأمكن إلحاقه بموضع الإشكال ، لأن القرض قد يقع مؤجلا بالشرط في عقد لازم وبالنذر وشبهه. وفي الدروس لم يقبل إلاّ أن يدعى تأجيله بعقد لازم (٢).

قوله : ( ولو قال : ابتعت بخيار ، أو كفلت بخيار لم يقبل تفسيره ).

لما كان وقوع البيع على وجوه متعددة ، وكونه بخيار من جملتها وجب أن يطرد فيه الوجهان فيما لو قال : ألف مؤجل.

وقد يفرّق بينهما بأن التأجيل لا يفضي الى سقوط المقر به ، بخلاف الخيار فإنه يقتضي التسلط على الفسخ فينتفي حكم البيع ، فهو بمنزلة : من ثمن مبيع لم أقبضه. لكن قد سبق قبول البدل في قوله : له هذه الدار هبة ، وذلك يقتضي ثبوت الرجوع ، فهو بمنزلة الإقرار بالشراء بخيار.

قال شيخنا في الدروس : ولو قال : اشتريت بخيار ، أو بعت أو كفلت بخيار ففيه الوجهان ، وقطع المتأخرون بعدم سماع الخيار (٣). وأعلم أنّ ذكر الخيار في الإقرار في الكفالة انما يكون كالخيار في البيع على القول بأنّ اشتراطه لا يفسدها ، وإلاّ فهو بمنزلة : من ثمن مبيع فاسد ، كما لا يخفى.

__________________

(١) التذكرة ٢ : ١٦٧.

(٢) الدروس : ٣١٣.

(٣) الدروس : ٣١٣.

٣٣٥

ولو أقر العجمي بالعربية ، ثم قال : لقنت فإن كان لا يفهم سمعت دعواه ، وإلا فلا.

و : لو قال : له عندي دراهم وديعة قبل تفسيره ، سواء اتصل كلامه أو انفصل. ولو ادعى المالك أنّها دين فالقول قوله مع اليمين ، بخلاف ما لو قال أمانة.

______________________________________________________

قوله : ( ولو أقر الأعجمي بالعربية ثم قال : لقّنت ، فان كان لا يفهم سمعت دعواه وإلاّ فلا ).

ينبغي أن يكون المراد من قوله : ( فان كان لا يفهم ) إمكان ذلك في حقه فالأحوال حينئذ ثلاثة : أن يعلم حاله بأنّه يفهم ، أو لا يفهم ولا بحث فيهما ، وان يجوز عليه كل منهما فيقبل قوله إنّه لم يكن عالما بما أقر به بيمينه ، لأنّ الظاهر من حال العجمي أن لا يعرف العربية ، وكذا العربي لا يعرف العجمية.

قوله : ( ولو قال : له عندي دراهم وديعة قبل تفسيره سواء اتصل كلامه أو انفصل ، ولو ادعى المالك : إنّما دين فالقول قوله مع اليمين ، بخلاف ما لو قال : أمانة ).

أمّا قبول تفسيره مع الاتصال فظاهر ، لأنّه تفسير لا يرفع مقتضى الإقرار فيقبل. وأمّا مع الانفصال ، فلأنّ قوله : عندي ، كما يحتمل غير الوديعة يحتمل الوديعة ، فيكون التفسير بها تفسير اللفظ ببعض محتملاته.

فلو ادعى المالك أنّها دين ، قال المصنف : ( فالقول قوله مع اليمين ) أي : قول المالك. ويمكن توجيهه بأنّ الوديعة تقتضي القبض والأخذ من المالك ، فبمقتضى قوله عليه‌السلام : « على اليد ما أخذت حتى تؤدّي » (١) يجب أن يقدّم قول المالك في أنّها دين ، لأنّ الدين لا تتحقق البراءة منه إلاّ بالأداء.

__________________

(١) عوالي اللآلي ٢ : ٣٤٥.

٣٣٦

______________________________________________________

ولو قدّمنا قول المقر لوجب أن يقبل قوله في المسقط كالتلف ، وهو خلاف مقتضى الخبر. أو يقال : كونها وديعة يتضمن تقديم قول المقر في الرد على المالك وفي التلف ، وذلك زائد على أصل كونها عنده ، وهو دعوى على الغير ، فبمقتضى قوله عليه‌السلام : « البينة على المدعي » (١) يجب أن لا ينفذ الإقرار في ذلك ، لأنّ نفوذه إنّما هو في حق المقر دون غيره.

وربما نزّلت العبارة على أن قبول التفسير بالوديعة مشروط بعدم مخالفة المالك ، وفي الكل نظر :

أمّا الأول فلأنّا لا نسلّم أن تقديم قول المقر يقتضي خلاف مقتضى الخبر ، لأنّ ذلك إنّما يلزم لو لم تكن يده التي أقر بها لا تقتضي تقديم قوله ، أمّا معه فلا ، وذلك لأنّ الأصل براءة ذمته ، فإذا أقر بما يشغلها وجب الوقوف مع مقتضاه ، والمقر به هو الاشتغال بحكم الوديعة فلا يتجاوز الى حكم الدين وغيره.

وأمّا الثاني فلأنّ نفوذ التفسير بالوديعة يقتضي عدم شغل ذمته بالبينة على الرد أو التلف عند الاختلاف فيهما ، استنادا إلى أصالة البراءة ، وعدم تحقق شاغل سوى الوديعة المفسر بها ، فتقديم قوله ليس لكونه مدعيا ليخالف مقتضى الخبر ، بل استنادا إلى أصالة البراءة.

وأمّا الثالث فلأنّه مع مخالفته لظاهر العبارة المتبادر من قبول التفسير غير صحيح في نفسه ، لإطباقهم على قبول التفسير ، سواء صدّق عليه المالك أم لا ، ولأنّ اعتبار عدم مخالفة المالك يقتضي عدم الفرق بين هذه المسألة وغيرها.

وقد صرّح المصنف في التحرير بخلاف هذا الحكم قال : إذا قال : له عندي دراهم ثم فسّر إقراره بأنّها وديعة قبل تفسيره ، سواء فسره بمتصل أو منفصل ، فتثبت‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤١٥ كتاب القضاء والأحكام باب البينة.

٣٣٧

ولو قال : له عندي وديعة قد هلكت ، أو رددتها اليه لم يقبل منه ، اما لو قال : كان له عندي قبل.

ولو قال : له عليّ ألف وديعة لم يقبل تفسيره ، وتلزمه لو ادعى التلف.

______________________________________________________

فيها أحكام الوديعة من قبول ادعاء التلف والرد (١) ، وبهذا صرّح في التذكرة أيضا (٢) ، وشيخنا في الدروس (٣) ، وهو المختار.

واعلم أن قوله : ( بخلاف الأمانة ) المراد به أنه لو قال : له عندي دراهم أمانة وادعى المالك أنها دين قدّم قول المقر مع اليمين لا المالك. والفرق : أن الأمانة لا تستلزم القبض ، لإمكان إطارة الريح المال الى ملك المقر ، أو وضع المالك إياها أو غيره في منزله ، فلا يثبت دخوله في العهدة إلى الأداء ، وهذا الفرق ضعيف كما عرفت ، والحكم واحد.

قوله : ( ولو قال : له عندي وديعة قد هلكت ، أو رددتها اليه لم يقبل منه ).

أي : لم تسمع دعواه أصلا وذلك لمناقضته الإقرار ، فإن المردود والتالف ليس عنده ولا هو وديعة.

قوله : ( أما لو قال : كان له عندي قبل ).

بمعنى أن دعواه تسمع ويجب اليمين ، والفرق بينها وبين التي قبلها ظاهر ، فإنّ « كان » لا يقتضي البقاء في زمان الإقرار كما لا يقتضي عدمه ، وإن كان البقاء ظاهرا فإذا ادعى عدم البقاء لم تلزم مناقضة الإقرار.

قوله : ( ولو قال : له عليّ ألف وديعة لم يقبل تفسيره ويلزمه لو ادعى

__________________

(١) التحرير ٢ : ١١٨.

(٢) التذكرة ٢ : ١٥١.

(٣) الدروس : ٣١٣.

٣٣٨

ولو قال : لك عليّ ألف وأحضرها وقال : هذه التي أقررت بها وهي وديعة كانت لك عندي فقال المقر له : هذه وديعة والتي أقررت بها غيرها وهي دين عليك احتمل تقديم قول المقر ، لإمكان الضمان بالتعدي ، ولا يقبل قوله في سقوط الضمان لو ادعى التلف وتقديم قول المقر له.

______________________________________________________

التلف ).

وذلك لأن الألف‌ مضمون عليه وليس بأمانة ، لأن قوله : عليّ يتضمن اللزوم والثبوت في الذمة فلا يصدّق في دعوى الرد. كما لا تنفعه دعوى التلف ، لأن ذلك إنما يكون فيما ثبت كونه أمانة ، ولفظة عليّ تنافي ذلك.

ويشكل بأن كلمة عليّ لا تقتضي ثبوت الألف في الذمة ، لأنه كما يجوز أن يريد بها ذلك يجوز أن يريد بها صيرورتها مضمونة عليه بالتعدي ، أو يريد بها لزوم حفظها لذمته والتخلية بينه وبينها. وأيضا فإن عليّ تقتضي كون المقر به حقا على المقر ، وذلك يحتمل أمورا ووجوها متعددة ، ولا صراحة فيه بكونه في الذمة ، والأصل البراءة.

ونقل الشيخ إجماعنا على أنه إذا قال : لفلان عليّ ألف درهم وديعة يقبل منه ذلك ، فعلى هذا القبول أقرب (١)

قوله : ( ولو قال : لك عليّ ألف وأحضرها وقال : هذه التي أقررت بها وهي وديعة كانت لك عندي ، فقال المقر له : هذه وديعتي والتي أقررت بها غيرها وهي دين عليك احتمل تقديم قول المقر ، لإمكان الضمان بالتعدي ، ولا يقبل قوله في سقوط الضمان لو ادعى التلف ، وتقديم قول المقر له ).

يستفاد من قوله : ( وأحضرها وقال : هذه التي أقررت بها ... ) أن التفسير لم يقع متصلا بالإقرار ولا فرق بينهما ، وإن كان بعض العامة يفرّق فيقبل مع الاتصال.

__________________

(١) المبسوط ٣ : ٢٨.

٣٣٩

______________________________________________________

والاحتمال الأول ـ وهو تقديم قول المقر ـ قول الشيخ رحمه‌الله محتجا بأصالة البراءة وشغل الذمة يحتاج الى دليل (١).

والاحتمال الثاني ـ وهو تقديم قول المقر له ـ قول ابن إدريس واحتج بما اعترض به الشيخ ، وهو أن لفظة عليّ تقتضي الإيجاب في الذمة بدليل أنه لو قال : الألف التي على فلان عليّ كان ذلك ضمانا ، فإذا أقر كذلك فقد ألزم ذمته مالا وجاء بمال آخر فلم يسقط ما لزم في الذمة ، كما لو أقر بثوب ثم جاء بعبد فإن العبد له ويطالب بالثوب. (٢)

وجوابه ما أجاب به الشيخ ، وهو أن لفظة عليّ وإن اقتضت الإيجاب فقد يكون لحق في الذمة فيجب عليه تسليمه بإقراره ، وقد يكون في يده فيجب رده وتسليمه الى المقر له بإقراره فبأيهما فسره كان مقبولا ، كما لو قال : عليّ ثوب كان له تعيينه من أي نوع شاء من الأنواع التي يحتملها اللفظ.

ألا ترى أنا أجمعنا على أنّه إذا قال : لفلان عليّ ألف درهم وديعة قبل منه ذلك ، ولو كان قوله : لفلان عليّ ألف يقتضي الذّمة وجب ألاّ يقبل تفسيره بالوديعة ، لأنّه أقر بألف ثم عقّبه بما يسقطه ، فلما أجمعنا على قبول تفسيره بذلك دلّ على ما ذكرناه.

على أنّ حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض ، كما في قوله تعالى ( وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ ) (٣). أي عندي ، وقوله تعالى ( وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) (٤) يعني على ، فيجوز أن يكون قوله : عليّ يريد به عندي وإنّما جعلنا قوله : الألف التي على فلان‌

__________________

(١) المبسوط ٣ : ١٩.

(٢) السرائر : ٢٨٣.

(٣) الشعراء : ١٤.

(٤) طه : ٧١.

٣٤٠