جامع المقاصد في شرح القواعد - ج ٩

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي

جامع المقاصد في شرح القواعد - ج ٩

المؤلف:

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٦

ولو قال : درهم ودرهمان لزمه ثلاثة ، وكذا : درهم ودرهم ودرهم.

ولو قال : أردت بالثالث تأكيد الثاني قبل. ولو قال : أردت بالثاني تأكيد الأول لم يقبل ، وكذا تجب الثلاثة لو قال درهم ودرهم ثم درهم ، أو بالعكس ، لاختلاف حرفي العطف.

ولو قال : له عليّ درهم قبله درهم ، أو بعده درهم ، أو قبل درهم ، أو بعد درهم لزمه درهمان.

ولو قال : قبله وبعده لزمه ثلاثة ، إذ القبلية والبعدية لا تحتمل إلاّ الوجوب.

______________________________________________________

قوله : ( ولو قال : درهم ودرهمان لزمه ثلاثة ).

لامتناع التأكيد هنا ، بخلاف قوله : وكذا درهم ودرهم ودرهم فإنّه وإنّ كان ظاهره العطف ، إلاّ أنّه يحتمل أن يكون الثالث تأكيدا للثاني ، لوجود الواو في كل منهما ، فصح التأكيد اللفظي للتطابق اللفظين. أمّا الثاني فيمتنع كونه تأكيدا للأول ، لانتفاء الواو في الأول ووجوده في الثاني ، فامتنع التأكيد بتكرير اللفظ لانتفاء المطابقة بين لفظيهما ، فمتى قال : أردت بالثالث تأكيد الثاني قبل منه ولزمه درهمان ، والى هذا أشار بقوله : ( ولو قال : أردت بالثالث تأكيد الثاني قبل ).

قوله : ( ولو قال : أردت بالثالث تأكيد الأول لم يقبل ).

لانتفاء الواو في الأول ولتخلل الفاصل بينهما.

قوله : ( وكذا يجب الثلاثة لو قال : درهم ودرهم ثم درهم ، أو بالعكس لاختلاف حر في العطف ).

وذلك يقتضي امتناع التأكيد اللفظي.

قوله : ( ولو قال : له عليّ درهم قبله درهم أو بعده درهم ، أو قبل درهم أو بعد درهم لزمه درهمان ، ولو قال : قبله وبعده لزمه ثلاثة ، إذا القبليّة والبعدية‌

٢٨١

ولو قال : له درهم مع درهم ، أو فوق درهم ، أو تحت درهم ، أو معه ، أو فوقه ، أو تحته لزمه واحدة لاحتمال فوق درهم لي أو في الجودة.

______________________________________________________

لا تحتمل إلاّ الوجوب ، ولو قال : له درهم مع درهم ، أو فوق درهم أو تحت درهم ، أو معه أو فوقه أو تحته لزمه واحد ، لاحتمال فوق درهم لي أو في الجودة ).

ومع قيام الاحتمال وأصالة البراءة لا يجب الاّ واحد ، وقد فرّق بين هذا والّذي قبله : بأنّ الفوقية والتحتية ترجعان الى المكان فيتصف بهما نفس الدرهم والقبلية والبعدية ترجعان الى الزمان ولا يتصف بهما نفس الدرهم ، فلا بدّ من أن يرجع التقدم والتأخر إلى المقر ، وليس ذلك إلاّ الوجوب عليه.

وفي وجه أنه لا يلزمه في القبلية والبعدية إلا درهم ، لأنهما كما يكونان بالزمان يكونان بالرتبة وغيرها.

ثم هب أنّهما زمانيان وإن نفس الدرهم لا يتصف بهما ، لكن يجوز رجوعهما الى غير الوجوب ، بأن يريد درهم مضروب قبل درهم وما أشبهه. ثم هب أنّهما راجعان الى الوجوب ، لكن يجوز أن يريد لزيد درهم قبل وجوب درهم لعمرو. وهذا الفرق وما أورد عليه للشافعية (١) ، والمصنف في التذكرة أورده ثم قال : وفيه نظر ، إذ لو سمع مثل هذه الاحتمالات لسمع في مثل : له عندي درهم ودرهم مع اتفاقهم على لزوم درهمين (٢).

أقول : في النظر المذكور نظر ، لأنّهم إنما لم يسمعوا الاحتمال في مثل : له عندي درهم ودرهم ، لأنّ ذلك خلاف المعنى الحقيقي ، بخلاف ما إذا ادّعى في القبلية والبعدية لا يتصف بهما نفس الدرهم بخلاف الفوقية والتحتية غير واضح ، لأن الظرف إذا وقع بعد نكرة كان‌

__________________

(١) انظر المجموع ٢٠ : ٣١٢.

(٢) التذكرة ٢ : ١٥٩.

٢٨٢

ح : لو أقر بدرهم في مجلسين ، أو بلغتين ، أو شهد عليه بذلك في تاريخين فهما واحد إلاّ أن يختلف السبب.

ولو أطلقه في أحدهما وقيّده في الآخر حمل المطلق على المقيد ،

______________________________________________________

صفة ، ولا يفرّق في ذلك بين ظرف الزمان والمكان.

وكون المتعلق في ظرف الزمان هنا كونا خاصا لا يقتضي كون المتعلق وجوب درهم آخر على المقر للمقر له وإن كان قد يقع ذلك في الاستعمال كثيرا ، لأنّه لا يكتفى في الحكم بشغل الذمة بمثل ذلك.

ونردد المصنف في التحرير في وجوب درهم أو درهمين (١) ، واختار في الدروس وجوب درهم (٢) ، وهو الأصح ، واكتفى المصنف بقوله : ( لاحتمال فوق درهم لي ) عن أن يذكر الاحتمال في ما بعده لظهوره.

قوله : ( لو أقر بدرهم في مجلسين ، أو بلغتين ، أو شهد عليه بذلك في تاريخين فهما واحد ، إلاّ أن يختلف السبب ).

لما كان الإقرار إخبارا عن حق سابق لم يلزم من تعدد الاخبار تعدد المخبر عنه ، فإذا أقر بدرهم في مجلسين أو بلغتين فالواجب واحد ، إذ لا دليل على تعدد المقر به ، والأصل براءة الذمة.

وكذا لو شهد شاهدان بالإقرار بدرهم في تاريخين ، إلاّ أن يختلف السبب ـ وهو المقتضي لشغل الذمة ـ فإن اختلف كان يقرّ بدرهم قرضا ويقر بدرهم من ثمن مبيع فإنّه يمتنع الاتحاد هنا ، وكذا لو شهد الشاهدان كذلك. وفرّق بعض الحنفية بين وقوع الإقرار في مجلس أو مجلسين ، فحكم بالتعدد مع تعدد المجلس (٣).

قوله : ( ولو أطلقه في أحدهما وقيده في الآخر حمل المطلق على

__________________

(١) التحرير ٢ : ١١٦.

(٢) الدروس : ٣١٩.

(٣) بدائع الصنائع ٧ : ٢٢٢ ، المغني لابن قدامة ٥ : ٣٩٥.

٢٨٣

وكذا لو قيّده بقيدين يمكن جمعهما. أمّا لو قيّده في أحد المجلسين بقيد يضاد ما قيّده به في الآخر فهما اثنان.

ولو شهد واحد بإقرار بتاريخ ، وآخر بإقرار في تاريخ آخر جمع بينهما ، لاتحاد المخبر عنه

______________________________________________________

المقيد ).

كما لو قال : له‌ درهم ، ثم قال : له درهم قرضا فإنّه يحتمل التعدد ، والأصل البراءة من التعدد فيحمل المطلق على المقيد.

قوله : ( وكذا لو قيده بقيدين يمكن جمعهما ).

كما لو قال : له درهم من ثمن مبيع ، ثم قال : له درهم من ثمن عبد فإنّ المبيع قد يكون عبدا ، والأصل البراءة فلا يجب إلاّ واحد.

قوله : ( أما لو قيده في أحد المجلسين بقيد يضاد ما قيده به في الآخر فهما اثنان ).

كما لو قال : له درهم بغلي ، ثم قال : له درهم طبري فإنّ المخبر عنه متعدد فيجب كل منهما.

قوله : ( ولو شهد واحد بإقرار بتاريخ ، وآخر بإقرار في تاريخ آخر جمع بينهما ، لاتحاد المخبر عنه ).

أي : لو شهد واحد أن شخصا أقر يوم السبت بألف ، وشهد آخر أنه أقر يوم الجمعة بألف جمع بين الشاهدين وحكم بكمال نصاب الشهادة ، وذلك لأنّ المشهود به محكوم بكونه واحدا ، لأنّا قد بيّنا أنّ تعدد الإقرار لا يقتضي تعدد المقر به ، فحكم باتحاده استنادا إلى أصالة البراءة ، ومتى حكم باتحاده فقد تحقق شرط كمالية نصاب الشهادة ويثبت المشهود به.

ومنع بعض الشافعية من الحكم بشهادة الشاهدين هنا كما لو شهدا بسببين‌

٢٨٤

ولا يجمع في الأفعال.

ط : لو قال : هذه الدار لأحد هذين وهي في يده الزم بالبيان ، فإن عيّن قبل وللآخر إحلافه وإحلاف الآخر ،

______________________________________________________

مختلفين ، لأنّ مقصود التعدد وهو كمال الاستظهار والتوثيق إنّما يتحقق مع اتحاد المشهود به (١).

قوله : ( ولا يجمع في الأفعال ).

فلو شهد أحدهما بالبيع بألف يوم الجمعة ، وشهد الآخر بالبيع بألف يوم السبت لم يكمل النصاب بالنسبة إلى واحد منهما لتعدد المشهود به في نفسه ، فإنّ أحد الفعلين غير الآخر.

وكذا غير ذلك كما لو شهد أحدهما بغصب يوم الجمعة ، والآخر بغصب يوم السبت ، لكن للمدعي أن يعيّن أحد الأمرين المشهود بهما ، ويستأنف الدعوى به ويحلف مع الّذي شهد به ، وله أن يدعيهما ويحلف مع كل واحد من الشاهدين.

قوله : ( لو قال : هذه الدار لأحد هذين وهي في يده الزم بالبيان ، فإنّ عيّن قبل وللآخر إحلافه وإحلاف الآخر ).

كما يسمع الإقرار بالمجهول كذا يسمع الإقرار للمجهول ثم يطالب بالبيان ، فإذا قال : هذه الدار ـ وأشار الى دار في يده ـ لأحد هذين الشخصين الزم البيان.

فإن عيّن واحدا منهما قبل ، لأنّه صاحب يد فينفذ إقراره ، وللآخر إحلافه على عدم العلم بكونها له إن ادعى عليه العلم إنّها له ، وعلى البت إن ادعى عليه غصبها منه. وله إحلاف الآخر أعني : الذي عيّنه المقر ـ ، لأنّه يدعي عليه مالا بيده وهو ملكه ظاهرا فيحلف على البت.

__________________

(١) الشرح الكبير على المغني لابن قدامة ١٢ : ٢٤.

٢٨٥

فإن أقر للآخر غرم للثاني إلاّ أن يصدّقه الأول. وهل له إحلاف الأول؟ إشكال ،

______________________________________________________

وقال المصنف في التذكرة في نظير هذه المسألة : إنّه بعد تعيين المالك منهما لو قال الآخر : أحلفوه إنّه ليس لي ، فإن قلنا : إنّه لو عاد فأقر للآخر لم يغرم له لم يحلفه ، لأنّه إذا نكل لم يلزمه شي‌ء. وإن قلنا : يغرم عرضنا عليه اليمين ، فإن حلف سقطت الدعوى ، وإن نكل حلف المدعي وغرم (١).

أقول : إنّ هذا البناء غير كاف في الحكم الذي ذكره ، بل لا بد مع ذلك من اعتبار كون اليمين المردودة كالإقرار ، إذ لو قلنا إنّها كالبينة لاتجه إحلافه ، لإمكان نكوله فيحلف المدعي ويغرم له.

قوله : ( فإن أقر للآخر غرم للثاني إلاّ أن يصدّقه الأول ).

لأنه حال بين الثاني والمقر به بإقراره للأول فكان عليه الغرم كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، نعم لو صدّقه الأول دفعت الى الثاني ولا غرم.

قوله : ( وهل له إحلاف الأول؟ إشكال ).

أي : هل للمقر إحلاف المقر له الأول إنّها ليست للثاني؟ فيه إشكال ينشأ : من أنّه مكذّب لنفسه في دعواه أنّها للثاني بإقراره بها للأول فلا تسمع دعواه ، ولأنّه لو نكل امتنع الرد إذ لا يحلف لإثبات مال غيره ، وكذا القضاء بنكوله.

ومن عموم قوله عليه‌السلام : « واليمين على من أنكر » (٢) ، ولأنّه يدفع بها الغرم عن نفسه فليست لحق الغير بل لدفع الغرم ، ولأنه لو أقر لنفع إقراره ، وكل من أقر لنفع إقراره يحلف مع الإنكار ، والثاني قوي.

وإكذاب نفسه مدفوع إذا ذكر تأويلا وادعى أمرا ممكنا في العادة كالغلط والنسيان ، وعلى هذا فيحلّفه على نفي العلم بالغلط لا على البت ، فإنّه ربّما لم يعلم أنّه‌

__________________

(١) التذكرة ٢ : ١٦٢.

(٢) الكافي ٧ : ٤١٥ حديث ، سنن البيهقي ١٠ : ٢٥٢.

٢٨٦

وللثاني إحلافه.

ولو أقر لزيد فشهد اثنان بسبق إقراره لعمرو فكذّبهما زيد فلا غرم.

______________________________________________________

يستحقها إلاّ من إقرار ذي اليد ، مع احتمال الثاني انّه مالك بحسب ظاهر الحال وقد ادعى عليه فيما هو ملك له فيحلف على البت.

قوله : ( وللثاني إحلافه ).

بلا إشكال وقد سبق مثله ، وإنّما أعاده لأنّها مسألة أخرى وإن اتحد المتعلق.

قوله : ( لو أقر لزيد فشهد اثنان بسبق إقراره لعمرو فكذبهما زيد فلا غرم ).

أي : لو أقر ذو اليد بشي‌ء لزيد فشهد اثنان بسبق إقراره لعمرو ، فكذبهما زيد في ما شهدا به من سبق الإقرار لعمرو فالمقر به لعمرو لا محالة ، لثبوت سبق الإقرار بالبينة.

وهل يغرم المقر لزيد قيمة المقر به؟ قال المصنف : لا غرم ، لاعتراف زيد بانتفاء سبب الغرم ، وهو سبق الإقرار لعمرو ، ولتكذيبه الشاهدين فيما شهدا به فينتفي الغرم لانتفاء سببه وفي بعض الحواشي المنسوبة إلى شيخنا الشهيد : إنّ ذلك مشكل ، لاستناد البينة إلى إقراره السابق الذي هو سبب الحيلولة. وهو مدفوع ، لاعتراف المستحق بانتفاء السبب فكيف يثبت له ما يترتب عليه.

نعم قد يمكن أن يقال : إن سبق إقرار المقر لعمرو قد ثبت شرعا بالبينة ، وهو يقتضي استحقاق زيد تغريم المقر ، فهو في حكم الإقرار لزيد باستحقاق التغريم ، وقد أنكره زيد فكان ذلك جاريا مجرى تكذيب المقر له الإقرار ، فمتى رجع الى التصديق استحق ، فإن صح هذا حملت العبارة على أنّ المراد : لا غرم مع الاستمرار على التكذيب.

إلاّ أنّه يشكل بأنّ الإقرار لعمرو ليس إقرارا لزيد بالاستحقاق ليعتبر‌

٢٨٧

ولو قال : لا أعلم دفعها إليهما وكانا خصمين ، ولكل منهما إحلافه لو ادعيا علمه.

ولو قال : لزيد أو الحائط كذا ففي صحة الإقرار نظر ،

______________________________________________________

رجوعه بعد التكذيب وإنما لزم منه استحقاق الغرم ، فإذا نفاه انتفى ولم يتجدد الاستحقاق بمجرد الرجوع. والفرق : إنّ المقر به خارج عن ملك المقر فيقبل رجوع المقر له عن تكذيبه ، لأنّه مال لا يدعيه ، بخلاف الغرم من مال المقر فإنّه ليس كذلك.

قوله : ( ولو قال : لا أعلم دفعها إليهما وكانا خصمين ).

يشكل ذلك ، لأنّ المال المجهول المالك يجب تسليمه الى الحاكم ولا يجوز تسليط من لا يعلم استحقاقه عليه ، لأنّ ذلك إتلاف لمال الغير وتضييع له. والّذي يقتضيه النظر وجوب تسليمها الى الحاكم وهما خصمان.

قوله : ( ولكل منهما إحلافه لو ادعيا علمه ).

فيحلفه كل منهما على عدم علمه باستحقاقه يمينا.

قوله : ( ولو قال : لزيد أو الحائط كذا ففي صحة الإقرار نظر ).

ينشأ : من أنّه لو صحّ الإقرار لكان أمّا لزيد خاصة ، أو للحائط خاصة ، أو لواحد منهما غير معيّن ، والثاني بأقسامه باطل. بيان الملازمة : أنه ردد بينهما بـ أو فامتنع التشريك ، فلم تبق إلاّ الأقسام الثلاثة.

ولا شك في بطلان الأول والثاني منها ، لأن زيدا أو الحائط بالنسبة إلى الإقرار على حد سواء ، فاختصاص واحد ترجيح بلا مرجح. والثالث أيضا باطل ، لأنّه إن كان للحائط فليس لزيد فجرى مجرى ما لو قال : إمّا لزيد أو ليس له بل للحائط ، ولا يعد ذلك إقرارا.

ومن أنّ الذي يملك هو زيد دون الحائط ، فتلغو نسبة الإقرار اليه ويصرف الى زيد. ويضعّف بأنّ الإقرار هو الاخبار الجازم ولا جزم هنا ، وبأن الأصل براءة الذمة‌

٢٨٨

ولو قال : لزيد والحائط كذا فالأقوى صحة النصف خاصة لزيد.

ولو صدّق أحد المدعيين بما يوجب الاشتراك كالإرث والابتياع صفقة في النصف دون اشتراك السبب فهو لهما ،

______________________________________________________

فلا يحكم بشغلها بمثل ذلك ، وعدم الصحة لا يخلو من قوة.

قوله : ( ولو قال لزيد والحائط كذا فالأقوى صحة النصف لزيد خاصة ).

وجه القوة اقتضاء الواو التسوية ، لاقتضاء العطف التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه ، فيكون لزيد النصف ويلغو ذكر الحائط.

ويحتمل أن يكون الجميع لزيد ، لامتناع كون الحائط مالكا فيلغو ذكره ، ولأنّه قد حصر الملك فيهما فلا يعدوهما. ويضعّف بأن إلغاء ذكر الحائط لا يقتضي استحقاق زيد ما لم يقر له به ، وقد بطل حصره ببطلان استحقاق الحائط ، كما لو قال من أول الأمر : لا يملك هذا إلاّ الحائط.

ولا يلزم من الحصر فيهما أنّه إذا بطل الاستحقاق في أحدهما يتحقق في الآخر ، فما قوّاه المصنف قوي. لكن ينبغي أن يعلم أنه على احتمال صحة الإقرار لزيد في صورة الترديد يجب أن يصح له هنا بطريق أولى ، فيكون حكمه بالنصف هنا مقتضيا لترجيح البطلان في الأول.

قوله : ( ولو صدّق أحد المدعيين بما يوجب الاشتراك كالإرث ، والابتياع صفقة في النصف دون اشتراك السبب فهو لهما ).

أي : لو صدّق صاحب اليد أحد المدعيين اللّذين يدعي كلّ منهما النصف من العين التي في يده ، وكانت دعواهما الملك مستندة الى سبب يقتضي الاشتراك بينهما ، كإرثهما من أبيهما مثلا ، وشرائهما صفقة في استحقاقه النصف ولم يصدّق على اشتراكهما في سبب الملك فالنصف بينهما ، لأنّ كل ما حصل من المشترك الّذي كان سبب الملك‌

٢٨٩

ولو لم يوجب الشركة لم يشاركه الآخر ، فإن أقر بالجميع لأحدهما فإن اعترف المقر له للآخر سلّم إليه النصف ، وإلاّ فإن ادعى الجميع بعد ذلك فهو له.

______________________________________________________

مقتضيا للتشريك فهو لهما ، وما ذهب فهو عليهما. وإنما قيّد بقوله : ( دون اشتراك السبب ) لأنه لو صدق على اشتراك السبب مع تصديق أحدهما في دعوى النصف فإنّه يلزم التصديق لدعوى الآخر.

وأعلم أنّ الجار في قوله : ( بما يوجب الاشتراك ) متعلق باسم الفاعل ، والأحسن أن يكون متعلقا بمحذوف تقديره : المدعيين ملكا ثبت بما يوجب الاشتراك.

وإنّما كان هذا أحسن ، لأنّه على الأول لا يستقيم قوله : ( كالإرث والابتياع ) ، لأنّ هذا سبب الملك لا نفسه ، فلا يكون المدعى به إلاّ السبب لا الملك المستند الى السبب ، وفي‌ قوله : ( في النصف ) يتعلق بـ ( صدّق ) وهو ظاهر.

قوله : ( ولو لم يوجب الشركة لم يشاركه الآخر ).

إذ لا يلزمه من الإقرار لأحد المدعيين استحقاق الآخر بمجرد اشتراكهما في الدعوى.

قوله : ( فإن أقر بالجميع لأحدهما ، فإن اعترف المقر له للآخر سلم إليه النصف ، وإلاّ فإن ادعى الجميع بعد ذلك فهو له ).

أي : إن أقر المدعى عليه من شخصين كل منهما بالنصف لا بسبب يقتضي التشريك لأحدهما بجميع المدعى به ، فإن اعترف المقر له للآخر بدعواه سلّم اليه النصف ، لنفوذ اعترافه بذلك ، لانتفاء مستحق غيره بقول صاحب اليد وهو المدعى عليه.

وإن لم يعترف للآخر لم يكن الجميع له إلاّ بعد تصديقه إذا لم يسبق منه إلاّ دعوى النصف ، فإن رجع وادعى الجميع بعد ذلك قبل منه قولا واحدا إذا لم يسبق منه تكذيب ، فإنّ استحقاق النصف لا ينافي استحقاق الكلّ.

٢٩٠

ي : لو قال : أحد هذين العبدين لزيد طولب بالبيان ، فإن عيّن قبل ، فإن أنكر زيد حلف المقر ثم يقر الحاكم ما أقر به في يده ، أو ينتزعه الى أن يدعيه زيد.

ولو قال : لزيد عندي درهم أو دينار فهو إقرار بأحدهما فيطالب بالتفسير ، ولو قال : إمّا درهم أو درهمان ثبت الدرهم وطولب بالجواب عن الثاني.

______________________________________________________

قوله : ( لو قال : أحد هذين العبدين لزيد طولب بالبيان ، فإن عيّن قبل ، فإن أنكر زيد حلف المقر ، ثم يقر الحاكم ما أقر به في يده أو ينتزعه الى أن يدّعيه زيد ).

إنّما يحلف المقر ، لأنّه منكر لدعوى زيد ، وأمّا الإقرار فإنّه قد كذبه ، فإمّا أن يترك المقر به في يد المقر ، أو ينتزعه الحاكم على اختلاف القولين الى أن يرجع زيد عن التكذيب أو يتبين مالكه.

قوله : ( ولو قال : لزيد عندي درهم أو دينار فهو إقرار بأحدهما فيطالب بالتفسير ).

لأنّ ( أو ) تقتضي أحدهما ، وهو مجهول. ولو عكس أمكن إلزامه بالدينار ، لأنّه لا يقبل رجوعه إلى الأقل ، بخلاف الأول ، لأنّه رجوع إلى الأكثر ، كذا قال شيخنا الشهيد في حواشيه وقوّاه ، وفيه تردد ، لأن الكلام لا يتم إلا بآخره ، وليس ذلك رجوعا عن الإقرار.

قوله : ( ولو قال : إمّا درهم أو درهمان ثبت الدرهم وطولب بالجواب عن الثاني ).

إنّما يثبت الدرهم ، لأنّه ثابت على كلّ من شقّي الترديد وما زاد فليس بمقر منه ، فإن ادعى عليه به طولب بالجواب.

٢٩١

ولو قال : لزيد في هذا المال شركة قبل تفسيره بأقل من النصف.

يا : لو قال : لزيد مائة ونصف ما لعمرو ، ولعمرو مائة ونصف ما لزيد فلزيد شي‌ء ولعمرو مائة ونصف شي‌ء ، فلزيد مائة وخمسون وربع شي‌ء تعدل شيئا ، فالباقي بعد إسقاط الربع بمثله يعدل ثلاثة أرباع شي‌ء ، فالكل مائتان.

______________________________________________________

قوله : ( ولو قال : لزيد في هذا المال شركة قبل تفسيره بأقل من النصف ).

لأنّ الشركة أعم من النصف فلا يستلزمه.

قوله : ( لو قال : لزيد مائة ونصف ما لعمرو ، ولعمرو مائة ونصف ما لزيد فلزيد شي‌ء ولعمرو مائة ونصف شي‌ء ، فلزيد مائة وخمسون وربع شي‌ء يعدل شيئا ، فالباقي بعد إسقاط الربع بمثله يعدل ثلاثة أرباع شي‌ء فلكل مائتان ).

هذا نوع من الإقرار بالمجهول لا يتوقف على بيان المقر ، بل يرجع فيه الى القوانين الحسابية التي بها تستخرج المجهولات.

وقد ذكر المصنف هنا عدة صور ، حاصلها يرجع الى إقرار المقر لكل من الشخصين بمقدار من المال وكسر ، وهو جزء ما للآخر عليه ، فأما أن يساوي بين المالين والكسرين ، أو بين المالين خاصة ، أو بين الكسرين خاصة ، أو يفاوت بينهما معا.

فالأول صورتان : أن يجعل الكسر النصف أو الثلث فيهما ، فإذا قال : لزيد عندي مائة ونصف ما لعمرو عندي وبالعكس فقانون الجبر والمقابلة فرض أحدهما شيئا مجهولا ، فلنفرض ما لزيد فيكون لعمرو مائة ونصف شي‌ء ، لأنّ له بمقتضي الإقرار مائة ونصف ما لزيد وله شي‌ء على ما فرضنا ، وحينئذ فيكون لزيد مائة وخمسون وربع شي‌ء ، وذلك لأنّ له مائة ونصف ما لعمرو ، وقد تبيّن أنّ لعمرو مائة ونصف شي‌ء ،

٢٩٢

ولو ذكر الثلث فالكل مائة وخمسون ، لأنّ لزيد شيئا ولعمرو مائة وثلث شي‌ء ، فلزيد مائة وثلث مائة وتسع شي‌ء يعدل شيئا ، يسقط تسع شي‌ء بمثله فمائة وثلث يعدل ثمانية أتساع شي‌ء ، فالشي‌ء مائة وخمسون.

______________________________________________________

ونصفهما خمسون وربع شي‌ء نضمه إلى المائة يكون مائة وخمسين وربع شي‌ء يعدل شيئا كاملا ، وهو الذي فرضناه لزيد أولا.

فتكون عنه عبارتان : إحداهما مشتملة على العلم به ببعض الوجوه فطريق الاستخراج : أن يسقط المجهول من العبارة الثانية وهو ربع شي‌ء بمثله من العبارة الأولى يبقى مائة وخمسون يعدل ثلاثة أرباع شي‌ء ، فإذا قسمنا مائة وخمسين على ثلاثة أرباع شي‌ء كان ربع الشي‌ء خمسين فالشي‌ء الكامل مائتان وهي ما لزيد ، ولعمرو مائة ونصف ذلك وهو مائتان.

قوله : ( ولو ذكر الثلث فالكل مائة وخمسون ، لأنّ لزيد شيئا ولعمرو مائة وثلث شي‌ء ، فلزيد مائة وثلث مائة وتسع شي‌ء يعدل شيئا ، يسقط تسع شي‌ء بمثله فمائة وثلث يعدل ثمانية أتساع شي‌ء ، فالشي‌ء مائة وخمسون ).

أي : لو ذكر الثلث في موضع النصف في المسألة الأولى فقال : لزيد مائة وثلث ما لعمرو ، ولعمرو مائة وثلث ما لزيد فلكل منهما مائة وخمسون ، لأنّا نفرض على القاعدة ما لزيد شيئا فيكون لعمرو مائة وثلث شي‌ء ، لأن له مائة وثلث ما لزيد ، ولزيد شي‌ء على ما فرضنا فيكون لزيد مائة وثلث ، وثلث المائة ثلاثة وثلاثون درهما وثلث ، وثلث وثلث شي‌ء تسع شي‌ء فيكون له مائة وثلاثة وثلاثون وثلث وتسع شي‌ء يعدل ما فرضنا أولا وهو الشي‌ء.

فإذا أسقطنا المجهول من هذا الطرف ـ وهو تسع شي‌ء ـ بمثله من الطرف الآخر ـ وهو الشي‌ء ـ بقي من هذا الطرف مائة وثلاثة وثلاثون وثلث يعدل ما بقي من الطرف الآخر من الشي‌ء وهو ثمانية أتساع ، فإذا قسمت عليها كان التسع ستة عشر‌

٢٩٣

ولو قال : لزيد عشرة ونصف ما لعمرو ، ولعمرو عشرة وثلث ما لزيد فلزيد شي‌ء ولعمرو عشرة وثلث شي‌ء ، فلزيد خمسة عشر وسدس شي‌ء يعدل شيئا ، يسقط السدس بمثله تبقى خمسة عشر تعدل خمسة أسداس شي‌ء ، فالشي‌ء ثمانية عرش هي ما لزيد ، ولعمرو ستة عشر.

ولو قال : لزيد ستة ونصف ما لعمرو ، ولعمرو إنا عشر ونصف ما لزيد فلزيد ستة عشر ، ولعمرو عشرون.

______________________________________________________

وثلثان ، فالشي‌ء الكامل مائة وخمسون هي ما لزيد ، ولعمرو مائة وثلثها وذلك مائة وخمسون.

قوله : ( ولو قال : لزيد عشرة ونصف ما لعمرو ، ولعمرو عشرة وثلث ما لزيد ، فلزيد شي‌ء ولعمرو عشرة وثلث شي‌ء ، فلزيد خمسة عشر وسدس شي‌ء يعدل شيئا يسقط السدس بمثله يبقى خمسة عشر يعدل خمسة أسداس شي‌ء ، فالشي‌ء ثمانية عشر هي ما لزيد ولعمرو ستة عشر ).

هذه صورة التسوية في الإقرار لهما بين المالين دون لاكسرين ، وطريقها بعد معرفة ما سبق ظاهر.

قوله : ( ولو قال : لزيد ستة ونصف ما لعمرو ، ولعمرو اثنا عشر ونصف ما لزيد فلزيد ستة عشر ، ولعمرو عشرون ).

هذا صورة التسوية في الإقرار لهما بين الكسرين دون المالين وإنّما ان لكل منهما ما ذكره ، لأنّا نفرض لزيد شيئا فلعمرو اثنا عشر ونصف شي‌ء فلزيد ستة ونصف ، ذلك فيكون له اثنا عشر وربع شي‌ء يعدل الشي‌ء المفروض.

فإذا أسقطنا ربع شي‌ء بمثله بقي اثنا عشر يعدل ثلاثة أرباع شي‌ء ، فالشي‌ء الكامل ستة عشر هو ما لزيد فيكون لعمرو عشرون ، لأنّ له اثني عشر ونصف ما لزيد.

٢٩٤

ولو ذكر هنا عوض النصف في عمرو الثلث فلزيد أربعة عشر وخمسان ، ولعمرو ستة عشر وأربعة أخماس.

الفصل الثالث : في تعقيب الإقرار بما ينافيه ، وفيه مطلبان :

الأول : في الاستثناء ، وقواعده خمس :

أ : حكم الاستثناء والمستثني منه متناقضان ، فالاستثناء من النفي إثبات ، ومن الإثبات نفي.

______________________________________________________

قوله : ( ولو ذكر هنا عوض النصف في عمرو الثلث فلزيد أربعة عشر وخسمان ولعمرو ستة عشر وأربعة أخماس ).

هذه المشار إليها هي صورة اختلاف الكسرين والمالين معا ، والمراد : أنّه لو ذكر في الصورة المذكورة عوض النصف في عمرو الثلث ، بأن قال : لزيد ستة ونصف ما لعمرو ، ولعمرو اثنا عشر وثلث ما لزيد.

وإنّما كان لكل واحد منهما ما ذكره ، لأنا نفرض ما لزيد شيئا فلعمرو اثنا عشر وثلث شي‌ء ، فيكون ما لزيد ستة ونصف ذلك ، ومجموعه اثنا عشر وسدس شي‌ء يعدل ما فرض له أولا وهو الشي‌ء. فإذا أسقط السدس بمثله بقي اثنا عشر يعدل خمسة أسداس شي‌ء.

فإذا قسمت عليها خرج اثنان وخمسان هو سدس الشي‌ء ، فالشي‌ء الكامل أربعة عشر وخمسان هي ما لزيد إذا أخذت ثلثها وهو أربعة وأربعة أخماس وضممته إلى اثني عشر كان ستة عشر وأربعة أخماس وهو ما لعمرو.

قوله : ( حكم المستثنى والمستثنى منه متناقضان ، فالاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي ).

لم يختلف كلام أهل الإسلام في أنّ الاستثناء من الإثبات نفي وإنّما اختلفوا في عكسه وهو الاستثناء من النفي ، فالأكثر على انّه يفيد الإثبات.

٢٩٥

ب : الاستثناء المتكرر مع حرف العطف يعود الى المستثنى منه ، وكذا لو زاد اللاحق على السابق أو ساواه ، وبدونه يرجع اللاحق الى السابق.

______________________________________________________

وخالف أبو حنيفة في ذلك محتجا بأنّ بين الحكم بالإثبات والنفي واسطة ، وهي عدم الحكم ، فيكون مقتضى الاستثناء بقاء المستثنى غير محكوم عليه بنفي ولا إثبات (١).

وهو مردود بأنّه لو كان كذلك لم يحصل الإقرار بالتوحيد بقوله : لا إله إلاّ الله ، وهو معلوم البطلان ولانتقاضه بالاستثناء من الإثبات ، فإنّه لو صح ما ذكره في عكسه لم يفد الاستثناء من الإثبات النفي ، وهو باطل اتفاقا ، وموضع المسألة علم الأصول.

قوله : ( الاستثناء المتكرر مع حرف العطف يعود الى المستثنى منه ، وكذا لو زاد اللاحق على السابق أو ساواه ، وبدونه يرجع اللاحق الى السابق ).

إذا تعدد الاستثناء فإمّا أن يكون مع حرف العطف أو لا ، فإن تعدد معه وجب عود الجميع الى المستثنى منه ، لوجوب اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم.

وإن لم يكن معه ، فإمّا أن يكون الاستثناء الثاني ناقصا عن الاستثناء الأول أو لا ، بأن كان بقدره أو زائدا ، فإن لم يكن ناقصا وجب عود الجميع الى المستثنى منه أيضا ، لأنّ الاستثناء المستغرق غير صحيح.

وإن كان ناقصا وجب عوده الى الاستثناء الّذي قبله دون المستثنى منه ، لأنّه أقرب ، والقرب دليل الرجحان ، ولا يمكن عوده إليهما معا لاختلافهما في الكيف ، لأنّ الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي فيلزم التناقض.

ولو زاد الاستثناء على اثنين ، وتعذر عود الثالث الى الثاني للاستغراق عاد‌

__________________

(١) بدائع الصنائع ٧ : ٢١٠.

٢٩٦

ج : الأقرب عود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة إلاّ مع القرينة.

______________________________________________________

إلى الأول دون المستثنى منه بمثل ما قلناه.

قوله : ( الأقرب عود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة إلاّ مع القرينة ).

اختلف في أن الاستثناء الواقع بعد جمل هل يرجع الى الجميع أم يختص بالأخيرة؟ فقال جمع ـ منهم الشافعي ـ بالأول (١) ، وقال آخرون بالثاني وهو قول أبي حنيفة (٢) ، وقال السيد المرتضى بالاشتراك (٣) ، وفصّل أبو الحسين بأنه إن ظهر الإضراب عن الأولى بأن يختلفا نوعا ـ سواء اتحدت القضية كالقذف ، أو لا كقوله : أكرم ربيعة والعلماء هم الفقهاء ـ أو اسما وحكما ويتحد النوع مثل : أكرم ربيعة وأطعم مضر إلاّ الطوال أو أحدهما ، وليس الثاني ضميرا مثل أطعم ربيعة وأطعم مضر ، أو أطعم ربيعة ، وأكرم ربيعة إلاّ الطوال فإنّ الاستثناء يرجع الى الأخيرة. وإن تعلّقت إحداهما بالأخرى بأن أضمر حكم الاولى في الثانية مثل أكرم ربيعة ومضر إلا الطوال ، أو اسم الاولى مثل أكرم ربيعة وأخلع عليهم إلاّ الطوال عاد الى الجميع (٤).

وهذا التفصيل حسن إلاّ إنّه لا يكاد يخرج عن القول الثاني ، لأنّه جعل مدار عود الاستثناء الى الجميع أو الى الأخيرة على قرائن الأحوال ، فالقول الثاني أقوى ووجهه : أنّ التخصيص على خلاف الأصل فيقتصر فيه على موضع اليقين ، والعود إلى الأخيرة مقطوع به ، والباقي محتمل فيجب التمسك فيه بالأصل وهو إجراء اللفظ على ظاهره حتى يتحقق الناقل عنه.

ولأن الظاهر أنّ المتكلم لم ينتقل عن الجملة إلى غيرها إلا بعد استيفاء غرضه منها ، ولاستلزام العود الى الجميع إضمار الاستثناء في كل جملة ، أو كون العامل‌

__________________

(١) السراج الوهاج : ٢٦٠.

(٢) بدائع الصنائع ٧ : ٢١١.

(٣) مسألة في الاستثناء ( رسائل السيد المرتضى ) المجموعة الثانية : ٧٩.

(٤) نقله عنه العاملي في مفتاح الكرامة ٩ : ٢٩٩.

٢٩٧
د : الاستثناء من الجنس جائز إجماعا ، ومن غيره على الأقوى.

______________________________________________________

في ما بعد الاستثناء متعددا وكلاهما محذور ، وتحقيق المسألة في الأصول.

قوله : ( الاستثناء من الجنس جائز إجماعا ، ومن غيره على الأقوى ).

لا ريب أن الاستثناء من الجنس ، ومن غير الجنس واقع ، مثل قوله تعالى : ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) (١) ، ومثل ( لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلاّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً ) (٢) ، وإنّما الخلاف في كونه حقيقة أو مجازا ، فذهب المصنف في كتب الأصول الى الثاني (٣) ، واختاره ابن الحاجب ، وهو اختيار المحققين (٤).

فإن كان مراد المصنف بالجواز وعدمه الحقيقة ، فعلى العدم لا يجوز استعماله أصلا فليس بجيد ، لأن كونه مجازا لا يقتضي منع استعماله ، مع أن وقوعه في القرآن وغيره لا دافع له. وإن كان مراده بالجواز الحقيقة وبعدمه المجاز فهو صحيح.

إلاّ أنّ قوله فيما بعد : ( ولو قال : له ألف درهم إلاّ ثوبا ، فإن منعنا المنقطع وجب الألف ) ينافي ذلك ، فإنّ كونه مجازا لا يقتضي إلغاءه ، لوجوب المصير الى المجاز مع وجود الصارف عن الحقيقة على أنّه يمكن رد هذا الى المتصل ، فإنّ المتبادر إخراج قيمة الثوب من الألف فيضمر في الاستثناء لفظة قيمة ، كما نص عليه ابن الحاجب حكاية عن علماء الأمصار ، والتحقيق : أنّ الاستثناء المنفصل جائز وواقع لكنه مجاز : والّذي يقتضيه النظر إنّه لا يصار اليه إلاّ عند تعذر كون الاستثناء متصلا ، لأنّ الاستثناء يقتضي الإخراج كما نصوا عليه ، فمتى أمكن استعمال أداته في معناها‌

__________________

(١) النساء : ٢٩.

(٢) الواقعة : ٢٦.

(٣) مبادئ الوصول الى علم الأصول : ١٣٣.

(٤) منهم الشيخ في المبسوط ٣ : ٩.

٢٩٨

هـ : الاستثناء المستوعب باطل ، ويجوز إبقاء فرد واحد على الأقوى ،

______________________________________________________

وجب ، ولو بتقدير شي‌ء يقتضيه المقام وتدلّ عليه القرائن ، وإن تعذر لم يؤثر في الإقرار شيئا.

وكلام المصنف في كتاب نهج الأصول يوافق ذلك ، فإنّه قال في آخر البحث : والحق إنّه مجاز ، لحمل فقهاء الأمصار في : له عندي عشرة إلاّ ثوبا على إلاّ قيمة الثوب ، وبذلك صرّح في التذكرة (١) ، مع أنّه في أول الكلام في الاستثناء قال مثل قوله هنا ، ثم حكى عن أبي حنيفة منع الاستثناء من غير الجنس إلا في المكيل والموزون والمعدود بعضها من بعض (٢) ، وحكى عن محمد بن الحسن وزفر وأحمد بن حنبل عدم جوازه من غير الجنس مطلقا بحال (٣).

إلاّ أنّه من أبعد البعيد أن يكون قول المصنف بجواز الاستثناء من غير الجنس على الأقوى في مقابل خلاف أبي حنيفة واحمد ، ثم يخرج المسائل على القولين ، وإنّما يتبادر من كلامه أن يكون الخلاف في ذلك للأصحاب (٤).

قوله : ( الاستثناء المستوعب باطل ، ويجوز إبقاء فرد واحد على الأقوى ).

أمّا بطلان المستوعب فلا خلاف فيه ، وأمّا استثناء النصف فصاعدا فقد اختلف الأصوليون في ذلك على أقوال : منع استثناء ما زاد على النصف ، منع استثناء النصف ، منع الاستثناء إن لم تبق كثرة تقرب من مدلول اللفظ جوازه وان لم يبق إلاّ واحد.

__________________

(١) التذكرة ٢ : ١٦٤.

(٢) المغني لابن قدامة ٥ : ٢٧٧ ، بدائع الصنائع ٧ : ٢١٠.

(٣) المصدرين السابقين.

(٤) التذكرة ٢ : ١٦٣.

٢٩٩

فإذا قال : له عليّ عشرة دراهم إلاّ تسعة لزمه واحد ، ولو قال : له عشرة إلاّ تسعة إلاّ ثمانية فهو إقرار بتسعة ولو عدّ الى الواحد فهو إقرار بخمسة ، والضابط إسقاط جملة المنفي من جملة المثبت بعد جمعهما فالمقر به الباقي.

______________________________________________________

والكل ضعيف إلاّ الأخير ، والاحتجاج بأن الاستثناء على خلاف الأصل ـ فيقتصر فيه على القليل ، لأنّه في معرض النسيان ـ ضعيف ، لأن الاستثناء والمستثنى منه كاللفظ الواحد ، فلا يتفاوت الحال في الجواز بكثرته وقلته مع أن استثناء الأكثر واقع ، وقد حقق ذلك في الأصول.

قوله : ( ولو قال : له عليّ عشرة دراهم إلاّ تسعة لزمه واحد ، ولو قال : له عشرة إلاّ تسعة إلاّ ثمانية فهو إقرار بتسعة ).

لأن الاستثناء الأول نفي والثاني إثبات بناء على القاعدة السالفة.

قوله : ( ولو عد إلى الواحد فهو إقرار بخمسة ).

لأنّ الأول ينفي تسعة من العشرة والثاني يثبت ثمانية فيكون المقر به تسعة ، وبالثالث يكون المقر به اثنين ، وبالرابع ثمانية ، وبالخامس ثلاثة ، وبالسادس سبعة ، وبالسابع أربعة ، وبالثامن ستة ، وبالتاسع خمسة ، ولو عكس فقال : له عليّ عشرة إلاّ واحدا إلاّ اثنين إلاّ ثلاثة إلى التسعة بقي واحد.

فإن قيل : الاستثناء الواقع بعد استثناء إذا كان مستغرقا عاد الى المستثنى منه ، وحينئذ فيكون الأول والثاني والثالث إخراجا من العشرة ، فالرابع إن كان من العشرة أيضا كان مستغرقا فيبطل ، وكذا إن كان ممّا قبله فكيف يبقى الواحد.

قلنا : هو استثناء من مجموع ما قبله من المنفيات.

فإن قيل : لا يجوز الاستثناء من الدرهم ولا مع غيره كما سيأتي عن قريب في كلام المصنف.

قلنا : سيأتي إن شاء الله تعالى إنّ ما ذكره ضعيف ، وبتقدير صحته فالاستثناء‌

٣٠٠