جامع المقاصد في شرح القواعد - ج ٩

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي

جامع المقاصد في شرح القواعد - ج ٩

المؤلف:

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٦

______________________________________________________

الأمر ، لكن للواهب الرجوع في العين ، سواء في ذلك ما إذا بذل له عوضا وعدمه ، لأن حق الرجوع ثابت فلا يجب عليه قبول ما يقتضي إسقاطه ، ولأنه هبة أخرى كما سبق.

وإن كانت الهبة مشروطة بالعوض : فإن كان معيّنا دفع المتهب مثله أو قيمته ، كذا قال المصنف ، وظاهره تعيّن ذلك وهو مشكل.

ويمكن أن يقال : لا يراد تعيّنه ـ وما سبق من عدم وجوب دفع العوض المشروط يدل عليه ـ وإنما المراد : إن دفعه كاف في عدم رجوع الواهب في العين. وهذا أيضا مشكل ، لأنا إن أوجبنا على الواهب قبول العوض فإنما يجب عليه قبول العوض الذي تضمنه العقد دون غيره ، لعموم قوله عليه‌السلام : « المؤمنون عند شروطهم » (١) ،

نعم لو رضي به وقبضه فلا بحث ، لكن هذا لا يختص بالمثل ولا بالقيمة.

ولا يفترق الحال في كون المستحق مجموع العوض أو بعضه ، وإن لم يكن العوض المشروط معينا تخيّر المتهب بين دفع ما شاء ـ لكن برضى الواهب ـ وبين دفع العين ، وهنا كلامان :

أحدهما : إن تعيين العوض إن كان المراد به : كونه مشخصا فيشكل إطلاق‌

قوله : ( أو ما شاء إن رضي الواهب مع الإطلاق ) ، لأنه إذا شرط عوضا مقدرا كمائة درهم ، ودفع مائة فظهر استحقاقها فدفع بدلها لم يكن للواهب الامتناع على ما سبق في كلامه. وإن كان المراد به : كونه مقدّرا أعم من أن يكون مشخّصا أو لا فلا يستقيم إطلاق قوله : ( دفع المتهب مثله أو قيمته ) لأن ذلك انّما يتصور في الشخصي دون الكلي.

الثاني : إن قوله : ( أو ما شاء إن رضي الواهب ) يشعر به بأنه إن لم يرض فله أخذ العين ، وإطلاقه يتناول ما إذا دفع عوض المثل ، وذلك ينافي ما سبق في كلامه من أن‌

__________________

(١) التهذيب ٧ : ٣٧ حديث ١٥٠٣ ، الاستبصار ٣ : ٣٢ حديث ٨٣٥.

١٨١

ولو كان معيبا ألزم بالأرش ، أو دفع العين في المعيّنة لا المطلقة.

______________________________________________________

المتهب مخيّر بين دفع الموهوب وعوض المثل.

واعلم أن الضمير في قوله : ( مثله أو قيمته ) يعود الى المستحق ، سواء كان جميع العوض أو بعضه.

وقوله : ( دفع المتهب مثله أو قيمته مع التعيين ) معادل لقوله : ( أو العين أو ما شاء ان رضي الواهب مع الإطلاق ).

قوله : ( ولو كان معيبا ألزم بالأرش ، أو دفع العين في المعيّنة لا المطلقة ).

أي : لو ظهر العوض معيبا الزم المتهب بأرشه ان كانت الهبة مشروطة بعوض شخصي أو دفع العين ، لأن المشروط الذي يسقط بدفعه الرجوع هو المعيّن إذا كان صحيحا ، فإذا ظهر معيبا لم يسقط الرجوع بدفعه ، بل إما أن يدفع الأرش المتهب أو يرد العين.

ويشكل بأن مقتضاه أنه إذا دفع الأرش سقط حق الرجوع من الواهب ، ولا دليل عليه ، لأن اللزوم إنما يكون بدفع العوض المشروط على تقدير صحته ، وقد تعذّر ذلك فوجب أن يبقى حق الرجوع الى أن يقع التراضي على شي‌ء. وكان حقه أن يقول الزم بالعين أو بما يرضي به الواهب ، وحينئذ ففي المطلقة كذلك إلاّ في صورتين

الاولى : ما إذا لم يقدّر عوضا أصلا ، أو دفع عوضا فظهر معيبا وهو مع العيب بقدر القيمة فإنّه على ما سبق ليس له رده ولا الرجوع.

الثانية : ما إذا قدّر عوضا ولم يشخّصه فدفع ذلك القدر فظهر معيبا ، فإنّه يتجه أن يقال : له المطالبة بالأرش ، أو البدل ، أو العين ، ومتى دفع المتهب أحدهما لم يكن له الامتناع ، نعم لو تراضيا على الأرش وقبضه فلا بحث في الصحة واللزوم.

١٨٢

ولو ظهر استحقاق نصف العين رجع بنصف العوض ، ولو ظهر استحقاقها بعد تلفها في يد المتهب فالأقرب رجوعه على الواهب بما غرمه من القيمة وإن زادت عن العوض أو خلت عنه.

______________________________________________________

أما المطلقة : فإن العوض إن كان مقدّرا كان له إبداله ، والمتهب مخيّر ، وإلاّ فإن كان مع المعيب عوض المثل فصاعدا فلا شي‌ء له ، وإلاّ تخير في الرد واسترجاع العين وإبقائه. ومما حققناه يعلم ان إطلاق العبارة يحتاج الى التنقيح.

قوله : ( ولو ظهر استحقاقها بعد تلفها في يد المتهب فالأقرب رجوعه الى الواهب بما غرمه من القيمة وإن زادت عن العوض أو خلت عنه ).

أي : لو ظهر استحقاق العين الموهوبة بعد تلفها في يد المتهب ، فإن الأقرب انه إذا رجع المالك عليه بقيمتها يرجع بما غرمه من القيمة على الواهب ، سواء كانت الهبة خالية من العوض أو معوضا عنها ، وسواء كان العوض أنقص منها أو لا.

ووجه القرب : انه مغرور ، لأنه دخل على أن العين له مجانا أو بالعوض الأقل ، بناء على انها ملك الواهب ، وانها لو تلفت في يده لم يعقب التلف غرم ، لأن ذلك مقتضي الهبة ، فضعفت مباشرة المتهب لغروره فكان له الرجوع على السبب ، لأن المغرور يرجع على من غره.

ويحتمل عدم الرجوع بشي‌ء مع عدم العوض ، وعدم الرجوع بما زاد على العوض لأقل ، لأن التلف استقر في يده ، ويضعّف بالغرور والأصح الأول.

ولو كان العوض أزيد أو مساويا فلا بحث في الرجوع به ، لفوات ما بذلك في مقابله. وكذا يرجع بما اغترم من اجرة وعوض المنافع وإن استوفاها على أصح الوجهين كما لو ظهر المبيع مستحقا ، لأنه دخل على أنه يستحقها مجانا ، أما ما اغترمه مما لم يحصل له في مقابله نفع فإنه يرجع به بطريق أولى.

١٨٣

ولو وهبه عصيرا فصار خمرا ثم عاد خلا فله الرجوع على إشكال ، مبناه : الإشكال في الغاصب وأحد احتماليه.

______________________________________________________

قوله : ( ولو وهبه عصيرا فصار خمرا ثم عاد خلا فله الرجوع على اشكال ، مبناه : الإشكال في الغاصب وأحد احتماليه ).

لا يخفى انه لو غصب عصيرا فصار خمرا في يد الغاصب ضمن المثل وخرج عن ملك المغصوب منه ، فلو عاد خلا في يد الغاصب ففي عود ملك المالك له أو صيرورته ملكا للغاصب إشكال ، ينشأ من أن ملك المالك قد زال وتجدد الملك في يد الغاصب. ومن أن العين قد كانت مملوكة للمغصوب منه قبل صيرورتها خمرا ، وبعد الصيرورة لم تزل أولويته لجواز إمساكها لرجاء تخللها ، فان عادت خلا فهو بعينه ذلك العصير فيكون ملكا له دون الغاصب.

إذا تقرر ذلك فاعلم أنه لو وهبه عصيرا فصار خمرا في يد المتهب ثم عاد خلا فهل للواهب الرجوع؟ فيه اشكال مبناه الإشكال في الغاصب ، والوجهان هنا كالوجهين هناك ، بل عدم الرجوع هنا أولى ، لأن رجوع الواهب دائر مع بقاء الملك وقد زال الملك هنا بصيرورة العصير خمرا ، فإذا عاد كان ملكا جديدا ، والأولوية حين صار خمرا للمتهب دون الواهب ، بخلاف الغاصب فإنه لا ملك له ولا أولوية ، والأصح عدم جواز رجوع الواهب بخلاف المغصوب منه.

ثم ارجع الى عبارة الكتاب واعلم أن قوله : ( وأحد احتماليه ) يحتمل كونه معطوفا على الإشكال في قوله : ( مبناه الإشكال في الغاصب ) فيكون التقدير : مبناه الإشكال في الغاصب ومبناه أحد احتماليه ، بل هذا هو الذي يقتضيه سوق العبارة ، إلا أن بناء الاشكال على آخر يقتضي بناء أحد الوجهين في الثاني على أحد الوجهين في الأول ، والآخر على الآخر ، وحينئذ فلا يكون الإشكال الثاني مبنيا على أحد الوجهين في الأول فتكون العبارة متدافعة.

١٨٤

ولو انفك الرهن أو بطلت الكتابة فكذلك إن سوغناه مع التصرف ، ولو عاد الملك بعد زواله احتمل الرجوع.

______________________________________________________

أما لو قال : مبناه أحد الاحتمالين في إشكال الغاصب لكان صحيحا وهو المطابق للواقع ، فإنا إذا قلنا يملك الغاصب الخل المتجدد فلا شك في عدم رجوع الواهب هنا ، وإن قلنا : بأن الملك للمغصوب منه فهنا اشكال.

ويحتمل كونه خبرا لمبتدإ محذوف ، والجملة معطوفة على الجملة قبلها تقديره : وهو أحد احتماليه ، أي : والرجوع أحد احتمالي الاشكال ، وهو الذي فهمه الشارح السيد عميد الدين ، فإنه قال : ورجوع الواهب مبني على أحد الاحتمالين ، وهو انه إن قلنا : انه هو ذلك الأول بعينه فله الرجوع لبقاء العين ، وعدم رجوعه مبني على الاحتمال الآخر ، وهو انه إن قلنا باستهلاكه وتجدد غيره فلا رجوع للواهب. هذا كلامه ، ولا يخفى أن العبارة لا تخلو من تكلف على هذا التقدير أيضا.

قوله : ( ولو افتك الرهن ، أو بطلت الكتابة فكذلك إن سوغناه مع التصرف ).

أي : لو افتك الرهن حيث رهن المتهب الهبة ، أو بطلت الكتابة حيث كاتب العبد فكذلك ، أي : فللواهب الرجوع ، وقد بينا وجهه فيما مضى.

ويحتمل أن يكون المراد فله الرجوع على اشكال ، وهو بعيد جدا ، بناء على أن التصرف غير مانع من الرجوع ، فإن هذا التصرف غير مزيل للملك.

قوله : ( ولو عاد الملك بعد زواله احتمل الرجوع ).

أي : لو عاد الملك بعد زواله بالبيع ونحوه احتمل الرجوع ، بناء على أن التصرف غير مانع. ووجهه : ان استحقاق الرجوع كان ثابتا والأصل بقاؤه ، ويضعّف بأنه قد انتفى بانتقال الملك عن المتهب ، لامتناع ثبوت سلطنة الواهب على المشتري فعوده يحتاج الى دليل ، وهو الأصح وقد سبق.

١٨٥

المقصد الثالث : في الإقرار ، وفيه فصول :

الأول : في أركانه ، وفيه مطالب :

الأول : الصيغة ، الإقرار : اخبار عن حق سابق لا يقتضي تمليكا بنفسه بل يكشف عن سبقه.

______________________________________________________

قوله : ( الأول : الصيغة : الإقرار : إخبار عن حق سابق لا يقتضي تمليكا بنفسه بل يكشف عن سبقه ).

الإخبار كالجنس تندرج فيه الشهادة على الغير ، وكل إخبار ، ولا تدخل فيه الإنشاءات.

وقوله : ( عن حق سابق ) يخرج به الإخبار عما ليس بحق ، ويندرج في الحق ملك العين والمنفعة ، واستحقاق الخيار والشفعة ، وأولوية التحجير والحدود والتعزيرات لله سبحانه وتعالى وللآدمي ، والقصاص في النفس والطرف. وبالسابق يخرج الإخبار عن حق مستقبل فإنه ليس إقرارا ، وإنما هو بمنزلة الوعد.

لا يقال : يخرج عنه الإقرار بالمؤجل قبل حلوله ، لأن الحق إنما يثبت في المستقبل.

لأنا نقول لا ريب أن الإخبار عن الحق المؤجل إخبار عن حق سابق ، لأن كونه حقا أمر سابق وإنما المستقبل استحقاق المطالبة به.

فإن قيل : الإخبار عن استحقاق المطالبة به إخبار عن غير سابق مع انه إقرار فلا يتناوله التعريف.

قلنا : الإقرار إنما هو الاخبار عن أصل الحق ، ولما كان مقتضاه استحقاق المطالبة في الحال دفعه المقر عن نفسه بذكر الأجل ، فليس ذكر الأجل إقرارا ولا جزءا‌

١٨٦

ولفظه الصريح : لك عندي ، أو عليّ ، أو في ذمتي ، أو هذا ، وما أدى معناه بالعربية وغيرها.

______________________________________________________

منه ، بل دفع لما يلزم من الإخبار بأصل الحق. وقوله : ( لا يقتضي تمليكا بنفسه ... ) الظاهر انه ليس جزءا من التعريف ، إذ لا يحترز به عن شي‌ء ، وإنما هو بيان لحكمه.

وفي حواشي شيخنا الشهيد انه يخرج به جميع العقود إذا لم يجعل إنشاء ، وترد عليه الشهادة على الغير فإنها إخبار عن حق سابق. وزاد شيخنا الشهيد لإخراجها في حاشيته ، وفي الدروس (١) قوله : لازم للمخبر.

وربما تكلف متكلف دفع ذلك بأن الشهادة اخبار عن حق ثابت في الحال لا سابق ، وليس بشي‌ء ، لأن ثبوته في الحال فرع كونه سابقا ، فهو سابق وإن لم يصرح بسبقه.

وأورد عليه ما هو في قوة الإخبار مثل نعم في جواب من قال : لي عليك كذا ، فلذلك زاد شيخنا الشهيد في التعريف : أو ما هو في قوة الإخبار. ودفعه ، ظاهر ، فإن المحذوف لقيام المذكور مقامه كالمذكور فيعد اخبارا ، وإلاّ لم يكن المعطوف في : له عليّ كذا وكذا اخبارا حقيقة ، وليس كذلك.

قوله : ( ولفظه الصريح لك عندي ، أو علي ، أو في ذمتي ، أو هذا ، أو ما أدى معناه بالعربية وغيرها ).

أي : اللفظ الصريح في الإقرار ما دل على الاستحقاق ، فإذا قال : لك عندي ، أو لك علي ، أو لك في ذمّتي كذا ، أو قال : لك هذا ، أو ما ادى معنى ذلك من الألفاظ مثل : قبلي ، أو معي كذا فهو صيغة إقرار.

ولا فرق في ذلك بين كون الإقرار بالعربية ، أو بالعجمية من العربي ، أو من العجمي بالعربية بالإجماع ، لأن كل واحدة منهما لغة كالأخرى يعبّر بها عن ما في‌

__________________

(١) الدروس : ٣١١.

١٨٧

ويشترط تنجيزه ، فلو علّقه بشرط كقوله : لك كذا إن شئت ،. أو إن قدم زيد ، أو إن رضى فلان ، أو إن شهد لم يصحّ. أو إن شهد لم يصحّ. ولو فتح ان لزم ولو قال : إن شهد لك فلان فهو صادق ، أو فهو حق ، أو صدق ، أو صحيح لزمه وإن لم يشهد.

______________________________________________________

الضمير ، ويدل على المعاني الذهنية بسبب العلاقة الراسخة بينهما بحسب المواضعة ، فإذا كان اللفظ موضوعا لشي‌ء دلّ عليه بشرط العلم بالوضع.

فإن أقرّ عربي بالعجمية أو بالعكس : فإن عرف انه عالم بما أقر به لزمه ، وإن قال : ما علمت معناه وصدّقه المقر له فلا أثر له ، وإن كذبه فالقول قول المقر بيمينه ، لأن الظاهر من حال العجمي انه لا يعرف العربية وبالعكس ، ولأن الأصل عدم تجدد العلم بغير لغته. ويكفي في الألفاظ ما يفيد الإقرار بالنظر الى العرف ، فلا يشترط كون اللفظ واقعا على قانون العربية.

قوله : ( ويشترط تنجيزه ، فلو علّقه بشرط كقوله لك كذا ، ان شئت ، أو إن قدم زيد ، أو إن رضي فلان ، أو إن شهد لم يصح ، ولو فتح ان لزم ).

لما كان الإقرار هو الاخبار الجازم بحق سابق كان التنجيز معتبرا فيه لا محالة ، فمتى علّقه بشرط لم يكن إقرارا ، لانتفاء الجزم كقوله : لك كذا إن شئت ، أو إن قدم زيد الى آخره.

ولو فتح ان فلا تعليق ، لأن المفتوحة الخفيفة مع الفعل في تأويل المصدر ، وحذف الجار معها قياس مطرد فتخرج الصيغة بذلك عن التعليق الى التعليل ، فيكون الجزم المعتبر في مفهوم الإقرار حاصلا فيلزم.

قوله : ( ولو قال : إن شهد لك فلان فهو صادق ، أو فهو حق ، أو صدق ، أو صحيح لزمه وإن لم يشهد ).

١٨٨

______________________________________________________

هذا الحكم أفتى‌ به الشيخ في المبسوط (١) ، وتبعه جماعة من المتأخرين (٢) ، ويحتج للزوم بوجوه :

الأول : انه قد أقر بصدقه على تقدير الشهادة ، ولا يكون صادقا إلاّ إذا كان المشهود به في ذمته ، لوجوب مطابقة الخبر الصادق لمخبره بحسب الواقع فيكون في ذمته على ذلك التقدير ، ومعلوم انه لا دخل للشهادة في ثبوت المقر به في الذمة في نفس الأمر ، فإذا ثبت في ذمته على تقدير الشهادة بمقتضى الإقرار ثبت في ذمته مطلقا ، لما قلناه من انه لا دخل للشهادة في شغل الذمة في نفس الأمر.

وأيضا فإن الشهادة ليست سببا محصلا ، بل السبب المحصل ـ أعني : المقتضي لشغل الذمة ـ أمر آخر من بيع وقرض ونحوهما فإذا حكم بالصدق على تقدير الشهادة فقد حكم بثبوت سبب يقتضي شغل الذمة ، ومع ثبوته يجب الحكم بشغل الذمة على تقدير الشهادة وعدمه ، لما عرفت من أن المقتضي للشغل غير الشهادة.

الثاني : انه قد أقر بلزوم المشهود به على تقدير الشهادة ، لاعترافه بصدق الشاهد فيؤاخذ بإقراره على ذلك التقدير الخاص ويلزم مؤاخذته به مطلقا ، لامتناع صدق الخاص بدون العام ، ( والمقيّد بدون المطلق ) (٣) وظاهر انه لا دخل للقيد في اللزوم ، إذ اللزوم بسبب آخر فلا يتوقف اللزوم على ذلك المقيد.

الثالث : انه يصدق كلما لم يكن المال ثابتا في ذمته لم يكن صادقا على تقدير الشهادة ، وينعكس بعكس النقيض الى قولنا كلما كان صادقا على تقدير الشهادة كان المال في ذمته ، لكن المقدم حق لإقراره فإنه حكم بصدقه على تقدير الشهادة فالتالي مثله.

__________________

(١) المبسوط ٣ : ٢٢.

(٢) منهم المحقق في الشرائع ٣ : ١٤٣. وابن سعيد في الجامع للشرائع : ٣٤٠.

(٣) لم ترد في « ك‍ » ، وفي « ص » : والمطلق بدون المقيد.

١٨٩

ولو قال : إن شهد لك صدقته ، أو لزمني ، أو أديته لم يكن مقرا.

______________________________________________________

الرابع : أن يقال إما أن يكون المال ثابتا أو لا ، والثاني باطل ، لاستلزامه كذب الشاهد على تقدير الشهادة لأنه خبر غير مطابق ، لكنه حكم بصدقه على تقديرها وهذا خلف فتعيّن الأول ، وعورض بأمرين :

أحدهما : التعليق ، فإنه حكم بصدقه المقتضي لشغل الذمة إن شهد ، والتعليق مناف للإقرار فكان كقوله : لك كذا إن قدم زيد. ويمكن الفرق بأن هذا تعليق محض ، بخلاف ما نحن فيه فإنه بيان لحكم الشهادة على تقدير وقوعها.

الثاني : انه ربّما كان اعتقاد المخبر امتناع الشهادة من الشخص المذكور ، لامتناع الكذب بالنسبة إليه عادة ، فيريد أن ذلك لا يصدر منه ، ومثله في محاورات العوام كثير ، يقول أحدهم : إن شهد فلان أني لست لأبي فهو صادق ، ولا يريد سوى ما قلناه ، للقطع بعدم تصديقه على كونه ليس لأبيه مع أن الأصل براءة الذمة.

وفصّل المصنف في التذكرة فقال : الأقرب انه إن ادعى عدم علمه بما قال ، وان المقر له لا يستحق عنده شيئا ، وانه توهم ان فلانا لا يشهد عليه وكان ممن يخفى عليه ذلك قبل قوله على التعليق وإلاّ ثبت (١) ، والأصح عدم اللزوم.

قوله : ( ولو قال إن شهد لك صدقته ، أو لزمني ، أو أديته لم يكن مقرا ).

أما الأول ، فلأن غير الصادق قد يصدق فلا يلزم من تصديقه إياه صدقه ، وأما الثاني ، فلأن الحق لا يلزم بشهادة الواحد فيكون الحكم باللزوم معلوم البطلان.

فان قيل : أي فرق بينه وبين إن شهد فلان فهو صادق؟

قلنا : الفرق ان حكمه بصدقه إخبار عن الواقع وما في نفس الأمر ، لأن الصدق والكذب بحسب نفس الأمر ، بخلاف لزمني فإن اللزوم قد يراد به اللزوم‌

__________________

(١) التذكرة ٢ : ١٤٥.

١٩٠

ولو قال : له عليّ ألف إذا جاء رأس الشهر لزم إن لم يقصد الشرط بل الأجل ، وكذا لو قال : إذا جاء رأس الشهر فله عليّ ألف.

ولو قال : كان له عليّ ألف لزمه ، ولا تقبل دعواه في السقوط. ولو قال : لي عليك ألف ، فقال : نعم ، أو أجل ، أو بلى. أو صدقت ، أو بررت.

______________________________________________________

ظاهرا ، بل هو الأكثر في الاستعمال. وأمّا الثالث فهو محض وعد.

قوله : ( ولو قال له عليّ ألف إذا جاء رأس الشهر لزمه ان لم يقصد الشرط بل الأجل ، وكذا لو قال إذا جاء رأس الشهر فله عليّ ألف ).

لما كان كل من الصيغتين محتمل لإرادة التعليق وارادة التأجيل لصلاحية اللفظ لهما تعيّن الاستفسار والرجوع إلى قصد القائل ، وهو مختار المصنف هنا ، وفي التذكرة (١) ، وأطلق في الشرائع اللزوم (٢) ، وليس بجيد.

وحكى قولا بالفرق بينهما وهو اللزوم إن قدّم المال ، لأن التعليق إبطال للإقرار. ورد بأن الكلام لا يتم أوله إلاّ بآخره ، ومن ثم يحكم بثبوت الأجل لو فسر بالتأجيل.

قوله : ( ولو قال : كان له عليّ ألف لزمه ، ولا تقبل دعواه في السقوط ).

لا يخفى إن ( كان ) لا تدل على الزوال ، قال الله سبحانه ( وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً ) (٣) ، لكنها تشعر بذلك بحسب الاستعمال. على انه لو صرح بالسقوط لم تقبل دعواه ، فإن الأصل البقاء.

قوله : ( ولو قال : لي عليك ألف ، فقال : نعم ، أو أجل ، أو بلى ، أو‌

__________________

(١) التذكرة ٢ : ١٤٥.

(٢) الشرائع ٣ : ١٤٤.

(٣) النساء : ١٧٠.

١٩١

أو قلت حقا ، أو صدقا. أو أنا مقر به ، أو بدعواك ، أو بما ادعيت ، أو لست منكرا له ، أو رددتها ، أو قضيتكها ، أو قبضتها ، أو أبرأتني منها فهو إقرار.

______________________________________________________

صدقت ، أو بررت ، أو قلت حقا ، أو صدقا ، أو أنا مقر به ، أو بدعواك ، أو بما ادعيت ، أو لست منكرا له ، أو رددتها ، أو قضيتكها ، أو أقبضته ، أو أبرأتني منها فهو إقرار ).

أما جوابه بنعم وأجل فظاهر ، لأنه إن كان خبرا فنعم بعده حرف تصديق ، وإن كان استفهاما فهي للإثبات والاعلام ، لأن الاستفهام عن الماضي إثباته بنعم ونفيه بلا ، وأجل مثله.

وأما بلى فإنها وإن كانت لإبطال النفي ، إلاّ أن الاستعمال العرفي جوّز وقوعها في جواب الخبر المثبت ، لأن المحاورات العرفية جارية على هذا ، وأهل العرف لا يفرقون بينها وبين نعم في ذلك. والأقارير إنما تجري على ما يتفاهمه أهل العرف لا على دقائق اللغة.

هذا إن لم يكن قوله : ( لي عليك ألف ) استفهاما ، ولو قدر استفهاما والهمزة محذوفة فقد قال ابن هشام في المغني : انه وقع في كتب الحديث ما يقتضي أنها يجاب بها الاستفهام المجرد مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأصحابه : « أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ » قالوا : بلى ، رواه البخاري (١) ، ومثله قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أنت الذي لقيتني بمكة؟ » فقال له المجيب : بلى ، رواه مسلم (٢).

وأما صدقت ، وبررت بكسر الراء الاولى وإسكان الثانية ، وقلت حقا ، وصدقا فإنه إقرار إذا كان ( لي عليك ألف ) خبرا مثبتا.

وأما قوله : أنا مقر به فقد قوّى في الدروس انه ليس بإقرار حتى يقول :

__________________

(١) صحيح البخاري ٨ : ١٣٧.

(٢) مغني اللبيب : ١١٤.

١٩٢

ولو قال : أليس لي عليك كذا ، فقال : بلى كان إقرارا. ولو قال : نعم لم يكن إقرارا على رأي ،

______________________________________________________

لك (١) ، ويضعّف بأن المتبادر عود الضمير في قوله : به الى ما ذكره المقر له ، وكونه اسم فاعل فيحتمل الاستقبال فيكون وعدا ، واردا على تقدير قوله : لك ، وهو مدفوع بأنه لا يفهم من ذلك عرفا إلاّ الإقرار وإن استشكله الشارح ولد المصنف (٢).

ومثله قوله : أنا مقر بدعواك ، أو بما دعيت ، أو لست منكرا له ، واحتمل في الدروس أن لا يكون الأخير إقرارا ، لأن عدم الإنكار أعم من الإقرار (٣) ، وهو غير وارد ، إلاّ أن المفهوم عرفا من عدم الإنكار الإقرار.

وأما البواقي ، فإن الرد والقضاء والبراءة فرع الثبوت والاستحقاق ولازمهما ، فادعاؤها يقتضي ثبوت الملزوم ، والأصل البقاء.

قوله : ( ولو قال : أليس لي عليك كذا؟ فقال : بلى كان إقرارا ، ولو قال : نعم لم يكن إقرارا على رأي ).

هذا قول أكثر الأصحاب (٤) لأنّ نعم حرف تصديق ، فإذا وقعت في جواب الاستفهام كانت تصديقا لما دخل عليه الاستفهام فيكون تصديقا للنفي ، وذلك مناف للإقرار.

وأمّا بلى فإنّها تكذيب له من حيث أن أصل بلى بل زيدت عليها الألف وهي للرد والاستدراك ، وإذا كان كذلك فقوله بلى ردّ لقوله : ليس لي عليك ألف ، فإنّه الّذي دخل عليه حرف الاستفهام ونفى له ، ونفي النفي إثبات. قال في التذكرة : هذا‌

__________________

(١) الدروس : ٣١٢.

(٢) إيضاح الفوائد ٢ : ٤٢٥.

(٣) الدروس : ٣١٢.

(٤) منهم الشيخ في المبسوط ٣ : ٢ ، والراوندي في فقه القرآن ٢ : ٣٢٢.

١٩٣

______________________________________________________

تلخيص ما نقله عن الكسائي ، وجماعة من فضلاء اللغة (١).

وقال ابن هشام في المغني : أنّ بلى تختص بالنفي وتفيد إبطاله ، سواء كان مجردا نحو ( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى ) (٢) ، أم مقرونا بالاستفهام حقيقيا كان نحو : أليس زيد بقائم؟ فيقول بلى ، أو توبيخا نحو ( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى ) (٣) ، أو تقريرا نحو ( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى ) (٤) ، ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى ) (٥) ، فأجرى النفي مع التقرير مجرى النفي المجرد في رده ببلى ، ولذلك قال ابن عباس وغيره : لو قالوا نعم لكفروا ، ووجهه : أن نعم تصديق للمخبر بنفي أو إيجاب (٦).

وقال قوم : إنّه يكون مقرا ، قال في التذكرة : لأنّ كل واحد من نعم وبلى يقام مقام الآخر في العرف (٧) ، قال في المغني : ونازع السهيلي وجماعة في المحكي عن ابن عباس وغيره في الآية متمسكين بأنّ الاستفهام التقريري خبر موجب ، ولذلك امتنع سيبويه من جعل أم متصلة في قوله تعالى ( أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ ) (٨) ، لأنّها لا تقع بعد الإيجاب ، واستشكله بأنّ بلى لا يجاب بها الإيجاب اتفاقا (٩).

وفي بحث نعم حكى عن سيبويه وقوع نعم في جواب الست ثم قال : إنّ‌

__________________

(١) التذكرة ٢ : ١٤٤.

(٢) التغابن : ٧.

(٣) الزخرف : ٨٠.

(٤) الملك : ٨.

(٥) الأعراف : ١٧٢.

(٦) مغني اللبيب : ١١٣.

(٧) التذكرة ٢ : ١٤٤.

(٨) الزخرف : ٥ـ ٥٢.

(٩) مغني اللبيب : ١١٣.

١٩٤

والإقرار بالإقرار إقرار.

ولو قال : لي عليك ألف ، فقال : أنا مقر ولم يقل به على الأقوى‌

______________________________________________________

جماعة من المتقدمين والمتأخرين قالوا : إذا كان قبل النفي استفهام تقريري فالأكثر أن يجاب بما يجاب به النفي رعيا للفظه ، ويجوز عند أمن اللبس أن يجاب بما يجاب به الإيجاب رعيا لمعناه ، قال : وعلى ذلك قول الأنصار للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد قال لهم « ألستم ترون لهم ذلك؟ » نعم. وقول الشاعر :

أليس الليل يجمع أم عمرو

وإيانا فذاك بنا تداني

نعم وأرى الهلال كما تراه

ويعلوها النهار كما علاني

قال : وعلى ذلك جرى كلام سيبويه والمخطئ مخطئ (١).

وحيث ظهر ان بلى ونعم يتواردان في جواب أليس ، مع أمن اللبس ، واقتضاء العرف إقامة كل منهما مقام الآخر فقد تطابق العرف واللغة. على أن نعم في مثل هذا اللفظ إقرار كبلى ، لانتفاء اللبس ، وهو الأصح ، واختاره شيخنا في الدروس (٢).

وممّا قررناه علم أن جعل نعم هنا إقرارا أولى من جعل بلى إقرارا في قوله : لي عليك ألف للاتفاق على انه لا يجاب بها الإيجاب.

قوله : ( والإقرار بالإقرار إقرار ).

لأنّه إخبار جازم بحق سابق ، والإقرار حق أو في معنى الحق ، لثبوت الحق به فيندرج في عموم : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » (٣).

قوله : ( ولو قال : لي عليك الف فقال : أنا مقر ولم يقل : به على‌

__________________

(١) مغني اللبيب ٢ : ٣٤٧.

(٢) الدروس : ٣١٢.

(٣) عوالي اللئالي ٢ : ٢٥٧ حديث ٥.

١٩٥

أوزنه أو خذه ، أو انتقده ، أو زن ، أو خذ لم يكن إقرارا.

______________________________________________________

الأقوى (١) ، أوزنه أو خذه ، أو انتقده ، أو زن ، أو خذ ، لم يكن إقرارا ).

إنّما لم يكن قوله : أنا مقر ولم يقل : به إقرارا ، لاحتماله المدعى وغيره ، فإنّه لو وصل به قوله : بالشهادتين ، أو ببطلان دعواك لم يختل اللفظ ، وذلك لأنّ المقر به غير مذكور في اللفظ ، فجاز تقريره بما يطابق المدعى وغيره ، ومع انتفاء الدلالة على المدعى يجب التمسك ببراءة الذمّة الى أن يقوم دليل على اشتغالها.

ويحتمل عده إقرارا ، لأنّ صدوره عقيب الدعوى يقتضي صرّفه إليها كما في قوله تعالى ( أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا ) (٢) ، وقوله تعالى : ( فَاشْهَدُوا ) (٣) ، إمّا أمر للملائكة بالشهادة على الإقرار ، أو لبعضهم بالشهادة على البعض دليل على أنّ ذلك كاف في الإقرار مع عدم قولهم به ، ولأنّه لولاه لكان هذرا ، فإنّ من قال في جواب المدعى عليه بمال : أنا مقر بالشهادة عدّ سفيها هذارا ، ودفع الهذرية عن كلام العقلاء مقصود للشارع

وجوابه : ان صدوره عقيب الدعوى إن أريد بصرفه إليها : دلالته على الإقرار بمقتضاها فهو ممنوع ، لإمكان أن يراد الإقرار بشي‌ء آخر ، ويكون فيه اشعار برد دعوى المدعى لما يظهر من جوابه من الاستهزاء ، وإن أريد بصرفه إليها : كونه جوابا فلا دلالة فيه.

وأما الآية فلا دلالة فيها على محل النزاع ، لانتفاء احتمال الاستهزاء فيها ، ودعوى الهذرية والسفه مردودة بأن الاستهزاء من الأمور المقصودة لغة وعرفا ، والأصح الأول.

__________________

(١) هكذا ورد في النسختين الخطبتين لجامع المقاصد والنسخة الخطية لقواعد الأحكام.

(٢) آل عمران : ٨١.

(٣) آل عمران : ٨١.

١٩٦

ولو قال : أنا أقرّ به احتمل الوعد.

ولو قال : اشتر مني هذا العبد أو أستوهبه ، فقال : نعم فهو إقرار

______________________________________________________

وأما زنه ، وخذه ، وغيرهما فلا يعد شي‌ء منها إقرارا ، لانتفاء الدلالة ، وإمكان خروج ذلك مخرج الاستهزاء.

قوله : ( ولو قال : أنا مقر به احتمل الوعد ).

أي : فلا يكون إقرارا ، أمّا إنّه يحتمل الوعد ، فلأنّ الفعل المستقبل مشترك بين الحال والاستقبال ، والإقرار بالنسبة إلى المستقبل وعد وأمّا أنّه لا يكون إقرارا فظاهر ، لأن الإقرار إخبار جازم بحق سابق.

ويمكن أن يكون مراد المصنف : احتمل كونه وعدا وأحتمل كونه إقرارا ، فتكون المسألة ذات وجهين ، وهو الّذي فهمه الشارح الفاضل ولد المصنف (١) ، وشيخنا الشهيد قال في حواشيه : إنّ فيها قولين ، وذكر في التذكرة إنّ فيها للشافعية وجهين (٢) ، ووجه الثاني إنّ قرينة الخصومة ، وتوجه الطلب يشعر بالتنجيز فيكون إقرارا ، والأصح الأول.

قوله : ( ولو قال : اشتر مني هذا العبد أو أستوهبه ، فقال : نعم فهو إقرار ).

لأنّ نعم في جواب الفعل المستقبل حرف وعد ، وعدته إياه بالشراء منه يقتضي كونه مالكا ، لامتناع صدور البيع الصحيح من غير مالك ، ومثله الاستيهاب.

وفرّق المصنف في التذكرة بين أن يقول : اشتر مني عبدي هذا ، فيقول : نعم ، فإنّه إقرار على الأصح مع احتمال عدمه ، وبين أن يقول : اشتر مني هذا العبد فيقول : نعم ، فإنّه إقرار بأنّ المخاطب مالك للبيع وليس إقرارا بأنّه مالك للمبيع (٣).

__________________

(١) إيضاح الفوائد ٢ : ٤٢٤.

(٢) التذكرة ٢ : ١٤٤ ، الوجيز : ١٩٧.

(٣) التذكرة ٢ : ١٤٥.

١٩٧

وكذا لو قال : بعني ، أو ملكني ، أو هبني.

ولو قال : ملكت هذه الدار من فلان ، أو غصبتها منه ، أو قبضتها فهو إقرار ، بخلاف تملكها على يده.

ولو قال : بعتك أباك فحلف عتق ولا ثمن.

ولو قال : لك عليّ ألف في علمي ، أو فيما أعلم ، أو في علم الله تعالى لزمه.

______________________________________________________

ويشكل الفرق بأنّ اليد تدل على الملك ، والأصل في ثبوت سلطنة التصرف أن لا يكون بالنيابة عن الغير ، ولعل ما هنا هو الأقرب.

قوله : ( وكذا لو قال : بعني ، أو هبني ، أو ملّكني ).

أي : هو إقرار وذلك بطريق أولى.

قوله : ( ولو قال : ملكت هذه الدار من فلان ، أو غصبتها منه ، أو قبضتها فهو إقرار ، بخلاف تملكتها على يده ).

لأنّ حصول الملك منه يقتضي كونه زائدا ، وصدور السبب المملك منه ، وكذا غصبتها منه وقبضتها.

وأمّا تملكتها على يده فلا يقتضي إلاّ جريان سبب الملك على يده ، وهو أعم من صدوره منه ، فإنّه ربّما كان واسطة في ذلك دلاّلا أو سمسارا أو غير ذلك.

قوله : ( ولو قال : بعتك أباك فحلف عتق ولا ثمن ).

أي : لو ادعى مدعى على غيره إنّه باعه أباه فأنكر حلف وانتفت الدعوى عنه والثمن وعتق الأب ، لأنّه بزعم المدعي قد دخل في ملك ابنه وصار حرا فينفذ إقرارا ، لأنّ اليد له والملك منحصر فيه ظاهرا.

قوله : ( ولو قال : لك عليّ الف في علمي ، أو فيما أعلم ، أو في علم الله تعالى لزمه ).

١٩٨

ولو قال لك عليّ ألف إن شاء الله فالأقرب عدم اللزوم.

ولو قال : أنا قاتل زيد فهو إقرارا ، لا مع النصب ، والوجه التسوية في عدم الإقرار.

______________________________________________________

لأن ما في علمه‌ لا يحتمل إلا الوجوب فانّ المتبادر من العلم : هو اليقين ، وعلمه تعالى يستحيل كون الواقع بخلافه ، وقد أقر بأنّ الألف عليه في علمه سبحانه.

قوله : ( ولو قال : لك عليّ ألف إن شاء الله فالأقرب عدم اللزوم ).

وجه القرب : أنّه علّقه على شرط ، والتعليق مناف للإقرار ، ولأن مشيئته سبحانه أمر لا يطلع عليه ولا سبيل الى العلم به ، إلا بأن يعلم ثبوت ذلك في ذمته ويحتمل اللزوم أما بالحمل على التبرك كما في قوله تعالى ( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ ) (١) ، فإن ذلك أكثري ، وأمّا لأنّه إنكار بعد الإقرار ، لأنّه وصل إقراره بما يرفعه بأجمعه ولا يصرفه الى غير الإقرار ، فلزمه ما أقرّ به وبطل صلته به.

ويضعّف بأنّ التبرك محتمل ، والأصل براءة الذمّة فلا تصير مشغولة بالمحتمل. نعم لو علم قصد التبرك فلا بحث في اللزوم ودعوى كونه إنكارا بعد الإقرار مدفوعة بأنّ شرط الإقرار التنجيز وهو منتف هنا.

أمّا لو قال : له عليّ ألف إلاّ أن يشاء الله فإنّه إقرار صحيح ، لأنّه علّق رفع الإقرار على أمر لا يعلم فلا يرتفع ، كذا قال المصنف في التذكرة (٢) ، ويشكل بأنّه سيأتي في الايمان إن شاء الله تعالى إنّ الاستثناء بمشيته سبحانه يقتضي عدم انعقاد اليمين.

قوله : ( ولو قال : أنا قاتل زيد فهو إقرار ، لا مع النصب ، والوجه التسوية في عدم الإقرار ).

وجه الفرق : إنّ اسم الفاعل لا يعمل إلاّ إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال ،

__________________

(١) الفتح : ٢٧.

(٢) التذكرة ٢ : ١٤٥.

١٩٩

الثاني : المقر ، وهو قسمان : مطلق ، ومحجور. فالمطلق ينفذ إقراره بكل ما يقدر على إنشائه.

ولا تشترط عدالته ، فيقبل إقرار الفاسق والكافر ، وإقرار الأخرس مقبول مع فهم إشارته.

ويفتقر الحاكم الى مترجمين عدلين ، وكذا في الأعجمي.

______________________________________________________

فمع النصب يكون قد أعمل فتعيّن أن لا يكون بمعنى الماضي ، وانتفاء كونه بمعنى الحال معلوم فتعين أن يكون بمعنى للاستقبال. وحينئذ فلا يكون إقرارا ، لما علم غير مرة من أنّ الإقرار إخبار جازم بحق سابق ، ومع الجر يكون ترك اعماله دليلا على أنّه بمعنى الماضي فيكون إقرارا ، ويؤيده استعمال أهل العرف إياه في الإقرار.

ووجه التسوية بينهما في عدم الإقرار : إنّ الإضافة لا تقتضي كون اسم الفاعل بمعنى الماضي ، لجواز كون الإضافة لفظية وهي إضافة الصفة إلى معمولها فيكون مع الإضافة بمعنى الحال أو الاستقبال ، ويكون أثر العمل ثابتا تقديرا. ومتى احتمل اللفظي الأمرين انتفى كونه إقرارا فإنّ الأصل البراءة والحكم في الدماء مبني على الاحتياط التام ، وهذا أقرب.

قوله : ( فالمطلق ينفذ إقراره بكل ما يقدر على إنشائه ).

لعموم : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » (١) ولا تنتقض الكلية بإقرار الوكيل بما يقدر على إنشائه ممّا هو وكيل فيه من حيث أنه غير نافذ على موكله ، لان ذلك ليس إقرارا وانما هو شهادة ، لأنّ الإقرار هو الاخبار بحق لازم للمخبر.

قوله : ( وإقرار الأخرس مقبول مع فهم إشارته ، ويفتقر الحاكم الى مترجمين عدلين ، وكذا في الأعجمي ).

__________________

(١) عوالي اللآلي ٢ : ٢٥٧ حديث ٥.

٢٠٠