جامع المقاصد في شرح القواعد - ج ٩

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي

جامع المقاصد في شرح القواعد - ج ٩

المؤلف:

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٦

تنتقل الى المعمر وإن لم يشترط رجوعها اليه بعده.

وكل ما صحّ وقفه صحّ إعماره من العقار ، والحيوان ، والأثاث ، وغير ذلك.

ولو قرن الهبة بمدة بطلت ،

______________________________________________________

ولا تنتقل الى المعمر وإن لم يشترط رجوعها اليه بعده ).

لا ريب ان العمرى لا ينتقل الملك بها الى المعمر بحال عندنا ، سواء أطلق الأعمار أو قيده بالعود اليه ، أو الى ورثته بعد موت المعمر ، أو قيده بعد موت المعمر برجوع الإعمار إلى عقب المعمر ونسله دائما ، بل إذا مات المعمر في الأول ووارثه في الثاني رجعت المنفعة إلى المعمر المالك إن كان ، وإلاّ فإلى ورثته.

وفصل الشافعي فقال : انه إذا أعمره له ولعقبه من بعده صح ذلك وكان هبة ، وإن اقتصر على قوله : جعلتها لك عمرك ففيه قولان عنده ، الجديد انه يصح هبة ، والقديم اختلف فيه فقيل انه الحكم بالبطلان ، وقيل بالصحة على انها عارية (١) ، وإن قيّد بعودها الى المعمر أو الى ورثته فالبطلان والصحة هنا مبنيان على ما قبله. ونصوص الأصحاب مصرحة ببقاء الملك ، ففي رواية أبي الصباح السالفة : « وترجع الدار الى صاحبها الأول » (٢).

قوله : ( وكان ما صح وقفه صح إعماره من العقار والحيوان والأثاث ).

لأن العمرى نوع اعارة التزم بها ، أو نوع صدقة بالمنافع المباحة فجازت كما تجوز في الملك.

قوله : ( ولو قرن الهبة بمدة بطلت ).

__________________

(١) المجموع ١٥ : ٣٩١.

(٢) الكافي ٧ : ٣٣ حديث ٢٢ ، الفقيه ٤ : ١٨٧ حديث ٦٥٣ ، التهذيب ٩ : ١٤٠ حديث ٥٨٨.

١٢١

وإذا وقّت السكنى لم يجز له الرجوع قبل الانقضاء مع القبض ، وكذا لو قرنت بعمر المالك ، فإن مات الساكن فلورثته السكنى حتى تنقضي المدة أو عمر المالك ولو قرنت بعمر الساكن فمات المالك لم يكن لورثته إزعاجه قبل وفاته مطلقا على رأي ،

______________________________________________________

الظاهر ان المراد‌ بذلك في غير العمرى والرقبى كما قيّد به في التذكرة (١) ، فلو وهب مريدا نقل الملك لم يصح ، إذ لا يعقل التمليك المؤقت كالبيع بخلاف العمرى والرقبى ، لأنهما عندنا لا ينقلان الأعيان. أما لو أعمر بلفظ الهبة فلا مانع من الصحة ، لأن العمرى في معنى الهبة للمنافع ، وقد حكينا سابقا عن التذكرة التصريح به (٢).

قوله : ( وإذا وقّت السكنى لم يكن له الرجوع قبل الانقضاء ).

بناء على لزوم العقد بالقبض كما سبق.

قوله : ( فإن مات الساكن فلورثته السكنى حتى تنقضي المدة أو عمر المالك ).

هذا دليل على أن السكنى تقتضي نقل المنافع الى ملك الساكن نقلا تاما ، وإلاّ لم يورث عنه ، وفي هذا اشعار بجواز التقايل في هذا العقد بخلاف الوقف. وكذا قولهم انه في معنى الهبة للمنافع ، ولم أجد به تصريحا ، ويأتي في الحبس مثله.

قوله : ( ولو قرنت بعمر الساكن فمات المالك لم يكن لورثته إزعاجه قبل وفاته مطلقا على رأي ).

أي : لم يكن لورثة المالك إزعاج الساكن قبل وفاته ، حيث ان السكنى مقرونة بعمر الساكن مطلقا ، أي : سواء كان ثلث التركة وافيا بقيمة الدار أولا ، وهذا هو المشهور والمفتي به.

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٤٤٩.

(٢) التذكرة ٢ : ٤٤٨.

١٢٢

______________________________________________________

وقال ابن الجنيد : إن كانت قيمة الدار تحيط بثلث الميت لم يكن لهم إخراجه ، وإن كانت تنتقص عنها كان ذلك لهم (١) ، لما رواه خالد بن نافع البجليّ عن الصادق عليه‌السلام قال : سألته عن رجل جعل لرجل سكنى دار حياته ـ يعني صاحب الدار ـ فمات الذي جعل السكنى وبقي الذي جعل له السكنى ، أرأيت إن أراد الورثة أن يخرجوه من الدار لهم ذلك؟ فقال : « أرى أن تقوّم الدار بقيمة عادلة وينظر الى ثلث الميت ، فان كان في ثلثه ما يحيط بثمن الدار فليس للوارثة أن يخرجوه ، وإن كان الثلث لا يحيط بثمن الدار فلهم أن يخرجوه ». قيل له : أرأيت ان مات الرجل الذي جعل له السكنى بعد موت صاحب الدار يكون السكنى لورثة الذي جعل له السكنى قال : « لا » (٢).

قال الشيخ : ما تضمن هذا الخبر من قوله ـ يعني صاحب الدار ـ حين ذكر أن رجلا جعل لرجل سكنى دار له ، فإنه غلط من الراوي ووهم في التأويل ، لأن الأحكام التي ذكرها بعد ذلك إنما تصح إذا كان قد جعل السكنى حياة من جعلت له السكنى (٣).

وأجاب المصنف في المختلف بالحمل على الوصية ، ومثلها ما لو كانت السكنى في مرض الموت (٤). وفيه شي‌ء وهو : ان ذلك لا يوجب اعتبار خروج جميع قيمة الدار من الثلث ما نقطع منها بذلك ، كما سيأتي ان شاء الله تعالى تحقيقه في الوصية ، وطعن فيها بضعف السند ، والعمل علي المشهور ، لأن العقد المنجز في حال الصحة ماض‌

__________________

(١) نقله عنه العلامة في المختلف : ٤٩٨.

(٢) الكافي ٧ : ٣٨ حديث ٣٩ ، الفقيه ٤ : ١٨٦ ، حديث ٦٥٠ ، التهذيب ٩ : ١٤٢ حديث ٥٩٤ ، الاستبصار ٤ : ١٠٥ حديث ٤٠٠.

(٣) التهذيب ٩ : ١٤٢.

(٤) المختلف : ٤٩٨.

١٢٣

لو مات الساكن لم يكن لورثته السكنى. ولو لم يعيّن مدة كان له إخراجه متى شاء.

ولا تبطل السكنى بالبيع ، بل يجب توفية ما شرط له ، ثم يتخير المشتري مع جهله بين الرضى مجانا والفسخ.

______________________________________________________

كسائر العقود سواء تعلّق بعين أو منفعة ، فإن للمالك إتلاف ماله كما حققناه في الإجارة لو مات المؤجر في خلال المدة.

قوله : ( ولو مات الساكن لم يكن لورثته السكنى ).

لأن العقد إنما يتضمن سكنى مورثهم مدة حياته.

قوله : ( ولو لم يعين مدة كان له إخراجه متى شاء ).

وذلك لأن السكنى المطلقة لازمة في ما يقع عليه مسمّى الإسكان عرفا ولو يوما ، أو دونه إن صدق عليه الاسم ، وقد تضمنه حديث الحلبي عن الصادق عليه‌السلام (١).

قوله : ( ولا تبطل السكنى بالبيع بل يجب توفية ما شرط له ، ثم يتخير المشتري مع جهله بين الرضى مجانا والفسخ ).

إنما لم تبطل بالبيع لأنها عقد لازم كما قدمناه فكانت كالإجارة ، ولرواية الحسين بن نعيم عن الكاظم عليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل جعل دارا سكنى لرجل أيام حياته ، أو جعلها له ولعقبه من بعده هل هي له ولعقبه كما شرط؟ قال : « نعم » ، قلت : فإن احتاج يبيعها؟ قال : « نعم » قلت : فينقض بيعه الدار السكنى؟ قال : « لا ينقض البيع السكنى ، كذلك سمعت أبي عليه‌السلام قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : لا ينقض البيع الإجارة ولا السكنى ، ولكن يبيعه على أن الذي يشتريه لا‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٤ حديث ٢٥ ، الفقيه ٤ : ١٨٦ حديث ٦٥، التهذيب ٩ : ١٤٠ حديث ٥٩٠.

١٢٤

ولو قرنت السكنى بالعمر بطل البيع على إشكال ،

______________________________________________________

يملك ما اشترى حتى تنقضي السكنى على ما شرط ، وكذا الإجارة » (١) ، الحديث.

إذا تقرر هذا ، فالمشتري إن كان عالما بالحال فلا خيار له بل يصبر حتى تنقضي المدة ، وإن كان جاهلا تخيّر بين الصبر مجانا الى انقضاء المدة وبين الفسخ ، لأن فوات المنفعة عيب ، ( لكن ان كان البيع للساكن أمكن الصحة ) (٢).

قوله : ( ولو قرنت السكنى بالعمر بطل البيع على اشكال ).

هذا جار مجرى التقييد لما اقتضاه الكلام السابق من صحة البيع مع الإسكان ، وتحقيقه : ان السكنى إن كانت مطلقة أو مقيّدة بمدة معلومة صح بيع المسكن معها قطعا ، وإن قرنت بالعمر ففي صحة البيع إشكال ينشأ من عموم( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (٣) ، وانه لا منافاة بين البيع والسكنى ، لأن موردهما مختلف ، وللرواية السالفة عن الكاظم عليه‌السلام فإنها صريحة في ذلك (٤) ، وهو اختيار ابن الجنيد (٥).

ومن أن المنفعة هي الغرض المقصود في البيع ، ولهذا لا يجوز بيع ما لا منفعة فيه ، وزمان استحقاق المنفعة في محل النزاع مجهول. وقد منع الأصحاب من بيع المسكن الذي تعتد فيه المطلقة بالأقراء ، لجهالة وقت الانتفاع ، فهنا أولى ، لإمكان استثناء المطلق إذا باع مدّة يقطع بعدم زيادة العدة عليها بخلاف ما نحن فيه ، وللنظر في كل من الطرفين مجال.

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٨ حديث ٣٨ ، الفقيه ٤ : ١٨٥ حديث ٦٤٩ ، التهذيب ٩ : ١٤ حديث ٥٩٣ ، الاستبصار ٤ : ١٠٤ حديث ٣٩٩.

(٢) لم ترد في « ك‍ ».

(٣) المائدة : ١.

(٤) الكافي ٧ : ٣٨ حديث ٣٨ ، الفقيه ٤ : ١٨٥ حديث ٦٤٩ ، التهذيب ٩ : ١٤ حديث ٥٩٣ ، الاستبصار ٤ : ١٠٤ حديث ٣٩٩.

(٥) نقله عنه العلامة في المختلف : ٤٩٩.

١٢٥

وإطلاق السكنى يقتضي أن يسكن بنفسه وأهله وأولاده ، وليس له إسكان غيرهم إلاّ مع الشرط ، ولا أن يؤجر المسكن إلاّ مع الإذن ، ولا تجب العمارة على أحدهما ، ولا له منع الآخر من غير المضر منها.

______________________________________________________

قوله : ( وإطلاق السكنى يقتضي أن يسكن بنفسه واهله وأولاده ، وليس له إسكان غيرهم إلاّ مع الشرط ، ولا أن يؤجر المسكن إلاّ مع الاذن ).

هذا مذهب الشيخ (١) وأكثر الأصحاب ، وأضاف في التذكرة إلى اهله وأولاده من جرت العادة بإسكانه معه كغلامه وجاريته ومرضعة ولده (٢) ، ( وهو حسن ) (٣) ، وكذا الضعيف والدابة إذا كان الموضع يحتملهما كذلك.

وقال ابن إدريس : الذي تقتضيه أصول المذهب أن له جميع ذلك ، وإن له إجارته وانتقاله عنه وإسكان غيره معه ، سواء كان ولده وامرأته أو غيرهما ، وسواء أذن له في ذلك أو لم يأذن ، لأن منفعة هذه الدار استحقها وصارت مالا من أمواله فكان له استيفاؤها كيف شاء بنفسه وبغيره (٤). والأصح الأول ، لأن الأصل عصمة مال الغير ، خرج عنه المسكن بصريح الاذن وأهله وأولاده ومن جرى مجراهم قضية للعرف فصار كالمأذون لفظا وما عدا ذلك ، فعلى أصل المنع ودعوى استحقاق المنفعة نطقا مردودة ، لأن العقد إنما اقتضى السكنى له ولمن يبيعه دون الإجارة وإسكان الغير ، نعم لو اشترط ذلك في العقد جاز ، وإذا أذن في الإجارة فالأجرة للساكن.

قوله : ( ولا تجب العمارة على أحدهما ، ولا له منع الآخر من غير المضر منها ).

أما عدم الوجوب على أحدهما فظاهر ، لأن المالك لا تجب عليه عمارة مسكنه ،

__________________

(١) النهاية : ٦٠١.

(٢) التذكرة ٢ : ٤٥٠.

(٣) لم ترد في « ك‍ ».

(٤) السرائر : ٣٨٠.

١٢٦

وإذا حبس فرسه في سبيل الله ، أو غلامه في خدمة البيت أو المشهد أو المسجد لزم ، ولا يجوز تغيره ما دامت العين باقية.

______________________________________________________

ولا تجب على الساكن عمارة مسكن غيره.

وأما عدم المنع ، فلأن مريد العمارة إن كان هو الساكن فاستيفاء المنفعة حق له. وللعمارة مدخل في أصل الاستيفاء أو في استكماله ، مع أن ذلك مصلحة للمالك إذ الفرض أن لا ضرر فيها.

وأما المالك ، فلأن منعه من تعمير ملكه ضرر ، مع أن ذلك مصلحة للساكن إذ الفرض أنه لا ضرر فيها. وينبغي منع الساكن من العمارة التي لا تستدعيها السكنى عادة ، وقوفا مع ظاهر العقد وأصالة عصمة مال الغير. أما مع الضرر من أحد الجانبين فلا بحث في عدم الجواز إلاّ بالإذن.

قوله : ( وإذا حبس فرسه في سبيل الله ، أو غلامه في خدمة البيت أو المشهد أو المسجد لزم ، ولا يجوز تغييره ما دامت العين باقية ).

يصح الحبس كما يصح الوقف والسكنى ، والظاهر انه لا بد من العقد والقبض والقربة ولم يصرحوا بذلك هنا ، وهو قسمان : أحدهما : أن يحبس فرسه في سبيل الله ، أو غلامه في خدمة البيت الحرام أو المشهد أو المسجد أو معونة الحاج ، فإذا فعل ذلك على وجه القربة لزم ولم يجز له فسخه بحال. وصرح المصنف في التحرير (١) ، وشيخنا في الدروس (٢) : بأن هذا القسم يخرج عن ملك المالك ولا يعود ، وفي الدروس : انه يخرج بالعقد ، ومقتضى ذلك عدم توقفه على القبض ، وهو مشكل.

وعبارة المصنف هنا وفي التذكرة تشعر بعدم الخروج عن الملك حيث قال : ( ولا يجوز تغييره ما دامت العين باقية ) ، وقال في التذكرة أيضا في مطلق الحبس : أنه‌

__________________

(١) التحرير : ٢٩١.

(٢) الدروس : ٢٣٦.

١٢٧

ولو حبس شيئا على رجل فان عيّن وقتا لزم ويرجع الى الحابس أو ورثته بعد المدة ، وإن لم يعيّن كان له الرجوع متى شاء.

الفصل الثاني : في الصدقة ، ولا بد فيها من إيجاب ، وقبول ، وقبض ، ونية القربة.

______________________________________________________

كالوقف المنقطع (١).

قوله : ( ولو حبس شيئا على رجل فإن عيّن وقتا لزم ويرجع الى الحابس أو ورثته بعد المدة ، وإن لم يعيّن كان له الرجوع متى شاء ).

هذا هو القسم الثاني ، وقد صرح في الدروس بعدم خروجه عن الملك (٢) ، وهو الذي يقتضيه النظر ، وعبارة المصنف هنا ، وفي التحرير (٣) ، والتذكرة (٤) وإن لم تكن صريحة في ذلك إلاّ أن الظاهر أن مراده ذلك أيضا.

ورواية ابن أذينة البصري عن أبي جعفر عليه‌السلام بأن « أمير المؤمنين عليه‌السلام قضى برد الحبيس وإنفاذ المواريث » (٥) دليل على بقاء الملك. ولم يفرّق في التذكرة بين الحبس على الفقراء أو على زيد ، وللنظر فيه مجال.

قوله : ( الفصل الثاني في الصدقة ولا بد فيها من إيجاب ، وقبول ، وقبض ، ونية القربة ).

ظاهر كلامهم ان الصدقة لا تثمر الملك بدون نية القربة ، إلاّ أن ما ذكروه في الاحتجاج على أن الإبراء لا يحتاج الى القبول وهو قوله تعالى : ( وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٤٤٨.

(٢) الدروس : ٢٣٦.

(٣) التحرير : ٢٩١.

(٤) التذكرة ٢ : ٤٤٨.

(٥) الفقيه ٤ : ١٨ حديث : ٦٣ ، التهذيب ٩ : ١٤٠ حديث ٥٩١.

١٢٨

وتلزم مع الإقباض.

ولو قبض بدون إذن المالك لم يملك به ،

______________________________________________________

لَكُمْ ) (١) ينافي ذلك ، لأنهم فسروا الصدقة هنا بالإبراء ، فإن تم ذلك اقتضى عدم اشتراط نية القربة في الصدقة بل ولا القبول مع تصريحهم باشتراطه.

قوله : ( ويلزم مع الإقباض ).

قال الشيخ في المبسوط : صدقة التطوع عندنا بمنزلة الهبة في جميع الأحكام ، ومن شرطها الإيجاب والقبول ، ولا تلزم إلاّ بالقبض ، وكل من له الرجوع في الهبة له الرجوع في الصدقة (٢).

ومحصل هذا الكلام ان الصدقة لا تلزم بالقبض مطلقا بل في موضع لا يجوز الرجوع في الهبة ، وأكثر الأصحاب على عدم جواز الرجوع مطلقا ، لأنها في معنى الهبة المعوضة ، لأن قصد القربة يقتضي الثواب ، لدلالة الأخبار الواردة بأن الذي يعود في صدقته كالذي يعود في قيئه على ذلك (٣) ، لأن العود في القي‌ء حرام قطعا.

وهنا شي‌ء ، وهو ان كلام الشيخ يقتضي عدم اشتراط نية القربة في الصدقة ، وإلاّ امتنع الرجوع على حال من الأحوال ، لأن الهبة المتقرب بها يمتنع الرجوع فيها فاللازم أحد الأمرين : إما عدم خلاف للشيخ في هذه المسألة ، أو عدم اشتراط نية القربة في الصدقة ، وقد صرحوا بخلافه هنا فتعيّن الأمر الثاني. وكيف كان فالحق عدم الرجوع في الصدقة بوجه.

قوله : ( ولو قبض بدون اذن المالك لم يملك به ).

لأن القبض المعتبر هو المأذون فيه شرعا ، لأن المنهي عنه غير منظور اليه عند الشارع كما في الهبة والوقف.

__________________

(١) البقرة : ٢٨٠.

(٢) المبسوط ٣ : ٣١٤.

(٣) التهذيب ٩ : ١٥٥ حديث ٦٣٥ ، الاستبصار ٤ : ١٠٩ حديث ٤١٦.

١٢٩

وإذا تمت لم يجز له الرجوع فيها مطلقا.

وصدقة السر أفضل من الجهر ، إلاّ مع التهمة بترك المواساة.

والمفروضة من الزكاة محرّمة على بني هاشم ، إلاّ منهم أو عند‌

______________________________________________________

قوله : ( وإذا تمت لم يجز الرجوع فيها مطلقا ).

أي : بحال من الأحوال خلافا للشيخ (١) ، وهذا تصريح من المصنف بما اقتضاه قوله : ( ويلزم مع الإقباض ).

قوله : ( وصدقة السر أفضل من الجهر إلاّ مع التهمة بترك المواساة ).

أما أفضلية صدقة السر فلنص الكتاب والسنة على ذلك ، قال الله تعالى : ( وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) (٢) ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « صدقة السر تطفئ غضب الرب » (٣). وغير ذلك من الأخبار (٤).

هذا إذا لم يستلزم إخفاؤها اتهامه بترك المواساة ، أما إذا استلزم ذلك فإن الإظهار أولى ، فإنه لا ينبغي أن يجعل عرضه عرضة للتهم. ولو قصد بالإظهار متابعة الناس له في ذلك واقتداءهم به فكذلك تحريضا على نفع الفقراء ، وهذا في الصدقة المندوبة ، وأما المفروضة فإظهارها أفضل مطلقا ، صرح به في الدروس (٥) ، وقال في الصحاح : ـ آسيته بمالي مواساة أي : جعلته اسوتي فيه ، وواسيته لغة ضعيفة فيه (٦).

قوله : ( والمفروضة من الصدقة محرّمة على بني هاشم إلاّ منهم أو عند‌

__________________

(١) المبسوط ٣ : ٣١٤.

(٢) البقرة : ٢٧١.

(٣) الكافي ٤ : ٧ حديث ٣ ، الفقيه ٢ : ٣٨ حديث ١٦، التهذيب ٤ : ١٠٥ حديث ٢٩٩.

(٤) الكافي ٤ : ٨ حديث ٢ ، الفقيه ٢ : ٣٨ حديث ١٦٢.

(٥) الدروس : ٦٧.

(٦) الصحاح ٦ : ٢٢٦٨ « أسا ».

١٣٠

الضرورة ، ولا بأس بالمندوبة وغير الزكاة كالمنذورة.

______________________________________________________

الضرورة ).

قد سبق تحقيق ذلك في الزكاة.

قوله : ( ولا بأس بالمندوبة وغير الزكاة كالمنذورة ).

أما جواز المندوبة لهم فلقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من صنع الى أحد من أهل بيتي يدا كافأته يوم القيامة » (١) وغير ذلك من الأخبار (٢). وكذا ما كان من الواجبات غير الزكاة كالمنذورة للأصل ، ويندرج في إطلاق العبارة الهدي والكفارات ، وقد صرح في التذكرة في كتاب الزكاة بجواز الكفارة لهم (٣) ، وفيه قوة ، لانتفاء دليل المنع.

واستثنى في التذكرة من بني هاشم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمال الى تحريم الصدقة المندوبة عليه لما فيها من الغض والنقص ، وتسلط المتصدق وعلو مرتبته على المتصدق عليه ، ومنصب النبوة ارفع من ذلك وأجل وأشرف ، ولقوله عليه‌السلام : « أنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة » (٤).

والفرق بينها وبين الهدية : ان الهدية لا تقتضي نقصا ولا غضا في العادة بل هي جارية على الحشمة ، ومال الى إلحاق الأمة المعصومين عليهم‌السلام به في ذلك رفعا لمرتبتهم عن نقص التصدق ، والرواية عن الصادق عليه‌السلام ، عن أبيه الباقر عليه‌السلام : انه كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة فقيل له : أتشرب من الصدقة؟ قال : « إنما حرم علينا الصدقة المفروضة » (٥) من طرق العامة على ما ذكره في‌

__________________

(١) الكافي ٤ : ٦٠ حديث ٨.

(٢) الكافي ٤ : ٥٩ حديث ٣ : التهذيب ٤ : ٦٢ حديث ١٦٦.

(٣) التذكرة : ٢٣٥.

(٤) عيون اخبار الرضا ( ع ) ٢ : ٢٨ حديث ٣٢.

(٥) انظر : المغني لابن قدامة ٢ : ٥٢٠.

١٣١

والأقرب جواز الصدقة على الذمي ، وتتأكد الصدقة المندوبة في شهر رمضان ، والجيران أفضل من غيرهم ، والأقرب أفضل من الأجانب.

______________________________________________________

التذكرة (١) ، وقول التذكرة محتمل.

قوله : ( والأقرب جواز الصدقة على الذمي ).

ظاهره عدم الفرق بين الرحم وغيره ، وقد سبق في الوقف تقييد الجواز بكونه رحما ، ولم يصرح المصنف هنا بشي‌ء ، لكن الجواز مطلقا في الصدقة والوقف لا يخلو من قوة ، ودليل ذلك يعلم مما تقدم في الوقف.

قوله : ( وتتأكد الصدقة المندوبة في شهر رمضان ).

روى العامة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أجود ما يكون في شهر رمضان (٢) ، ومن طريق الأصحاب : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا دخل شهر رمضان أطلق كل أسير واعطى كل سائل (٣) ، والأخبار في ذلك كثيرة (٤).

قوله : ( والجبران أفضل من غيرهم ، والأقارب أفضل من الأجانب ).

روى العامة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه قال : « الصدقة على المسكين صدقة ، وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة » (٥) ، وروى أصحابنا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انه سئل أي الصدقة أفضل؟ قال : « على ذي الرحم الكاشح » (٦) ، وقال عليه‌السلام : « لا صدقة وذو رحم محتاج » (٧) ، والاخبار في الحث على صلة الرحم‌

__________________

(١) التذكرة : ٢٣٥.

(٢) صحيح البخاري ٣ : ٣٣.

(٣) الفقيه ٢ : ٦ حديث ٢٦٣.

(٤) ثواب الأعمال : ١٠٤.

(٥) سنن الدارمي : ٣٩٧.

(٦) الكافي ٤ : ١٠ حديث ٢. والكاشح : الذي يضمر لك العداوة. الصحاح : ٣٩٩ « كشح ».

(٧) الاحتجاج ٢ : ٤٩١.

١٣٢

ومن احتاج اليه لعياله لم يستحب له التصدّق ، ولا ينبغي أن يتصدق بجميع ماله.

______________________________________________________

والإحسان إلى الجيران كثيرة (١).

قوله : ( ومن احتاج اليه لعياله لم يستحب له الصدق ، ولا ينبغي أن يتصدق بجميع ماله ).

أي : من احتاج الى ما يريد أن يتصدق به لعياله لم يستحب له التصدق ، بل صرف ذلك في النفقة أولى.

وكذا المديون إذا احتاج الى صرفه في الدين فلا تستحب الصدقة إلاّ إذا فضل عن النفقة والدين ، وحينئذ فالأفضل له أن لا يتصدق بجميعه ، بل يكره كراهة شديدة لما في ذلك من التعرض إلى الحاجة ، وسؤال الناس وهو شديد الكراهة ، صرح بذلك في التذكرة (٢). يدل عليه قوله تعالى ( وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ ) (٣) ، وما رواه العامة من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رد من أتاه بمثل البيضة من الذهب وقال : « إنها صدقة وانه لا يملك غيرها » ، وأومأ الى أن علة ذلك تعرضه للسؤال الى ان قال عليه‌السلام : « خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى » (٤) ، وفي معناه من طرق الأصحاب كثير (٥)

فإن قيل : قد دلت الآية والحديث على أفضلية الإيثار.

قلنا : ذلك على نفسه ، لا مطلقا جمعا بين الأدلة.

__________________

(١) الكافي ٢ : ٦٦٨ حديث ١ و ١٤.

(٢) التذكرة ٢ : ٤٢٦.

(٣) الإسراء : ٢٩.

(٤) سنن الدارمي : ٣٩١.

(٥) الكافي ٤ : ١٦ حديث ١.

١٣٣

الفصل الثالث : في الهبة ، وفيه مطالبان :

الأول : في أركانها وهي ثلاثة :

الأول : العقد ، ولا بد فيه من إيجاب : وهو اللفظ الدال على تمليك‌

______________________________________________________

قوله : ( الأول في أركانها : وهي ثلاثة ).

عدّ أركان الهبة ثلاثة : العقد ، والموهوب ، والقبض.

ولقائل أن يقول : إن عد الموهوب من أركان الهبة يناسبه عد الواهب والمتهب أيضا ، ولا يقال إن الإيجاب والقبول ـ اللذين هما العقد ـ إذا عدّا ركنا اغنى عن عد الواهب والمتهب كما لا يخفى.

لأنا نقول : فيغني عن عد الموهوب ، لأنه متعلقها.

وهنا كلام آخر ، وهو انه اعتبر في العقد الإيجاب والقبول والقبض ، وذلك يشعر بدخوله في مسمّى العقد ، ثم انه قد عده فيما بعد ركنا ثالثا ، وفيه مناقشة.

ويمكن أن يقال : إن قوله : ( ولا بد فيه ... ) أعم من أن يراد به الجزء والشرط ، لأن كلاّ منهما لا بد منه فيما هو جزء منه وشرط له.

ولا ريب أن القبض معتبر في العقد ، ولا ينافي ذلك عده ركنا في الهبة. وفيه نظر ، لأن الهبة إن كانت هي العقد فاعتبار القبض فيه ثم عده ركنا له تكرار محض ، مع انه غير صحيح في نفسه ، لأن القبض لا يستقيم عده ركنا للعقد ، لأن ركن الشي‌ء داخل فيه والقبض خارج عن العقد ، لأنه الإيجاب والقبول.

ولا يستقيم عده شرطا له أيضا ، لأن الشرط لا بد من تقدمه على المشروط ومصاحبته إياه وان كانت أثره وهو المناسب فالقبض إنما يعتبر فيها على انه شرط والعقد سبب ، أو كل منهما جزء السبب ، فعلى كل تقدير لا يتجه ما ذكره المصنف.

قوله : ( العقد ، ولا بد فيه من إيجاب وهو اللفظ الدال على تمليك‌

١٣٤

العين من غير عوض منجزا

______________________________________________________

العين من غير عوض منجزا ).

اللفظ واقع موقع الجنس ، واحترز به عن الفعل الدال على ذلك كنثار العرس ، وإحضار الطعام بين يدي الضيف ، والموت المقتضي للتملك بالإرث ، وحيازة المباحات كالاحتطاب والاحتشاش ، واحترز بالدال عن المهمل وبكون الدلالة على التمليك عن نحو العارية ، وبكونه للعين عن نحو الإجارة. وبقوله : ( من غير عوض ) عن نحو البيع والصلح على الأعيان ، وبقوله : ( منجزا ) عن نحو الوصية بالأعيان ، ونقض في طرده بالوقف والصدقة. ولو قيّد اللفظ بكونه مجردا عن القربة لأغنى عن ذلك ، وفي عكسه بإشارة الأخرس والهبة المشروط فيها الثواب.

وجوابه : ان المتبادر من التمليك هو التام فيخرج الوقف ، وان تقييد التمليك بكونه من غير عوض يقتضي إخراج الصدقة كما يقتضي إخراج الوقف ، لأنهما مشروطان بالقربة المستتبعة للثواب ، فإنه عوض بالنظر الى الوضع اللغوي ، وفرق أهل الكلام بينه وبين العوض غير قادح ، واشارة الأخرص بمنزلة اللفظ مع ندورها فلا يقدح خروجها.

والمراد من قوله : ( من غير عوض ) أن العوض غير لازم فيها ، لا انتفاء العوض أصلا كما نبه عليه في التذكرة (١). والهبة المشروط فيها العوض لا يلزم فيها ذكر العوض حتى لو جردها عنه صحت بخلاف نحو البيع.

واعترض بأن الملك لا يحصل بمجرد هذا اللفظ بل لا بد من القبول والقبض.

فأجيب : بأن المراد بالدال ما يعم الدال بواسطة ، أو أن الدلالة أعم من التامة والناقصة. وليس بشي‌ء ، لأنه لا يراد بالدال المعروف للحكم ليجب أن يترتب على‌

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٤١٥.

١٣٥

كقوله : « وهبتك ، وملكتك ، وأهديت إليك. وكذا : أعطيتك ، وهذا لك مع النية.

ومن قبول : وهو اللفظ الدال على الرضى كقوله : قبلت.

ومن قبض.

______________________________________________________

الإيجاب حصول الملك فيحتاج الى هذا التكلف ، بل المراد به الدال باعتبار الوضع على إنشاء التمليك ، وهذا لا مجال لشي‌ء من هذه التكلفات معه.

قوله : ( كقوله : وهبتك ، وملكتك ، وأهديت إليك ، وكذا أعطيتك ، وهذا لك مع النية ).

إنما صح الإيجاب بقوله : هذا لك ، مع انه لا بد من كونه بلفظ الماضي ، لأنه أصرح من غيره في الدلالة على الإنشاء ، لأن اسم الإشارة يشعر به ، وإنما اعتبر النية في هذا القسم لعدم صراحته في الدلالة على الإيجاب كالذي قبله.

قوله : ( ومن قبول : وهو اللفظ الدال على الرضى كقوله : قبلت ).

أي : على الرضى بالإيجاب ، ولما كانت الهبة عقدا يقتضي نقل الملك ، وربما كانت لازمة اعتبر فيها ما يعتبر في العقود الازمة من فورية القبول بحيث يعد جوابا للإيجاب ، وكونها باللفظ العربي وسائر ما يشترط في العقود اللازمة.

فرع : لو وهبه شيئا فقبل الهبة في البعض ففي صحة الهبة فيه وجهان يلتفتان الى عدم المطابقة بين الإيجاب والقبول ، وان الهبة ليست كعقود المعاوضات لأنها تبرع محض ، ومن تبرع بشي‌ء فهو راض بالتبرع ببعضه ، بخلاف البيع ونحوه ، لأن الأغراض تختلف اختلافا بينا في الأعواض لابتناء المعاوضات على المغابنة والمكايسة. واختار المصنف في التذكرة الثاني (١) ، وهو قريب إن لم تكن الهبة معوضة ، ولم تدل قرينة على أن ذلك خلاف مراد الواهب.

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٤١٦.

١٣٦

ويشترط صدورهما من مكلّف جائز التصرف.

وهبة ما في الذمّة لمن عليه إبراء لا يشترط فيه القبول ، ولا تصحّ لغيره على رأي.

______________________________________________________

قوله : ( ويشترط صدورهما من مكلف جائز التصرف ).

المراد : صدور كل منهما من مكلف جائز التصرف ، فلا يصح من الصبي وإن بلغ عشرا ، ولا المجنون ونحوهما ، ويجوز أن يقع كل من الإيجاب والقبول من الوكيل والولي ويتولاهما الواحد فيكون موجبا قابلا ، فلا يشترط تغاير الموجب والقابل على أقوى الوجهين. ولا فرق بين الأب والجد وغيرهما ، خلافا للشيخ في المبسوط حيث اعتبر في غيرهما صدور القبول من الحاكم أو أمينه (١) ، وهو ضعيف.

قال المصنف في التذكرة : ولو قال : جعلته لابني وكان صغيرا ، فإن قلنا بالاكتفاء بالكنايات في العقود على ما هو مذهب بعض الشافعية (٢) ، وبالاكتفاء من الأب في تمليك ابنه الصغير بأحد شقي العقد صار ملكا للابن ، وإلاّ فلا. مع انه أسلف في كلامه قبل هذا ان الهبة لا تصح بالكنايات مع انه صرح بالاكتفاء بقوله : هذا لك (٣) ، وفي الفرق بينه وبين جعلته لك توقف ، وكيف كان فالأصح عدم الاكتفاء بالكناية ولا بالإيجاب وحده.

قوله : ( وهبة ما في الذمة لمن عليه إبراء لا يشترط فيه القبول ، ولا تصح لغيره على رأي ).

هنا مسألتان والرأي في كل منهما :

الاولى : هبة الدين لمن عليه إبراء لا يشترط فيه القبول. عند جمع من الأصحاب ، لأنه إسقاط لا نقل شي‌ء إلى الملك فهو بمنزلة تحرير العبد ، ولظاهر قوله‌

__________________

(١) المبسوط ٣ : ٣٠٥.

(٢) الوجيز : ١٣٣.

(٣) التذكرة ٢ : ٤١٥.

١٣٧

______________________________________________________

تعالى ( فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) (١) فاعتبر مجرد الصدقة ولم يعتبر القبول. وفيه نظر ، لأن الصدقة يعتبر فيها القبول ، وفي معنى ذلك قوله تعالى في الدية : ( إِلاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا ) (٢) والكلام فيه كما سبق.

وقال الشيخ في المبسوط (٣) ، وابن زهرة (٤) ، وابن إدريس (٥) ، يشترط لاشتماله على المنة ، ولا يجبر على قبولها كهبة العين ، ولو لم يعتبر القبول اجبر على قبول المنة ، وأجاب المصنف بالفرق بين التمليك والاسقاط.

وأقول : إنه لا شك في الفرق بين نقل الملك في الأعيان وبين إسقاط الحق من الذمة ، فإنه لو أبرأ مالك الوديعة المستودع منها مثلا لم يملكها بذلك وإن قيل ، وكذا غيره ، وكذا لو أسقط حقه من عين مملوكة له لم يخرج بذلك عن ملكه ، بخلاف الدين فإنه قابل لذلك ، لأنه ليس شيئا موجودا مملوكا فكان أشبه شي‌ء بالعتق.

ومما يدل على عدم اشتراط القبول قوله تعالى ( إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ) (٦) فاكتفى في سقوط الحق بمجرد العفو ، ومعلوم ان القبول لا دخل له في مسماه ، وللاكتفاء بمجرد العفو في الحدود والجنايات الموجبة للقصاص والخيار وكلها في معنى واحد ، والأصح عدم الاشتراط ، ولا يضر كونه هبة ، لأن بعض الهبة لما أشبه العتق اكتفي فيه الشارع بالإيجاب كبعض افراد الوقف مثل وقف المسجد.

الثانية : هل يصح هبة الدين لغير من هو عليه أم لا؟ اختلف كلام‌

__________________

(١) البقرة : ٢٨٠.

(٢) النساء : ٩٢.

(٣) المبسوط ٣ : ٣١٤.

(٤) الغنية ( ضمن الجوامع الفقهية ) : ٥٤١.

(٥) السرائر : ٢٨٢.

(٦) البقرة : ٢٣٧.

١٣٨

______________________________________________________

الأصحاب في ذلك ، فقال الشيخ (١) ، وابن إدريس يصح (٢) ، واختاره المصنف في المختلف (٣) ، لأنه يصح بيعه والمعاوضة عليه فصحت هبته كالعين. وقيل لا يصح ، واختاره المصنف هنا ، لأن القبض شرط ، وما في الذمة يمتنع قبضه ومن ثم قال الشيخ في المبسوط : انه يمتنع وقفه (٤).

قيل : الموهوب الماهية وقبضها ممكن بقبض أحد جزئياتها. وفيه نظر ، لأن الموهوب هو الماهية ، وهي غير الجزئيات قطعا. فإن قيل فكيف يصح بيع الدين مع أن المبيع لا بد أن يكون مقدورا على تسليمه.

قلنا : يمكن الفرق بين القدرة على تسليمه يكفي فيها ما به تتحقق المعاوضة ، وتحققها تكفي فيه القدرة على تسليم بعض أفراد الماهية المعدودة أحد العوضين ويدخل في ملك المشتري من غير توقف على قبض ، ثم يستحق المطالبة بالإقباض بخلاف الهبة فإن الإقباض له دخل في حصول الملك ، فلا بد أن يقبض الواهب الدين ثم يقبضه المتهب ، فامتنع نقله الى ملك المتهب حين هو دين.

وكذا بعد تعيين المديون له قبل قبض الواهب ، لانتفاء الملك ، وبقبض الواهب يحدث الملك له فيمتنع تقدم إنشاء الهبة عليه ، إذ تكون هبة جارية مجرى هبة ما سيملكه ببيع وغيره وذلك غير جائز قطعا ، والأصح عدم الجواز.

واعلم أن قول المصنف : ( وهبة ما في الذمة لمن عليه إبراء لا يشترط فيه القبول ) يلوح منه ان كون الإبراء لا يشترط فيه القبول أمر مقرر ، لأنه إسقاط محض ، وان هذا الفرد من افراد الهبة لما كان إبراء في المعنى لم يشترط فيه القبول كما هو‌

__________________

(١) المبسوط ٣ : ٣١٤.

(٢) السرائر : ٣٨٢.

(٣) المختلف : ٤٨٧.

(٤) المبسوط ٣ : ٢٨٧.

١٣٩

وللولي عن الطفل القبول مع الغبطة ، فلو وهب أبوه الفقير العاجز لم يصحّ قبوله حذرا من وجوب الإنفاق.

______________________________________________________

صريح كلام بعض العامة (١) ، مع احتمال العبارة غير ذلك وعبارة الشيخ (٢) وغيره (٣) تقتضي التردد في الإبراء أيضا على ما حكاه المصنف في التذكرة عنه (٤).

قوله : ( وللولي عن الطفل القبول مع الغبطة ، فلو وهب أبوه الفقير العاجز لم يصح قبوله حذرا من وجوب الإنفاق ).

احترز بكون الأب فقيرا عما لو كان له مال ، بناء على أن العبد يملك ويسمح المالك الواهب بماله لولده. لكن قد يناقض هنا بأن المال يدخل في ملك الولد بالهبة فيصير من جملة أمواله ، فيكون إنفاقه على أبيه كإنفاق غيره من أمواله فلا يكون مسوغا لقبول هبته.

نعم ، لو شرط في هبة المال قبول هبة الأب أمكن جواز القبول هنا مع احتمال المنع ، لإمكان فناء المال قبل موت الأب ، فيلزم الإنفاق عليه من مال الولد فيتجه الضرر ، إلاّ أن يكون المال كثيرا جدا تقضي العادة بانتفاء المحذور معه فيصح جزما.

واحترز بكون الأب عاجزا عما لو كان كسوبا فإنه لا ضرر حينئذ ، ويكفي في العجز عجزه عن بعض النفقة.

قيل : ويمكن التقييد بقيدين آخرين : أحدهما : غنى الابن فعلا أو قوة ، إذ مع الفقر لا محذور.

لا يقال : يمكن تجدد المال للولد فيلزم المحذور.

لأنّا نقول : ويمكن تجدد ذلك للأب ، أو موت أحدهما. والحاصل : أن الأصل‌

__________________

(١) المغني لابن قدامة ٦ : ٢٨٩.

(٢) المبسوط ٣ : ٣١٤.

(٣) فقه القرآن ٢ : ٢٩٥.

(٤) التذكرة ٢ : ٤١٦.

١٤٠