الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٣
______________________________________________________
على أن التقييد بذلك مضر ، لأنه حينئذ إنما تتمشى الصحة إذا علم ورضي ، على القول بأن ذكر خصوص المنفعة لا يقتضي التعيين ، والمصنف قد استشكله.
فإن قلت : قد ارتكب مثل ذلك في المسألة السابقة.
قلت : لما كانت المسألة السابقة إنما تتخرج بعض أقسامها على ذلك لم يكن بد من بنائه عليه ، بخلاف ما هنا ، فإن الإطلاق يصح معه الحكم.
وإن كان أحد أقسام المطلق إنما يتمشى على ذلك القول ، ومع التقييد لا تصح المسألة إلاّ على القول فظهر الفرق.
إذا عرفت هذا فاعلم إن ما لا ينحسر عنه الماء من الأرضين وقت الحاجة إليه إذا استأجره ، فإما أن يكون ماؤه قليلاً لا يمنع أصل الزرع ، فيمكن معه زرع شيء آخر ، أو يكون كثيراً يمنع. وحينئذ فإما أن يعلم المستأجر الحال في وقت الإجارة أو لا.
فإن كان الماء قليلاً صحت الإجارة ، وإن جهل المستأجر الحال كان له الفسخ والرضا بالحصة إن كان المزروع بعض الأرض ، وإن كان جميعها مع النقيصة احتمل وجوب الأرش ، وسيأتي تحقيقه عن قريب إن شاء الله تعالى.
وإن كان الماء كثيراً ، وعلم الحال ورضي صحت الإجارة وانتفع بغير الزرع من اصطياد ونحوه. ولو ندر انحسار الماء كان له الزرع ، لعدم المانع.
وإن لم يعلم الحال : فإما أن يكون قد صرح الاستئجار بنحو الاصطياد أولا.
ففي الأول تصح الإجارة ، ويستوفي تلك المنفعة. ومع انحسار الماء بفعله بحفر بئر ونهر يجري فيه ، أو مطلقاً كان له الزرع إن كان مساوياً لتلك
ولو كان الماء ينحسر على التدريج لم تصح ، لجهالة وقت الانتفاع ، إلا أن يرضى المستأجر.
لو أمكن الزرع إلا أنّ العادة قاضية بغرقها لم يجز إجارتها ، لأنها كالغارقة.
ولو اتفق غرقه ، أو تلفه بحريق أو غيره فلا ضمان على المؤجر ، ولا خيار للمستأجر ، إلا أن يتعذر الزرع بسبب الغرق ، أو انقطاع
______________________________________________________
المنفعة في الضرر ، أو أقل على القول به.
وإن لم يصرح بذلك لم تصح الإجارة ، نظراً إلى أن المنفعة المقصودة منتفية. ومما قررناه يعلم أن عبارة الكتاب قاصرة عن أقسام المسألة.
قوله : ( ولو كان الماء ينحسر على التدريج لم تصح ، لجهالة وقت الانتفاع ، إلا أن يرضى المستأجر ).
وهذا الحكم ـ أعني الصحة مع رضي المستأجر ـ أعم من أن يستأجر مطلقاً أو للزراعة ، بناء على القول بعدم التعين بالتعيين.
ووجهه : إن علمه بالحال بمنزلة الاستئجار لغير الزرع في الصحة ، فلا تلزم الجهالة في الإجارة نظراً إلى المقصود ، لأن الزرع على ذلك التقدير ليس هو المقصود الأصلي.
قوله : ( ولو أمكن الزرع إلاّ أن العادة قاضية بغرقها لم تجز إجارتها ، لأنها كالغارقة ).
ينبغي أن يكون هذا إذا استأجرها للزرع ، أو مطلقاً ولم يعلم الحال ، أما إذا علم الحال فلا مانع كالغارقة ، تنزيلاً على قصد باقي المنافع.
قوله : ( ولو اتفق غرقه ، أو تلف بحرق أو غيره فلا ضمان على المؤجر ولا خيار للمستأجر ، إلا أن يتعذر الزرع بسبب الغرق ، أو
الماء ، أو قلته بحيث لا يكفي الزرع ، أو يفسد الأرض فيتخير في الإمضاء بالجميع ، ويحتمل بما بعد الأرش.
______________________________________________________
انقطاع الماء ، أو قلته بحيث لا يكفي للزرع أو يفسد الأرض فيتخير في الإمضاء بالجميع ، ويحتمل بما بعد الأرش ).
أي : لو اتفق على سبيل الندرة غرق الزرع ، أو تلفه بجائحة من حرق ونحوه فلا ضمان على المؤجر ولا فسخ للمستأجر ، لأن الجائحة لحقت مال المستأجر لا منفعة الأرض ، فهو بمنزلة احتراق السبر ممن استأجر دكاناً لبيع السبر ، فإنّ إجارة الدكان لا تنفسخ بخلاف ما لو تعذر الزرع بسبب الغرق ، أو انقطاع الماء أو قلته بحيث لا يكفي للزرع ، أو فسدت الأرض فبطلت قوة إنباتها ، وكان ذلك في مدة الإجارة ، وهذا هو المراد من قوله : ( إلا أن يتعذر ... ).
وقوله : ( أو يفسد الأرض ) عطف على قوله : ( يتعذر الزرع ) وحينئذ فتنفسخ الإجارة فيما بقي مع تعطل المنفعة بالكلية ، لامتناع صحة الإجارة مع عدم المنفعة المقصودة ، فيسترد حصته ما بقي من المسمى. ولا فرق بين سبق فساد الزرع على فساد الأرض وبالعكس ، ولا بين بقاء زمان يمكن الزرع فيه لو كانت الأرض سليمة وعدمه ، نظراً إلى فوات المنفعة في متعلق الإجارة.
وفي قول الشافعية : إن كان فساد الأرض بعد فساد الزرع لا يسترد شيئاً من المسمى ، لأنه لو بقيت قوة الأرض وصلاحيتها لم يكن للمستأجر فيها فائدة بعد فوات الزرع. وكذا لا فرق بين أن يستأجر للزرع أو مطلقاً إذا تعطلت الزراعة مع احتمال الفرق ، فيتخير إذا بقي للأرض منفعة مقصودة مع الإطلاق عندنا ، ومطلقاً على القول بجواز التخطي من المعين إلى غيره وفيه قوة.
ويتخير بين الفسخ والإمضاء إن نقصت المنفعة ، وحينئذ فيتخير في
______________________________________________________
الإمضاء بالجميع ، لأنه الذي وقع عليه العقد ، فإذا أمضاه وجب العمل بمقتضاه. والمسمى إنما قوبل به مجموع المنفعة ولم يجعل الأجزاء في مقابل الأجزاء.
ويحتمل أنّ له الإمضاء بما بعد الأرش ، لأن الأجرة إنما هي في مقابل المجموع وقد فات بعضه ، فيجب أن يسقط قسطه.
وأيضاً فإن أبعاض المنفعة لو لم تكن مقصودة بالأجرة لم تزد الأجرة بزيادتها ، ولم تنقص بنقصانها ، والتالي معلوم البطلان.
وأيضاً فإن مقابلة المجموع بالمجموع يتضمن مقابلة الأجزاء بالأجزاء.
ولا ريب أن عدم اعتبار الأرش بعيد جدّاً ، لأنه لو فات تسعة أعشار المنفعة فمقابلة مجموع المسمى بما بقي كأنه بديهي البطلان ، والاحتمال الأخير أقرب.
واعلم أن هذا الأرش أرش معاوضة ، نسبته إلى المسمى كنسبة أجرة مثل ما نقص من المنفعة إلى مجموع اجرة المثل لمجموع المنفعة ، لأن إيجاب أجرة مثل ما نقص ربما أحاط بالمسمى ، فيستعيد المستأجر الأجرة مع ملكه لباقي المنافع ، وهو معلوم البطلان.
واعلم أن التفريع في قوله : ( فيتخير ... ) غير مستقيم ، لأنه ذكر أشياء بعضها يقتضي انفساخ الإجارة كانقطاع الماء ، فكيف يتفرع عليه ثبوت الخيار؟.
واعلم أيضاً أن في العبارة مناقشة من وجه آخر ، وهي : أن استثناء قلة الماء بحيث لا يكفي للزرع من تلف الزرع بغير الحرق غير مستقيم ، لأنه على هذا التقدير لا يتحقق تلف جميع الزرع ، لأن الفرض قلة الماء لا انقطاعه بالكلية ، فتبقى منه بقية تكفي لبعض الزرع ، إلا أن يدعى ارتكاب
فإن فسخ رجع إلى أجرة الباقي واستقر ما استوفاه ، ويوزّع على المدتين باعتبار القيمة ، وهي أجرة المثل للمدتين ، لا باعتبار المدة ، فإن تجدد بعد الزرع فله الفسخ أيضاً ، ويبقى الزرع إلى الحصاد ، وعليه من المسمى بحصته إلى حين الفسخ وأجرة المثل إلى الحصاد لأرض لها مثل ذلك الماء القليل.
______________________________________________________
المجاز.
قوله : ( فإن فسخ رجع إلى أجرة الباقي واستقر ما استوفاه ، ويوزع على المدتين باعتبار القيمة ـ وهي أجرة المثل للمدتين ـ لا باعتبار المدة ).
أي : فإن فسخ المستأجر في الصورة المذكورة رجع إلى أجرة الباقي ، وهي حصته من المسمى ، واستقر ما استوفاه ، أي : استقر مقابله من المسمى ، فلا بد من التوزيع.
وطريقه أن يوزع على قيمة المنفعة للمدتين ، والمراد بقيمتها : أجرة المثل لها باعتبار المدتين نظراً إلى التفاوت بينهما ، فإنه ربما كانت أجرة المثل لما مضى خمسين ولما يأتي أربعين مثلاً ، فلو وزّع على أجرة المثل لمجموع المدة من حيث هي هي ، من غير اعتبار خصوص المدتين لزم الظلم ، فتنظر نسبة اجرة المثل لإحدى المدتين إلى مجموع اجرة المثل لهما ، ويؤخذ بتلك النسبة من المسمى ، فلو كانت اجرة المثل لما مضى خمسة أتساع مجموع اجرة المثل لهما ، كان نصيب ما مضى من المسمى خمسة أتساعه.
قوله : ( فإن تجدد بعد الزرع فله الفسخ أيضاً ، ويبقى الزرع إلى الحصاد ، وعليه من المسمى بحصته إلى وقت الفسخ ، واجرة المثل إلى الحصاد لأرض لها مثل ذلك الماء القليل ).
ويجب تعيين المدة في إجارة الأرض لأي منفعة كانت من زرع ، أو غرس ، أو بناء ، أو سكنى ، أو غير ذلك ، ولا يتقدر بقدر.
ولا يجب اتصال المدة بالعقد ، فإن عيّن المبدأ ، وإلا اقتضى
______________________________________________________
أي : إذا حصل التعيب في الأرض بقلة الماء فالحكم ما سبق ، سواء كان ذلك قبل الزرع أو بعده ، فإن كان تجدده بعد الزرع ففيه أمر آخر ، وهو أنه إذا فسخ بالتّعيب وجب إبقاء الزرع إلى الحصاد ، لأنه زرع بحق وثبت الفسخ بحق فلا يجوز قلعه ، بل يجب إبقاؤه ، لأن له مدة تنتظر ، وهي الحصاد ، فعليه من المسمى بحصته إلى حين الفسخ بالتوزيع على المدتين كما سبق ، ويسترد حصة الباقي منه ، ويلزمه للإبقاء من الفسخ إلى الحصاد اجرة مثل تلك الأرض ولها مثل ذلك الماء القليل.
واعلم إن هذه المسألة قد سبق ذكرها لاندراجها في قوله سابقاً : ( ولو اتفق غرقه أو تلفه بحرق أو غيره ... ) ، لأن التلف للزرع فرع تحققه ، وإنما أعادها لبيان حكم وجوب إبقاء الزرع إلى الحصاد بعد الفسخ.
لكن ( أيضاً ) في قوله : ( فإن تجدد بعد الزرع فله الفسخ أيضاً ) تشعر بعدم سبق ذكره ، لأن معنى ( أيضاً ) مشاركة ما سبق في ثبوت الفسخ فلا يكون مذكوراً ، وليس كذلك ، فلو سكت عن قوله : ( أيضاً ) كان أولى.
قوله : ( ويجب تعيين المدة في إجارة الأرض لأي منفعة كانت من زرع ، أو غرس ، أو بناء ، أو سكنى ، أو غير ذلك ، ولا يتقدر بقدر ).
أما وجوب تعيين المدة فلأن المنفعة لا تتعين بدون تعيينها ، وأما انها لا تتقدر بقدر فلعدم التقدير شرعاً ، والإجارة صالحة للقليل والكثير ، كما أن البيع صالح لنقل قليل الماء وكثيره.
قوله : ( ولا يجب اتصال المدة بالعقد ، فإن عيّن المبدأ وإلا
الاتصال. فإن استأجر للزرع فانقضت المدة قبل حصاده ، فإن كان لتفريط المستأجر كأن يزرع ما يبقى بعدها فكالغاصب.
______________________________________________________
اقتضى الاتصال ).
قد سبق أنه لا مانع من كون مدة الإجارة متأخرة عن زمان العقد ، إذا ضبطت وعينت بما لا يحتمل الزيادة والنقصان. وسبق حكاية خلاف الشيخ ورده ، فحينئذ إن عيّن المبدأ في العقد تعيّن ، وإن ترك التعيين وأطلق ولم يشترط تأخر المدة عن زمان العقد حمل الإطلاق على الاتصال ، لأنه المتعارف والمتبادر ، ولأن ترك التعيين دليل على إرادة ذلك ، لأن إرادة ما لم يعين ولم يدل عليه دليل بعيد عن المعاوضات ، ولأن المعاوضة تفسد بدون ذلك ، والأصل الصحة ، فيراعى التمسك بالأصل ما أمكن خصوصاً مع المرجحات الباقية.
نعم لو اتفقا على تأخير المبدأ ونسيا تعيينه في العقد ، فإن عدم صحته ليس بذلك البعيد إذ ليس بمقصود.
قوله : ( فإن استأجر للزرع فانقضت المدة قبل حصاده ، فإن كان لتفريط المستأجر ، كأن يزرع ما يبقى بعدها ، فكالغاصب ).
المراد بتفريطه : ارتكابه ما يبقى بعد المدة مع إمكان غيره الذي لا يبقى ، أو أن يترك الزرع اختياراً إلى أن لا يبقى من المدة مقدار ما يبلغ الزرع الحصاد فيه ، أو الزرع ثانياً بعد أكل الجراد الزرع الأول ، أو فساده بجائحة ، فإنه حينئذ بعد انتهاء المدة كالغاصب في جواز إلزامه تفريغ الأرض من زرعه بغير أرش ، وطم الحفر ، لأنه عادٍ بشغل الأرض بعد المدة ، بخلاف ما لو لم يفرّط ولم يقصر ، فاتفق تأخر الحصاد على خلاف الغالب لتغير الهواء ونحوه فإنه غير عادٍ ولا مقصر.
فإن قيل : لا يظهر الفرق ، لأن كل واحد منهما شغل الأرض بالزرع
وإن كان لعروض برد وشبهه فعلى المؤجر التبقية ، وله المسمى عن المدة وأجرة المثل عن الزائد. وللمالك منعه من زرع ما يبقى بعد المدة على إشكال.
______________________________________________________
بحق ، وبعد انقضاء المدة لا حقّ لواحد منهما في المنفعة ، لعدم تناول العقد إياها ، فإما أن يكونا معاً كالغاصب ، أو يجب الإبقاء لهما معاً ، ولا أثر للتقصير وعدمه.
قلنا : بل بينهما فرق ، فإن ما خرج عن المدة وإن لم يتناوله العقد ، إلا أنه يستتبعه حيث لا يكون من المستأجر تقصير ، حذراً من لزوم تكليف ما لا يطاق ، فيجمع بين الحقين بإلزام أجرة المثل مع وجوب الإبقاء بخلاف ما إذا قصّر فإنه عادٍ بفعله لا عذر له.
واعلم أنه إنما يكون كالغاصب بعد انقضاء المدة ، أما قبلها فإنه مستحق بالإجارة ، وقد علم مما قررنا حكمه.
قوله : ( وإن كان بعروض برد وشبهه فعلى المؤجر التبقية ، وله المسمى عن المدة واجرة المثل عن الزائد ، وللمالك منعه من زرع ما يبقى بعد المدة على اشكال ).
أي : لو استأجر للزرع مدة فأراد أن يزرع ما لا يدرك في تلك المدة ، فهل للمالك منعه من ذلك؟ فيه إشكال ، ينشأ : من أنه ملك المنفعة للزرع ، وهذا من جملة الأفراد فيكون حقاً له فلا يسوغ له منعه منه ، ومن أن زرعه لذلك يستلزم البقاء بعد المدة المقتضي للتصرف في ملك المؤجر بما لا يتناوله العقد والاحتياج إلى المطالبة بالتفريغ ، وربما اقتضى ذلك نقصاً في الأرض ، فيكون له منعه منه ، واختاره الشيخ في المبسوط (١).
ويضعّف بمنع الكبرى ، فإنه ليس كل ما لم يتناوله العقد من التصرفات
__________________
(١) المبسوط ٣ : ٢٥٧.
______________________________________________________
بحسب المنع مما يستلزمها ، لأنها قد ثبتت تبعاً ، ولا يكون العقد متناولاً لها فكيف يمنع منها؟
والتحقيق أن يقال : لا يخلو الحال من أن يكون عقد الإجارة للزرع مدة معينة بحيث يتناول زرع ما يبقى بعد المدة ، أو لا. فإن كان الأول فلا وجه للمنع بعد استحقاقه بالعقد ، وإن كان الثاني فلا وجه للتجويز لاختصاص العقد بما سواه.
فنقول : لا ريب أن الاستئجار للزرع مطلقاً يتناول المتنازع ، لكن تعيين المدة هل يقتضي إخراج ما لا ينتهي عند انتهائها أم لا؟ يحتمل الأول ، لأن مقتضى التعيين عدم الاستحقاق بعدها ، فلا يستحق زرع ما يبقى بعدها. وفيه منع ، إذ لا دلالة للتعيين على الاستحقاق وعدمه بإحدى الدلالات الثلاث ، ولو سلّم فالملازمة ممنوعة.
ويحتمل الثاني ، لانتفاء المقتضي للتخصيص ، فيجب التمسك بالعموم.
فإن قيل : تعيين المدة دليل على إرادة التفريغ بعدها.
قلنا : هو مشعر بذلك ، ولو سلّم فلا ينهض مخصصاً للعموم ، إذ يمكن أن يجمع بين الزرع الآن والتفريغ بعد المدة.
فإن قيل : إجراء لفظ الزرع على حقيقته مع التقييد بالمدة يقتضي عدم اندراج زرع ما يبقى بعدها ، فلا ينتفع به من جهة كونه زرعاً إذا بلغ بعد المدة.
قلنا : لمانع أن يمنع كون الزرع حقيقة في إلقاء البذر في الأرض على وجه يبلغ الحصاد ، بل هو أعم من ذلك ، لأن المعروف أنه إلقاء البذر في الأرض للاستنبات ، واللغة والعرف شاهدان بذلك. وهذا المعنى صادق في
فإن زرع بغير إذنه لم يكن له المطالبة بإزالته ، إلا بعد المدة.
ولو استأجر مدة لزرع لا يكمل فيها ، فإن شرط نقله بعد المدة لزم ، وإن أطلق احتمل الصحة مطلقاً وبقيد إمكان الانتفاع
______________________________________________________
المتنازع ، فإن تم هذا فعدم المنع أقوى.
واعلم أنه يجيء هنا احتمال المنع ، سواء كان ما يزرع مما ينتفع به من جهة كونه زرعاً في المدة ، باعتبار نقله إلى أرض أخرى أو الانتفاع به قصيلاً كما لو كان شعيراً أم لا ، لأن بقاءه بعد المدة يقتضي شغل ملك المالك بما لا يتناوله العقد كما قررناه ، فيكون خارجاً من العقد على الاحتمال ، بخلاف ما لو استأجر لزرعه تعييناً فإنه قد قطع بوقوع العقد عليه.
قوله : ( فإن زرع بغير إذنه لم تكن له المطالبة بإزالته إلا بعد المدة ).
هذا على القول بعدم استحقاق المالك المنع واضح ، أما على القول به فيشكل ، لأن المستأجر قد شغل الأرض بغير ما يستحقه ، فله مطالبته بالإزالة وزرع ما يسوغ له ، كما لو استأجر لحمل القطن فحمل الحديد.
والعجب أن الشيخ حكم بأن للمالك المنع ، ولم يجوّز له المطالبة بالإزالة لو زرع بغير إذن ، محتجاً بأن له حق الانتفاع بالأرض في تلك المدة بالزراعة ، فهو مستوفٍ لمنفعته (١). ولو كان هذا صحيحاً لم يكن للمالك المنع من أول الأمر ، لأنه قد رضي بكل ما اقتضاه عقد الإجارة ، فإذا كان هذا من مقتضياته لم يكن له منع.
قوله : ( ولو استأجر مدة لزرع لا يكمل فيها ، فإن شرط نقله بعد المدة لزم ، وإن أطلق احتمل الصحة مطلقاً ، وبقيد إمكان الانتفاع ).
__________________
(١) المبسوط ٣ : ٢٥٧.
______________________________________________________
أي : لو خص الإجارة بزرع ما لا يكمل في المدة المعينة في العقد غالباً ، فإما أن يشترط أنه إذا انقضت المدة ينقل ذلك الزرع من الأرض ، أو يشترط تبقيته إلى زمان أخذه عادة ، أو يطلق.
فإن شرط النقل فلا بحث في الصحة ، إذ لا مانع ، وينبغي أن يقيّد بما إذا كان مثل ذلك مقصوداً في العادة ، فلو استأجر للزرع يوماً ويومين مثلاً فالذي يناسب الباب ويوافق أصول المذهب عدم الصحة.
وإن شرط التبقية إلى زمان أخذه لم يصح ، للجهالة ، ولأن ذلك يقتضي التناقض ، فإن تقدير المدة يقتضي النقل بعدها والشرط يخالفه ، قاله في التذكرة (١). وفيه نظر ، لأن تقدير المدة لا يقتضي النقل بعدها ، وإنما يقتضي تعيين زمان الاستحقاق وهو غير متعرض إلى سواه. نعم ذلك يقتضي كون التعيين للمدة لغواً. ولم يذكر المصنف هنا هذا القسم.
وإن أطلق فوجهان :
أحدهما : الصحة ، لحصول المقتضي وهو الإيجاب والقبول من جائزي التصرف ، وانتفاء المانع إذ ليس إلا كون المدة غير كافية لإدراك الزرع ، وهو غير صالح للمانعية ، لأن أقصى ما يقال فيه لزوم التجوز بلفظ الزرع ولا محذور فيه ، لأن العدول إلى المجاز مع القرينة الدالة على الإرادة متعين.
الثاني : تقييد الصحة بإمكان الانتفاع ، ومعناه الحكم بالصحة إن كان المزروع في تلك المدة مما ينتفع به.
ولقائل أن يقول : إن التقييد في هذا الوجه بإمكان الانتفاع يقتضي الصحة على الأول مع إمكان الانتفاع وعدمه ، وهو مشكل ، فإن الإجارة إنما
__________________
(١) التذكرة ٢ : ٣١٣.
______________________________________________________
تصح على تقدير الاعتداد بالمنفعة بدونه.
واحتمل في التذكرة (١) الصحة إذا أمكن أن ينتفع بالأرض في زرع ضرره كضرر الزرع المشروط أو دونه إن جوّزنا التخطي مع التعيين ، مثل أن يزرع شعيراً يأخذه قصيلاً ، لأن الانتفاع بها في بعض ما أقصاه العقد ممكن ، وإن لم يكن كذلك لم يصح ، لأنه أكثري للزرع ما لا ينتفع به فيه فأشبهه إجارة السبخة له.
وعلى هذا فيكون المراد بالانتفاع في العبارة : الانتفاع بها بنوع آخر من الزرع يمكن بلوغه في تلك المدة. إلا أن هذا لا يستفاد من العبارة ، لعدم وجود ما يدل عليه ، وإذا نزّل الانتفاع على ظاهره ـ وهو المطلق ـ ورد عليه ما قلناه من لزوم الجواز مع عدم النفع أصلاً على الاحتمال الأول ـ أعني احتمال الصحة ـ مطلقاً ، وهو باطل.
وكذا يرد ذلك على ما إذا شرط النقل بعد المدة بل هو أظهر ، وبهذا يظهر (٢) أن ما فهمه الشارحان من إطلاق المنع لا يستقيم ، لأن ما اعتذر به الفاضل ولد المصنف من عدم تحقق القلع (٣) منتف مع اشتراطه.
فإن قيل : فكيف صح العقد مع شرط النقل وجهاً واحداً ، مع أن احتمال التقييد بإمكان الانتفاع أيضاً قائم بعين ما ذكر من الدليل؟
قلنا : الفرق أنه مع اشتراط النقل لا يراد الزرع حقيقة إنما يراد مجازه ، فلا حاجة إلى اعتبار الانتفاع بالزرع حينئذ بخلاف ما إذا لم يشترط القلع.
ولقائل أن يقول : إنه إذا أمكن الانتفاع بالتخطي المذكور مع اشتراط
__________________
(١) التذكرة ٢ : ٣١٣.
(٢) في « ه » : يعلم.
(٣) إيضاح الفوائد ٢ : ٢٧١.
فعلى الأول احتمل وجوب الإبقاء بالأجرة.
______________________________________________________
النقل أمكن إجراء اللفظ على حقيقته أيضاً ، فيجيء احتمال تقييد الصحة به كما في الإطلاق ، وقوفاً مع الحقيقة بحسب الإمكان فاللازم أحد أمرين : إما ارتكاب المجاز فيهما بقرينة اشتراط النقل في الأول ، وتعيين مدة لا يكمل فيها الزرع في الثاني.
أو الاقتصار على موضع الانتفاع بالزرع بحيث يكمل بمقتضى التخطي وقوفاً مع الحقيقة.
والأصح الصحة مطلقاً ، لأن القول بالتخطي غير مرضي ، ولو قلنا به فكذلك تمسكاً بظاهر اللفظ ، بل لو تناول اللفظ كلا من النوعين بعمومه لكان ارتكاب المجاز خيراً من تخصيصه بواحد ، وينبغي التأمل لذلك ، لأنه زلة قدم.
قوله : ( فعلى الأول احتمل وجوب الإبقاء بالأجرة ).
وجه الاحتمال أنه غير متعدٍ بالزرع ، فوجب إبقاؤه عملاً بمقتضى قوله عليهالسلام : « ليس لعرق ظالم حق » (١) مع ضعف المفهوم. ويحتمل العدم ، لأنه دخل على أن لا حقّ له بعد المدة ، لأن منفعة المدة هي المبذولة في مقابلة العوض ، فلا يستحق بالإجارة شيئاً آخر.
ولا يرد ما إذا تخلف إدراك الزرع فتجاوز المدة ، فإن التكليف بالإزالة مع كونه معذوراً ، وأن ذلك مفضٍ إلى ضياع ما له ، ولم يدخل في حال العقد عليه باطل ، فجمع بين الحقين لوجوب الإبقاء بالأجرة ، بخلاف ما إذا دخل حال العقد عالماً بعدم إدراك الزرع في المدة ، فإنه لا وجه لوجوب الإبقاء حينئذٍ ، وهو قوي.
__________________
(١) التهذيب ٧ : ٢٠٦ حديث ٩٠٩.
ولو شرط التبقية إلى وقت البلوغ تجهل العقد.
ولو استأجرها للغرس سنة صح ، وله أن يغرس قبل الانقضاء ، فإن شرط القلع بعد المدة ، أو لم يشترط جاز القلع ولا أرش على أحدهما.
______________________________________________________
واعلم ان الشارح قال في الحديث السابق : إن الأصوليين أجمعوا على حجية دلالة المفهوم في هذا الحديث (١) ، وهذا فاسد من وجوه :
الأول : إن البحث عن هذا الحديث ونحوه وظيفة الفقيه دون الأصولي ، والإجماع الذي ادعاه لم يسمع من أحد من الأصوليين ما يصدقه بعد التتبع الكثير.
الثاني : إن حجية مفهوم الصفة من المفهوم المخالف لم ينعقد الإجماع عليها في شيء أصلاً ، فإن دل دليل على حقية المفهوم فالحجية من جهة الدليل لا من جهة المفهوم.
الثالث : إن حقية هذا المفهوم المخصوص لم يثبت بدليل من إجماع وغيره ، فينبغي تأمل ذلك.
قوله : ( ولو شرط التبقية إلى وقت البلوغ تجهل العقد ).
وذلك لأن محل البلوغ يحتمل الزيادة والنقصان فيتحقق باشتراط الجهالة ، وذلك يفضي إلى جهالة العقد من حيث ان التراضي بالعقد إنما كان مع الشرط فيبطلان.
قوله : ( ولو استأجرها للغرس سنة صح ، وله أن يغرس قبل الانقضاء ، فإن شرط القلع بعد المدة أو لم يشرط جاز القلع ، ولا أرش على أحدهما ، ويحتمل مع عدم الشرط منع المالك من القلع لا
__________________
(١) إيضاح الفوائد ٢ : ٢٧٢.
ويحتمل مع عدم الشرط منع المالك من القلع لا الغارس ،
______________________________________________________
الغارس ).
لا ريب أنه يجوز الاستئجار للغرس مدة معينة ، قليلة كانت أو كثيرة بلا خلاف بين العلماء ، فإذا استأجر سنة فإما أن يشترطا القلع بعد السنة ، أو يشترطا التبقية ، أو يسكتا عنهما معاً.
فإن شرطا القلع صح العقد ، إذ لا مانع ، ولعموم قوله عليهالسلام : « المؤمنون عند شروطهم » (١) فحينئذٍ يؤمر المستأجر بالقلع بعد المدة ، وليس على المالك أرش النقصان بسببه عملاً بمقتضى الشرط ، ولا يجب على المستأجر أيضاً تسوية الأرض ، ولا أرش نقصانها إن نقصت لمثل ما قلنا.
ولو اتفقا على الإبقاء بأجرة ومجاناً ، أو على نقل الغرس إلى مالك الأرض جاز ، لأن الحق في ذلك إليهما. وإن شرطا التبقية بعد المدة لم يصح لجهالة المدة ، فاشتراطها يقتضي تجهيل العقد.
وللشافعية قول بالصحة ، لأن الإطلاق يقتضي الإبقاء عندهم فلا يضر شرطه (٢). وكلاهما مردود ، فعلى البطلان يجب على المستأجر في المدة أجرة المثل ، وبعدها الحكم على ما يذكر في الإطلاق.
وإن أطلقا العقد ولم يشرطا واحداً من الأمرين صح العقد عندنا ، وبعض الشافعية جعل الإجارة هنا كالإجارة لزرع ما لا يدرك في المدة (٣) ، فحينئذ بعد المدة إن اختار المستأجر القلع كان له ذلك ، لأنه ملكه فله أخذه ، ولأن مقتضى الإجارة مدة التفريغ بعدها.
ولا يجب عليه تسوية الحفر ، وإصلاح الأرض ، ولا أرش نقصانها
__________________
(١) التهذيب ٧ : ٣٧١ حديث ١٥٠٣ ، الاستبصار ٣ : ٢٣٢ حديث ٨٣٥.
(٢) الوجيز ١ : ٢٣٥ ، المجموع ١٥ : ٦٨.
(٣) المصدر السابق.
______________________________________________________
لثبوت ذلك له بمقتضى الإجارة ، وهو مختار المصنف هنا وفي التحرير (١).
وصرح في التذكرة بوجوب الأرش وطم الحفر ، لأنه أدخل النقص على ملك الغير بغير إذنه ، وتصرف في أرضه بالقلع لتخليص ملكه بعد خروجها من يده (٢). وفيه منع ، لأن تحديد المدة في الإجارة يقتضي التفريغ بعدها ، فيكون مأذوناً فيه بهذا الاعتبار ، بخلاف ما لو قلع في أثناء المدة.
وإن اختار المالك القلع ففيه وجهان : أصحهما ـ على ما اختاره في الكتاب ـ أن له ذلك مجاناً عملاً بمقتضى تحديد المدة في العقد.
ويحتمل منعه من القلع مجاناً ، لأنه غرس محترم صدر بالإذن ، ولمفهوم قوله عليهالسلام : « ليس لعرق ظالم حق » (٣).
وفائدة التحديد بالمدة يجوز أن يكون منع إحداث الغرس بعدها.
ويضعّف بأن الغرس بعد انقضاء مدة الاستحقاق ليس بمحترم ، وليس بحق ، على أنه لو كان مستحقاً للإبقاء لم تجب الأجرة. كذا قيل ، وفي هذا الأخير نظر ، لأنه ربما كان مستحقاً للإبقاء بالأجرة لا مطلقاً. وأما تحديد المدة فمعلوم أن المراد به تعيين قدر المنفعة المستحقة بالإجارة ، إذ لا يتعين إلا بالزمان.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن قول المصنف : ( ولو استأجرها للغرس سنة صح ) أراد به المخالفة لاستئجارها لزرع مدة لا يدرك فيها ، فإن في الصحة كلاماً.
والفرق : إن للزرع مدة ، تنتظر ولا يكمل بدونها ، وهي المقصودة
__________________
(١) التحرير ١ : ٢٤٩.
(٢) التذكرة ٢ : ٣١٣.
(٣) التهذيب ٧ : ٢٠٧ حديث ٩٠٩.
فيتخيّر بين دفع قيمة الغراس والبناء فيملكه مع أرضه ، وبين قلعهما مع أرش النقص ، وبين إبقائهما بأجرة المثل.
______________________________________________________
غالباً ، بخلاف الغرس فإنه للتأبيد فلا تتفاوت فيه المدة قصيرة كانت أو طويلة ، وان كان يفنى في الطويلة جدّاً ، لكن ليس لفنائه جملة أمد المعلوم بحسب العادة.
وقوله : ( وله أن يغرس قبل الانقضاء ) أراد به المخالفة بين الغرس والاستئجار للزرع مدة يكفيه ، ثم يتراخى إلى أن يبقى منها ما لا يكفي ، فإنه يحتمل منعه حينئذ من الزرع ، والفرق ما قلناه.
وقوله : ( ويحتمل مع عدم الشرط منع المالك من القلع لا الغارس ) أراد به أنه إذا لم يشترط القلع في العقد يحتمل منع مالك الأرض من قطع الغرس مجاناً من دون أرش النقص بدليل قوله بعد : ( وبين قلعها مع أرش النقص ) وما اختاره هنا وفي التحرير (١) أقوى فلكل منهما القلع مجاناً.
وهل يجبر المستأجر عليه لو امتنع؟ لم يتعرض إليه المصنف هنا لكن استحقاق القلع يقتضيه ، لأنه فرع عدم استحقاقه الإبقاء فيكون ظالماً له ، وهو قوي متين.
قوله : ( فيتخير بين دفع قيمة الغرس والبناء فيملكه مع أرضه ، وبين قلعهما مع أرش النقص ، وبين إبقائهما بأجرة المثل ).
هذا تفريع على الاحتمال ، أعني احتمال منع المالك من القلع مع عدم الشرط ، أي : فعلى هذا يتخير بين ثلاثة أشياء :
أحدها : دفع قيمة الغرس والبناء ، ولم يجر للبناء في أول المسألة
__________________
(١) التحرير ١ : ٢٤٩.
وإن استأجر للسكنى وجب مشاهدة الدار ، أو وصفها بما يرفع الجهالة ، وضبط مدة المنفعة والأجرة.
______________________________________________________
ذكر ، لكنه كالغرس في ذلك ، فإذا دفع قيمتهما إلى المستأجر ملكهما مع أرضه ، ويشكل إطلاق ذلك ، لأن تملك مال الغير بالقيمة من دون رضاه باطل بنص الكتاب والسنة. والمصنف لا يقول به ، وقد سبق في كلامه في العارية والشفعة والغصب ما يشهد لذلك ، وإن كان حكم الغصب قد يخالف الباقي. نعم يستقيم هذا على قول الشيخ (١) ، إلا أنّ تنزيل العبارة عليه بعيد ، فلا بد من التقييد بالرضاء كما صرح به في التذكرة (٢) ، وإن توقف في التحرير (٣).
الثاني : القلع مع أرش النقص ، وهو واضح ، لأن فيه جمعاً بين الحقين ، وطريق معرفة الأرش هنا أن يقوم قائماً بالأجرة ومقلوعاً ، فالتفاوت بين القيمتين هو الأرش.
الثالث : الإبقاء بأجرة المثل ، ويجب أن يكون هذا مقيداً برضى المستأجر أيضاً ، كما فعل في التذكرة (٤) ، لأن بقاء الغرس والبناء في الأرض لو كان واجباً لكان وجوبه لكونه حقاً للمستأجر ، فلا يمنع من القلع فكيف يمنع منه بدون التفريغ؟
لا يقال : يلزم منه التصرف في أرض المالك بغير إذنه.
لأنا نقول : بل هو بالإذن ، لما قلناه من أن تحديد المدة في الإجارة يقتضي انتفاء الاستحقاق والتفريغ بعدها.
قوله : ( وإن استأجر للسكنى وجبت مشاهدة الدار ، أو وصفها
__________________
(١) المبسوط ٣ : ٢٦٤ ـ ٢٦٥.
(٢) التذكرة ٢ : ٣١٤.
(٣) التحرير ١ : ٢٤٩.
(٤) التذكرة ٢ : ٣١٤.
ولو استأجر سنتين بأجرة معينة ولم يقدّر لكل سنة قسطاً صح.
______________________________________________________
بما يرفع الجهالة ، وضبط مدة المنفعة والأجرة ).
إذا استأجر داراً للسكنى فلا بد من معرفة الدار إما بالمشاهدة ، أووصف الدار المعينة التي يراد إجارتها بما يرفع الجهالة ويدفع الغرر.
ولا تجوز إجارة دار موصوفة في الذمة ، لما نبّهنا عليه في أول الإجارة من أن ذلك لا ينضبط بالوصف ، إذ لا يجوز السلم فيه.
ولا بد من ضبط المنفعة بذكر مدة السكنى ، بحيث لا تحتمل الزيادة والنقصان ، وكذا الأجرة على ما سبق دفعاً للغرر عن العوضين.
قوله : ( ولو استأجر سنتين بأجرة معينة ، ولم يقدر لكل سنة قسطاً صح ).
لوجود المقتضي وانتفاء المانع ، كما لو باع أعياناً تختلف قيمتها ، لا يجب تقدير حصة كل عين منها ، وكما لو أجر سنة لا يجب تقدير حصة كل شهر ، وكذا الشهر لا يجب تقدير أجرته على أيامه.
وقال بعض الشافعية : يجب أن تقدر حصة كل سنة من الأجرة ، لأن الإجارة معرضة للفسخ بتلف المعقود عليه ونحوه ، فإذا أطلق الأجرة لجميع المدة ثم لحقها الفسخ بتلف العين أو غيره تنازعا في قدر الواجب ، واحتيج إلى التقسيط على أجزاء المدة على حسب قيمته ، وذلك مما يشق ويتعسر جدّاً (١). وبالتقدير ينتفي ذلك ، وتبطل بالسنة الواحدة وما دونها ، فإن ما ذكروه وارد فيها ، والنزاع ينقطع بتوزيع الأجرة على منافع السنتين كالسنة.
إذا تقرر هذا ، فلو قدّرت حصة كل جزء من أجزاء المدة من الأجرة
__________________
(١) فتح العزيز المطبوع مع المجموع ١٢ : ٣٤٠.
ولو سكن المالك بعض المدة تخيّر المستأجر في الفسخ في الجميع ، أو في قدر ما سكنه فيسترد نصيبه من المسمى ، وفي إمضاء الجميع فيلزمه المسمى ، وله أجرة المثل على المالك فيما سكن.
______________________________________________________
تعينت وفاء بما وقع عليه العقد.
قوله : ( ولو سكن المالك بعض المدة تخيّر المستأجر في الفسخ بالجميع ، أو في قدر ما سكنه فيسترد نصيبه من المسمى ، أو في إمضاء الجميع فيلزمه المسمى وله اجرة المثل على المالك فيما سكن ).
لا يخفى أنه لو سكن المالك الدار المؤجرة بعض مدة الإجارة كان غاصباً ، فيتخير المستأجر : بين فسخ العقد في الجميع ، لفوات بعض ما وقع عليه العقد بفعل المالك فتبعضت الصفقة فيسترد المسمى إن فسخ ، وبين الفسخ في قدر ما سكنه المالك ، لأنه الذي فات.
ولا يقدح تبعض الصفقة على المالك هنا ، لأن ذلك بفعله ، فإن فسخ فيه وجب التقسيط على نحو ما سبق ، فيسترد نصيب ما سكنه المالك من المسمى.
وبين إمضاء الجميع ، فيلزمه المسمى وله اجرة المثل على المالك فيما سكن ، لأنه عوض المنفعة المستحقة له.
وفي التحرير : أن اجرة المثل لو نقصت عن المسمّى لا يضمن المستأجر الزائد (١) ، وهو حسن. ولا فرق في ذلك بين كون سكنى المالك قبل القبض أو بعده ، بخلاف غصب الأجنبي فإنه موجب للخيار قبل القبض لعدم حصول التسليم الواجب بالعقد لا بعده ، فيكون الغصب من المستأجر.
ويثبت الخيار فيما لو سكن المؤجر بعض المدة في ذلك البعض ، دون غصب الأجنبي على الأصح كما سبق. والفرق كون ذلك من قبل المالك فهو
__________________
(١) التحرير ١ : ٢٤٨.