الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٧
كتاب المتاجر
وفيه مقاصد :
الأول : في المقدّمات ، وفيه فصلان :
الأول : في أقسامها.
وهي تنقسم بانقسام الأحكام الخمسة :
______________________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : ( كتاب المتاجر ).
هي : جمع متجر ، هو : إما مصدر ميمي بمعنى التجارة كالمقتل بمعنى القتل ، أو اسم موضع وهي الأعيان التي تكتسب بها ، والأول أليق بمقصود الفن ، فانّ الفقه باحث عن فعل المكلف ، فالمناسب أن يكون موضوع أبوابه بعض موضوعه ، والأعيان هي متعلقات فعل المكلف.
واعلم أن التجارة قد عرّفها الأصحاب في الزكاة بشيء يستفاد من تعريفهم مال التجارة ، وهي : عقد المعاوضة إلى آخره ، فيعتبر في كونها تجارة قصد الاكتساب ، سواء كان بعقد البيع أو الصلح أو غيرهما ، وظاهرهم في هذا الباب عدم اشتراط قصد الاكتساب ، بل عمموا التجارة هنا في مطلق المكاسب ، والشيخ وجماعة أفردوا كتابا للمكاسب وآخر للبيع ، وكأنه أولى مما فعله المصنف.
قوله : ( وهي تنقسم بانقسام الأحكام الخمسة ).
لمّا لم يكن البيع والتجارة عبادة في أصله كان حقه أن يستوي طرفاه إلا لمرجّح من خارج ، والمرجّح لأحدهما لما تفاوت جاءت فيه الأحكام الأربعة ،
فمنه واجب ، وهو : ما يحتاج الإنسان إليه لقوته وقوت عياله ، ولا.وجه له سوى المتجر.
______________________________________________________
بخلاف العبادة ، فإنه يمتنع فيها استواء الطرفين. ولا شك أنّ هذا التقسيم ليس من خصوصيات التجارة ، بل أكثر الأبواب أو كلّها كالصلح والإجارة يجري فيه ذلك.
واعلم أنّ هذا ليس من مقصود العقود ، لأن الفقيه يبحث عنها من حيث تصح وتفسد ومن حيث تحل وتحرم ، أما من حيث يكون متعلق الثواب أم لا فانّ ذلك من غرض العبادة ، وإن كان لا محذور فيه ، لأنّ الشيء الواحد قد يكون معاملة وبضميمة شيء آخر يكون عبادة.
قوله : ( فمنه واجب ).
حق هذا الضمير أن يكون مؤنثا ، ليعود إلى الأقسام.
قوله : ( وهو ما يحتاج إليه الإنسان لقوته وقوت عياله ).
كان عليه أن يدرج مطلق المؤنة من قوت وكسوة وسكنى ، وأن يبين أن المراد بمؤنته : القدر الضروري في قوام بدنه ـ وأما قوت عياله فيراد به : ما يجب شرعا وإن زاد على قدر الضرورة ـ وأن يدرج فيه ما يدفع به حاجة المضطر مما يجب على الكفاية ، وأن يدرج فيه أيضا مطلق التجارة التي بها يتحقق نظام النوع ، فانّ ذلك من الواجبات الكفائية وإن زاد على ما ذكرناه.
قوله : ( ولا وجه له سوى المتجر ).
كان حقه أن يقول : وليس عنده ما يدفع به الحاجة ، لأنه إذا لم يكن عنده ما يدفع به الحاجة ، وله وجوه في تحصيله ـ أحدها التجارة ـ تكون التجارة حينئذ واجبا مخيرا ، وهو أحد أقسام الواجب ، فلا يجوز إخراجه بهذا القيد ، إلا أن
ومندوب ، وهو : ما يقصد به التوسعة على العيال ، أو نفع المحاويج مع حصول قدر الحاجة بغيره.
ومباح ، وهو : ما يقصد به الزيادة في المال لا غير ، مع الغنى عنه.
______________________________________________________
يراد بالتجارة : جميع أنواع الاكتساب على الإطلاق ، وهو بعيد ، وإن كان الباب جامعا لمعظم هذه الأقسام ، فانّا نظنّ أن ذكر كثير منها من قبيل الاستطراد.
قوله : ( ومندوب ، وهو : ما يقصد به التوسعة على العيال ، أو نفع المحاويج مع حصول قدر الحاجة بغيره ).
التقييد بالقصد يقتضي أن من قصد التوسعة بتجارته وليس عنده ما يموّن به عياله تكون تجارته مندوبة ، وليس بشيء ، فينبغي إسقاط القصد ، ويقال : هو ما به التوسعة ، لأن القصد معتبر في مطابقة فعل المكلف لما يطلب منه.
ويستفاد من قوله : ( التوسعة ) أن قدر الواجب مندفع بغير هذه التجارة ، ولا فائدة في التقييد بالمحاويج ، فان مطلق نفع المؤمنين مستحب ، فالتجارة له كذلك.
واحترز بـ ( حصول قدر الحاجة بغيره ) عن الاكتساب لدفع ضرورتهم ، فإنه واجب حينئذ ، فيكون قيدا في المحاويج خاصة.
واعلم أنه بعد حصول قدر الحاجة لا يعدّون محاويج ، ولعله يريد الحاجة التي لا ينافيها الغنى ، فيكون المعنى : ونفع المحاويج الى النفع إلى آخره ، فيندفع عن العبارة ذلك ، ولا بد من التقييد بعدم منافاته شيئا من الواجبات.
قوله : ( ومباح ، وهو : ما يقصد به الزيادة في المال ).
لو قال : وهو ما يكون زيادة في المال فقط لكان أولى ، إلا أن يراد ما من شأنه ذلك.
ومكروه ، وهو : ما اشتمل على وجه نهى الشرع عنه نهي تنزيه ، كالصرف ، وبيع الأكفان والطعام والرقيق ، واتّخاذ الذبح والنحر صنعة ، والحياكة والنساجة ، والحجامة مع الشرط ،
______________________________________________________
قوله : ( ومكروه ، وهو : ما اشتمل على وجه نهى الشرع عنه نهي تنزيه ، كالصرف ، وبيع الأكفان والطعام والرقيق ).
تعليل كراهة الصرف في الاخبار : بكون الصيرفي لا يكاد يسلم من الربا ، وكراهة بيع الأكفان : بان صاحبه يسره الوباء ، وكراهة بيع الطعام : بأنه لا يسلم من الاحتكار ، وكراهة بيع الرقيق : بأن شرّ الناس من باع الناس ، وكراهة كونه جزارا : بسلب الرحمة (١) ، يشعر بأن المراد : كراهة اتخاذ هذه الأشياء صنعة ، فلو عرض فعل شيء منها نادرا لم يكن مكروها ، كما لو احتاج إلى صرف دينار ونحو ذلك.
قوله : ( والحياكة والنساجة ).
إنما كرهتا لضعتهما وسقوط صاحبهما عند الناس ، والظاهر أنه لا تفاوت بينهما في المدلول ، ويمكن اختصاص إحداهما ببعض الأنواع ، كأن تكون الحياكة للغليظة ، والنساجة لضده ونحو ذلك.
قوله : ( والحجامة مع الشرط ).
أي : مع اشتراط الحجّام الأجرة ، فلا يكره لو فعل ولم يشترطها وإن بذلت له ، ولا بأس بأكلها حينئذ كما وردت به الأخبار (٢).
ويستحب لمن يحتجم أن يشترط قبل الفعل ، لأنه أبعد عن النزاع ، وله أن يماكس ، فكراهة الاشتراط من قبل الحجّام خاصة.
__________________
(١) الكافي ٥ : ١١٤ حديث ٤ ، ٥ ، الفقيه ٣ : ٩٦ حديث ٣٦٩ ، التهذيب ٦ : ٣٦١ ـ ٣٦٣ حديث ١٠٣٧ ، ١٠٣٨ ، ١٠٤١ ، الاستبصار ٣ : ٦٢ ـ ٦٤ حديث ٢٠٨ ، ٢٠٩ ، ٢١٢.
(٢) الكافي ٥ : ١١٥ حديث ١ ، التهذيب ٦ : ٣٥٤ حديث ١٠٠٨ ، الاستبصار ٣ : ٥٨ حديث ١٩٠.
والقابلة معه ، واجرة الضراب ، وكسب الصبيان ، وغير المجتنب للحرام ، واجرة تعليم القرآن ،
______________________________________________________
قوله : ( والقابلة معه ).
أي : مع الشرط كما قلناه في الحجّام.
قوله : ( واجرة الضراب ).
وحرّمها بعض العامة (١) ، محتجا بحديث تضمّن النهي (٢) ، وعندنا أنه مكروه ، ولم يثبت ما يقتضي التحريم. ولو دفع إلى صاحب الفحل هدية أو كراية فلا بأس.
وينبغي أن يوقع العقد على العمل ، ويقدره بالمرة والمرتين لا مدة معلومة كما ذكره بعض العامة (٣) ، إلاّ أن يكتري لماشية كثيرة ، فإنّ إجارته حينئذ تقدّر بالمدة. ولو غصب فحلا فأنزاه فلصاحبه الأجرة ، والولد لصاحب الأنثى.
قوله : ( وكسب الصبيان ).
إذا لم يعلم أنه من موضع حلال. في الحديث : النهي عن كسب الصبي الذي لا صنعة له ، فإنه إن لم يجد سرق ـ فعلى المصنف التقييد ـ وكذا الأمة التي لا صنعة لها ، فإنها إذا لم تجد زنت (٤) ، وكذا كسب من لا يجتنب الحرام (٥).
قوله : ( واجرة تعليم القرآن ).
وقيل بتحريمها (٦) ، والأصح الكراهة ، إلا فيما يجب تعلّمه عينا ، أو تخيير
__________________
(١) ذهب إليه الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وغيرهم ، راجع فتح العزيز ٨ : ١٩١ ، المجموع ١٥ : ٤ ، الوجيز ١ : ١٣٨ ، ٢٣١ ، المغني لابن قدامة ٦ : ١٤٨ ، المبسوط للسرخسي ١٥ : ٨٣.
(٢) صحيح البخاري ٣ : ١٢٢ ـ ١٢٣ ، صحيح مسلم ٣ : ١١٩٧ حديث ٣٥ ، سنن الترمذي ٢ : ٣٧٢ حديث ١٢٩١ ، ١٢٩٢ ، مسند أحمد ٢ : ١٤.
(٣) نسبه ابن قدامة الى القيل ، راجع المغني ٦ : ١٤٨ ـ ١٤٩.
(٤) الكافي ٥ : ١٢٨ حديث ٨ ، التهذيب ٦ : ٣٦٧ حديث ١٠٥٧.
(٥) الكافي ٥ : ٣١١ حديث ٣٤.
(٦) قاله أبو الصلاح الحلبي في الكافي في الفقه : ٢٨٣.
وتعشير المصحف بالذهب ، والصياغة ، والقصابة ، وركوب البحر للتجارة ، وخصاء الحيوان ، ومعاملة الظالمين والسفلة والأدنين والمحارفين
______________________________________________________
وهما : الحمد والسورة ، أو كفاية كالمعتبر في الاجتهاد ، أو ما يكون به بقاء تواتر القرآن.
قوله : ( وتعشير المصحف بالذهب ).
ولا يحرم للرواية (١) ، وكتابة القرآن بالذهب أشد كراهة ، والظاهر أن كتبة الأحزاب بالذهب وجدوله به ونقشه كالتعشير.
قوله : ( والصياغة ).
للنهي عن اتخاذها صنعه في الحديث (٢).
قوله : ( والقصابة ).
للنهي أيضا عنها (٣) ، والفرق بينها وبين الذبح والنحر معلوم.
قوله : ( وركوب البحر للتجارة ).
لورود النص بذلك (٤) ، وهذا إذا غلب السلامة ، حيث لا يكون محل هيجان البحر.
قوله : ( وخصاء الحيوان ).
وقيل بتحريمه (٥) ، وفي حكمه الجبّ والوجاء.
قوله : ( ومعاملة الظالمين والسفلة ).
هو بكسر السين وسكون الفاء ، أو فتحه مع كسر الفاء : أسافلهم وإسقاطهم ، وهم قريب من الأدنين.
__________________
(١) الكافي ٢ : ٤٦٠ حديث ٨ ، التهذيب ٦ : ٣٦٧ حديث ١٠٥٦.
(٢) التهذيب ٦ : ٣٦٢ حديث ١٠٣٨ ، الاستبصار ٣ : ٦٣ حديث ٢٠٩.
(٣) المصدر السابق.
(٤) الكافي ٥ : ٢٥٦ باب ركوب البحر للتجارة ، التهذيب ٦ : ٣٨٨ حديث ١١٥٨ ـ ١١٦٠.
(٥) ذهب إليه أبو الصلاح في الكافي في الفقه : ٢٨١ ، وابن البراج في المهذب ١ : ٣٤٥.
وذوي العاهات والأكراد ـ ومجالستهم ومناكحتهم ـ وأهل الذمة.
ومحظور ، وهو : ما اشتمل على وجه قبح ، وهو أقسام :
الأول : كلّ نجس لا يقبل التطهير : سواء كانت نجاسته ذاتية
______________________________________________________
وقد فسّر : بمن لا يبالي بما قال ولا بما قيل له ، أو الذي يضرب بالطنبور ، أو الذي لم يسرّه الإحسان ولم تسؤه الإساءة ، أو الذي ادّعى الأمانة وليس لها بأهل. ولا ريب أنّ من اجتمعت فيه هذه الخصال ، أو وجد فيه بعضها اجتنبت مخالطته (١). وفي الحديث : النهي عن مخالطة من لم ينشأ في الخير (٢).
قوله : ( وذوي العاهات ).
في الأخبار النهي عن ذلك ، والتعليل بأنهم أظلم شيء (٣).
قوله : ( والأكراد ومجالستهم ومناكحتهم ).
في الحديث : النهي عن ذلك ، والتعليل بأنهم حيّ من الجن كشف عنهم الغطاء (٤).
قوله : ( وأهل الذمة ).
للنهي عن ذلك (٥).
قوله : ( الأول : كل نجس لا يقبل التطهير ).
أي : الأول من أقسام المحظور من التجارة : الاكتساب بـ ( كل نجس
__________________
(١) قال الصدوق في الفقيه ٣ : ١٠٠ : قال مصنف هذا الكتاب ـ رضياللهعنه ـ : جاءت الأخبار في معنى السفلة على وجوه : فمنها : أن السفلة هو الذي لا يبالي ما قال ولا ما قيل له ، ومنها : ان السفلة من يضرب بالطنبور ، ومنها : ان السفلة من لم يسره الإحسان ولا تسوؤه الإساءة. والسفلة : من ادعى الامانة وليس لها بأهل ، وهذه كلها أوصاف السفلة من اجتمع فيه بعضها أو جميعها وجب اجتناب مخالطته.
(٢) الكافي ٥ : ١٥٨ حديث ٥ ، الفقيه ٣ : ١٠٠ حديث ٣٨٨ ، التهذيب ٧ : ١٠ حديث ٣٦.
(٣) الكافي ٥ : ١٥٨ حديث ٦ ، الفقيه ٣ : ١٠٠ حديث ٣٨٩ ، التهذيب ٧ : ١٠ حديث ٣٥.
(٤) الكافي ٥ : ١٥٨ حديث ٢ ، الفقيه ٣ : ١٠٠ حديث ٣٩٠ ، التهذيب ٧ : ١١ حديث ٤٢.
(٥) الفقيه ٣ : ١٠٠ حديث ٣٩١.
ـ كالخمر ، والنبيذ ، والفقاع ، والميتة ، والدم ، وأبوال ما لا يؤكل لحمه وأرواثها ، والكلب والخنزير وأجزائهما ـ أو عرضية ، كالمائعات النجسة التي لا تقبل التطهير ، إلاّ الدهن النجس لفائدة الاستصباح به تحت السماء خاصة.
______________________________________________________
لا يقبل التطهير ). وأراد بـ ( النجس ) : ما كان عين نجاسة ، أو منجّسا بأحد الأعيان النجسة ، ولهذا قسّمه إلى : ما نجاسته ذاتية ، وما نجاسته عرضية ، وغاية ما فيه أن يريد باللفظ حقيقته ومجازه معا ، ومدار جواز البيع للأعيان وعدمه على وجود المالية المترتبة على كونه في العادة ذا نفع غالب مقصود.
واحترز بعدم قبول التطهير عن المتنجس الذي يقبله ، جامدا كان كالثوب ، أو مائعا كالماء ، فإنه يجوز بيعه كما سيأتي.
قوله : ( كالخمر والنبيذ ).
ضابطه : كل مسكر مائع بالأصالة ، والخمر من العنب ، والنبيذ من التمر.
قوله : ( والفقاع ).
قد سبق تعريفه.
قوله : ( والكلب والخنزير ).
وفرعهما مع حيوان آخر إذا عدّ كلبا وخنزيرا.
قوله : ( وأجزائهما ).
وإن لم تحلها الحياة ، لأنها نجسة ، خلافا للمرتضى (١) على ما سبق.
قوله : ( إلاّ الدهن النجس لفائدة الاستصباح به تحت السماء خاصة ).
أراد بقوله خاصة : بيان حصر جواز الاستصباح به تحت السماء ، فلا يجوز تحت الظلال على الأصح ، وليس لنجاسة دخانه على الأصح ، بل هو تعبد ،
__________________
(١) الناصريات ( الجوامع الفقهية ) : ٢١٨.
ولو كانت نجاسة الدهن ذاتية ، كالألية المقطوعة من الميتة أو الحية لم يجز الاستصباح به ولا تحت السماء.
ويجوز بيع الماء النجس لقبوله الطهارة.
والأقرب في أبوال ما يؤكل لحمه التحريم للاستخباث ، إلاّ بول الإبل للاستشفاء.
______________________________________________________
وليس المراد بـ ( خاصة ) : بيان حصر الفائدة كما هو ظاهر.
وقد ذكر شيخنا الشهيد في بعض حواشيه : أنّ في رواية : جواز اتخاذ الصابون من الدهن النجس ، وصرّح مع ذلك بجواز الانتفاع به فيما يتصور من فوائده كطلي الدواب.
قيل : إن العبارة تقتضي حصر الفائدة ، لأن الاستثناء في سياق النفي يفيد الحصر ، فانّ المعنى في العبارة : إلا الدهن النجس لهذه الفائدة.
قلنا : ليس المراد ذلك ، لأن الفائدة بيان لوجه الاستثناء ، أي : إلا الدهن النجس لتحقق فائدة الاستصباح ، وهذا لا يستلزم الحصر ، ويكفي لصحة ما قلناه تطرق الاحتمال في العبارة المقتضي لعدم الحصر.
قوله : ( لم يجز الاستصباح به ولا تحت السماء ).
في حواشي الشهيد نقل عن المصنف : بجواز ذلك في الدهن الذي هو نجاسة ، محتجا بالعموم. وهو بعيد ، لثبوت النهي عن الانتفاع بالميتة.
قوله : ( ويجوز بيع الماء النجس لقبوله الطهارة ).
وكذا كلّ ما عرض له التنجيس إذا أمكن التطهير ، وإنما اقتصر على ذكر الماء مع أن الحكم يعم غيره ، اكتفاء بإفادة ثبوت الحكم في كل موضع يثبت.
قوله : ( والأقرب في أبوال ما يؤكل لحمه التحريم للاستخباث ، إلاّ بول الإبل للاستشفاء ).
والأقرب جواز بيع كلب الصيد والماشية والزرع والحائط ، وإجارتها ،
______________________________________________________
ومال المصنف في المنتهى (١) والمختلف (٢) إلى جواز بيعها ، وحكاه عن المرتضى مدعيا فيه الإجماع (٣) ، والأصح الجواز إن فرض لها نفع مقصود محلّل ، أما بول الإبل فيجوز بيعه إجماعا.
ويجوز بيع أرواث ما يؤكل لحمه ، لأنه عين مملوكة طاهرة ينتفع بها في الزرع وغيره ، وبه صرح في المنتهى (٤).
قوله : ( والأقرب جواز بيع كلب الصيد والماشية والزرع والحائط ).
الخلاف فيما عدا كلب الصيد ، صرح به في المنتهى (٥) ، والأصح الجواز ، ولعل مقصود العبارة : ثبوت الخلاف في
المجموع من حيث هو هو ، وفي حكمها كلب البيت إذا اتخذ لحراسته ، كما صرح به في المنتهى (٦) ، والحائط : هو البستان.
قوله : ( وإجارتها ).
أي : إجارتها وكذا وكذا جائزة ، فهو من عطف جملة على جملة.
__________________
(١) المنتهى ٢ : ١٠٠٨.
ملاحظة : في المنتهى : (. أما البول : فان كان بول ما لا يؤكل لحمه فكذلك حرام بيعه وثمنه وشراؤه لأنه نجس كالدم ، واما بول ما لا يؤكل لحمه فإنه طاهر ، فيجوز بيعه حينئذ ، قال السيد المرتضى : وادعي عليه الإجماع ).
فالظاهر أن في النسخة اشتباه ، إذ الصحيح : وأما بول ما يؤكل لحمه بقرينة ما قبله.
(٢) المختلف : ٣٤٠.
(٣) حكاه في المنتهى عن السيد المرتضى ، ولم نعثر على قول السيد بجواز بيع أبوال ما يؤكل لحمه ، لكن في الانتصار : ٢٠١ ، والناصريات ( الجوامع الفقهية ) : ٢١٦ ، الحكم بطهارة بول ما يؤكل لحمه ، فيحتمل ان ما نقله العلامة في المنتهى عن السيد هو الإجماع على طهارة ما يؤكل لحمه لا جواز بيعه ، واستفاد من الطهارة جواز البيع ، فتأمل.
(٤) المنتهى ٢ : ١٠٠٨.
(٥) المنتهى ٢ : ١٠٠٩.
(٦) المنتهى ٢ : ١٠١٠.
واقتناؤها ـ وإن هلكت الماشية ـ والتربية.
ويحرم اقتناء الأعيان النجسة ، إلاّ لفائدة ، كالكلب ، والسرجين لتربية الزرع ، والخمر للتخليل ، وكذا يحرم اقتناء المؤذيات ، كالحيات والسباع.
الثاني : كلّ ما يكون المقصود منه حراما :
______________________________________________________
قوله : ( واقتناؤها وإن هلكت الماشية ).
أراد : وإن حصد الزرع وإن باع الحائط ، اكتفاء بما ذكره.
ولا إشكال في ذلك إذا كان في نيته العود إلى شيء منها ، أما إذا لم يكن فالظاهر الجواز للقنية ، استصحابا لما ثبت.
قوله : ( والتربية ).
أي : تربية الجر والصغير ، وإن لم يكن له أحد هذه الأمور بالفعل ، لرجاء أحدها.
قوله : ( ويحرم اقتناء الأعيان النجسة ... ).
أما البيع فلا يجوز على كل حال كما سبق ، لأن الفائدة الموجودة في شيء منها لا تصيرها مالا يقابل بمال.
والسرجين : بكسر السين ، نص عليه في القاموس (١).
قوله : ( الثاني : كلّ ما يكون المقصود منه حراما ).
أي : ما المراد منه على حالته التي هو فيها الأمر المحرم ، فان آلات اللهو الغرض الأصلي منها على هذا الوضع المخصوص هو المحرم ، وإن أمكن الانتفاع بها على حالتها في أمر آخر فهو مع ندرته أمر غير مقصود بحسب العادة ، ولا أثر لكون رضاضها بعد تكسيرها مما ينتفع به في المحلل ويعد مالا ، لأن بذل المال في مقابلها وهي على هيئتها بذل له في المحرم الذي لا يعدّ مالا عند الشارع.
__________________
(١) القاموس ٤ : ٢٣٤ وفيه : السرجين والسرقين بكسرهما : الزبل معربا سركين بالفتح.
كآلات اللهو كالعود ، وآلات القمار كالشطرنج ، وهياكل العبادة كالصنم ،
______________________________________________________
نعم لو باع رضاضها الباقي بعد كسرها قبل أن يكسرها ، وكان المشتري موثوقا بتقواه وأنه يكسرها ، أمكن القول بصحة البيع.
ومثله : باقي الأمور المحرمة ، مثل أواني النقدين والصنم ، وهل يلحق بذلك بيع نحو الدبس النجس ، على ان يمزج بالماء إلى أن يصير ماء؟ يحتمل ذلك ، لوجود المقتضي ، ولا أعلم فيه تصريحا لأحد.
وهل الصور المعمولة من هذا القبيل؟ ألحقها به بعض العامة (١) ، ولم أجد مثله في كلام أصحابنا ، ويمكن عدم اللحاق ، نظرا إلى أن الصور وإن حرم عملها فلا دليل يدل على تحريم اقتنائها ، إذ ليس المقصود منها محض التحريم ، ولو حرم الاقتناء لحرم حفظ ما هي فيه من ستر ونحوه ولم يجز بيعه ، وفي بعض الأخبار ما يدل على خلافه ، نعم لو كانت تعبد فهي أصنام.
إذا تقرر هذا ، فتقدير العبارة : الثاني من أقسام المحظور من التجارة : الاكتساب بكل ما يكون إلى آخره.
وقوله : ( كآلات اللهو ).
تقديره : كالاكتساب بآلات اللهو ، وإنما احتجنا إلى هذا التكلف ، لأن قوله فيما بعد : ( وبيع السلاح ) إن قرئ بالجر عطفا على آلات اللهو كان من الأعيان التي المقصود منها الحرام لا من أقسام الاكتساب ، وهو معلوم البطلان ، أو بالضم على أنه محذوف الخبر لم يكن من القسم الذي المقصود منه الحرام ، إلاّ أن يقال : هذا ليس مما لا يقصد منه إلا الحرام باعتبار شأنه ، فإنه يقصد به كل من الحرام والحلال ، ولكن بالعارض يقصد به الحرام ، فلا حاجة إلى التكلّف السابق في التقدير ، ويقرأ : ( وبيع السلاح ) وما عطف عليه من : ( بيع العنب ليعمل
__________________
(١) حكي عن الشافعي في بعض الوجوه التي رويت عنه حرمة بيع الصور المعمولة من الذهب والفضة وغيرهما. وقال الرافعي ـ من أصحاب الشافعي ـ : والمذهب البطلان مطلقا ، قال : وبه قطع عامة الأصحاب. راجع المجموع ٩ : ٢٥٦ ، وفتح العزيز ٨ : ١٢٠.
وبيع السلاح لأعداء الدين وإن كانوا مسلمين ، وإجارة السفن والمساكن للمحرمات ،
______________________________________________________
خمرا ) وما بعده بالرفع ، على تقدير الخبر لفظ : كذلك ونحوه.
قوله : ( وبيع السلاح لأعداء الدين وإن كانوا مسلمين ).
لا مانع من أن يراد بالمسلمين : المسلمون حقيقة ، والخوارج والغلاة ونحوهم داخلون في أعداء الدين ، ويدخل في قوله : ( وإن كانوا مسلمين ) قطّاع الطريق والمحاربون ونحوهم ، لأنهم أعداء الدين باعتبار المخالفة ، وكونهم حربا واستحقاقهم القتل ـ وإن كان لا يخلو من تكلّف ـ يبعث عليه ثبوت تحريم البيع عليهم على الأصح.
وهذا الحكم إنما هو في حال عدم الهدنة كما دلت عليه الرواية (١) ، بشرط أن لا يعلم منهم إرادة دفع الكفار به ، فان علم ذلك جاز كما وردت به الرواية (٢) أيضا ، وهذا إنما هو فيما لا يعد جنّة : كالدرع ، والبيضة ، والخف ، والتجفاف ـ بكسر التاء : وهو ما يلبس للخيل ـ فلا يحرم نحو هذه ، وسيأتي في آخر هذا المبحث في كلام المصنف ، وقد كان موضعه اللائق به هنا.
قوله : ( وإجارة السفن والمساكن للمحرمات ).
أي : بهذا القيد ، فلو أجرها ممن يتعاطاها لم يحرم على الأصح ، للأصل ولعموم( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (٣) ولأنه المفهوم من حسنة عمر بن أذينة ، حيث كتب إلى أبي عبد الله عليهالسلام يسأله عن بيع الخشب ممن يعمله صلبانا ، فقال :« لا » (٤) فان المتبادر منها البيع على هذا الوجه ، أعني : اتخاذه صلبانا ، نعم ، هو مكروه لأنه مظنّة ذلك. ومتى باع في شيء من هذه المواضع التي يحرم فيها البيع ، أو فعل شيئا من أنواع الاكتسابات بهذه الأشياء المحرمة حيث يحرم كان باطلا ،
__________________
(١) الكافي ٥ : ١١٢ حديث ١ ، التهذيب ٦ : ٣٥٤ حديث ١٠٠٥ ، الاستبصار ٣ : ٥٧ حديث ١٨٧.
(٢) الكافي ٥ : ١١٣ حديث ٣ ، التهذيب ٦ : ٣٥٤ حديث ١٠٠٦ ، الاستبصار ٣ : ٥٨ حديث ١٨٨.
(٣) المائدة : ١.
(٤) الكافي ٥ : ٢٢٦ حديث ٢ ، التهذيب ٦ : ٣٧٣ حديث ١٠٨٢ و ٧ : ١٣٤ حديث ٥٩٠.
وبيع العنب ليعمل خمرا ، والخشب ليعمل صنما ـ ويكره بيعهما على من يعمله من غير شرط ـ والتوكيل في بيع الخمر وإن كان الوكيل ذميا.
وليس للمسلم منع الذمي المستأجر داره من بيع الخمر فيها سرا ، ولو اجره لذلك حرم.
ولو استأجر دابة لحمل الخمر جاز إن كان للتخليل أو الإراقة ، وإلاّ حرم ، ولا بأس ببيع ما يكن من آلة السلاح.
الثالث : بيع ما لا ينتفع به : كالحشرات ، كالفأر
______________________________________________________
نظرا إلى أن النهي راجع إما إلى أحد العوضين ، أو إلى أحد المتعاقدين.
قوله : ( وبيع العنب ليعمل خمرا ، والخشب ليعمل صنما ).
أي : بهذا القيد ، وإلا فلا يحرم على الأصح ، لانتفاء المقتضي كما سبق.
قوله : ( ويكره بيعهما على من يعمله ).
أي : على من يعمل كلاّ من الخمر والصنم.
قوله : ( والتوكيل في بيع الخمر ).
أي : من المسلم ، لعدم جواز هذا الفعل منه ، وكذا الاستنابة فيه ، لأن يد الوكيل يد الموكل ، ومن ثم لم يفترق الحال بكون الوكيل ذميا.
قوله : ( ولو اجره لذلك حرم ).
لأن إظهار ذلك للمسلمين ممنوع منه ، فكيف يجوز اشتراطه؟
قوله : ( ولا بأس ببيع ما يكن من آلة السلاح ).
أي : لأعداء الدين ، وهذا ما أشرنا إليه سابقا.
قوله : ( الثالث : بيع ما لا ينتفع به ).
ليست هذه العبارة بتلك الحسنة ، وكان الأولى أن يسكت عن البيع ، ليكون هذا أيضا من أقسام الاكتسابات المحرمة.
قوله : ( كالحشرات كالفأر والحياة ... ).
والحياة والخنافس والعقارب ، والسباع مما لا يصلح للصيد : كالأسد والذئب والرخم والحدأة والغراب وبيضها ، والمسوخ برية : كالقرد وإن قصد به حفظ المتاع والدّب ، أو بحرية : كالجري والسلاحف والتمساح.
ولو قيل بجواز بيع السباع جمع لفائدة الانتفاع بذكاتها إن كانت مما تقع عليها الذكاة كان حسنا.
______________________________________________________
المراد بها : ما يتحشر ويتحجر في الأرض ، وفي حواشي شيخنا الشهيد : أنّ فيه دقيقة يعلم منها عدم وقوع الذكاة على الحشرات ، ولعله أراد باعتبار ما سيأتي من تعليل جواز بيع السباع لفائدة الانتفاع بذكاتها ، والظاهر أنّ عدم وقوع الذكاة على الحشرات موضع إجماع.
قوله : ( والغراب ).
لا بد من أن يراد بما لا يجوز بيعه : ما لا يؤكل لحمه ، أمّا ما يحل ، وهو :غراب الزرع ونحوه فيجب القول بجواز بيعه للنفع المحلل.
قوله : ( والمسوخ برية كالقرد وإن قصد به حفظ المتاع ).
لأن هذا القصد ليس مما يعتد به ، ولا يوثق بحصوله ليعد مقصودا نفعه بحسب العادة ، والظاهر أنّ المسوخ مضمومة الميم ، مثل : دروس ودروب وبحور ونحوها.
قوله : ( أو بحرية كالجرّيّ ).
هو بكسر الجيم وتشديد الراء والياء : سمك طويل أملس لا فلس له.
قوله : ( ولو قيل بجواز بيع السباع أجمع لفائدة الانتفاع [ بذكاتها ] (١) إن كانت مما تقع عليها الذكاة كان حسنا ).
ما حسنه المصنف حسن ، وقوله : ( إن كانت ... ) احتاط به ، لإمكان أن يكون في السباع البحرية ما لا يقع عليه الذكاة وإن كان غير معلوم الآن.
__________________
(١) لم ترد في « س » و « م » ، وأثبتناها من خطية القواعد لاقتضاء الشرح لها.
ويجوز بيع الفيل والهرة ، وما يصلح للصيد كالفهد ، وبيع دود القزّ ،
______________________________________________________
وهكذا ينبغي القول في المسوخ ، وهو الذي يفهم من كلام المصنف في المختلف (١) والمنتهى (٢) ، وهو اختيار ابن إدريس (٣) ، وقوّته ظاهرة ، إذ لا مانع من وقوع الذكاة عليها ، وإنكار الشيخ ضعيف (٤) ، وحينئذ فالانتفاع بجلودها وشحومها لا مانع منه ، لطهارتها على ذلك التقدير.
قوله : ( ويجوز بيع الفيل ).
أي : وإن منعنا بيع المسوخ ، لورود النص على الانتفاع بعظامه (٥).
قوله : ( والهر ، وما يصلح للصيد كالفهد ).
أي : وإن منعنا بيع السباع.
قوله : ( وبيع دود القزّ ).
لانه حيوان طاهر ينتفع به في المحلل ، وكذا بزره ، لكن يراعى في بزره الوزن ، ويكفي فيه المشاهدة إن كان يباع عادة جزافا اتّباعا للعرف ، وسيأتي
__________________
(١) المختلف : ٣٤١.
قال السيد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ٤٣ : وقد جوز هو ـ أي العلامة في المختلف ـ بيع الجميع ، وعبارته كأنها صريحة في ذلك ، لكن كلام جامع المقاصد يعطي انه ليس بتلك الصراحة حيث قال :يفهم من المختلف.
(٢) ذهب العلامة في المنتهى ٢ : ١٠١٦ الى تحريم بيع المسوخ برية كانت كالقرد والدب أم بحرية كالجري والمارماهي والسلاحف والرفاف. وفي ص ١٠١٧ ذهب الى جواز بيع الفيل ، وهو من المسوخ ، فما نسبه اليه المحقق الكركي من القول بجواز بيع المسوخ أجمع غير موجود في المنتهى الذي بين أيدينا ، والله أعلم.
(٣) السرائر : ٢٠٧.
قال السيد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ٤٣ : وأول من خالف ابن إدريس في خصوص الفيلة والذئبة فجوز بيعها ، فنسبة الخلاف إليه في الجميع ـ كما في جامع المقاصد ـ لم تصادف محلها كما يظهر ذلك لمن لحظ جميع كلامه وجمع بين أطرافه.
(٤) النهاية : ٣٦٤.
(٥) الكافي ٥ : ٢٢٦ حديث ١ ، التهذيب ٧ : ١٣٣ حديث ٥٨٥.