الغريب المصنّف - ج ١

أبي عبيد القاسم بن سلام الهروي

الغريب المصنّف - ج ١

المؤلف:

أبي عبيد القاسم بن سلام الهروي


المحقق: محمّد المختار العبيدي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: بيت الحكمة
الطبعة: ٠
ISBN: 9973-911-12-1
الصفحات: ٤٠٦
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

تقديم

إن تحقيق «كتاب الغريب المصنف» وطبعه وتوزيعه بعد سنوات وقرون من النّسيان وعدم الاكتراث ، يعتبر مبادرةً علميةً مميزةً قد أخرجت هذا المَعْلَمَ العَرَبِيَّ القيّمَ من الغبن ، متصدّية لكل العراقيل والتّحديّات. فلقد أخذ الأستاذ محمد المختار العبيدي على نفسه مسؤولية الإقدام على تنزيل هذا المؤلف التاريخي المتميز منزلته الحقيقية من المعجم العربي لأنه يمثّل مرحلة من مراحل «الْمَعْجَمَة» في الميدان العربي لما اختص به من مواصفات معجمية ومناهج وطرق فنية تستحق الاعتبار. ولا شك أنّ هذا العمل جدير بالعناية لأسباب عدّة منها :

١) تحقيق مدوّنة معجمية عربية من طراز فريد لأنها تعتبر أوَّلَ وثيقة وصلتنا من «الغريب المصنف» الَّذي فقدت مدوّناته الأولى والمنسوبة إلى أبي خيرة الأعرابي والقاسم بن معن الكوفي ، المعاصر للخليل بن أحمد ، وإلى النضر بن شميّل (ت ٢٠٤ ه‍) وأبي عمرو الشيباني (ت ٢٠٦ ه‍) وقطرب ابن المستنبر (ث ٢٠٦ ه‍) والأصمعي (ت ٢١٣ ه‍).

٢) إبراز ما لهذا الْمعجم من قيمة وثائقية أساسية لأنّه قد جمع في طَيَّاتِهِ كتبا مختلفة من الرسائل المفردة والْكتب الْمتخصصة السّابقة فنجد فيه أصداء لكتب المعرّب والحيوان ، والخيل ، وخلق الإنسان ، والنوادر ، والأبنية والمصادر ، والصيغ والأفعال ، والأمثلة والأسماء إلخ ... المأخوذة عن الأصمعي وأبي عبيدة معمر بن المثنى ، والفرّاء ، وأبي عمرو الشيباني وابن الكلبي وغيرهم ...

٥

٣) مكانة هذا المعجم باعتباره مصدرا أساسيا لما أتى بعده من المعاجم المتخصصة والعامة من أمهات معاجمنا الكبرى ، لأننا نجد أثره واردا في مقاييس ابن فارس (ت ٣٥٥ ه‍) الذي يقول «وبِنَاءُ الأمر في سائر ما ذكرناه على كتب مشتهرة عالية تحوي أكثر اللغة ... ومنها كتابا أبي عبيد في (غريب الحديث) و (مصنف الغريب) حدثنا بهما علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد» ، وفي صحاح الجوهري (ت ٤٠٠ ه‍) وفي «مخصّص» ابن سِيدَهْ ، وفي «محكمه» حيث يقول : «وأمّا ما ضمّناه كتابنا هذا من كتب اللغة فمصنّف أبي عبيد ، والإصلاح ، والألفاظ والجمهرة وتفاسير القرآن وشروح الحديث». وهو معتمد بالضرورة في لسان العرب الذي ارتكز على مدوّنات خمس منها محكم ابن سِيدَهْ السالف الذكر.

٤) الاهتمام بهذا المعجم لما تميّز به من مواصفات معجمية وتقنية متصلة بمراحل تطوّر المعجم العربي. فهو ينتسب إلى ما يسمى بكتب الصّفات أو ما يدعى اليوم بمعاجم الصفات أو المعاني التي تنتسب إلى معاجم الأشياء وإلى معاجم اللغة في نفس الوقت. وهو بالتّالي موسوعة لغوية تدور حول مفاهيم ركيزتها الإنسان ، ولا يخضع إلى ترتيب ألفبائي أو صوتي ، شأنه تنظيم مادة اللغة تنظيما آليا ، لأنهُ لا يَدّعي استيعاب اللّغة كلّها بل الإلمام بمواضيع تستوجبها ثقافة العصر الداعية إلى المحافظة على الثقافة العربية البدوية ، أمام هجمة الثقافة التي جاءت بها الشعوب التي دخلت الإسلام حاملة معها مفاهيمها ومعانيها.

٥) توفير مدونة ستفسح لنا المجال لدراسة مواضيع شتى متعلقة بقضايا الجمع والوضع والتعريف والاستشهاد بالشعر والقرآن والحديث إلخ ... مما سيزودنا بمعلومات مفيدة نستكمل بها مواصفات المعجم العربي من حيث محتواها وفنياته ، لا سيما وأن «الغريب المصنف» يمثل منزلة بين المنزلتين في تاريخ المعجم العربي ، لمكانته بين الرسائل المفردة والمعاجم المهيكلة.

٦

٦) الحاجة إلى مفردات هذا المعجم في وضع المصطلحات الحديثة في ميادين شتى فهو يمثل «ذاكرة تاريخية» عجيبة لما توفّر فيه من الاستعمالات والتراكيب والمفردات المختصة التي نسيناها حتى كدنا نعتبرها مفقودة في العربية ، وهي موجودة تؤدِّي ما نعجز في الإبان عن التعبير عنه لتأدية بعض المفاهيم الحديثة. فيكفي أن نقرأ هذا الكتاب لنتعجب من القدرات التعبيرية التي يوفرها للمستفيد المعاصر منه.

إنّ هذا التحقيق الذي قدمه لنا الأستاذ محمد المختار العبيدي يتميّز بكثافة معرفيّة تستحق التقدير لما وفّره لأهل الاختصاص من المعلومات الضافية والدّقيقة عن النص وتفاصيله وعن الأعلام والشعر والقرآن والحديث ، مما أثرى النص بمعارف ومعطيات جديدة ، ستمكن الدّارس من الإحاطة بكل الظروف والملابسات الاجتماعية والثقافية التي وُضِعَ فيها هذا المُؤَلَّفُ الهامّ.

ولا شك أنّ الدارسين سيجدون في مَتْنِهِ وفي حواشيه ما يدعو إلى التّدبير والتفكير في التعمّق في أهدافه ومراميه المعجمية والثقافية. ولا يسعنا في هذا المضمار إلّا أن نشكر محققه على إثراء المكتبة العربية بهذه المَعْلَمَةِ) eidepolcycnE (الحضارية الإنسانية التي نرجو لها أن تُسهم في التعريف بجهود العرب في تركيز فنون المعجم والتقدم بها.

تونس في ١٢ / ١٢ / ١٩٨٨

د. محمد رشاد الحمزاوي

٧
٨

تصدير

الحمد لله الذي علّمنا ما لم نكن نعلم ، وجعل لنا اللسان العربي خير ما به نتواصل ونتفاهم ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد نبيّه الأكرم ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أمّا بعد ، فقد اتّجهت همّتنا منذ ما يزيد على عشر سنوات إلى نشر كتاب أبي عبيد القاسم بن سلّام الهروي المعروف ب «الغريب المصنَّف» ، وهو كما لا يخفى أوّل معجم عربّي في غريب اللغة مرتّب بحسب الموضوعات والمسائل ، قضى أبو عبيد في تأليفه شطرا من عمره ، وأودعه حصيلة علمه ، ووشّاه بمختار جمعه وتقييده ، فجاء جليل القدر ، جمّ الفوائد ، نسيج وحده في باب الغريب.

وقد ظلّ كتاب أبي عبيد نسيا منسيًّا ألف سنة وزيادة ، يستشهد به الدّارسون والباحثون ويُثنُون على صاحبه من أجله ، ويقدّمونه على غيره من اللغويين بفضله ، دون أن يكون للكثير منهم علم دقيق به ولا اطلاع من قريب عليه ، فليس غريبا أن اعتبره الدكتور صبحي الصّالح كتابا في غريب الحديث ، فقال : «هو القاسم بن سلّام أبو عبيد ... وله مخطوطات كثيرة جديرة بالنشر ومكتبتنا العربيّة بأمسّ الحاجة إليها وأهمّها : «الغريب المصنّف» في غريب الحديث (!) ألّفه في نحو أربعين سنة» (دراسات في فقه اللغة ، ص ٩٩ ، حاشية ١ ، ط. ٤ ، دار العلم للملايين ، بيروت ١٣٧٠ ه‍ / ١٩٧٠ م).

٩

وما كنّا لنبطئ كلّ هذا الإبطاء في نشر الجزء الأوّل من هذا المخطوط النادر القيّم على ما في تحقيقه من صعوبات لا تنكر لو لم نقف على قائمة من الأطروحات المقدّمة بجامعات غير عربيّة ضبطها الدكتور عفيف عبد الرحمان في كتاب له بعنوان «الجهود اللغوية خلال القرن الرابع عشر الهجري» فكان من جملة الأطروحات واحدة شدّت انتباهنا وهي :

ABDBL TAWAB ROMDHANE :

DAS KlTAB AL CHARlB AL MUSANNAF VON ABUcUBAlD AL KACEM lBN SALLEM UND SElNE BEDETUNG FUR DlE NATlONAL ARABSCHE LEXlKOGRAPHlE. PH. DD. DDlSS, MUN ـ ـ CHEN ١٩٦٢

ففهمنا أنَّ كتاب «الغريب المصنَّف» كان موضوع أطروحة دكتوراه قدّمها الدكتور رمضان عبد التواب عميد كلية الآداب المصريّة (عين شمس) بجامعة مونيخ الألمانيّة سنة ١٩٦٢. وقد مضى على ذلك خمسة وعشرون عاما كاملة ، وهي لعمري مدّة كافية لنشر هذا العمل الذي هو دراسة للغريب المصنّف ، وقد تكون مشفوعة بتحقيق لنصّه. وكان بإمكان الدكتور رمضان عبد التواب أن يرفع عن الباحثين إصر التحقيق ورهق الانتظار لو نشر عمله على مراحل ولكنّه لم يفعل لأسباب نجهلها إلى أن جاءت سنة ١٩٧٠ فنشر الدكتور عبد التواب نفسه كتاب ابن الأعرابي المَوْسُومَ ب «كتاب البئر» وفيه صرّح بلا تردّد بأنّه حقّق كتاب أبي عبيد «الغريب المصنّف» وأنّ الكتاب «تحت الطبع» (كذا) (ص ٩٣ من كتاب البئر المذكور ط ١ ، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر ، مصر ١٩٧٠).

فاطمأننّا إلى قوله وبقينا ننتظر من الدكتور عبد التواب إنجاز وعده لما عرفنا فيه من حبّ للعلم وكلف بالتحقيق. وفي سنة ١٩٨٣ تعاد طبعة «كتاب البئر» لابن الأعرابي بتحقيق الدكتور عبد التواب ، فيذكر في جملة مصادره ومراجعه ـ مثل ما صنع في الطبعة الأولي ـ كتاب الغريب المصنّف ملاحظا من جديد أنّه تحت الطبع! (ص ٩٣ ط ٢ ، دار النهضة العربية ، بيروت).

١٠

ها قد مضى اليوم على هذا التصريح سبع عشرة سنة والكتاب الذي تحت الطبع لم ير النور. لذلك عزمنا بعون من الله على نشر الجزء الأوّل على أن نكمل الجزئين المتبقّيين من هذا المخطوط النفيس في مستقبل قريب ـ إن شاء الله ـ لا نبغي من وراء ذلك الفوز بقصب السبق ولا بخس الدكتور عبد التواب حقّه ، فلعلّ للدكتور عبد التواب من الأعذار والظروف الخاصة ما حال دون إنجاز ذلك الوعد وإخراج الكتاب.

وإنَّا نرى لزاما علينا ونحن نخرج الكتاب لأوّل مرّة أن ننوّه بتشجيع أستاذنا الدكتور محمد رشاد الحمزاوي لنا ، فقد تتبّع هذا العمل في جميع مراحله من يوم أن أشرف علينا في إعداد شهادة الكفاءة في البحث سنة ١٩٧٣ إلى تاريخ صدور الكتاب ، ومهّد لنا مشكورا سبيل البحث ، وحبانا بعطف غير قليل ، ولم يبخل علينا بالنصح ولا بالوقت. فجزاه الله عنّا أوفى الجزاء.

وإنّا لا نفتأ نذكر مساعدة موظفي قسم المخطوطات بمكتبتنا الوطنية ونذكر منهم على وجه الخصوص المرحوميْن سعيد بن سعيد ومحمد الفطناسي اللّذيْن وافاهما الأجل وفي نفسيْهما شيء من «الغريب المصنف» ، فإنَّا لجميلهم جميعا لشاكرون ولمساعدتهم مقدّرون.

هذا وقد سعينا جهدنا في هذا التحقيق إلى التحرّي في ضبط النصّ وشكله شكلا تامّا والتعريف بالرجال الذين اعتمدهم أبو عبيد في جمع الغريب وتفسيره نحاة كانوا أو لغويّين أو شعراء. وقد ساعدنا على ذلك اعتمادنا على ثلاث نسخ منها نسخة يعود تاريخ نسخها إلى سنة ٤٠٠ ه‍ ، وهي أكمل النسخ على ما نعلم وأكثرها دقّة وتفصيلا وهي نسخة المكتبة الوطنية بتونس ورقمها ١٥٧٢٨. كما اعتمدنا أيضا نسخة أمبروزيانا المنسوخة سنة ٣٨٤ ه‍ وقد اعتبرها خطأ الشيخ محمد آل ياسين (*) عضو المجمع العلمي

__________________

(*) حقّق الشيخ حسن آل یاسین أربعة فصول قصيرة من كتاب الغريب المصنّف وهي: كتاب الشجر والنبات وكتاب النحل ونشرهما بمجلة المجمع العلمي العراقي ، ج ٣ مجلد ٣٥ شوال ـ

١١

العراقي أقدم النسخ «مع ما تمتاز به من صحة في النسخ ودقة في الضبط» وهي نسخة قد اعتراها نقص كثير وسقطت منها عدة أبواب وقد أمدَنا بها مشكورا في شكل ميكرو فلم صديقنا الأستاذ محمد البرهومي. أمّا النسخة الثالثة فهي نسخة المكتبة الوطنية أيضا ورقمها ١٥٣٦٥.

نرجو أن نكون قد أسهمنا بهذا العمل في زيادة التعريف بأبي عبيد القاسم بن سلام ، وأنزلناه المنزلة التي يستحقّها بين لغويّي عصره ومعجمييه وأمطنا اللثام عن خريدة ظلّت مغمورة قرونا طويلة. وبالله العون والكفاية.

محمد المختار العبيدي

تونس في ١٧ جمادى الثانية ١٤٠٨

الموافق لـ ٥ فيفري ١٩٨٨

__________________

ـ ١٤٠٤ هـ / ١٩٨٤ م وكتاب السحاب والمطر وكتاب الأزمنة والرياح ونشرهما بنفس المرجع ، ج ١ ، مجلد ٣٦ ، رجب ١٤٠٥ ه / ١٩٨٥ م واعتمد نسخة أميروزبانا الإيطالية واعتبرها الأصل وأعتمد نسخة فيض الله التركية المكتوبة سنة ٥٣٦ ه ونسخة مكتبة المتحف العراقي ببغداد المكتوبة سنة ١٣٣٠ ه.

١٢

أبو عبيد القاسم بن سلام (١)

(١٥٤ ه‍ ـ ٢٢٤ ه‍ / ٧٧٠ م ـ ٨٣٨ م)

نسبته ، نشأته وحياته :

هو أبو عبيد القاسم بن سلام الخراساني الهروي ولد سنة ١٥٤ ه‍ بمدينة هراة (٢) وكان أبوه عبدا روميًّا (٣) لرجل من أهلها وكان يتولّى الأزد.

__________________

(١) انظره في : إنباه الرواة ج ٣ / ١٢ ـ ٢٣ وبغية الوعاة ج ٢ / ٢٥٣ ـ ٢٥٤ وتاريخ بغداد ج ١٢ / ٤٠٣ وتذكرة الحفاظ ج ٢ / ٦ وما بعدها وتهذيب اللغة ج ١ / ١٩ ـ ٢٠ وطبقات النحويين واللغويين ص ٢١٧ ـ ٢٢١ والفهرست ص ٧١ ـ ٧٢ ومعجم الأدباء ج ١٦ / ٢٥٤ ـ ٢٦١ ونزهة الألباء ص ١٣٦ ـ ١٤١ والنهاية في غريب الحديث ج ١ / ٦. وكذلك في المراجع الأجنبيّة التالية :

Brocketmann : Geschischte der Arabischen Litteratur) Gal (Leiden. ١٦٦ lS, ١٠٧ lg. ١٩٤٣ Eroycopedie de l\'Isalm : Abu Ubayd) parH. L. Gottschalk (N. E. ١٦٢ ـ ١٦١. pp ١ T ١٩٦٠.

Gerard Lecomte : Le probteme d\'Abu Ubaydd.

Reffexions sur les erreurs que lui attribue lbn qutayba, in Arabica Tl Xll Fevrier ١٩٦٥ pp ١٧٤ ـ ١٤٠

(٢) عرّفها ياقوت في معجم البلدان ج ٨ / ٤٥١ بقوله : «هراة بالفتح مدينة عظيمة ومشهورة من أمهات مدن خراسان خرّبها التتار سنة ٦١٨».

(٣) يورد البغدادي في شأنه ج ١٢ / ٤٠٣ الخبر التالي : «يحكي أن والد أبي عبيد خرج ذات يوم وابنه مع ابن مولاهُ في الكتّاب فلّما أتى المعلم قال له : علّمي القاسم فإنها كيّسة. ولعلّه أراد أن يقول علّم القاسم فإنه حسن الفعل والأدب».

١٣

نشأ أبو عبيد في هراة وبها تعلم (٤) إلى أن بلغ سن العشرين ، فدعاه حبّه للعلم وشغفه بالمعرفة إلى الخروج من هراة ، فتحوّل سنة ١٧٩ ه‍ / ٧٩٥ م إلى كلّ من الكوفة والبصرة وبغداد ، وقد سمع عن فقهائها ونحاتها ومفسّريها الشيء الكثير. فكان حريصا على ملازمة المحدّثين والرواة ، كلفا بعلوم القرآن والقراءات ، دائم الاتّصال باللغويّين والنحاة. ولئن اختلفت مذاهب شيوخه وتنوّعت ، وتعدّدت مناهجهم وتباينت ، فقد ظلّ أبو عبيد وفيًّا لهم جميعا يأخذ عن هذا الفريق وذاك ، ويجلس إلى دروسهم بانتظام كوفيّين وبصريّين على السواء ، همّه الوحيد الجمع والتحصيل والرسوخ في العلم (٥).

ورجع إلى هراة مسقط رأسه بعد رحلة طويلة مكنته من جمع أصناف من العلم وتأليف الكثير من الكتب في اللغة والفقه والحديث وعلوم القرآن والقراءات. ولقد عمل بها مؤدّبا في أسرتين من خراسان ، ثم سُمّي قاضيا على مدينة طرطوس (٦) سنة ١٩٢ ه‍ / ٨٠٧ م ، وظلّ في هذا المنصب ثمانية عشر عاما انتقل اثرها إلى بغداد قصد الإقامة بها. ولم يمض وقت طويل حتّى تعرّف على عبد الله بن طاهر (٧) أمير خراسان فقرّبه وأصبح وليّ نعمته. وقام أبو عبيد بفريضة الحجّ سنة ٢١٩ ه‍ / ٨٣٤ م ، وأقام بمكّة إلى أن توفّي (٨) سنة ٢٢٤ ه‍ / ٨٣٨ م وقد بلغ من العمر سبعا وستين سنة.

__________________

(٤) المراجع ضنينة بالأخبار عن المرحلة الأولى من حياة أبي عبيد التي قضاها بهراة قبل انتقاله إلى بغداد ولا نعلم شيئا ذا بال عن نوع الثقافة التي تلّقاها في صباه بهراة.

(٥) يقول الذهبي في «التذكرة» عن أبي عبيد بعد أن اكتمل تكوينه (ج ٢ / ٦): «وكان أبو عبيد حافظا للحديث وعلله عارفا بالفقه والاختلاف ، رأسا في اللّغة ، إماما في القراءات».

(٦) «طرسوس بفتح أوله وثانيه مدينة بثغور الشام بين أنطاكية وحلب وبلاد الروم. أنشئت سنة نيّف وتسعين ومائة» ياقوت : معجم البلدان ج ٦ / ٣٨.

(٧) واسمه عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب الخزاعي بالولاء ، أمير خراسان ومن أشهر الولاة في العصر العباسي توفي سنة ٢٣٠ ه‍. ترجم له ابن خلكان في الوفيات ج ١ / ٢٦ وقال : «كان عبد الله سيّدا نبيلا عالي الهمّة شهما».

(٨) كلّ المراجع التي بين أيدينا متّفقة على مكان وفاة أبي عبيد ، وهو مكّة ما عدا برو كلمان فقد كان متردّدا في مكان وفاته بين مكة والمدينة. ونورد فيما يلي خبرا لياقوت في المعجم ج ١٦ / ٢٥٦ يبيّن ـ

١٤

الغريب المصنّف :

ذكر ابن النديم (٩) لأبي عبيد نيّفا وعشرين كتابا لا يزال أغلبها مخطوطا. لعلّ أبقاها أثرا وأكثرها ذكرا كتبه الثلاثة في فنّ الغريب وهي : غريب القرآن ، وغريب الحديث ، والغريب المصنّف. ولا يخفى ما لهذه الكتب من دور في تطوير فنّ المعجمية عامّة والمعجمية القائمة على الغريب الحوشي بصفة خاصّة. وقد أجمع الدارسون قدامى ومحدثين على صحّة عنواني الكتابين الأوّلين ، واختلفوا في عنوان الكتاب الثالث الذي نحن بصدد تقديمه. فقد ذُكرت له عناوين ثلاثة هي : الغريب المصنّف ، وغريب المصنّف ، والغريب المؤلّف.

وسنورد فيما يلي هذه العناوين كما وردت في المؤلّفات التي اعتمدناها في التعريف بأبي عبيد ، وسنقارن بعضها ببعض لِنَخْلُصَ فيما بعد إلى ضبط اسم الكتاب الصحيح.

١) الغريب المصنف :

جاء في نسخة المكتبة الوطنية التي رقمها ١٥٧٢٨ ، ورقة ٣٠٥ ظ : «آخر كتاب الغريب المصنّف عن أبي عبيد وصلّى الله على محمّد وآله أجمعين».

وجاء في نفس النسخة ورقة ٣٠٦ ظ :

__________________

ـ بوضوح أن أبا عبيد أقام بمكة وبها توفي يقول : «بعد أن قضى أبو عبيد حجّه وأراد الانصراف واكترى إلى العراق ليخرج صبيحة غد قال أبو عبيد : رأيت النبي صلى الله عليه وسلّم في النوم وهو جالس على فراشه وقوم يحجبونه والنّاس يدخلون إليه ويسلّمون عليه ويصافحونه. قال : فكلّما دنوت لأدخل مع النّاس منعت فقلت لهم : لِمَ لا تخلّون بيني وبين رسول الله فقالوا : إي والله لا تدخل عليه ولا تسلّم وأنت خارج غدا إلى العراق. فقلت لهم : فإنّي لا أخرج غدا. فأخذوا عهدي وخلوا بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت وسلّمت وصافحت ، فأصبحت ففسخت الكراء وسكنت بمكة».

(٩) الفهرست ص ٧١.

١٥

«قال أبو عبيد : أنا في تأليف كتاب الغريب يعني المصنّف منذ خمسون (كذا) سنة».

وجاء في نسخة المكتبة الوطنية التي رقمها ١٥٣٦٥ ورقة ٢٦٤ و :

«آخر كتاب الغريب المصنّف عن أبي عبيد رحمة الله تعالى عليه».

وورد في نسخة أمبروزيانا الإيطالية التي رقمها ١٣٩ ورقة ٢١١ : «تمّ كتاب الغريب المصنّف بحمد الله ومنّه والصلاة على النبي وآله. في جمادى الأول (كذا) سنة أربع وثمانين وثلاثمائة رحم الله كَاتِبَهُ وغفر له».

وجاء في «بغية الوعاة» للسيوطي ج ٢ / ٢٥٣ :

«وله من التصانيف الغريب المصنّف».

٢) غريب المصنّف :

ورد في نسخة المكتبة الوطنية التي رقمها ١٥٧٢٨ ورقة ٣٠٦ ظ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أخبرنا الشيخ أبو سعد عبد الرحمان بن محمّد بن دوست أدام الله عزّه قال : أخبرنا الأستاذ أبو جعفر الأصرمي عن أبي منصور الأزهري عن أبي الفضل المنذري عن شمّر قال : سمعت غريب المصنّف لأبي عبيد من المشعري ...».

وورد في النسخة الإيطالية ورقة ١ ظ :

«كتاب غريب المصنّف تأليف أبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله.

وجاء في «تاريخ بغداد» للبغدادي ، ج ١٢ / ٤٠٥ :

١٦

«فدفع إليه «أي عبد الله بن طاهر» ألف دينار وقال : أنا متوجّه إلى خراسان إلى حرب وليس أحبّ استصحابك شفقا عليك فأنفقْ هذا إلى أنْ أعود إليك فألّف أبو عبيد غريب المصنّف».

وقال ياقوت في «معجم الأدباء» ج ١٦ / ٢٥٥ :

«عملت (المقصود به : أبو عبيد) كتاب غريب المصنّف في ثلاثين سنة».

وقال كحّالة في «معجم المؤلفين» ج ٨ / ١٠٢ :

«من تصانيفه غريب المصنّف».

٣) الغريب المؤلّف :

ورد في النسخة ١٥٧٢٨ ورقة ٣٠٦ ظ :

«وعن أبي الفضل المنذري قال : سمعت محمد بن وهب البغدادي أبا جعفر المشعري يقول : بدأ أبو عبيد في الغريب المؤلّف وفي غريب الحديث يمليهما إملاء عند قدومه من المصيصة ...».

وذُكِرَ في كتاب الأزهري : «تهذيب اللغة» ١ / ١٩ ما يلي :

«وله من المصنّفات الغريب المؤلّف».

يتبيّن من عناوين الكتاب الثلاثة أنّ أكثرها شيوعا هو الغريب المصنّف ، ويأتي في مرتبة ثانية غريب المصنّف ، ويمكن إلحاق العنوان الثالث الغريب المؤلّف الوارد عند الأزهري والمشعري بالعنوان الأوّل إذ لا فرق بين المصنّف والمؤلّف.

فالمتأكّد هو أنّ أبا عبيد قد ألّف كتابا كاملا في الغريب لا في سواه وأودعه حصيلة علمه ومعارفه. فالغريب هو الذي قد صنّفه أبو عبيد وبوبّه ورتبّه في موضوعات ومسائل كما يدلّ على ذلك محتوى الكتاب ، وهذا

١٧

ما لا يمكن أن يفيده الإسم الثاني : غريب المصنّف ، فأبو عبيد لم يؤلّف كتابا اسمه «المصنّف» ليستخرج منه فيما بعد الغريب الحوشي ويصنع منه كتابا ثانيا بعنوان غريب المصنّف. ولعلّ هذا الخلط في العناوين قد ساهم فيه النسّاخ بدرجة أولى ثم بعض اللغويّين الذين كثيرا ما كانوا يستشهدون بكتب أبي عبيد الثلاثة في الغريب فقالوا : غريب القرآن وغريب الحديث وزادوا إليها غريبا ثالثا فقالوا : غريب المصنّف. إلّا أنّ القرآن معلوم لا ثاني له ، ومصدره واحد ، وكذلك الحديث فهو معلوم ومصدره واحد وهو الرسول عليه الصلاة والسّلام ، بينما المصنّف مصنّفات لا تدخل تحت حصر ولا عدّ. فإذا جاز أن نقول غريب القرآن وغريب الحديث فلا يجوز أن نقول غريب المصنّف لأنّ القرآن معلوم والحديث معلوم بينما المصنّف مجهول. وعلى العكس من ذلك فلا يصحّ أن يقال الغريب القرآن أو الغريب الحديث ، وإلّا كان القرآن كلّه غريبا حوشيا ، وكانت الأحاديث النبويّة كذلك وهذا ما لا يمكن أن يكون.

فاسم الكتاب الصحيح في نظرنا هو الغريب المصنّف أو الغريب المؤلّف ، لأن جميع أبوابه في الغريب ، والإسم الأوّل أكثر تواترا من الإسم الثاني.

تاريخ التأليف :

ذكر البغدادي (١٠) الخبر التالي :

«كان عبد الله بن طاهر بن الحسين حين مضى إلى خراسان نزل بمرو يطلب رجلا فيحدّثه ليله فقيل : ما ها هنا إلّا رجل مؤدّب. فأدخل عليه أبو عبيد القاسم بن سلام فوجده أعلم الناس بأيّام الناس والنحو واللغة والفقه فقال له : من المظالم تركك أنت بهذا البلد. فدفع إليه ألف دينار وقال : أنا متوجّه إلى خراسان إلى حرب وليس أحبّ استصحابك شفقا عليك فأنفق

__________________

(١٠) تاريخ بغداد ج ١٢ / ٤٠٥.

١٨

هذه إلى أن أعود إليك. فألّف أبو عبيد غريب المصنّف إلى أن عاد طاهر ابن الحسين من خراسان».

يوهم كلام البغدادي بأنّ أبا عبيد قد ألّف كتابه «الغريب المصنّف» خصيّصا لعبد الله بن طاهر جزاء صنيعه معه أي حوالي سنة ٢١٠ ه‍ وهي السنة التي اتّصل به فيها. ولا يمكن في اعتقادنا أن يكون إحسان ابن طاهر إلى أبي عبيد دافعا له لتأليف الكتاب ، كما أنّه لا يمكن القول بأنّ أبا عبيد بدأ تأليف الغريب بعد سنة ٢١٠ ه‍ وذلك للأسباب التالية :

١) كنّا ذكرنا في بدء حديثنا عن هذا الكتاب أنّ أبا عبيد كان يقول : «كنت في تصنيف هذا الكتاب أربعين سنة» وقيل ثلاثين وقيل خمسين. وستكون وفاة أبي عبيد مُجْمَعًا عليها سنة ٢٢٤ ه‍. فإذا فرضنا أنّ الكتاب لم يظهر إلّا هذه السنة وهو بمكّة لا بخراسان وبعث بالغريب المصنف إلى ابن طاهر يكون قد بقي في تأليفه أربع عشرة سنة أي أقلّ من نصف المدّة التي زعم أبو عبيد أنّه قضاها في تأليفه.

٢) سبق أن ذكرنا أيضا أنّ أبا عبيد لم يتعرّف على عبد الله بن طاهر بن الحسين الذي سيصبح فيما بعد وليّ نعمته إلّا سنة ٢١٠ ه‍ / ٨٢٦ م وسيغادره قاصدا مكة للحجّ والإقامة بها سنة ٢١٩ ه‍ / ٨٣٤ م. فلم يمكث إذن أبو عبيد عند ابن طاهر إلّا تسع سنوات ، فلا يمكن أن يكون التأليف بإيعاز من ابن طاهر أمير خراسان ولا أيضا في هذه الحقبة القصيرة وهو القائل :

«كنت في تأليفه أربعين سنة». وما ذكره البغدادي من أنّ التأليف تمّ أثناء غياب الأمير مدعاة للشكّ ولا يمكن الأخذ به. على أنّا نرجّح أنّ أبا عبيد كان بصدد الانتهاء من التأليف عندما اتّصل بابن طاهر ولعلّه أهداه مؤلّفه بعد رجوعه من خراسان على عادة الكثير من الكتّاب مع أولياء النعم. ولا يخفى علينا أنّ ابن طاهر كان ـ إلى حين ـ وليّ نعمة أبي عبيد وأغدق عليه من ماله ألف دينار.

١٩

٣) جاء في معجم الأدباء (١١) على لسان أبي عبيد ما نصّه :

«عملت كتاب غريب المصنف في ثلاثين سنة ، وجئت به إلى عبد الله بن طاهر فأمر لي بألف دينار».

نتبيّن ممّا ذكرنا أنّ تأليف «الغريب المصنّف» قد سبق تاريخ الاتّصال بابن طاهر. وإنّا نذهب إلى أنّ أبا عبيد قد بدأ في التأليف بعد أن انتقل إلى كلّ من الكوفة والبصرة وبغداد سنة ١٧٩ ه‍ وتعرّف على جِلّة علمائها ، وانتهى من ذلك سنة ٢١٠ ه‍ تاريخ اتصاله بعبد الله بن طاهر. وهذه المدّة الزمنية هي تقريبا الثلاثون سنة التي أشار إليها أبو عبيد وذكرتها المراجع.

مخطوطات الكتاب :

للكتاب عدة نسخ موزّعة على بعض مكتبات العالم ، رجعنا إلى ثلاث منها نعتقد أنّها الأقدم والأكمل والأكثر ضبطًا :

أ) نسخة المكتبة الوطنية بتونس ، وقد رمزنا إليها بالحرف ت ١ ، تحمل رقما قديمًا هو ٣٩٣٩ عوّض برقم جديد هو ١٥٧٢٨.

خطّها : أندلسي.

مقاسها : ٢٢ سم* ١٧ سم.

مسطرتها : ١٩.

ورقاتها : ٣٠٧.

تبدأ هذه النسخة بقوله : «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، باب تسمية خلق الانسان ونعوته ، قال : أخبرنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال : سمعت أبا عمرو الشيباني يقول : الأنوف يقال لها المخاطم».

__________________

(١١) ياقوت : معجم الأدباء ج ١٦ / ٢٥٥.

٢٠