نفحات القرآن - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-99-7
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٨

عَمَلاً وَلكِنْ أصْوَبُكُمْ عَمَلاً» (١).

سادساً : إنّ الأفعال الإلهيّة هادفة ويصطلح عليها بأنّها «معللة بالاغراض» ، على خلاف مايراه المغفَّلون من أنّ أفعال الله غير هادفة.

سابعاً : ومن أجل احتمال أن يشعر الإنسان بالوحدة والعجز في ساحة الاختبار العظيمة ، أو أن يُهيمن عليه اليأس بسبب العثرات وصف الله نفسه في ذيل الآية بالعزيز الغفور وذلك للقضاء على هذه المخاوف ، فالآية تقول للإنسان : إنّك لست وحيداً ، فلا تخف من رهبة الاختبار ، وليكن قلبك مع الله ، فإنّ عثرت فالجأْ إلى عفو الله وغفرانه.

* * *

٨ و ٩ ـ مقدمات الموت وسكراته

يستفاد من مضامين آيات القرآن أَنّ الموت تصاحبُهُ شدائد ومخاوف محيّرة ، لذا قال تعالى في الآية الثامنة من آيات البحث : (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ) فيقال للإنسان في هذه الاثناء : (ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ).

وكلمة «سَكْرَة» مأخوذة من مادة «سُكر» وهي ـ على حدّ قول اللغويين ـ حالة تَحُولُ بين الإنسان وعقله ، وغالباً ما تستخدم في موارد شرب الخمر ، وقد استخدمت تارةً في الحالات الناجمة عن شدّة الغضب أو الحالات الناجمة عن شدّة الحبّ الملتهب.

ولكن جاء في «مقاييس اللغة» إنّ الأصل في هذه المادة بمعنى «الحيرة». كما فسّرها آخرون ب «الشدّة» ، والظاهر هو أنّ جميع هذه المعاني تعود إلى معنىً واحد وإن كانت التعبيرات مختلفة.

إنّ ظهور حالة تشبه حالة السُكر عند الإحتضار إمّا أن تكون بسبب طبيعة الانتقال من عالم إلى عالم آخر مجهول من جهات مختلفة ، كما هو الحال في حالة الاضطراب عند المولود عندما ينتقل من عالم الجنين إلى عالم الدنيا ، وإمّا أنْ يكون بسبب أجواء ما بعد

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٦ ، (باب الإخلاص) ح ٤.

٣٤١

الموت ومواجهة تتائج الأعمال والخوف من العاقبة ، وإمّا أن يكون بسبب فراق الدنيا والأقارب والامور التي تعلق قلبه بها.

ويستفاد من الروايات أنّ الأنبياء والالهيين الذين لم تتعلق قلوبهم بحب الدنيا ولم يخافوا العاقبة ، والذين يمتازون بطمأنينة متميّزة بسبب ذلك ، إنّ هؤلاء أيضاً لهم نصيب من هذه المعضلات والشدائد التي تنزل في هذه اللحظة ، كما جاء في ذكر حالات النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه عند آخر لحظات عمره المبارك ، كان يضع يده في إناءٍ فيه ماء ويمسح بيده على وجهه ويقول «لا اله إلّاالله» ، ثم يقول : «إنّ للموتِ سكرات» (١).

وَرُوِي عن على عليه‌السلام أيضاً أنّه قال : «إنّ للموت غَمَراتٍ هي أفظع من أن تستغرِق بصفةٍ أو تعتدل على عقول أهل الدنيا» (٢).

ولو وضعنا كل هذا في جهة ، فمن جهة اخرى يستفاد من الآيات أمرٌ آخر أيضاً وهو أنّ انفصال الروح عن الجسد يتّم بصورة تدريجية ، وهذا «بنفسه يزيد من الهلع» ، فإنْ كان الانفصال فورياً ويتم خلال لحظة واحدة لكان تحمّله أسهل.

وقد جاء في الآية التاسعة من آيات البحث قوله تعالى : (كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ* وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ* وَظَنَّ أَنَّهُ الفِرَاقُ* وَالتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ* إِلَى رَبِّكَ يَومَئذٍ الْمَسَاقُ).

وجاء نفس هذا المعنى في قوله تعالى : (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ* وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ). (الواقعة / ٨٣ ـ ٨٤)

و «تراقى» : جمع «ترقوة» وهي العظام التي تحيط بأطراف الرقبة ، ووصول الروح إلى الحلقوم هو كناية عن اللحظات الأخيرة من العمر ، ويحتمل توقف الأعضاء البعيدة عن القلب والمخ عند انفصال الروح قبل الأعضاء الاخرى.

وجملة «التفت الساق بالساق» من المحتمل أن تكون للدلالة على ما ذُكر (ففي تفسير مجمع البيان جعل توقف السيقان عن العمل من أحد تفاسير هذه الجملة).

__________________

(١) تفسير روح البيان ، ج ٩ ، ص ١١٨.

(٢) غرر الحكم.

٣٤٢

هذا بالإضافة إلى أنّ وصول الروح الحلقوم هو تعبير آخر عن هذا المعنى ، ومن البديهي أنَّ جهاز التنفس يقف عن العمل عندما تصل الروح الحلقوم ، وعندما يقف جهاز التنفس عن العمل يسبب فقدان الاوكسجين والاختناق ووقوف المخ عن العمل.

ففي هذه اللحظات يضطرب الحاضرون عند المحتضر ويصيبهم الجزع والفزع ، ويبذلون قصارى جهدهم لإعادة الروح ، إلّاأنّ مساعيهم تذهب هباءً ، وبعد لحظات ينقطع المحتضر عن هذه الدنيا إلى الأبد ، فيستقرّ جسده جانباً وكأنّه لم يكن واحداً من أهل هذه الدنيا.

والعجيب هو أنّ العبور من هذه المراحل التي تطول مدّتها تارةً وتمرّ بسرعة تارةً اخرى هو امرٌ حتميّ يعمّ الجميع ، فالملوك والجبابرة الظلمة سوف يموتون ، كما سوف يموت المستضعفون والمظلومون كذلك ، بل تكون لحظات الموت بالنسبة للجبابرة والظلمة أشدّ ألماً ، وذلك لأنّ فراق الاموال والمناصب التي بذلوا أعمارهم للحصول عليها يكون صعبا وغضّ النظر عنها بالنسبة للذين تعلقت قلوبهم بالدنيا المادية أمرٌ عسير.

* * *

١٠ ـ تمنّى العودة والإصلاح

بعد اجتياز لحظات الموت ، وبعد فراق الدنيا عندما تفتح العيون في البرزخ ويشاهد الإنسان بعض الأسرار التي كانت محتجبة خلف ستار الغيب ، ويرى نتائج أعماله بأمّ عينيه ويرى خُلُوَّ يديهِ من الحسنات وتراكُمَ الذنوبِ الثقيلةِ يُثقِلُ كاهِلهُ ، فإنّه يندم بشدّه على ما فعل في الماضي ويفكّر في إصلاح ما اقترفه ، هنا يلتفت إلى الملائكة الذين قبضوا روحه ويتوسّل إلى الله ـ كما جاء في الآية العاشرة من آيات البحث ـ ويضج بالعويل ويطلب من الله العودة إلى دار الدنيا ، قال تعالى : (حَتّى اذَا جَاءَ احَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّى اعْمَلُ صَالِحاً فِيَما تَرَكْتُ).

لكن السنن الإلهيّة لا تسمح لأحدٍ بهذا ، فلا الصالحون يتمكنون من العودة لإضافة

٣٤٣

الصالحات إلى أعمالهم ، ولا المسيئون يمكنهم العودة للتوبة والإصلاح ، لذا يجاب عن هذا الطلب بحزم ويقال له : (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هَوُ قَائِلُهَا).

إنّ جميع المجرمين عندما يقعون بقبضة المُقتَصِّ يتوسلون بمثل هذه الأساليب ، ولكن غالباً ما يعودون إلى تكرار أعمالهم فور ارتفاع أمواج البلاء عنهم.

وممّا يجلب الإنتباه هنا هو أنّ المخاطب في كلمة «ربِّ» ، هو الذات المقدّسة الإلهيّة ، لكن المخاطب في «ارجعون» جاء بصيغة الجمع.

يرى المفسرون : أنّ هذا إِمّا من أجل التعظيم لمقام الحق تعالى ، وإمّا أن يكون المخاطب في الواقع هم الملائكة الذين يأتون أفواجاً لقبض الأرواح.

كما أنّ هذا المعنى محتمل أيضاً وهو أنّهم يتوسلون بساحة اللطف الإلهي أولاً ، ثم يلتفتون إلى الملائكة يطلبون منهم العودة (١).

وجاء ما يشابه هذا المعنى أيضاً في قوله تعالى : (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّنْ قَبْلِ انْ يَأْتِىَ احَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلَا اخَّرتَنِى الَى اجَلٍ قَريبٍ فَاصَّدَّقَ وَاكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ). (المنافقون / ١٠)

وقد اجيبوا هنا بجواب سلبي أيضاً في ذيل الآية ، وبصورة اخرى : قال تعالى : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً اذَا جَاءَ اجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). (المنافقون / ١١)

كما يستفاد من الآية ٢٨ من سورة الأنعام أيضاً أنّ المجرمين يتحدّثون بهذا الحديث عندما يعرضون على جهنّم ، وبما أنّ ذلك خارج عن موضوع البحث فإننا نعرض عن ذكره هنا.

* * *

ثمرة البحث :

إِتضحت بجلاء وجهة نظر القرآن الكريم في مسألة الموت من أبعادها المختلفة ، من

__________________

(١) واحتمل صاحب تفسير الميزان هذا الاحتمال أيضاً وهو أنّ ضمير الجمع يدل على الجمع في الفعل لا على الجمع في الفاعل ، فكانّ المحتضر يريد أن يقول «إرجع ، ارجع» عدّة مرات فيأتي بكلمة ارجعوا بدلاً عن التكرار. (تفسير الميزان ج ١٥ ، ص ٧١) ولكن من البديهي لو جاز هذا في اللغة لكان قليلاً جدّاً.

٣٤٤

مجموع ما جاء في الآيات والعناوين العشرة المذكورة.

وممّا يجدر بالالتفات هو أنّ القرآن سلّط الاضواء في جميع هذه الموارد على الآثار التربوية منها ، وذلك لأنّ القرآن كتابٌ تربوي كامل ، فهو يعني بالجانب التربوي عند ذكر اصول وفروع الدين ، والمسائل الاجتماعية والتاريخية وغيرها ، أي أنّه يطرح الواقع بكلّ وضوح ويستخدمه للسيطرة على النفس الجموح ، في الدعوة نحو التقوى والورع وسلوك الطريق المؤدي إلى مرضاة الله بظرافة ودّقة ، فما أجمل وألطف ظرافة ودقّة القرآن في جميع هذه المجالات!

١ ـ الموت هو مدخل عالم البقاء

إنّ ما جاء في البحوث المذكورة آنفاً مُعَزَّزاً بالآيات القرآنية ، غالباً ما يستدلّ عليه بالطرق المنطقية الصالحة للاستدلال (باستثناء ما يرتبط بالعوالم الغيبية التي لا نمتلك طريقاً للوصول إليها ، فقد رفع القرآن الستار عنها).

إنّ ممّا لا شك فيه هو أنّ نظرة الإلهيين والمؤمنين إلى المعاد والموت تختلف عن نظرة الماديين والمنكرين للمعاد اختلاف السماء عن الأرض ، وهذان المنظاران هما اللذان يؤثران في حياة الأفراد والمجتمعات البشرية ، ويميزان هذين الفريقين عن بعضهما.

فالماديون يعتبرون الموت عالماً مظلماً ومعتماً جدّاً .. عالماً ينتهي معه كل شيء ، وتختتم به جميع آمال ومساعي وجهود البشر ، وَعلى هذا الأساس فإنّه ليس من العجب أن يخاف الإنسان المادي من الموت وينتابه الوهن ، وتتبدل لديه حلاوة تلك التصورات عن الحياة إلى ما هو أكثر مرارةً من السم.

وليس من العجيب أن لا يقدموا على الإيثار والتضحية وإذا أقدموا على عملٍ كهذا فبتأثير ضغوط من قبل الآخرين أو بتأثير الضغوط الاجتماعية ، وذلك لأنّه لا يوجد بعد الإيثار شيء يحل محلّه ، أو بتعبير آخر إنّ الإيثار سوف لا يكون الهدف الأساسي لهؤلاء.

وليس من العجيب أن يعدّ هؤلاء الحياة أمراً تافهاً خالياً من المحتوى ، وذلك لأنّ الموت

٣٤٥

إنْ كان نهاية لكل شيء فإنّ الحياة الدنيا والتي هي عبارة عن تكرار مجموعة من الأعمال الدنيئة ، كالأكل والنوم والكسب والاستهلاك لا يمكن أن تعتبر «هدفاً سامياً» لإرواء الروح الإنسانية ، لذا فإنّ أفراداً يقدمون على الانتحار ويعتبرون ذلك اختياراً صحيحاً لانهاء هذا «التكرار والمكررات التافهة»! فهم يعتبرون ذلك عين العقل والمنطق ، ويعتبرون استمرار حياتهم حماقة وذلّة وبلادة!

بينما يرى الإلهييون الذين يؤمنون بالمعاد ، الموت أشبه ما يكون بتولّد الجنين من بطن امّه.

فالجنين يموت في الواقع ، أي فقد الحياة في بطن الأم ، لكنّه بعد الولادة يضع قدمه في عالم أوسع وأفسح ، وإذا ما قيس بالمحيط الضيق والمظلم في بطن الأم ، الذي يعدُ عالماً مملوءً بالنعم والجمال.

فالموت هو ولادة اخرى أيضاً ، والإنسان بواسطة الموت يخرج من محيط هذه الحياة الضيق إلى عالم أكثر اتساعاً.

ومن البديهي هو أنّ الجنين لو كان يعلم اين سيضع قدمه بعد الولادة لظل يعدّ اللحظات للخروج ، ولما خاف أبداً من ذلك اليوم ، ولما عد حياةَ الأجنّةِ حياةً تافهة ، ولما عزّ عليه الإيثار في سبيل الخروج.

وقصارى القول إنّ نظرة الإنسان للموت باعتباره «باباً ينفذ منه إلى عالم البقاء» تغيّر لون حياته وتمنحها لوناً جديداً وتعطيها مفهوماً يسكن إليه القلب وتخرجه من الحيرة والكآبة والشعور بالتفاهة واللاهدفية التي تقصم آلامها الظهر.

* * *

٢ ـ لماذا نخاف الموت؟

اتّضح ممّا قلناه آنفاً : أنّ الخوف من الموت لا معنى له بالنسبة لمن يؤمن بالمعاد ، ويستثنى من ذلك من كانت صحيفة أعماله سوداء ومظلمة ، الذين يخافون العقوبات الإلهيّة

٣٤٦

التي سوف يُبْتَلَوْنَ بها في الدار الآخرة ، وبتعبير آخر : إنّ من يخاف الموت هم ثلاث فرق :

الفرقة الاولى : وهم من يعتبرون الموت أمراً يساوي الفناء والعدم ، فالعدم مرعب ، والفقر والمرض والضعف والعجز هي من عوامل الرعب ،؟ لأنّها بمعنى عدم الثروة وعدم السلامة وعدم التمكّن وعدم القدرة ، فالإنسان هو من سنخ الوجود ، والوجود يأنس بالوجود كما يأنس الحديد بالمغناطيس ، لكنّه لا يسانخ العدم ولا يأنس به ، فما عليه إلّاأن يهرب منه.

لكننا إذا اعتبرنا الموت سُلَّماً للصعود إلى «وجودٍ أرقى» وكنّا نعتبر العالم الذي يلي الموت لا يقاس بهذا العالم من جهة السّعة والنعيم ، وكنّا نعدّ الدنيا سجناً والموت بمثابة التحرر من هذا السجن ، وإذا شبّهنا الحياة بالقفص بالنسبة إلى طائر والموت بانفتاح هذا القفص وتحليق الطائر ، فسوف لن يصبح الموت أمراً مرعباً ، بل سوف يكون في بعض الموارد محبوباً ومستساغاً ، قال أحد الحكماء :

مُتْ أيها الحكيمُ واقلع عن مثل هذه

الحياة فإنّك إن مُتَّ فسوف تخلد

فيسافر طائر روحك إلى العُلا

عندما تحررها من أسرِ الطمع

وقال شاعر آخر :

انني طائر جنّة الملكوت ، ولستُ من عالم التراب

لقد صنعوا من جسمي قفصاً قصير الامد

إنّ أسعد الأيّام هو ذلك اليوم الذي أطير به نحو الحبيب

فترفّ جناحايَ بأمل الوصول إلى دياره

وأخيراً يستقبل شاعر آخر الموت بصدرٍ رحب ، فيدعوه إليه قائلاً :

إن كان الموت إنساناً لقلت له أقبل إليّ

لأضّمه إلى صدري بشوق شديد

كما أحصل منه على روحٍ خالدة

ويحصل منّي على جنَّةٍ خلقة

٣٤٧

ومن الواضح هو أنّ تصوراً كهذا عن مسألة الموت يطرد الخوف والهلع عن الإنسان ، كما أننا لا نقول إنّه ينتحر ، لأنّ هذه الحياة هي وسيلة لجمع رأسمال أكثر ولكسب الزاد وتهيئة الراحلة للإعداد للسفر نحو ذلك العالم ، بل نقول : إنّه يبسط جناحيه عندما ينفصل منها ، ويذهب إلى استقبال شيٍ يمدّه بحياة جديدة بكل شهامة وشجاعة.

الفرقة الثانية : وهم الذين يؤمنون بالحياة بعد الموت لا يعتبرون الموت فناءً وعدماً أبداً ، لكنهم بسبب اسوداد صحائفهم يهربون من الموت ، لخوفهم من العقوبات التي ستحل بهم بعده ، والتي اعدّت لهم في المحشر ، فهم يهربون منها كما يهرب المجرمون الذين يتمنون دائماً تأجيل يوم المحاكمة ، والبقاء في السجن من دون محاكمة!

ومن حق هؤلاء أيضاً أن يخافوا من الموت ، فالخلاص من السجن بنفسه أمرٌ حسن ، ولكنّه ليس كذلك بالنسبة لمن يخرجُ من السجن إلى خشبة الاعدام.

الفرقة الثالثة : وما يجدر بالالتفات أيضاً هو أنّ حبّ الدنيا والتعلّق بها والحبّ الشديد للمال والمنصب والمظاهر الاخرى ، تجعل الإنسان يخاف الموت .. الموت الذي يُخرج جميع هذه الامور من قبضته.

أمّا بالنسبة لِمنْ لا يعتبرون الموت فناءً ولم تسودّ صحائف أعمالهم ، ولم تربطهم بالدنيا المادية جميع العلائق ، فلا داعي لأن يخاف هؤلاء الموت حتّى لو كان بأقّل درجات الخوف.

* * *

٣ ـ أسباب الخوف من الموت في نظر الروايات

ذكرت الروايات في مجال الخوف من الموت والفزع منه مسائل لطيفة أيضاً وهذه المسائل تتّسم بالاسلوب التربوي ، وهي كما يلي :

١ ـ سأل رجلٌ الإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام فقال : يا ابن رسول الله! ما بالُنا نكره الموت ولا نحبٌّهُ؟ فقال عليه‌السلام : «إِنّكُم أخربتُم آخرتكم وعمرّتم دنياكم ، وأنتم تكرهون النَّقلة من

٣٤٨

العمران إلى الخراب» (١).

٢ ـ قال الإمام الصادق عليه‌السلام : جاء رجلٌ إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وسأل : مالي لا احبُّ الموت؟ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :«أَلَكَ مالٌ؟» فقال الرجل : بلى ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فقدّمته؟» فقال الرجل كلّا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فمن ثمَّ لا تحبٌّ الموت» (٢).

٣ ـ وجاء في رواية اخرى عن الإمام الهادي عليه‌السلام (علي بن محمد) أنّه ذهب لعيادة أحد أصحابه فوجده يطيل البكاء ويتضجّر من الموت ، فقال له الإمام عليه‌السلام : «يا عبد الله تخافُ مِنَ الموت لأنّك لا تعرفه ، ثمّ شبّه الإمام عليه‌السلام الموت بحمّامٍ نظيف يدخله الإنسان الوسخ فيغتسل ، ويلقي جميع همومه وآلامه فيعمّه السرور والفرح» (٣).

٤ ـ قال الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام : «لمّا اشتدَّ الأمرُ بالحسين بن علي بن أبي طالب ... كان الحسين وبعضُ من معه تُشْرِقُ ألوانهم وتهدأ جوارحهم وتسكن نفوسُهُم ، فقال بعضهم لبعضٍ : انظروا إليه أنّ لا يبالي بالموت» (٤)!

إنّ هذه الأحاديث التي وردت في بيان أسباب الخوف من الموت ، بدرجة من الوضوح بقدر الكفاية ولا نرى هناك ضرورة لشرحها.

* * *

__________________

(١) بحارالأنوار ، ج ٦ ، ص ١٢٠ ، ح ١٨.

(٢) المصدر السابق ٩.

(٣) معاني الإخبار ، ص ٢٩٠ ، ح ٩ (باب في معنى الموت).

(٤) المصدر السابق ، ح ٣.

٣٤٩
٣٥٠

٢ ـ البرزخ

تمهيد :

«البرزخ» : هو الشيء الحائل بين شيئين ، ثم توسّع هذا المعنى ، واطلق على كلّ ما يحول بين الشيئين أو بين المرحلتين (١).

والمراد من «البرزخ» هنا هو العالم الذي يتوسط بين الدنيا وعالم الآخرة ، أي أنّ الروح بعد انفصالها عن الجسم وقبل عودتها إليه ثانيةً يوم القيامة سوف تبقى في عالم يتوسط العالمين ويطلق عليه اسم البرزخ.

والأدلة الرئيسية التي يمكن بواسطتها إثبات وجود عالم البرزخ هي الأدلة النقلية (الآيات والروايات) وإنْ كان بالإمكان إثبات هذه المسألة بالسبل العقلية أو الحسيّة (عن طريق احضار الروح) أيضاً.

وبالرغم من عدم تعرّض القرآن بكثرة لذكر مسألة البرزخ ومروره عليها مرّ الكرام ، إلّا أنّه في نفس الوقت له تصريحات وتعابير واضحة في هذا المجال وردت خلال آيات متعددة ، والتي يمكنها أن تبيّن لنا القوانين العامّة المتعلقة بعالم البرزخ.

بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن لنمعن خاشعين في الآيات الواردة في هذا المجال :

١ ـ (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّى اعْمَلُ صَالِحاً فِيَما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ). (المؤمنون / ٩٩ ـ ١٠٠)

__________________

(١) جاء في الآية ٢٠ من سورة الرحمن حول البحر الذي يضم ماءً عذباً وماءً أجاجاً في آن واحد : بينهما برزخٌ لا يبغيان.

٣٥١

٢ ـ (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوْا فِي سَبِيلَ اللهِ امْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ). (آل عمران / ١٦٩ ـ ١٧٠)

٣ ـ (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللهِ امْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلكِنْ لَاتَشْعُرُونَ). (البقرة / ١٥٤)

٤ ـ (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِّياً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ادْخِلُوْا آلَ فِرْعَوْنَ اشَدَّ الْعَذَابِ* وَإذْ يَتَحَاجٌّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ). (المؤمن / ٤٦ ـ ٤٧)

٥ ـ (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ اغْرِقُوْا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوْا لَهُمْ مِّنْ دُونِ اللهِ أَنْصَاراً). (نوح / ٢٥)

٦ ـ (قِيْلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِىِ يَعْلَمُونَ* بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ). (يس / ٢٦ ـ ٢٧)

٧ ـ (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الُمجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ). (الروم / ٥٥)

٨ ـ (قَالُوْا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيتَنَا اثْنَتَينِ فَاْعتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّنْ سَبِيلٍ). (المؤمن / ١١)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

ماهية البرزخ وخصوصياته :

تحدثت الآية الاولى عن وضع الكفّار والظلمة والمجرمين ، قال تعالى : (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّى اعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ) ، ولكنّه سرعان ما يواجه بجواب سلبي مدعوم بالأدلة والبراهين فيقال له : (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا) ثم

٣٥٢

يضاف إلى الجواب : (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).

فبداية الآية تشير إلى المنزل الأول أي «الموت» وذيلها يشير إلى المنزل الثاني أي «البرزخ».

وبالرغم من اصرار البعض على تفسيرهم البرزخ هنا بمعنى الحائل الذي يحول بين الإنسان ودرجات الجنّة العُليا ، إلّاأنّ جملة «إلى يوم يبعثون» تعتبر قرينة واضحة ، على أنّ عالم البرزخ هو مرحلة تسبق يوم القيامة ، وتقع بعد الموت.

كما فسّر البعض البرزخ أنّه بمعنى المانع الذّي يحول بين الإنسان والعودة إلى الدنيا ، لكنّ هذا المعنى أيضاً لا يتلاءم مع ذيل الآية وهو التصريح ببقاء هذا البرزخ إلى يوم القيامة ، وبهذا أثبتت الآية المذكورة بوضوح وجود عالم يتوسط بين الدنيا والآخرة.

وكلمة «وراء» تأتي أحياناً بمعنى «الخلف» وأحياناً اخرى بمعنى «الأمام» ، وذلك لأنّ هذه الكلمة من مادة (ورى) على وزن «سعى» وهي بمعنى الاخفاء ، فمن يقف إلى أحد جانبي الجدار مثلاً يعدّ الطرف الآخر الذي يخفى عليه «وراء» بالنسبة له ، بناء على هذا فالإنسان في أيّ جهة كان من الجدار يعدّ الطرف المقابل له «وراء» بالنسبة له (١).

جاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «اتخوَّف عليكم من البرزخ». (٢)

فسأله الراوي : ما البرزخ؟

فقال عليه‌السلام : «القبرُ منذ حينَ موتهِ إلى يوم القيامة» (٣).

وجاء في حديث آخر عن الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ القبر روضةٌ من رياض الجنّة ، أو حفرةٌ من حُفَر النيران» (٤).

* * *

__________________

(١) مفردات الراغب ، مادة (ورى).

(٢) منازل الآخرة ، ص ١٦١.

(٣) تفسير البرهان ، ج ٣ ، ص ١٢٠ ، ح ٢ و ١.

(٤) المصدر السابق.

٣٥٣

وفي الآية الثالثة توجّه تعالى بالخطاب إلى جميع المؤمنين وقال بوضوح : (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ في سَبِيلِ اللهِ امْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلكِنْ لَاتَشْعُرُونَ).

فكلا هاتين الآيتين هما من الأدلة الواضحة على وجود عالم البرزخ (وإن كان الحديث يقتصر على ذكر الشهداء) ، وذلك لأنّهما تحدثتا عن حياة الشهداء بل حتى عن رزقهم واستقرارهم عند ربّهم.

والعجيب هو أنّ بعض المفسرين ومن دون أن يلتفتوا إلى العبارات الواردة في الآيات اللاحقة لها والتي تتحدّث جميعها عن حياة الشهداء (الحياة بالمعنى الواقعي لهذه الكلمة) حملوا الحياة هنا على معناها المجازي ، مثل بقاء أسمائهم وآثارهم ، أو بقاء هدايتهم وطاعتهم ومذهبهم ، أو بعثهم من القبور واحيائهم يوم القيامة!

فهل غفلوا عن وصف القرآن لهم بأنّهم عند ربّهم؟

أم غفلوا عن إرزاقهم؟

أم غفلوا عن وصفهم فرحين بما آتاهم الله من فضله ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟

فكيف تتلائم جميع هذه التعابير مع المعنى المجازي؟

هذا بالإضافة إلى قوله تعالى : بل احياءٌ ولكن لا تشعرون ، فإنْ كان معنى الحياة هو بقاء الاسم والمنصب والهداية والمذهب فإنّ هذه الامور قابلة للإدراك.

والظاهر هو أنّ هؤلاء المفسرين لم يتمكّنوا من إدراك حياة البرزخ بدقّة ، فتوسّلوا بالخرافات بعد ما غابت عنهم الحقيقة ، لكنّ الرازي صرّح في تفسيره بالقول : إنّ أكثر المفسرين على أنّ الحياة هنا هي الحياة الواقعية (١).

وعلى الرغم من ذكر المرحوم الطبرسي في مجمع البيان لاربعة تفاسير للآية ، إلّاأنّه رجّح التفسير الأول الذّي فسّر الحياة في هذه الآية بالحياة الحقيقية ، واعتبره هو الصحيح من بينها (٢).

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ٤ ، ص ١٣٥.

(٢) تفسير مجمع البيان ، ج ١ و ٢ ، ص ٢٣٦.

٣٥٤

وهناك روايات كثيرة في هذا المجال طبعاً سوف نُشير إليها لاحقاً ـ إن شاءالله ـ.

ومن العجائب الاخرى هو ما نُقل في تفسير «الميزان» عن بعض المفسرين الّذين اعتبروا الآية مختصة بـ «شهداء بدر» وادّعوا بأنّها لا تشمل جميع الشهداء! (يجب الالتفات إلى أنّ المفسرين صرّحوا بأنّ الآية الاولى نزلت في شهداء احُد والثانية في شهداء بدر (١) ، ولكن على أيّة حال فإنّ أسباب النزول لا تحّد من مفهوم الآيات مهما كان المورد ، فالآية إذن تشمل جميع الشهداء بصورة مطلقة).

وما يلفت الانتباه هو أنّ المرحوم العلّامة الطباطبائي بعد أن نقل هذا التفسير أضاف : «إنّ بعض المفسرين فسّروا الآية السابقة لهذه الآية (أي الآية ١٥٣ من سورة البقرة) الّتي تأمر بالاستعانة بالصبر» (٢).

ولكن على أيّة حال فإنّ الآية تحدّثت عن الشهداء فقط ، إلّاأنّها لم تنفِ غيرهم ، من هنا يطرح هذا السؤال وهو : إن كانت حياة البرزخ تعمّ جميع البشر فما هو فضل الشهداء على الآخرين؟!

والجواب على هذا السؤال واضح ، وهو أَنّ فضلهم على غيرهم هو في كيفية حياتهم .. الحياة في جوار رحمة الله والتنعّم بأنواع النعم والرزق الإلهي ، لكنّ حياة البرزخ للآخرين لا تشتمل على هذه البركات طبعاً.

* * *

أمّا الآية الرابعة فهي في الواقع تمثّل النقطة المقابلة لما جاء في آيات الشهداء ، وذلك لأنها تتحدّث عن عذاب «آل فرعون» في البرزخ ، قال تعالى : (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ) ، ثم يُبيّن ماهية هذا العذاب بقوله : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِّياً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ادْخِلُوْا آلَ فِرْعَوْنَ اشَدَّ الْعَذَابِ) ، ومِنَ الواضح هو إنَّ النّار التي ذُكرت في

__________________

(١) وقال البعض أيضاً : إنّ الآية المتعلقة بسورة آل عمران نزلت في شهداء بدر بينما نزلت الآية المتعلقة بسورةالبقرة في شهداء بدر واحد معاً.

(٢) تفسير الميزان ، ج ١ ، ص ٣٥٢.

٣٥٥

الآية وَالتي يُعرض عليها آل فرعون صباحاً ومساءً هي نار البرزخ ، وذلك لأنّ ذيل الآية تحدّث عن عذابهم يوم القيامة بصورة مستقلة ، لذا فقد فسّر أغلب المفسرين هذه الآية بأنّها تشير إلى عالم البرزخ وعذاب القبر.

ومن الجدير بالالتفات هو أنَّ الآية عندما تحدّثت عن عذاب البرزخ لآل فرعون قالت : (النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِّياً) ، لكنها عندما تحدثت عن عذابهم في الآخرة قالت : (ادْخِلُوْا آلَ فِرْعَوْنَ اشَدَّ الْعَذَابِ).

ويستفاد من اختلاف هذين التعبيرين (العرض والادخال) بأنّ المراد من النار هي نفس نار البرزخ ، إلّاأنّهم في البرزخ يشاهدونها عن بُعد فيعمّ القلق والهم وجودهم ، لكنهم يشاهدونها يوم القيامة عن قرب بواسطة الدخول فيها ، فهذه العقوبات تحلّ بهم في البرزخ صباحاً ومساءً ، بينما تكون مستمرة ومن دون انقطاع في يوم القيامة.

وقد رُوِيَ عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا المجال ما يؤيد هذا المعنى بكلّ وضوح ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنَّ أَحَدَكُمْ إذا ماتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ فانْ كانَ مِنْ أهْلِ الْجَنَّةِ ، فَمِنْ الجَنَّةِ وَإنْ كانَ مِنْ أهْلِ النارِ فَمِنَ النّارِ ، يُقالُ هذا مَقْعَدُكَ حِيْنَ يَبْعَثُكَ اللهُ يَوْمَ القِيامَةِ» (١).

ويستفاد من هذه الروايات أنّ الأمر لا يختصّ بآل فرعون ، بل يشمل الجميع.

وهل يعذب أو ينعّم أهل البرزخ عن طريق المشاهدة لجهنم أو الجنّة فقط؟ أم يكون لهذين تأثيرٌ مادّيٌ عليهم أيضاً؟ كما لو مرّ الإنسان بالقرب من حفرة من النّار فإنّ النار تحرق وجهه ، أو إذا مرّ بالقرب من بستان عامرة خضراء فيدبّ النشاط فيه أثر نسيمها المنعش العطر ، أم يثاب أو يعاقب بكلا الوجهين؟ (الروحي والجسمي ، والمراد هنا هو الجسم المثالي طبعاً).

الاحتمال الثالث أقوى. (فتأمّل).

كما يجدر الالتفات إلى هذه المسألة أيضاً وهي أنّ ظاهر الآية يدل على أنّ آل فرعون يعرضون على النار ، لكن بعض المفسرين قالوا : إِنّ هذا كناية عن عكس ذلك الأمر ، أي أنّ

__________________

(١) رُوِيَ هذا الحديث في مجمع البيان ، ج ٧ و ٨ ، ص ٦ عن صحيح البخاري ومسلم في تفسير ذيل الآية مورد البحث.

٣٥٦

النار هي التي تعرض عليهم ، كما هو الحال في «عرضتُ الناقة على الحوض» المراد منه عرض الماء على الناقة. (وما جاء في الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يؤيّد هذا المعنى أيضاً ، وذلك لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إذا ماتَ عُرضَ عليه مقعُدهُ من الجنّة أو من النار بالغداة والعشيّ».

* * *

وتحدّثت الآية الخامسة عن «مؤمن إل يس» (الرجل المؤمن الذّي ورد ذكر قصته في سورة «يس» ، فقد نهض هذه الرجل لدعم رُسُل المسيح عليه‌السلام الذين بعثوا إلى مدينة «انطاكية» ودعا الناس ونصحهم باتباع هؤلاء الرُسُل ، لكن هؤلاء القوم المعاندين الفّجار لم يكتفوا بعدم الاكتراث بنصحه فحسب ، بل ثاروا عليه وقتلوه). قال تعالى : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ* بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ).

ومن الواضح هو أنّ هذه الجنّة ليست هي جنّة القيامة ، بل هي جنّة البرزخ ، لأنّ مؤمن إل يس تمنّى هنا لو كان قومه الذين هم في هذه الدنيا يعلمون بعاقبته ، ويعلمون بما غفر له ربّه وجعله من المكرمين!

قال المرحوم الطبرسي في «مجمع البيان» : «إنّ هذه الآية تشير إلى نَعِم القبر (البرزخ) ، لأنّ مؤمن إل يس قال هذا عندما كان قومه احياءً ، فإذا امكننا تصوّر وجود النعيم في القبر ، فإنّ تصوّر العذاب سوف يكون ممكناً أيضاً» (١).

وجاء في كثير من التفاسير أن هذا الرجل المؤمن يدعى بـ «حبيب النّجار» والسبب في اطلاق «مؤمن إل يس» عليه في بعض الروايات (٢) فالظاهر هو لأنّهُ كان رجلاً مؤمناً بالإضافة إلى ذكره في سورة «يس» ، لذا قال البعض : إِنّ «إل» هنا زائدة والمراد هو «مؤمن يس» (٣).

* * *

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٧ و ٨ ، ص ٤٢١.

(٢) تفسير الميزان ، ج ١٧ ، ص ٧٦ نقلاً عن تفسير در المنثور.

(٣) تفسير روح الجنان ، ج ٩ ، ص ٢٧٠ (تعليقة المرحوم العلّامة الشعراني).

٣٥٧

والآية السادسة تصف وضع المجرمين يوم القيامة ، قال تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الُمجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ) ، ثم يضيف : (كَذلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ).

وعلى الرغم من أنّ هذه الآية لم تتحدث عن محل اللبث ، إلّاأنّ الآية اللاحقة أشارت إلى أنّ المراد من محل اللبث هو البرزخ ، لأنها تقول : (وَقَالَ الَّذِينَ اوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فىِ كِتَابِ اللهِ إِلَى يَوْمِ البَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ البَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ).

وهذا التعبير يشير إلى أنّ مكث هؤلاء يطول أمده إلى يوم القيامة ، ولا يصح هذا إلّافي البرزخ.

وقد انتخب هذا التفسير عدد كبير من المفسرين الكبار ، وهو أنّ الآية تشير إلى حياة البرزخ ، لكنّ البعض الآخر يرون أنّ الآية تشير إلى اللبث الحاصل في الدنيا ، الذي يراه المجرم قصيراً جدّاً كانصرام ساعة ، وادّعى بعضهم بأنّ هذه الآية تدل على هذا المطلب ، وهو ما جاء في قوله تعالى : (كَانَّهُّمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلّا عَشِيَّةً اوْ ضُحَاهَا)! (النازعات / ٤٦)

لكن لا يوجد في هذه الآية أيّ دليل واضح على أنّ المراد من اللبث هو اللبث في الدنيا ، بل يحتمل أيضاً دلالتها على أنّ اللبث هو في عالم البرزخ.

وإذا تجاوزنا ذلك فإنّنا لا يمكننا أن نفسّر الآية إلّابدلالتها على «البرزخ» ، وذلك بالاستناد إلى ما ذكرته الآية من أنّ يوم القيامة هو اليوم الذي ينتهي فيه اللبث.

وهنا يطرح هذا السؤال نفسه وهو : لماذا يُعدّ هؤلاء الزمان الطويل لعالم البرزخ قصيراً وقليلاً؟

ويتضح الجواب على هذا السؤال من خلال ذكر مقدمة ، وهي : عندما يُوعد الإنسان بوعد جميل وشيّق ، فإنّ نار الشوق للوصول إلى تلك اللحظة سوف تستعر في قلبه ، فتمر الساعات والدقائق عليه ببطءٍ شديد ، فتمرّ عليه الساعة كأنّها أيّام أو سنين ، وعلى العكس من ذلك عندما يتوعّد العقاب الشديد فإنّه يودّ لو تتوقف عجلات الزمان ، لكنْ تمرُّ عليه الأيّام والشهور بسرعة في نظره وكأنّها لحظات أو دقائق لا أكثر ، وهذا هو حال المجرمين يوم القيامة!

٣٥٨

وبالرغم من أنّ العذاب الإلهي لا يتخطّاهم في عالم البرزخ ، لكن اين عذاب البرزخ من عذاب يوم القيامة؟!

ويوجد احتمال آخر أيضاً وهو أن يعتبر البرزخ كالنوم بالنسبة للبعض بعد ابتداء عذاب القبر ، ومن البديهي أن لا يعلم هؤلاء مقدار مدّة لبثهم عندما تقوم القيامة ، التي هي بمنزلة النهوض من النوم.

وبما أنّ جميع الحقائق لا تنكشف أسرارها للإنسان في البرزخ ، فلا عجب من خفاء هذه الامور عليهم ، لكنّه مِنَ الطبيعي أن تنكشف أسرار الحقائق بجلاء يوم القيامة الذي هو «يوم البروز».

* * *

وفي الآية السابعة من آيات البحث جاء ما يرد على لسان الكفار عند مثولهم بين يدي الله يوم القيامة ، قال تعالى : (قَالُوْا رَبَّنَا امَتَّنَا اثْنَتَينِ وأَحْيَيتَنَا اثْنَتَينِ فَاْعتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّنْ سَبِيلٍ).

تدل هذه الآية على وجود عالم البرزخ من جهة أنّ تصوّر إماتَتَيْنِ وإحياءَيْنِ غيرُ ممكنٍ ، إلّا إذا سلّمنا بوجود عالم البرزخ ، وهما الموت في هذه الدنيا ثم حياة البرزخ ثم الحياة في عالم الآخرة.

وهذا من أجل أنّ جميع البشر وحتّى الملائكة والجِنّ وأرواح الأموات التي هي على هيئة أجسام مثالية في عالم البرزخ يموتون جميعاً عند انتهاء هذا العالم ، أي عند نفخ الصور بمقتضى قوله تعالى : (فَصَعِقَ مَنْ في السَّمَاوَاتِ وَمَنْ في الأَرْضِ). (الزمر / ٦٨)

ولا يبقى حىٌّ موجوداً في ذلك اليوم سوى الله تعالى ، إذن ، هناك موت بعد حياة البرزخ أيضاً.

وأمّا حياة عالم الدنيا فهي خارجة عن المراد ، وذلك لأنّ الآية الشريفة تحدثت عن حياتين بعد الموت ، لا عن حياة الدنيا بعد الموت.

٣٥٩

لكن البعض احتمل أن يكون المراد من الموت الأول هو ما قبل وجود الإنسان في الدنيا ، أي عندما كان تراباً ، بناءً على هذا الاحتمال سوف تكون الحياة الدنيا هي الحياة الاولى أيضاً ، والموت الثاني هو الموت الحاصل عند انتهاء هذا العالم ، والحياة الثانية هي حياة يوم القيامة ، فيكون هذا شبيه ما جاء في قوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). (البقرة / ٢٨)

لكنّه من الواضح هو أنّ التعبير بـ «الموت الأول» على هذا التفسير يكون صحيحاً ، إلّاأنّ التعبير بـ «الإماته» غير صحيح ، وبتعبير آخر فإنّ الإنسان عندما كان تراباً فهو ميّت لا أنّ الله اماته ، لأنّ الإماتة يجب أن تكون بعد الحياة ، بناءً على هذا لا ينطبق تعبير الآية إلّاعلى التفسير الأول (أي على وجود عالم البرزخ) ، إلّاإذا اعتبرنا الإماتة جاءت هنا بمعناها المجازي ، لكن هذا لا يجوز عند غياب القرينة.

كما استدل بعض المفسرين بهذه الآية على حياة القبر أيضاً .. تلك الحياة التي تنتهي بعد مدّة وجيزة بالموت (وفي الواقع أنّ هذه الحياة هي أيضاً من أنواع الحياة المؤقتة في البرزخ).

وهناك كلام بين العلماء في كيفية الحياة في القبر ، فهل هي حياة بالجسم المادّي أم بالجسم المثالي في عالم البرزخ؟ أم بجسم خليط من المادة والمثال؟ وسوف نتحدّث لاحقاً عن هذا الموضوع بإذن الله.

ثمرة البحث :

اتّضح إلى حدٍ كبير من خلال الآيات السبع المذكورة وجهة نظر القرآن المجيد حول عالم البرزخ (العالم الذي توسّط بين هذه الدنيا وعالم الآخرة).

ولو فرضنا وجود الخلاف في بعض هذه الآيات ، فإنّ وضوح البعض الآخر منها (كالآيات الاولى) سوف لن يبقي أيَّ مجالٍ للشك والترديد.

هذا بالإضافة إلى أنّ استعمال «التوفّي» (قبض الأرواح) في الموت في آيات متعددة من

٣٦٠