آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها

محمد بن محمد الفارابي [ أبي نصر الفارابي ]

آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها

المؤلف:

محمد بن محمد الفارابي [ أبي نصر الفارابي ]


المحقق: الدكتور علي بو محلم
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ١٦٨

١
٢

٣
٤

مقدمة

يعتبر كتاب «آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها» أهم مؤلفات الفارابي لسببين : أولا لأنه يمثل مرحلة النضج من حياته الفكرية ، إذ ألفه في شيخوخته وأودعه خلاصة ما انتهى إليه من نظرات وتأملات فلسفية. وثانيا : لأنه شامل يحتوي على مختلف نواحي فلسفته الميتافيزيقية والطبيعية والنفسية والاجتماعية والسياسية والخلقية.

ونظرا لتداخل هذه النواحي يمكن أن ندرسها وندرجها تحت العناوين التالية : الله ، العالم ، النفس ، الأخلاق ، الاجتماعات المدنية.

١ ـ الله :

يعرفه الفارابي بأنه الموجود الأول والسبب الأول لوجود سائر الموجودات ، كما عرفه أرسطو من قبل. ولا يهتم بذكر الأدلة على وجوده ، بل ينصرف إلى الكلام على صفاته باسهاب منطلقا من التحديد الذي أعطاه إياه.

تلك الصفات هي الكمال ، والسرمدية ، والوجود بالفعل ، وعدم وجود علة مادية أو صورية أو غائية أو فاعلية له ، وعدم وجود شبيه أو ضد له ، وعدم إمكان حده ، عدا الوحدانية والعلم والحكمة والحياة والحقيقة.

٥

ويؤكد الفارابي على أن الله لا يعلم سوى ذاته كما قال أرسطو ، وهذا يعني أنه لا يعلم ما يجري في العالم. ونحن لا نستطيع أن نعلمه لشدة كماله وعظمته من جهة ، ولضعف عقولنا وملابستها المادة من جهة ثانية.

والله جميل ، ولا يعني جماله سوى كماله. وهو مغتبط ملتذ لأن الغبطة واللذة تحصلان من إدراك الجمال ، والله يدرك ذاته فيغتبط ويلتذ بهذا الإدراك.

والأسماء التي نسبغها على الله يجب أن تدل على كماله وليس على كمالاتنا نحن. إن أسماء الأشياء تدل على ماهياتها في ذاتها أو على ماهياتها بالإضافة إلى غيرها.

٢ ـ العالم :

يتبنى الفارابي نظرية الفيض الأفلوطينية فيقول إن وجود الموجودات لازم بالضرورة عن وجود الله ، وإن ذلك الوجود يتم بالفيض والله لا يبتغي أية غاية من إيجاد العالم ، ولا يحتاج الى آلة يستعين بها في عملية خلق العالم ، ولا يقف في وجهه عائق يحول بينه وبين ما شاء.

تبدأ الموجودات الصادرة عنه بأكملها وجودا ثم يتلوه ما هو أنقص منه قليلا ، ويستمر الصدور حتى تنقطع الموجودات عن الوجود. وهي ترتبط ببعضها البعض ارتباطا تصير معه الأشياء كلها جملة واحدة. وما ترتبط به سواء كانت جواهرها أو تابعا لجواهرها مستفاد من الله.

يفيض عن الله ، أو العقل الأول ، العقل الثاني ، وهو جوهر غير متجسم وليس في مادة ، يعقل الله فيلزم عنه عقل ثالث مثله ، ويعقل ذاته فيلزم عنه وجود السماء الأولى.

والعقل الثالث يعقل الله ويعقل ذاته ، فيلزم عن ذلك وجود العقل الرابع والسماء الأولى.

وتمضي العملية على هذا النحو حتى تنتهي الى العقل الحادي عشر الذي يدعوه العقل الفعال والى كوكب القمر وهو الكوكب التاسع بعد السماء الأولى ،

٦

والكواكب الثابتة أو زحل ، والمشتري ، والمريخ ، والشمس ، والزهرة ، وعطارد.

وعند العقل الحادي عشر أو العقل الفعال ، والكوكب التاسع أو القمر الذي يقابله ، تنتهي سلسلة الموجودات السماوية عقولا وأجساما ، وتبدأ الموجودات الأرضية.

هذه الموجودات الأرضية تبدأ على عكس السماوية بأقلها كمالا وهي المادة الأولى المشتركة لجميعها أو الهيولى ، وتترقى في الكمال إلى الاسطقسات الأربعة أي التراب والماء والنار والهواء ، فالمعادن ، فالنبات ، فالحيوان ، فالإنسان أكمل الموجودات الأرضية. وجميع هذه الموجودات تتركب من جوهرين هما المادة والصورة كما ذهب أرسطو ، وهي تنتقل من القوة الى الفعل على خلاف السماوية التي لا توجد الا بالفعل ، وهي عرضة للكون والفساد على عكس السماوية التي لا يعروها الفساد أبدا. وهو يعني الوجود بالقوة المادة التي لم تتخذ صورة الشيء ، ويعني الوجود بالفعل الشيء الحاصل من اتحاد الصورة بالمادة.

ويفهم من كلام الفارابي أن الموجودات الأرضية تلزم عن الموجودات السماوية. فالمادة الأولى المشتركة تلزم عن الطبيعة المشتركة للسماوية ، والصور المتضادة للأجسام الأرضية تلزم عن تضاد نسب السماوية وإضافاتها ، ووجود أجسام كثيرة مختلفة الجواهر على الأرض يلزم عن اختلاف جواهر السماوية. وتبدل الصور المتضادة على المادة الأولى أو الهيولى يلزم عن تبدل متضادات النسب وتعاقبها على الموجودات السماوية ... الخ.

ويمضي الفارابي في مقارنة الأجسام السماوية والأجسام الأرضية فيرى أن السماوية تشبه الأرضية الهيولانية لأنها تتركب مثلها من مادة وصورة. وصورتها عقل بالفعل. بيد أن الجسم السماوي أفضل من الأرضي بشكله الكروي ، وبكيفياته الضوئية ، وبحركته الدورية وبوجوده بالفعل منذ الأزل.

والأجسام السماوية تفارق الثواني في أنها متحركة ، والحركة دليل نقص. وحركات الأجسام السماوية تختلف في السرعة والاتجاه والطبيعة.

٧

٣ ـ النفس :

لم يعن الفارابي في كتابه هذا بتحديد النفس ، ولا بإثبات وجودها ، وإنما اهتم بالكلام على قواها الخمس التي ذكرها أرسطو من قبل أي الغاذية والحاسة والمتخيلة والنزوعية والناطقة.

الغاذية يرأسها القلب وتخدمها رواضع هي الكبد والمعدة والطحال والمرارة والكليتان والمثانة.

والحاسة يرأسها القلب أيضا وتخدمها رواضع هي الحواس الخمس : العينان والأذنان والأنف واللسان والجلد. وهي تمد القلب بأخبار العالم الخارجي ، كما يمد رجال المخابرات الملك بأخبار مملكته.

والمتخيلة مركزها القلب كذلك ولكن لا رواضع لها. وهي تحفظ صور المحسوسات بعد غيبتها عن الحس ، وتركب منها تركيبات جديدة مختلفة.

والناطقة كالمتخيلة ليس لها رواضع ومركزها القلب ، ولكنها ترأس القوى الغاذية والحاسة والمتخيلة.

أما النزوعية فهي التي تعرف بالارادة. والارادة هي نزوع إلى الشيء الذي أدركناه بالحس أو المتخيلة أو الناطقة وحكم بأخذه أو تركه أو في عمله أو علمه. والأعضاء المنفذة لما تقرره الارادة هي الأعصاب والعضلات واليدان والرجلان وسائر أعضاء الحركة ، هذا إذا كان الأمر فعلا. أما إذا كان ما تنزع إليه علما بشيء ما ، فإن القوة الناطقة هي التي تتولى التنفيذ وذلك بإعمال الفكر والتأمل والاستنباط.

وإذا كان ما نريده شيئا غير موجود بادرت المتخيلة تصور الشيء الذي يرجى ويتوقع أو تصور الماضي ، أو تركب الشيء الذي نتمناه. وهكذا تعتبر سائر القوى خادمة للنزوعية.

٨

وقوى النفس متراتبة بعضها أشرف من بعض؛ أدناها الغاذية وأشرف منها الحاسة فالمتخيلة فالناطقة. أما النزوعية فتابعة لها جميعا. والدنيا شبه مادة للعليا ، والعليا شبه صورة للدنيا.

وكذلك الحال في أعضاء الجسم ، إنها متراتبة أعلاها القلب وأدنى منه بقليل الدماغ فالكبد فالطحال فأعضاء التوليد.

والقلب مركز جميع قوى النفس ، وينبوع الروح الحيوانية أو الحرارة الغريزية. وبذا يميز الفارابي بين الروح والنفس.

والدماغ يعدل الحرارة الغريزية ، وينقل الاحساسات التي في الخارج بواسطة الحواس الخمس والأعصاب الى أعضاء الحركة. وهو يخدم القلب عند ما يفكر ويتخيل ويحفظ ويتذكر ، بأن يعدل حرارته. ومن هنا اقتضت الحكمة أن تكون مغارز الأعصاب في الدماغ وليس في القلب.

أما القوة المولدة فمركزها القلب أيضا وخدمها أعضاء التوليد عند كل من الذكر والأنثى. والمرأة تعطي مادة الجنين وهي دم الرحم ، والرجل يعطي صورة الجنين الموجودة في المني ، والمني يتكون في عروق الأنثيين ويصب في الرحم ويمنح الدم صورة الجنين. وأول ما يتكون في الجنين القلب ، واذا حصلت في الجنين ، عند تكون الغاذية ، القوة التي تعد مادة الجنين كان الجنين أنثى ، واذا حصلت فيه القوة التي تعطي الصورة جاء الجنين ذكرا.

والمرأة والرجل لا يختلفان إلا بأعضاء التوليد ، وفي كون الرجل أقوى جسما وأقسى قلبا. وهما يشتركان في قوى النفس وفي سائر الأعضاء ، ولا يوجد فرق بينهما في قوى الاحساس أو التخيل أو العقل.

ويولي الفارابي القوة الناطقة والقوة المتخيلة أهمية قصوى ، فبهما تتم المعرفة ، وعلى المتخيلة تعتمد الأحلام والنبوة.

فالناطقة تتلقى رسوم المعقولات ، والمعقولات تكون بالقوة كالعقول المفارقة ، أو بالفعل كالأجسام الطبيعية ، والعقل البشري هو «هيئة ما في مادة

٩

معدة لأن تقبل رسوم المعقولات ، فهي عقل بالقوة ، أو عقل هيولاني» وهي لا تصير عقلا بالفعل من تلقاء نفسها ، بل تحتاج إلى شيء ينقلها من القوة إلى الفعل هو العقل الفعال ، وتصير عقلا بالفعل عند ما تحصل فيها المعقولات.

والعقل الفعال جوهر مفارق للمادة موجود في فلك القمر ، وهو آخر العقول الثواني ، ويحتل المرتبة الحادية عشرة بعد العقل الأول أو الله. وهو الذي يجعل العقل الهيولاني الانساني عقلا بالفعل ، ويجعل المعقولات ، التي هي معقولات بالقوة ، معقولات بالفعل.

إنه يمنح القوة الناطقة شيئا منزلته منزلة الضوء في البصر ، وحينئذ تحصل في القوة الناطقة المعقولات الأول المشتركة عند جميع الناس مثل الكل أعظم من الجزء ، والكميتان المساويتان لكمية ثالثة متساويتان.

ويتحول العقل بالفعل إلى عقل مستفاد اذا حصل على المعقولات جميعا. وهكذا يميز الفارابي ثلاثة أنواع من العقل عند الانسان هي العقل الهيولاني أو بالقوة ، والعقل بالفعل ، والعقل المستفاد.

والعقل المستفاد يتصل بالعقل الفعال ويتلقى منه المعرفة.

أما المتخيلة فتضطلع بثلاث مهام هي حفظ رسوم المحسوسات ، وتركيبها بعضها الى بعض ، والمحاكاة.

وتعني المحاكاة تمثيل ما لدى القوى الأخرى بما يشابهها من صور المحسوسات المحفوظة عندها ، ذلك أن المتخيلة لا تقبل الأشياء الوافدة اليها من تلك القوى كما هي ، بل تحاكيها بالمحسوسات المخزونة فيها. وهي تفعل ذلك عند ما تنعتق من سلطان الحاسة والناطقة أثناء النوم فتحدث الأحلام.

انها تحاكي مزاج البدن. فإذا كان مزاجه رطبا حاكت المخيلة تلك الرطوبة بتركيب المحسوسات المحاكية للرطوبة مثل المياه والسباحة فيرى النائم أنه يسبح ويرى مجرى ماء أو بركة ماء ... الخ.

وهي تحاكي المحسوسات الخارجية المحيطة بالنائم بالمحسوسات المختزنة لديها.

١٠

وتحاكي ما في القوة النزوعية من انفعالات وشهوات بأفعال جسدية كالنكاح والصراخ والضرب والهرب.

وتحاكي المعقولات التي حصلت في القوة الناطقة مثل الله والملائكة والسماء بأحس المحسوسات وأكملها وأجملها.

وكما قدم الفارابي تفسيرا للأحلام قدم أيضا تفسيرا للنبوة ، فقال إنه باستطاعة المتخيلة إذا بلغت شأوا عاليا من القوة والكمال أن تتخلص من ربقة الحاسة والناطقة والنزوعية ، وأن تنطلق للاتصال بالعقل الفعال ، وتلقي الجزئيات والمعقولات منه أثناء اليقظة دون روية. وتحاكي ما يعطيه إياها العقل الفعال بما يشبهه من رسوم المحسوسات المرئية المختزنة عندها.

وتنتقل هذه الرسوم إلى الحاسة المشتركة ثم إلى القوة الباصرة أو العين فترتسم في الهواء ، وبعدئذ يعود ما ارتسم في الهواء فيرتسم في العين وينعكس من ثم إلى الحس المشترك ، وينتقل إلى المتخيلة.

فاذا كان ما يعطيه العقل الفعال للمتخيلة معقولات شريفة وكانت تمثيلاتها في المتخيلة في نهاية الجمال والكمال قال الذي يراها إن له نبوة بالأشياء الإلهية. وهذه هي أسمى المراتب التي تبلغها المتخيلة وهي رتبة الأنبياء.

والناس يتفاوتون في قوة متخيلتهم وقدرتها على قبول ما يفيض عليها من العقل الفعال. فمنهم من يرى هذا في نومه ، ومنهم من يراها في يقظته ، ومنهم من يرى الجزئيات دون المعقولات ، ومنهم من يرى المعقولات دون الجزئيات.

وقد تفسد المتخيلة أو تمرض فتركب أشياء ليس لها وجود أبدا ، وليست محاكاة لموجود ، كما هو الحال عند الممرورين والمجانين.

٤ ـ الأخلاق :

يعرج الفارابي على الأخلاق ولا يتوقف عندها طويلا بعد أن يحدد مبادئها من ارادة وسعادة وخير وشر وفضيلة ورذيلة باقتضاب شديد.

١١

وهو يميز تمييزا دقيقا بين الارادة والاختيار ، فالارادة هي نزوع إلى ما ندركه عن الاحساس والتخيل ، أما الاختيار فهو نزوع عما ندركه عن روية ونطق.

أما السعادة فهي الخير المطلوب لذاته ، وليس وراءه خير أسمى منه وأبعد منه ، وهي الغاية التي ينشدها كل إنسان ونحصل عليها بالمعرفة أو باستكمال عقلنا بالمعقولات كما قال أرسطو. ففي هذا الاستكمال تغدو النفس بريئة من المادة ، كما نحصل عليها بأفعال إرادية محدودة وجميلة تدعى الفضائل.

والفضائل ليست سوى خيرات جزئية تمهد لبلوغ الخير الأعلى أو السعادة.

أما الشر فهو كل عمل يعوق عن السعادة ، إنه الفعل القبيح. وتدعى الهيئات والملكات التي تصدر عنها الأفعال الشريرة الرذائل والخسائس.

وتتحقق السعادة اذا أدركت بالعقل ، وتشوفت بالقوة النزوعية ، وفعل ما ينبغي أن يفعل بآلات النزوعية.

٥ ـ الاجتماعات المدنية :

خصص الفارابي النصف الثاني من كتابه لبحث الناحية الاجتماعية. وهو يذهب الى أن أساس الاجتماع الحاجة الفطرية. ذلك أن المرء لا يستطيع أن يوفر لنفسه بمفرده حاجاته العديدة الى المأكل والملبس والمأوى والأمن ... الخ ، فيضطر الى التعاون مع جماعة من بني جلدته لتأمين ذلك فينشأ المجتمع الذي يتألف من أفراد عديدين.

وهو يقسم الاجتماعات الى فئتين : اجتماعات كاملة واجتماعات ناقصة. ويقسم الكاملة الى ثلاثة : عظمى ووسطى وصغرى. فالعظمى تشمل جميع سكان الأرض ، والوسطى تشمل الأمة ، والصغرى تشمل المدينة ، أما الناقصة فهي القرية التي تتبع المدينة ، والناحية (قسم من المدينة) ، والسكة (قسم من الناحية) ، والمنزل (قسم من السكة).

١٢

وهو يعتبر المدينة أصغر اجتماع يمكن أن يوفر السعادة لأفراده والمدينة الفاضلة هي التي يتعاون أهلها لنيل السعادة ، وكذلك الأمة والمعمورة. فالأمة الفاضلة هي التي يتعاون أهلها لنيل السعادة ، والمعمورة الفاضلة هي التي يتعاون أهلها لنيل السعادة.

ويشبه الفارابي المدينة الفاضلة بالبدن التام الصحيح ، فهي تتركب مثله من أجزاء مختلفة الفطر متفاوتة الهيئات ، فيها رئيس وطبقات تتدرج في الأهمية والشرف.

ولكنه يميز بين المدينة والبدن في أن أعضاء البدن طبيعية وتعمل بشكل طبيعي ، بينما أجزاء المدينة ، وان كانوا طبيعيين ، يعملون بالملكات الارادية أو الصناعات.

ويتكلم الفارابي باسهاب على رئيس المدينة الفاضلة ، فيراه أكمل أجزاء المدينة كالقلب في البدن ، ويرى أنه يكون أولا ويؤسس المدينة كما أن القلب يكون أولا في البدن. وتليه في الشرف طبقة من أهل المدينة تساعده في الحكم ، وأدنى منها طبقة تخدم الأولى وتخدمها طبقة ثالثة ، حتى تنتهي الى طبقة تخدم ولا تخدم. ويرى أيضا أن ترتيب المدينة يشبه ترتيب العالم ، ورئيسها يشبه الله ، وأجزاءها تحتذي حذو مقصد الرئيس على الترتيب.

أما مؤهلات الرئيس فملكات فطرية وارادية ، ولا تتوافر هذه الملكات في أي إنسان اتفق ، لأن الرئيس انسان استكمل عقله ومتخيلته. والعقل المستكمل هو العقل المستفاد ، والعقل المستفاد هو العقل الذي حصل على جميع المعقولات. ومتى غدا العقل مستفادا استطاع أن يتصل بالعقل الفعال ، وأصبح فيلسوفا. أما المخيلة المستكملة فهي المخيلة القوية التي تخلصت من سيطرة الحاسة والناطقة ، والتي تستطيع أن تتصل بالعقل الفعال في اليقظة ، وتستمد منه الجزئيات والمعقولات. وهذه هي مرتبه الأنبياء.

١٣

وهذا يعني أن رئيس المدينة الفاضلة يكون فيلسوفا أو نبيا ، وأن النبي والفيلسوف يتساويان في المنزلة والفضل ، ويصلحان لرئاسة المدينة الفاضلة.

عدا الكمال العقلي أو كمال المتخيلة ينبغي أن تتوافر في الرئيس الأول اثنتا عشرة خصلة هي تمام الأعضاء وجودة الفهم وجودة الحفظ والذكاء والبلاغة وحب العلم والعفة والصدق والإباء والكرم والعدالة والشجاعة.

أما الرئيس الثاني الذي يخلف الأول فيمكن الاكتفاء فيه بست خصال فقط اذا استحال توافر الاثني عشرة المذكورة عدا الحكمة ، وهي الحكمة وحفظ الشرائع التي سنها سلفه ، والقدرة على احتذاء من سبقه في سن الشرائع ، والقدرة على استنباط شرائع لا يحذو فيها حذو من سلفه ، وإرشاد الناس الى الشرائع ، والقدرة على الحرب

واذا لم تجتمع هذه الخصال الست في واحد ، وتفرقت في اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة كانوا هم الرؤساء الأفاضل مجتمعين.

واذا كانت السعادة تقوم بالمعرفة ، فان المعرفة التي ينبغي أن يحصلها أهل المدينة الفاضلة هي التي انطوى عليها كتاب «آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها» من ألفه إلى يائه ، بدءا با لله وصفاته وانتهاء بآراء أهل المدن المضادة ، مرورا بالثواني ، والعقل الفعال ، والأجسام السماوية والأرضية ، والانسان وقواه وتركيبه الجسمي ، ورئيس المدينة الفاضلة وشروطه ، والمدن المضادة وآراء أهلها.

وهم يدركون هذه المعلومات بطريقتين هما البرهان والمحاكاة. والبرهان الذي هو طريقة الحكماء يفضل المحاكاة التي هي طريقة العامة. ذلك أن البرهان ليس عرضة للمعاندة ، بعكس المحاكاة التي تكثر فيها المعاندة. والمعاندون أصناف ، منهم المسترشد المقلد للحكماء ، ومنهم القاصد الى تزييف الحقائق من أهل المدن الجاهلة ، ومنهم السيّئ الفهم العاجز عن ادراك الحقائق ، ومنهم الشاك الذي يزعم استحالة معرفة الحقيقة.

١٤

ان مصير أهل المدينة الفاضلة بعد الموت الخلاص والسعادة. ان أبدانهم تبطل ولكن نفوسهم تخلص وتسعد وتتصل فيما بينها وتتلاقى وتلتذ على جهة اتصال معقول لمعقول ، وبذلك تزداد سعادتها على مر الأجيال والأزمان.

عدا المدينة الفاضلة يوجد أربعة أنواع من المدن المضادة لها هي الجاهلة والفاسقة والمتبدلة والضالة.

«فالمدينة الجاهلة هي التي لم يعرف أهلها السعادة ولا خطرت لهم ، وان أرشدوا اليها لم يفهموها». ومن هنا اشتق اسمها أي من الجهل بالسعادة ، وقد ظنوا السعادة قائمة بأشياء وهمية مثل الغنى واللذات والحرية والكرامة. ومن ثم كانت أصناف المدينة الجاهلة ستة حسب الغاية التي اعتمدوها في حياتهم. فهناك المدينة الجاهلة الضرورية التي اقتصر أهلها على الضروري من المأكول والملبوس والمشروب والمسكون والمنكوح.

وهناك المدينة الجاهلة البدالة التي جعل أهلها غايتهم جمع الثروة.

وهناك المدينة الجاهلة الخسيسة أو الساقطة التي اعتقد أهلها السعادة في اللذة واللهو.

وثمة المدينة الجاهلة الكرامية التي قصد أهلها الى العظمة والشهرة والكرامة.

وثمة المدينة الجاهلة المتغلبة التي اتجه أهلها الى التغلب على سواهم وقهر سائر المدن وإخضاعها لسلطتهم.

وأخيرا هناك المدينة الجاهلة الجماعية التي أولع أهلها بالحرية فهاموا بها واعتبروها منتهى خيرهم.

والنوع الثاني من المدن المضادة يدعى المدينة الفاسقة. وهي المدينة التي يعرف أهلها ما يعرفه أهل المدينة الفاضلة ، ولكن أفعالهم هي أفعال أهل المدينة الجاهلة.

١٥

والنوع الثالث من المدن المضادة هو المدينة المبدلة ، وقد دعيت بهذا الاسم لأن آراء أهلها وأفعالهم كانت في الماضي آراء وأفعال أهل المدينة الفاضلة ، ولكنها الآن تبدلت وحلت مكانها آراء وأفعال مغايرة.

وأخيرا نصل الى النوع الرابع من المدن المضادة ، أي المدينة الضالة. وهي التي تعتقد في الله والثواني والسعادة ... الخ اعتقادات فاسدة ويتوهم رئيسها أنه أوحي اليه ويلجأ الى التمويه والخداع.

ومصير أهل المدن المضادة بائس يتراوح بين الهلاك والشقاء. فأهل المدن الجاهلة تنحل نفوسهم الى صور الاسطقسات الأربع ، ويصيرون الى العدم كالبهائم والأفاعي ويهلكون.

ونفوس أهل المدن الفاسقة لا تغنى بفضل الآراء الفاضلة التي اكتسبتها وإنما تشقى بالآلام بسبب أفعالها الرديئة.

ومصير أهل المدن الضالة الهلاك والاضمحلال مثل أهل المدينة الجاهلة ، أما رئيسهم فمصيره الى الشقاء كأهل المدن الفاسقة.

ومصير أهل المدينة المبدلة الهلاك ، ومصير رئيسهم الشقاء.

ويعرض الفارابي آراء ومعتقدات أهل المدن المضادة وأهمها ظنهم أن الموجودات متضادة تتغالب على الوجود وينتصر الأتم وجودا والأقوى ، ويهلك الأضعف أو يخضع للأقوى. وقانون الصراع هذا مطبق على البشر أفرادا ومجتمعات. فإنه لا تحاب ولا ارتباط بينهم لا بالطبع ولا بالارادة ، وشريعة الغاب هي السائدة : القوي يقهر الضعيف فيقتله أو يسخره لخدمته ، إنه الداء السبعي.

واذا قام مجتمع فإنما يقوم إمّا على القهر أو على القرابة ، أو على التعاهد ، أو على تشابه الخلق والشيم واللغة ، أو على الاشتراك في الموطن الواحد.

١٦

وعلاقات الأمم تقوم مثل علاقات الأفراد على التغالب والقهر. ولكنها تستحيل الى علاقات مسالمة اذا تعادلت قواها ، والى علاقات تحالف اذا ظهر عدد مشترك ، والى علاقات معاملة ومخاتلة اذا أمنت المعاملة مصالحها في الهيمنة والكسب.

بيد أن الفارابي يورد رأيا مغايرا ، يذهب الى أن قانون التغالب لا يوجد إلاّ بين الأنواع المختلفة ، أما ضمن النوع الواحد فيسود قانون آخر هو قانون التسالم. وبالنسبة للناس هناك رباط يجمعهم هو انتماؤهم الى نوع واحد هو الانسانية. ولذا ينبغي أن يتسالموا فيما بينهم ، ويتكاتفوا على مغالبة سائر الأنواع. واذا وجدت أمة تبغي التغالب يحق للأمم الأخرى ردعها عن غيها بواسطة قوة تعدها لهذا الهدف.

كما يورد في النهاية رأيا آخر مغايرا لقانون الصراع والتغالب ذا نزعة صوفية ، يذهب الى أنّ السعادة لا تدرك في هذه الحياة الدنيا ، بل في الآخرة. ولذا يجدر التخلص من الوجود الدنيوي باماتة البدن ، والرغبة عن الشهوات والملذات ، وكبت الغضب ونزعة التغلب.

* * *

والخلاصة أن الفارابي حاول رسم صورة شاملة للعالم ، عالم يفيض عن إله متسام عليه لا يعقله يتكون من قسمين : سماوي وأرضي؛ القسم السماوي يتألف من تسعة أفلاك وعشرة عقول مفارقة دعاها الثواني ، وكل منها ـ عدا أولها الذي يأتي مباشرة بعد الله ـ يقابله فلك يعتبر مقرا له. ودعا العقل الأخير الذي يقابل القمر بالعقل الفعال ، وخصه بمهمة العناية بالعقل الانساني ونقله من القوة الى الفعل.

أما القسم الأرضي من العالم فهو الأرض وما عليها من كائنات وهي كلها

١٧

تتركب من مادة مشتركة وصور متضادة تختلف عليها فتكون الأجسام وتفسد. وهذه الكائنات الأرضية هي الاسطقسات الأربعة والمعادن والنبات والحيوان والانسان.

وفي هاتين الناحيتين الميتافيزيقية والطبيعية يعكس الفارابي فلسفة أرسطو. وتبنى نظرية أفلوطين الفيضية لتفسير صدور العالم عن الله. كما يقتفي أثر أرسطو في كلامه على النفس وقواها والجسم وتركيبه. ولكنه يأتي بآراء طريفة عند ما يتحدث عن المتخيلة فيجعل لها دورا معرفيا ودورا تمثيليا الى جانب دورها في حفظ صور المحسوسات وتركيبها. وبناء على هذا الدور يقدم الفارابي تفسيرا قيما للأحلام والنبوة. الدور المعرفي يبدو في اتصال المتخيلة بالعقل الفعال وتلقّي المعرفة منه ، وهي لا تقوم بهذا الدور الا اذا بلغت شأوا من الكمال والقوة لا نقع عليه الا عند الأنبياء.

أما دور المحاكاة الذي يعني قدرة المتخيلة على تمثيل ما عند قوى النفس الأخرى بالصور التي اختزنتها فهو سر الأحلام. وبذا يكون الفارابي متقدما على فرويد في هذا المجال ، أي تفسير الأحلام تفسيرا علميا.

ان فلسفة الفارابي الميتافيزيقية والطبيعية التي حذا فيها حذو أرسطو عرضته كما عرضت أرسطو للنقد الشديد من جانب المتكلمين المسلمين قديما والعلم الحديث في أوروبا.

أما في الناحية الاجتماعية فنرى الفارابي ينأى عن أرسطو ويقترب من أفلاطون فهو مثله يبني الاجتماع الانساني على أساس الحاجة الى التعاون بين الأفراد لسد متطلبات الحياة المختلفة. وهو مثله يفرض في رئيس المدينة الفاضلة الشروط ذاتها التي أوردها أفلاطون في رئيس الجمهورية ، ويوجب أن يكون الرئيس فيلسوفا. ولكن الفارابي ـ متأثرا بالبيئة الاسلامية التي عاش فيها ـ قال إن الرئيس يمكن أن يكون نبيا أيضا ، لأن النبي يشبه الفيلسوف في المستوى المعرفي ، فهو مثله يتصل بالعقل الفعال ويستمد منه العلم ولكن بواسطة متخيلته وليس

١٨

بواسطة عقله كالفيلسوف. وهو مثله يعالج موضوع دولة المدينة التي كانت سائدة في عصر أفلاطون ، وتخطاها الزمن في عصر الفارابي عند ما نشأت دولة الأمة ، بل دولة الامبراطورية.

أما الآراء التي نسبها الى أهل المدن المضادة فعزاها الى فلاسفة يونانيين آخرين ذكر منهم انبدقليس وبرمانيدس ، ويمكن اضافة اثنين اليهما هما أبيقور صاحب نظرية اللذة وبيرون صاحب مذهب الشك. وقد حمل حملة شعواء على نظرية التنازع والتغالب وسيادة منطق القوة بين الأفراد والدول وهو المبدأ الذي اعتمده كل من داروين الفيلسوف الانكليزي ، ونيتشه الفيلسوف الألماني في القرن الماضي. وربما كان الفارابي مثاليا أكثر من اللازم لأن الواقع الانساني قديما وحديثا يؤيد نظرية التغالب ومنطق القوة.

ولا بد من القول في ختام هذه المقدمة إن كتاب «آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها» قد طبع مرارا وله عدة مخطوطات. وأهم طبعاته طبعة ليدن سنة ١٨٩٥ م ، والقاهرة سنة ١٩٠٥ م ، ١٩٠٦ م ، ١٩٤٨ م ، ١٩٦١ م ، وطبعة بيروت سنة ١٩٥٩ م ، ١٩٦٨ م.

وأهم المخطوطات الباقية والمعروفة للكتاب مخطوطة المكتبة الأزهرية رقم ٢٤٨٦٨ ، ومخطوطة السليمانية رقم ٦٧٤ ، ومخطوطة المتحف البريطاني رقم ٧٥١٨. ddA ، ومخطوطة دانشگاه رقم ٢١١٠ / ٢ ، ٢٥٧٥ / ٤ ... الخ.

وقد اقتصر عملنا على تقديم الكتاب وتبويبه وشرحه وتصحيح بعض الأخطاء.

بيروت في ١ / ٥ / ١٩٩٤

علي بو ملحم

١٩
٢٠