باقر شريف القرشي
المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار المعروف للطباعة والنشر
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-8275-79-7
الصفحات: ٢٣٨
والأموال ، ويشتري الذمم والعواطف ، ويركّز ولاءه في قلوب الغوغاء .
ومهّدت عائشة في ثورتها على حكم الإمام الطريق لمعاوية لإعلانه العصيان المسلّح على حكومة الإمام التي هي أشرف حكومة ظهرت في الشرق العربي على امتداد التاريخ ، وقد تذرّع بها معاوية الذئب الجاهلي لحرب الإمام ، واتّخذ من دم عثمان وسيلة لإغراء الغوغاء واتّهم الإمام بأنّه المسؤول عن المطالبة بدمه ، وفي نفس الوقت أوعز إلى أجهزة الإعلام أن تندب عثمان ، وتظهر براءته ممّا اقترفه في تصرّفاته الاقتصاديّة والسياسيّة التي تتجافى مع أحكام الإسلام .
وتسلّح معاوية بكبار الدبلوماسيّين ، ومهرة السياسة في العالم العربي ، أمثال المغيرة بن شعبة ، وعمرو بن العاص ، وأمثالهما ممّن كانت لهم الدراية الوثيقة في أحوال المجتمع ، فكانوا يضعون له المخطّطات الرهيبة للتغلّب على الأحداث .
إعلان الحرب
ورفض معاوية رسميّاً بيعة الإمام ، وأعلن عليه الحرب ، وهو يعلم أنّه إنّما يحارب أخا رسول الله صلىاللهعليهوآله ، ووصيّه ، وباب مدينة علمه ، ومَن كان منه بمنزلة هارون من موسى ، لقد أعلن عليه الحرب كما أعلن أبوه أبو سفيان الحرب على رسول الله صلىاللهعليهوآله .
وتشكّل الجيش الذي زحف به معاوية لمحاربة الإمام عليهالسلام من العناصر التالية :
١ ـ الغوغاء
أمّا الغوغاء فهم
جهلة الشعوب ، وهم كالأنعام ، بل هم أضلّ سبيلاً ، وتستخدمهم السلطة في كلّ زمان لنيل أهدافها ، ولتبني عروشها على جماجمهم ، وكانت الأكثريّة الساحقة من جيش معاوية من هؤلاء الغوغاء المغرّر بهم الذين لا يميّزون بين الحقّ والباطل ، والذين تلوّنهم الدعاية كيفما شاءت ، وقد جعلهم معاوية جسراً فعبر
عليهم لنيل مقاصده الشريرة .
٢ ـ المنافقون
أمّا المنافقون فهم الذين أظهروا الإسلام في ألسنتهم ، وأضمروا الكفر والعداء له في ضمائرهم وقلوبهم ، وكانوا يبغون له الغوائل ، ويكيدون له في وضح النهار وفي غلس الليل ، وقد ابتلي بهم الإسلام أشدّ ما يكون البلاء وامتحن بهم المسلمون أشدّ ما يكون الامتحان لأنّهم مصدر الخطر عليهم ، وقد ضمّ جيش معاوية رؤوس المنافقين وضروسهم ، أمثال المغيرة بن شعبة ، وعمرو بن العاص ، ومروان بن الحكم ، وغيرهم من الزمرة الباغية الذين وجدوا الفرصة لهم مواتية لضرب الإسلام وقلع جذوره ، وقد تسلّحوا بمعاوية ابن أبي سفيان العدوّ الأوّل للإسلام فناصروه وساروا في جيشه لمحاربة أخي رسول الله صلىاللهعليهوآله ووصيّه ، والمنافح الأوّل عن الإسلام .
إنّ جميع مَن حارب رسول الله صلىاللهعليهوآله من المنافقين قد انضمّوا إلى معاوية وصاروا من حزبه وأعوانه في محاربة الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام .
٣ ـ النفعيّون
ونعني بهم الجماعة التي فقدت امتيازاتها ومنافعها اللّامشروعة في ظلّ حكم الإمام رائد العدالة الاجتماعيّة في الأرض ، وفي طليعة هؤلاء ، العمّال والولاة ، وسائر الموظّفين في حكومة عثمان ، فقد فقدوا منافعهم وخافوا على مصادرة ما عندهم من الأموال التي اختلسوها من الشعب أيّام عثمان ، كما تمّ عزلهم عن مناصبهم فور تقلّد الإمام للحكم .
هذه بعض العناصر التي تشكّل منها جيش معاوية ، وقد زحف بهم إلى محاربة قائد الإسلام ، ورائد العدالة الإنسانيّة .
احتلال الفرات
واتّجهت جيوش معاوية صوب العراق ، فعسكرت في منطقة صفّين ، واختارتها مركزاً للحرب ، وأوعزت القيادة العامّة إلى قطعات الجيش باحتلال الفرات ، ووضع المفارز على حوض الفرات لمنع جيش الإمام من الشرب ليموتوا عطشاً ، وقد اعتبر معاوية ذلك أوّل النصر والفتح ، ونمّ ذلك عن خبث طبيعته ، ولؤم عنصره ، فإنّ لكلّ إنسان ، بل ولكلّ حيوان ، حقّاً طبيعيّاً في الماء عند كافّة الاُمم والشعوب ، ولكنّ معاوية وبني اُميّة قد تخلّوا عن جميع الأعراف ، فاستعملوا منع الماء كسلاح في معاركهم ، فقد منعوا الماء يوم الطفّ عن ريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآله وأهل بيته حتّى أشرفوا على الموت من شدّة الظمأ .
ولمّا علم الإمام عليهالسلام بزحف معاوية لحربه اتّجه بجيوشه نحو صفّين ، فلمّا انتهوا إليها وجدوا حوض الفرات قد احتلّ من قِبل معسكر معاوية ، ومنعوهم من تناول قطرة من الماء ، وألحّ العطش بجيش الإمام فانبرت إليه قادة جيشه ، وطلبوا منه الإذن في مقارعة القوم ، فرغب الإمام قبل أن يبدأهم بالحرب أن يطلبوا منهم السماح في تناول الماء ، إذ ليس لهم من سبيل أن يتّخذوه وسيلة لكسب المعركة ، لأنّ الماء مباح لكلّ إنسان وحيوان عند جميع الشرائع والأديان ، وعرض عليهم أصحاب الإمام ذلك ، إلّا أنّهم أبوا وأصرّوا على غيّهم وعدوانهم ، فاضطرّ الإمام بعد ذلك إلى أن يسمح لقوّاته المسلّحة بفتح نار الحرب عليهم ، فحملوا عليهم حملة واحدة ، ففرّوا منهزمين شرّ هزيمة ، وتركوا مواقعهم فاحتلّتها جيوش الإمام ، وأصبح نهر الفرات بأيديهم ، انطلق فريق من قادة الجيش نحو الإمام فطلبوا منه أن يسمح لهم في منع الماء عن أصحاب معاوية كما منعوهم عنه .
فأبى الإمام أن
يقابلهم بالمثل ، فأباح لهم الماء كما هو مباح للجميع في شريعة الله ، ولم يشكر الأمويّون الأوغاد هذه اليد البيضاء التي أسداها عليهم الإمام ،
فقد قابلوه بالعكس ، فمنعوا الماء عن أبنائه في كربلاء حتّى صرعهم الظمأ ، وأذاب العطش قلوبهم .
دعوة الإمام عليهالسلام إلى السلم
وكره الإمام أشدّ الكره الحرب وإراقة الدماء ، فدعا إلى السلم والوئام ، فقد أرسل عدّة وفود إلى ابن هند يدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه المسلمون ، وأن يجنّبهم من الحرب ، فأبى ولم يستجب لهذه الدعوة الكريمة ، وأصرّ على الغيّ والعدوان ، وتذرّع كذباً بالمطالبة بدم عثمان الذي ما اُريق إلّا بسبب تصرّفاته السيّاسيّة والإداريّة .
الحرب
ولمّا فشلت جميع الجهود التي بذلها الإمام من أجل السلم وحقن الدماء اضطّر إلى أن يفتح مع عدوّه باب الحرب ، وقد خاض معه حرباً مدمّرة سقط فيها عشرات الآلاف من القتلى ، فضلاً عن المعوّقين من كلا الجانبين ، واستمرّت الحرب أكثر من سنتين كانت تشتدّ حيناً ، وتفتر حيناً آخر ، وفي المرحلة الأخيرة من الحرب كاد الإمام أن يكسب المعركة وتحسم صالحه ، فقد بان الانكسار في جيش معاوية ، وتفلّلت جميع قواعد عسكره ، وعزم معاوية على الهزيمة لولا أن تذكّر قول ابن الاطنابة :
أَبَتْ لِي عِفّتي وَحَياءُ نَفْسي |
|
وإقدامي عَلى البطلِ المُشيحِ |
وإِعطائي عَلى المَكْروهِ مالي |
|
وَأَخْذي الحَمدَ بالثَّمَنِ الرَّبيحِ |
وقَولي كُلَّما جَشَأَتْ وَجاشَتْ |
|
مَكانَكِ تُحمَدِي أَوْ تَسْتَريحي (١) |
__________________________
(١) تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ١٧ . الكامل في التاريخ : ١ : ٦٦٨ .
فردّه هذا الشعر إلى الصبر والثبات ، كما كان يتحدّث بذلك أيّام العافية ، وفيما أحسب أنّ هذا الشعر ليس هو الذي ردّه إلى الثبات وعدم الهزيمة ، إذ ليس لابن هند أيّة عفّة أو حياء نفس ، ولا غير ذلك ممّا حوته هذه الأبيات ، وإنّما ردّه إلى الصبر هو ما دبّره من المكيدة والخديعة التي مزّقت الجيش العراقي ، وهو ما سنتحدّث عنه .
الخديعة الكبرى
وآن النصر المحتّم لجيش الإمام عليهالسلام ، فقد أشرف على الفتح ، ولم يبق إلّا مقدار حلبة شاة من الوقت حتّى يؤسر معاوية أو يقتل ، كما أعلن ذلك قائد القوّات المسلّحة في جيش الإمام الزعيم مالك الأشتر ، ومن المؤسّف جدّاً أنّه في تلك اللحظات الحاسمة مُني الإمام بانقلاب عسكري في جيشه ، فقد رفع عسكر معاوية المصاحف على أطراف الرماح ، وهم ينادون بالدعوة إلى تحكيم القرآن ، وإنهاء الحرب حقناً لدماء المسلمين ، واستجابت قطعات من جيش الإمام لهذا النداء الذي يحمل التدمير الشامل لحكومة الإمام واُفول دولة القرآن .
يا للعجب ! لقد نادى جيش معاوية بالرجوع إلى تحكيم القرآن ، ومعاوية وأبوه هما في طليعة من حارب القرآن .
أصحيح أنّ ابن هند يؤمن بالقرآن ، ويحرص على دماء المسلمين ، وهو الذي أراق أنهاراً من دمائهم إرضاءً لجاهليّته ، وانتقاماً من الإسلام .
وكان أوّل من استجاب لهذا النداء المزيّف العميل الأموي الأشعث بن قيس ، فقد جاء يشتدّ كالكلب نحو الإمام ، وقد رفع صوته ليسمعه الجيش قائلاً : « ما أرى الناس إلّا قد رضوا ، وسرّهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن ، فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد » .
وامتنع الإمام من
إجابة هذا العميل المنافق الذي طعن الإسلام في صميمه ،
والتفّ حول الأشعث جماعة من الخونة فأحاطوا بالإمام ، وهم ينادون : أجب الأشعث ، ولم يجد الإمام بُدّاً من إجابته ، فانطلق الخائن صوب معاوية ، فقال له : لأيّ شيء رفعتم هذه المصاحف ؟
فأجابه معاوية مخادعاً : لنرجع نحن وأنتم إلى أمر الله عزّ وجلّ في كتابه تبعثون منكم رجلاً ترضون به ، ونبعث منّا رجلاً ، ثمّ نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه ، ثمّ نتّبع ما اتّفقنا عليه .
ورفع الأشعث عقيرته قائلاً : هذا هو الحقّ .
وخرج الأشعث من معاوية وهو ينادي بضرورة إيقاف الحرب ، والرجوع إلى كتاب الله العظيم ، ومن المؤكّد أنّ هذه الحركة الانقلابيّة التي تزعّمها هذا المنافق العميل لم تكن وليدة رفع المصاحف ، وإنّما كانت قبل زمن ليس بالقليل ، فقد كانت هناك اتّصالات سرّيّة بين الأشعث وبين معاوية ووزيره والفكر المدبّر لخدعه وأباطيله عمرو بن العاص ، وممّا يدلّ على ذلك أنّه لم تكن هناك رقابة ولا مباحث في جيش الإمام على مَن يتّصل بمعسكر معاوية ، فقد كان الطريق مفتوحاً ، وجرت اتّصالات مكثّفة بين معاوية والأشعث وغيره من قادة الجيش العراقي ، وقدّم لهم معاوية الرشوات ، ومنّاهم بالمراتب العالية ، وبالمزيد من الأموال إن استجابوا لدعوته .
وعلى أي حال ، فقد اُرغم الإمام على قبول التحكيم ، فقد أحاطت به قطعات من جيشه ، وقد شهرت عليه السيوف والرماح وهي تنادي : « لا حكم إلّا لله » ، واتّخذوا هذا النداء شعاراً لتمرّدهم ، ووقوفهم ضدّ الإمام ، وسرعان ما أصبحوا حركة ثوريّة ، ومصدر قلق مثير للفتن والاضطراب .
وعلى أي حال ، فقد
جهد الإمام بنفسه ورسله على إقناعهم وإرجاعهم إلى طريق الحقّ والصواب ، فلم يتمكّن ، ورأى أنّهم جادّون على مناجزته والإطاحة
بحكومته ، فاستجاب لهم ، وأوعز إلى قائد قوّاته العسكريّة الزعيم مالك الأشتر بالانسحاب عن ساحة الحرب ، وإيقاف العمليّات العسكريّة ، وكان قد أشرف على الفتح ، فلم يبق بينه وبين الاستيلاء على معاوية سوى مقدار حلبة شاة ، ورفض مالك الاستجابة وأصرّ على مزاولة الحرب ، إلّا أنّه اُخبر بأنّ الإمام في خطر ، وأنّ المتمرّدين قد أحاطوا به ، فاضطرّ إلى إيقاف الحرب ، وبذلك فقد تمّ ما أراده معاوية من الإطاحة بحكومة الإمام ، وكتب له في تلك اللحظات النصر على الإمام ، وقد انتصرت معه الوثنيّة القرشيّة ، كما يقول بعض الكتّاب والمحدّثين .
التحكيم
وتوالت المحن والأزمات على الإمام يتبع بعضها بعضاً ، وانكشفت خفايا هؤلاء العملاء المتمرّدين ، فقد أصرّوا على انتخاب أبي موسى الأشعري ليكون ممثّلاً عن العراق ، والأشعري خبيث دنس ، كان حقوداً على الإمام ، ومن ألدّ أعدائه وخصومه ، وفي نفس الوقت لم يملك وعياً ولا فهماً للأحداث ، وكان بليداً ومنافقاً ، واتّخذه المنافقون والمتمرّدون في جيش الإمام جسراً فعبروا عليه لنيل مقاصدهم الخبيثة لعزل الإمام عن الحكم ، وتثبيت معاوية في مركزه .
ولم يستطع الإمام إيقاف هذا المدّ التآمري في جيشه ، فقد أصبح قادة جيشه يتلقّون الأوامر والتوجيهات من قِبل معاوية ووزيره ابن العاص ، وصار الإمام بمعزل تامّ عن الحياة السياسيّة ، فقد أصبح يأمر جيشه فلا يطيع ، ويدعوه فلا يستجيب له ، وصارت دفّة الحكم كلّها بيد معاوية .
لقد حكم الأشعري بعزل
الإمام ، وحكم ابن العاص بإبقاء معاوية ، وبذلك فقد انتهت مهزلة التحكيم إلى عزل الإمام عن منصب الحكم ، وتقليده لمعاوية ، وانطوت بذلك أقدس حكومة إسلاميّة ظهرت في الشرق كان يرجى منها أن تقوم ببسط العدل السياسي والاجتماعي بين الناس ، فلم تدعها هذه الوحوش الكاسرة
من ذئاب الأمويّين ، وسائر القبائل القرشيّة من تحقيق أهدافها ومثلها العليا .
لقد شاهد أبو الفضل العبّاس عليهالسلام وهو في دور الشباب فصول هذه المأساة الكبرى فكوت قلبه ، وهزّت عواطفه ، فقد جرّت لأهل بيته المصائب ، وأخلدت لهم المحن والخطوب .
تمرّد الخوارج
ومن بين المحن الشاقّة التي امتحن بها الإمام امتحاناً عسيراً هي ثورة الخوارج ، فقد كان معظمهم من بهائم البشر ، فقد امتطاهم معاوية ، وجعلهم جسراً لنيل أطماعه وأهدافه من حيث لا يشعرون ، فهم الذين أرغموا الإمام على قبول التحكيم ، وإيقاف عمليّات الحرب ، وهم الذين أصرّوا على انتخاب المنافق أبي موسى الأشعري ، ولمّا عقد التحكيم وأعلن أبو موسى عزل الإمام عن منصبه ، وأعلن ابن العاص إقامة سيّده معاوية في مركزه أسفوا على ما فرّطوا في أمر المجتمع الإسلامي ، واستبانت لهم المكيدة التي دبّرها ابن العاص في رفع المصاحف ، وعابوا على الإمام وكفّروه لاستجابته لهم ، وفي الحقيقة هم الذين يتحمّلون جميع المسؤوليّات الناجمة عن ذلك .
ولمّا نزح جيش الإمام من صفّين إلى الكوفة لم يدخلوا معه إليها ، وإنّما انحازوا إلى حروراء فنسبوا إليها ، وكان عددهم فيما يقول المؤرّخون اثني عشر ألفاً ، وأذّن مؤذّنهم أنّ أمير القتال المنافق شبث بن ربعي الذي كان من قادة الجيش الذي حارب ريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآله الإمام الحسين عليهالسلام .
كما نصبوا عبد الله
بن الكوّاء إماماً للصلاة ، وجعلوا الأمر شورى بعد الفتح ، والبيعة لله عزّ وجلّ ، وجعلوا من أهمّ الأحكام التي يقاتلون من أجلها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجعلوا شعارهم : « لا حكم إلّا لله » ، ولكنّهم سرعان
ما تنكّروا لهذا الشعار ، فجعلوا الحكم للسيف وذلك بما أراقوه من دماء الأبرياء ،
وما نشروه من الذعر والخوف بين المسلمين .
وبعث الإمام إليهم بعض رسله يعذلهم عن فكرتهم ، ويرشدهم إلى طريق الحقّ والصواب ، فلم يجد ذلك معهم شيئاً ، فانطلق عليهالسلام بنفسه إليهم ، ومعه أعلام أصحابه ، فجعل يناظرهم ، ويقيم الأدلّة الوثيقة على فساد رأيهم ، وضلالة قصدهم ، فاستجاب له قوم ، وأبى قوم آخرون ، وجعل الأمر يمعن في الفساد بين الإمام وبينهم ، وأخذوا ينشرون الارهاب ، وأعمال التخريب ، ويعيثون في الأرض فساداً ، وقد رحلوا عن الكوفة ، وعسكروا في النهروان ، واجتاز عليهم الصحابي الجليل عبد الله بن خبّاب ابن الأرت ، وهو من أعلام أصحاب الإمام ، فدارت بينه وبينهم أحاديث ، فعمدوا إليه فقتلوه ، وقتلوا معه السيّدة زوجته ، ولم يقف شرّهم عند هذا الحدّ ، وإنّما أخذوا يذيعون الذعر والخوف بين المسلمين .
وبعث الإمام إليهم الحارث بن مرّة العبدي ليسألهم عمّا أحدثوه من الفساد ، فلمّا انتهى إليهم أجهزوا عليه وقتلوه ، ورأى الإمام بعد هذا أنّهم يشكّلون خطراً كبيراً على دولته ، وأنّهم مصدر فتنة وتخريب بين المسلمين ، وأنّ الواجب يقضي بحربهم فزحف إليهم بجيشه ، ودارت بينه وبينهم معركة رهيبة ، فقتلوا عن آخرهم ولم يفلت منهم إلّا تسعة (١) .
وانتهت بذلك حرب النهروان ، وقد شاهد أبو الفضل العبّاس عليهالسلام هذه الحرب ووقف على دوافعها التي كان منها كراهة هؤلاء القوم لعدل الإمام ، وتفانيه في إقامة الحقّ بين الناس .
ومن الجدير بالذكر أنّ أبا الفضل العبّاس عليهالسلام لم يشترك في حرب النهروان ولا في
__________________________
(١) الملل والنحل / الشهرستاني : ١ : ١٥٩ ، وجاء فيه : أنّه انهزم منهم اثنان إلى عمان ، واثنان إلى كرمان ، واثنان إلى سجستان ، واثنان إلى الجزيرة ، وواحد إلى تل موزون ، وأخذ هؤلاء يبثّون فكرتهم في هذه المواضع حتى ظهرت بدعة الخوارج .
حرب صفّين ، فقد منعه الإمام ، كما منع بعض أبنائه ، وأعلام أصحابه من الدخول في الحرب ضنّاً بهم على الموت ، وممّا يدلّ على ذلك أنّ الذين كتبوا عن واقعة صفّين والنهروان لم يذكروا أيّ دور لسيّدنا العبّاس فيهما .
النتائج الفظيعة
وأعقبت حرب الجمل وصفّين أسوأ الأحداث وأقساها وأشقّها محنة على الإمام عليهالسلام ومن بينها :
١ ـ التمرّد الكامل في جيش الإمام ، فقد أصبحت جميع قطعاته غير مطيعة لأوامر الإمام .
لقد شاعت الهزيمة النفسيّة في جيش الإمام ، وفقدت قطعاته الروح المعنويّة ، وتخاذلت تخاذلاً مطلقاً أمام الأحداث التي مُني بها .
٢ ـ عمد معاوية بعد معركة صفّين إلى تعزيز جيشه وتماسكه ، وقد بثّ فيه روح العزم والإخلاص ، وقد وثق بالنصر والفتح والتغلّب على جيش الإمام .
٣ ـ تعرّضت البلاد الإسلاميّة الخاضعة لحكم الإمام لحملات إرهابّية عنيفة كانت تشنّها العصابات المجرمة التي يبعثها معاوية لإشاعة الخوف والذعر فيها ، وقد تعرّضت المناطق القريبة من عاصمة الإمام لهجمات الارهابيّين من كلاب معاوية ، والإمام لم يتمكّن من حمايتها وحفظ الأمن والاستقرار فيها ، فكان يدعو بحرارة جأشه للذبّ عن حياض الوطن ، وحمايته من الاعتداء فلم يستجب له أحد منهم .
٤ ـ احتلّت جيوش معاوية مصر احتلالاً عسكريّاً ، وبذلك خرجت عن حكم الإمام ، وقد اُصيبت حكومة الإمام بنكسه كبيرة ، ولم تعد بعد هذه الأحداث إلّا شكلاً خاوياً في ميدان الحكم .
مصرع الإمام عليهالسلام
بقي الإمام الممتحن في أرباض الكوفة قد أحاطت به المحن والأزمات يتبع بعضها بعضاً ، يرى باطل معاوية قد استحكم ، وشرّه قد استفحل ، وهو لا يتمكّن أن يقوم بأي عمل لتغيير الأوضاع الاجتماعيّة المتدهورة المنذرة باُفول دولة الحقّ ، وإقامة حكومة الظلم والجور .
لقد استوعبت المحن الشاقّة التي أحاطت بالإمام نفسه الشريفة ، فراح يدعو الله ، ويتوسّل إليه بحرارة أن ينقله إلى جواره ، ويريحه من هذا العالم المليء بالفتن والأباطيل ، واستجاب الله دعاء الإمام فقد عقدت عصابة مجرمة من الخوارج مؤتمراً في مكّة ، وأخذوا يذكرون بمزيد من الأسى والحزن قتلاهم الذين حصدت رؤوسهم سيوف الحق في النهروان ، وعرضوا ما مني به العالم الإسلامي من الفتن والانشقاق ، وألقوا تبعة ذلك حسب زعمهم على الإمام أمير المؤمنين ومعاوية وعمرو بن العاص ، فقرّروا القيام باغتيالهم ، وعيّنوا لذلك وقتاً خاصّاً .
ومن الجدير بالذكر أنّ مؤتمرهم كان بمرأى ومسمع من السلطة المحليّة بمكّة ، وأكبر الظنّ أنّها كانت على اتّصال معهم ، وأنّ القوى المنحرفة عن الإمام قد أمدّت ابن ملجم بالمال ليقوم باغتيال الإمام .
وعلى أي حال ، فقد قفل ابن ملجم راجعاً إلى الكوفة وهو يحمل شرّ أهل الأرض ، ويحمل الكوارث المدمّرة للمسلمين ، وفور وصوله إلى الكوفة اتّصل بعميل الأمويّين المنافق الأشعث بن قيس ، وأخبره بمهمّته ، فشجّعه على اقتراف الجريمة ، وأبدى له تقديم جميع ألوان المساعدات لتنفيذها .
وفي ليلة التاسع عشر
من رمضان شهر الله المبارك اتّجه زعيم الموحّدين وسيّد المتّقين نحو مسجد الكوفة ليؤدّي صلاة الصبح ، فأقبل نحو الله فشرع في صلاته ، ولمّا رفع رأسه من السجود علاه ابن اليهوديّة بالسيف ، فشقّ رأسه الشريف الذي كان
كنزاً من كنوز العلم والحكمة والإيمان ، والذي ما فكّر إلّا بتوزيع خيرات الله على البؤساء والمحرومين ، وإشاعة الحقّ والعدل بين الناس .
ولمّا أحسّ الإمام بلذع السيف علت على شفتيه ابتسامة الرضا والظفر ، وراح يقول : « فزت وربّ الكعبة » .
لقد فزت يا إمام المصلحين ، فقد وهبت حياتك لله ، وجاهدت في سبيله جهاد المنيبين والمخلصين .
لقد فزت يا إمام المتّقين لأنّك في طيلة حياتك لم توارب ولم تخادع ولم تداهن ، ومضيت على بصيرة من أمرك مقتدياً بسيّد المرسلين ابن عمّك صلّى الله عليه وعليك ، فكان ذلك حقّاً هو الفوز العظيم .
لقد فزت أيّها الإمام الحكيم لأنّك خبرت الدنيا ، وعرفتها دار فناء وزوال فطلّقتها ثلاثاً ، وأعرضت عن زينتها ومباهجها ، واتّجهت صوب الله فعملت كلّ ما يرضيه ، وما يقرّبك إليه زلفى .
وحُمل الإمام إلى منزله ، وقد فاضت عيون الناس بالدموع ، وتقطّعت النفوس ألماً وحزناً ، وكان الإمام هادئ النفس ، قرير العين ، قد تعلّق قلبه بالله ، وهام في مناجاته ، وقد سأله مرافقة الأنبياء والأوصياء ، وأخذ يلقي نظراته على أولاده ، وخصّ ولده أبا الفضل بالعطف والحنان ، واستشفّ من وراء الغيب أنّه ممّن يرفع رايه القرآن ، ويقوم بنصرة أخيه ريحانة رسول الله المنافح الأوّل عن رسالة الإسلام .
وصاياه عليهالسلام الخالدة
ولمّا شعر الإمام العظيم بدنوّ أجله المحتوم أخذ يوصي أولاده بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ، وأمرهم أن يجسّدوا الإسلام في سلوكهم واتّجاهاتهم ، وفيما يلي بعض بنود وصيّته :
١ ـ التحلّي بتقوى الله التي هي الأساس في بناء الشخصيّة الإسلاميّة على أساس متكامل من الوعي والازدهار .
٢ ـ الالتزام بالحقّ قولاً وعملاً ، وبه تصان الحقوق وتسود العدالة الاجتماعيّة بين الناس .
٣ ـ مناجزة الظالم والوقوف في وجهه ، ومناصرة المظلوم ومساعدته ، وفي ذلك إقامة للعدل الذي هو من أهمّ الأهداف الأصليّة التي ينشدها الإسلام .
٤ ـ السعي في إصلاح ذات البين ، وإزالة البغضاء والكراهية بين المتخاصمين ، وهو من أفضل الأعمال وأهمّها في الإسلام ، لأنّ فيه إقامة لمجتمع متطوّر قائم على المحبّة والمودّة .
٥ ـ مراعاة الأيتام ، والقيام بصلتهم ، ورفع الحاجة عنهم ، وهذا من جملة بنود التكافل الإسلامي الذي هو من أبدع ما شرّعه الإسلام في نظامه الاقتصادي .
٦ ـ الإحسان إلى الجيران ، والاغداق عليهم بالبرّ والمعروف لأنّ فيه إشاعة للمحبّة بين المسلمين ، كما أنّه في نفس الوقت من أهمّ الوسائل في تماسك المجتمع الإسلامي ووحدته .
٧ ـ العمل بما في القرآن الكريم من أحكام وسنن وآداب ، فإنّه خير ضمان لصيانة سلوك الإنسان المسلم وتهذيبه ، ورفع مستواه .
٨ ـ إقامة الصلاة في أوقاتها وأدائها على أحسن وجه فإنّها عمود الدين ومعراج المؤمن ، وهي ترفع الإنسان إلى مستوى عظيم ، إذ تشرّفه بالاتّصال بخالق الكون وواهب الحياة .
٩ ـ إحياء المساجد بذكر الله من العبادة والعلم ، وتعتبر المساجد من أهمّ المراكز في إشاعة الآداب والفضائل بين المسلمين .
١٠ ـ
الجهاد في سبيل الله بالأنفس والأموال لإقامة معالم الدين وإحياء السنّة
وإماتة البدعة .
١١ ـ إشاعة المحبّة والمودّة بين المسلمين ، وذلك بالتواصل والتوادد ، وترك التدابر والتقاطع ، وغير ذلك ممّا يؤدّي إلى فصم عرى الوحدة بينهم .
١٢ ـ إقامة الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، لأنّه مما يؤدّي إلى إقامة مجتمع سليم تسوده العدالة ، أمّا ترك ذلك فإنّ له من المضاعفات السيّئة التي توجب ارتطام المجتمع بالفتن والبلاء ، كتولية الفسّاق والأشرار لشؤونه ، وعدم استجابة الدعاء من أفراده .
هذه بعض الوصايا الخالدة التي أدلى بها الإمام العظيم ، وهو على فراش الموت (١) .
إلى جنّة المأوى
وسرى السمّ في جميع أجزاء بدن الإمام عليهالسلام من جرّاء الضربة الغادرة التي عمّمه فيها ابن اليهوديّة عبد الرحمن بن ملجم ، وأخذ الموت يدنوا إليه سريعاً سريعاً ، وقد استقبل إمام المتّقين الموت بثغر باسم ، ونفس آمنة مطمئنّة متعطّشة إلى لقاء الله راضية بقضائه وقدره ، وكان لا يفتر لحظة واحدة عن ذكر الله ، وقراءة كتابه ، وقد حفّ به أبناؤه وهم يذرفون أحرّ الدموع ، قد مزّق المصاب قلوبهم ، وقد استقبل القبلة حامداً لله حتّى ارتفعت روحه العظيمة إلى بارئها تحفّها ملائكة الرحمن ، وأرواح الأنبياء والأوصياء ، وقد ازدهرت به جنان الخلد .
لقد توفّي عملاق الفكر الإنساني ، ورائد العدالة الاجتماعيّة في الأرض ، لقد عاش هذا الإمام العظيم غريباً في مجتمع لم يعرف مكانته ، ولم يع قيمه وأهدافه التي كان منها أن ينفي البؤس والشقاء من الأرض ، وينفي الحاجة والحرمان عن
__________________________
(١) يلاحظ نهج البلاغة ، فقد حفل بهذه الوصايا القيّمة .
بني الإنسان ، فيوزّع عليهم خيرات الله ، فثارت في وجهه العصابة المجرمة من الرأسماليّة القرشيّة ، وأوغاد الأمويّين الذين اتّخذوا مال الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، وقد صمد الإمام في وجوههم ، ولم ينثن عن عزمه الجبّار حتّى استشهد مناضلاً عن قيمه وأهدافه .
تجهيزه عليهالسلام
وانبرى الإمام الحسن عليهالسلام ومعه السادة الكرام من إخوانه ، ومن بينهم أبو الفضل العبّاس عليهالسلام ، إلى تجهيز الجثمان العظيم ، فغسّلوا الجسد الطاهر ، ثمّ أدرجوه في أكفانه ، وهم يذرفون أحرّ الدموع ، وبعد ذلك حملوه إلى مقرّه الأخير ، فدفنوه في مرقده المطهّر في النجف الأشرف ، وقد أعزّه الله ورفع من شأنه فجعله كعبةً للوافدين ، ولم يحظ مرقد من مراقد أولياء الله كما حظي مرقده الشريف ، فقد اُحيط بهالة من التعظيم والتقديس عند كافّة المسلمين .
لقد شاهد سيّدنا أبو الفضل العبّاس عليهالسلام خلافة أبيه ، وما رافقها من الأحداث الجسام ، وما قاساه أبوه من المصاعب والمشاكل في سبيل تطبيق العدالة الاجتماعيّة على واقع الحياة العامّة بين المسلمين ، وقد تنكّرت له وحاربته القوى الباغية على الإسلام ، والحاقدة على الاصلاح الاجتماعي .
لقد وعى العبّاس الأهداف المشرقة التي كان ينشدها أبوه ، فآمن بها ، وجاهد في سبيلها ، وقد انطلق مع أخيه سيّد الشهداء إلى ساحات الشرف والجهاد من أجل أن يعيدا للمسلمين سيرة أبيهما الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام ومنهجه المشرق في عالم السياسة والحكم .
خلافة الإمام الحسن عليهالسلام
وتسلّم الإمام الحسن عليهالسلام قيادة الدولة الإسلاميّة بعد وفاة أبيه ، وكانت الأوضاع
السياسيّة الاجتماعيّة كلّها في غير صالحه ، فالأكثريّة الساحقة من الرؤساء والقادة العسكريّين كانت اتّجاهاتهم وميولهم سرّاً وعلانية مع معاوية ، فقد غزاهم بذهبه ، واسترقّهم بأمواله .
كما انتشرت بين كتائب جيشه فكرة الخوارج التي كانت سوسة تنخر في معسكره ، وتعلن عدم شرعيّة خلافته ، وخلافة أبيه من قبل ، ومن ثمّ كان إقبال الجماهير على مبايعته فاتراً جدّاً ، وكذلك لم تندفع القوّات المسلّحة بحماس إلى بيعته ، وإنّما كانت مرغمة على ذلك ، الأمر الذي أوجب تريّب الإمام الحسن عليهالسلام منهم .
ويرى المراقبون للأوضاع السياسيّة في جيش الإمام أنّه قد ماج في الفتنة وارتطم في الشقاء ، وأنّ خطره على الإمام كان أعظم من خطر معاوية ، وأنّه لا يصلح بأيّ حال من الأحوال لأن يخوض الإمام به أي معركة في أي ميدان من ميادين الحرب .
وعلى أي حال ، فإنّ الإمام قد تسلّم قيادة الدولة ، وقد منيت بالانحلال والضعف ، وشيوع الفتن والاضطراب فيها ، وإنّ من العسير جدّاً السيطرة على الأوضاع الاجتماعيّة ، وإخضاع البلاد إلى عسكره ، اللّهمّ إلّا بسلوك أمرين :
الأوّل : إشاعة الأحكام العرفيّة في البلاد ، ومصادرة الحريّات العامّة ، ونشر الخوف والارهاب ، وأخذ الناس بالظنّة والتهمة ، وهذا ما يسلكه عشّاق الملك والسلطان حينما يمنون بمثل هذه الأزمات في شعوبهم .
أمّا أئمّه أهل البيت عليهمالسلام ، فإنّهم لا يرون مشروعيّة هذه السياسة وإن أدّت إلى الانتصار ، ويرون ضرورة توفير الحياة الحرّة الكريمة للشعب ، وإقصاء الوسائل الملتوية عنه .
الثاني :
تقديم الطبقة الرأسماليّة وذوي النفوذ على فئات الشعب ، ومنحهم الأموال والامتيازات الخاصّة ، والوظائف المهمّة ولو فعل ذلك الإمام الحسن عليهالسلام
لاستقرّت له الاُمور ، وما مُني بالتمرّد والانحلال ، إلّا أنّه ابتعد عن ذلك ابتعاداً مطلقاً لأنّه لا تبيحه شريعة الله .
لقد كان منهج الإمام الحسن عليهالسلام في سياسته واضحاً لا لبس فيه ولا غموض ، وهو التمسّك بالحقّ ، وعدم السلوك في المنعطفات ، واجتناب الطرق الملتوية ، وان أدّت إلى الظفر والنصر .
إعلان معاوية للحرب
وبادر معاوية إلى إعلان الحرب على سبط رسول الله صلىاللهعليهوآله لأنّه على علم بما مُني به جيش الإمام من الانحلال والخيانة ، فأغلب قادة الفرق ، وضبّاط الجيش ، وسائر المراتب قد رشاهم معاوية بذهبه وأمواله ، ومنّاهم بالوظائف العالية ، كما كاتب بعضهم بأن يزوّجه بإحدى بناته ، فقد استعمل الرشوة معهم على نطاق واسع ، وقد استجابوا له ، وضمنوا له تسليم الإمام أسيراً متى شاء وأراد ، أو اغتياله ، وقد حفّزته هذه العوامل لاستعجال الحرب وحسم الموقف لصالحه .
وزحف معاوية بجيوشه المتماسكة والمطيعة صوب العراق ، ولمّا علم الإمام الحسن عليهالسلام بذلك جمع قوّاته وأعلمهم بالأمر ، ودعاهم إلى الجهاد وردّ العدوان ، فوجموا وساد عليهم الذعر والخوف ، فلم يجبه أحد منهم ، فقد آثروا العافية ، وسئموا من الحرب .
ولمّا رأى تخاذلهم الزعيم الكبير عديّ بن حاتم تميّز غيظاً وغضباً ، واندفع بحماس بالغ نحوهم فجعل يؤنّبهم على هذا التخاذل ، وأعلن استجابته المطلقة لدعوة الإمام ، ودعم موقفه كلّ من الزعيم الشريف قيس بن سعد بن عبادة ، ومعقل بن قيس الرياحي ، وزياد بن صعصعة التميمي ، فأخذوا يلومونهم على هذا الموقف الذي ليس فيه شرف ولا إنصاف ، ويبعثونهم إلى ساحات الجهاد .
وخرج الإمام الحسن عليهالسلام من فوره لمقابلة معاوية ، وسار معه أخلاط من الناس ،
حتّى انتهى إلى النخيلة فأتقام فيها حتّى التحمت به فصائل من جيشه المتخاذل ، ثمّ ارتحل حتّى إنتهى إلى دير عبد الرحمن ، فأقام به ثلاثة أيّام ، ثمّ واصل سيره لا يلوي على شيء .
في المدائن
وانتهى الإمام ، ومعه بعض الفرق من جيشه إلى المدائن ، فأقام بها ، وقد أحاطت به المصاعب والأزمات ، فقد عانى من جيشه الممزّق والخائن ألواناً شاقّة وعسيرة من المحن والمشاكل ، وابتلي بما لم يبتل به أحد من قادة المسلمين وخلفائهم ، وكان من بين ما امتحن به :
١ ـ خيانة القائد العامّ
وكان من أقسى ما ابتلي به الإمام في تلك المرحلة الحسّاسة خيانة ابن عمّه عبيد الله بن العبّاس القائد العامّ لقوّاته المسلّحة ، فقد أرشاه معاوية بما يقارب المليون درهم ، فولّى الخائن الجبان منهزماً تحت جنح الليل البهيم يصحب معه العار والخزي ، فالتحق بمعسكر معاوية ، ولمّا علم الجيش بذلك اضطرب اضطراباً هائلاً ، وماج في الفتنة والشقاء ، ودبّت روح الخيانة في جميع قطعات الجيش ، كما خان جماعة من ذوي الرتب العليا في الجيش ، فالتحقوا بمعسكر معاوية بعد أن أرشاهم بأمواله .
إنّ خيانة عبيد الله
من أقسى الضربات التي حلّت بجيش الإمام ، فقد فتحت أبواب الخيانة على مصراعيها لذوي الضمائر القلقة لبيع ضمائرهم على معاوية ، كما أدّت إلى انهيار معنويات جيش الإمام ، وفي نفس الوقت كانت من أقسى الصدمات التي واجهها الإمام في تلك الفترة العصيبة ، فقد ألقت له الأضواء على نفوس أغلب قادة جيشه ، وأنّهم مجموعة من الخونة الذين لا يملكون أي رصيد
ديني أو وطني .
٢ ـ محاولات لاغتيال الإمام عليهالسلام
ولم تقتصر محنة الإمام وبلواه من جيشه إلى هذا الحدّ ، وإنّما امتدّت إلى ما هو أعظم من ذلك ، فقد قام بعض عملاء الأمويّين وبهائم الخوراج بعدّة عمليات لاغتيال الإمام ، وقد فشلت جميعها وهي :
ـ رمي الإمام بسهم وهو في أثناء الصلاة ، ولم يؤثّر فيه شيئاً .
ـ طعنه بخنجر في أثناء الصلاة .
ـ طعنه في فخذه .
وضاقت الدنيا على ريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآله وطافت به المحن والأزمات ، وأيقن أنّه لا محالة إمّا أن يُغتال ويضيع دمه هدراً ، أو يلقى عليه القبض ويبعث أسيراً إلى معاوية ، وأجال النظر في هذه الاُمور فأفزعته إلى حدّ بعيد .
٣ ـ الحكم عليه بالكفر
وتمادى الخونة والعملاء في جيش الإمام في الجريمة والشرّ ، فقد قابلوا الإمام بكلمات كانت أشدّ عليه من ضرب السيوف وطعن الرماح ، فقد أقبل عليه الجرّاح ابن سنان يشتدّ كأنّه الكلب وهو رافع عقيرته قائلاً : لقد أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل .
ولم ينبر أحد من جيش الإمام إلى معاقبة هذا الأثيم ، لقد انحرف هؤلاء الخونة عن الحقّ ، ومالوا عن الطريق القويم ، فقد حكموا على ابن بنت نبيّهم وابن وصيّه بالكفر والمروق من الدين ، فأيّ ضلال مثل هذا الضلال ؟
٤ ـ نهب أمتعة الإمام عليهالسلام
وعمد اُولئك الأجلاف إلى نهب أمتعة الإمام ، فنزعوا منه بساطاً كان جالساً عليه ، وسلبوا منه رداءه ، ولم تكن هناك أيّة حماية للإمام من جيشه ، فقد جرت هذه العمليّة بمرأى ومسمع منهم .
هذه بعض الأحداث المروّعة التي عاناها الإمام عليهالسلام في المدائن ، وهي تلزمه بالصلح والتخلّي عن ذلك المجتمع المصاب بأخلاقه وعقيدته .
ضرورة الصلح
أمّا صلح الإمام الحسن عليهالسلام مع معاوية ، فقد كان ضروريّاً حسب الأعراف السياسيّة ، كما كان واجباً شرعيّاً مسؤول عن تنفيذه أمام الله والاُمّة ، فإنّه لو فتح باب الحرب بجيشه المنهزم نفسيّاً لتغلّب عليه معاوية بأوّل حملة ، ولما أمكنه أن يحقّق أي نصر ، وفي تلك الحالة لا يخلو أمره من إحدى حالتين : إمّا القتل أو الأسر ، فإن قتل فلا تستفيد منه القضيّة الإسلاميّة لأنّ معاوية بما يملك من دبلوماسيّة مبطّنة بالخداع والمكر والنفاق ، سوف يلقي التبعة على الإمام في قتله ، ويبرّئ نفسه من أيّة مسؤوليّة ، وأمّا إذا لم يُقتل الإمام ، وحمل إلى معاوية أسيراً ، فإنّه من دون شكّ سوف يعفو عنه ، وبذلك يسجّل له يداً بيضاء على الاُسرة النبويّة ، ويمحو عنه وعن اُسرته وصمة الطليق التي وصمهم بها النبي صلىاللهعليهوآله .
وعلى أي حال ، فإنّ الإمام الحسن عليهالسلام قد اضطرّ إلى الصلح واُرغم عليه ، ولم تكن هناك أيّة مندوحة للعدول عنه ، وقد جرى الصلح حسب شروط ذكرناها بالتفصيل مع تحليلها في كتابنا ( حياة الإمام الحسن عليهالسلام ) .
وممّا لا شكّ فيه حسب
المقاييس العلميّة والسياسيّة أنّ الإمام أبا محمّد قد انتصر في هذا الصلح ، فقد أبرز حقيقة معاوية الجاهليّة ، وقد ظهرت خفايا نفسه ،