عماد الدين بن محمد الطبري [ الكيا الهرّاسي ]
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٢
ذلك اتباع أمر الله تعالى فيها ، ورفض ما كانت عليه الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها ، وتعليق الأحكام على الأسماء التي رتبوها عليها ، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع في خطبته بالعقبة :
«أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض» (١).
وإن الذي تجعله الجاهلية ، من جعل المحرم صفرا وصفر محرما ، ليس يتغيرن ما وضعه الله تعالى.
والذين صاروا إلى جعل بعض السنين ثلاثة عشر شهرا ، ليس على ما توهموه ، لأن الله تعالى لم يضع غير اثني عشر شهرا ، فهذا وجه.
ويحتمل أن يكون قوله في كتاب الله ، أن الله تعالى قسم الزمان في الأصل اثني عشر قسما ، فجعل نزول الشمس في كل برج من البروج الاثني عشر ، قسما منها ، فيكون قطعها للفلك في ثلث مائة وخمس وستين يوما وربع يوم ، فيجيء نصيب كل قسم منها بالأيام ثلاثين يوما وكسر ، وقسم الأزمنة أيضا على سير القمر ، فصار القمر يقطع الفلك كل تسعة وعشرين يوما ونصف ، وجعل السنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوما وربع يوم ، واختلفت سنة الشمس والقمر ، مع اتفاق أعداد شهورها ، وكان تفاوت ما بينها أحد عشر يوما بالتقريب ، وكانت شهور القمر ثلاثين وتسعة وعشرين ، فيما يتعلق بها من أحكام الشرع ، ولم يكن للنصف الذي هو زيادة على تسعة وعشرين يوما حكم ، وكان ذلك هو القسمة التي قسم الله تعالى عليها السنة في ابتداء وضع الخلق ، ثم جاءت الأمم فغيرت هذا الوضع ، وكان قصدهم بذلك أن لا تتغير الشهور عن
__________________
(١) أخرجه ابن جرير عن معمر بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله.
أوقاتها التي هي عليها شتاء وصيفا وخريفا وربيعا ، فاقتضاهم ذلك أوضاعا مختلفة. فوضعت الروم اثني عشر شهرا ، بعضها ثمانية وعشرون ، وبعضها ثمانية وعشرون ونصف ، وبعضها أحد وثلاثون ، وكانت شهور الفرس ثلاثين إلا شهرا واحدا ، وهو أباز ماه ، فإنه خمسة وثلاثون ، ثم كانت تكبس في كل مائة وعشرين سنة شهرا كاملا ، فتصير السنة ثلاثة عشر شهرا ، فأما أشهر العرب ، فإنها تسعة وعشرون أو ثلاثون ، وأبطل الله تعالى كبسه الفرس ، وجعلها ثلاثة عشر شهرا في بعض السنة ، وأبطل ما كان المشركون عليه من تغيير النظام ، وصارت الشهور التي لها أسامي لا تؤدي الأسماء معانيها ، لأنها تارة تكون في الصيف ، وتارة تكون في الشتاء ، وأراد الله تعالى أن يجعل شهر رمضان تارة في الصيف وتارة في الشتاء ، استيغالهم مصالح الدين والدنيا في التخفيف تارة ، وفي التغليظ أخرى ، ولم يكن صومنا كصوم النصارى في الربيع لا يختلف.
قوله تعالى : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) ، الآية / ٣٧.
هو متعلق بما تقدم ، وهو أن العرب كانت تجعل المحرم صفر وصفر المحرم في بعض السنين ، على ما كانت تقضيه الكبسة التي كانت لهم. وأول من وضع ذلك من العرب ملك لهم يقال له القلمّس (١) ، واسمه حذيفة ، وهو أول من أنسأ النسيء ، أنسأ المحرم ، فكان يحله عاما ويحرمه عاما ، فكان إذا حرمه كان ثلاثا حرما متواليات ، وهي التي يقال ثلاثة سرد ، وهي العدة التي حرم الله تعالى في عهد ابراهيم ، فإذا أحله دخل مكانه صفر في المحرم لتواطئ العدة ، يقول قد أكملت الأربعة كما كانت ، لأني لم أحل شهرا إلا وقد حرمت مكانه شهرا ، لكنه ليس مسرورا ،
__________________
(١) القلمس بقاف فلام مفتوحتين ، ثم ميم مشددة قال في القاموس وشرحه : هو رجل كناني من نسأة الشهور على معد في الجاهلية.
فحج النبي صلّى الله عليه وسلم ، وقد عاد المحرم إلى ما كان في الأصل ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ) ، فأخبر الله تعالى أن النسيء الذي كانوا يفعلونه كفر ، وأن الأشهر الحرم الثلاثة لا بد أن تكون متوالية ، وأن صفر لا يقام مقامها ، فهذا معنى هذه الآية.
وقال قائلون في معنى هذه الآية إن روما من بني كنانة وغيرها ، كانوا يؤخرون الحج عن وقته في كل سنة شهرا ، فيوقعونه في المحرم بعد ذي الحجة ، وفي السنة الثانية في صفر ، فبين الله تعالى أن هذا الصنيع كفر.
قوله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) ، الآية / ٤١.
وقوله تعالى : (ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) ، الآية / ٣٨.
اختلفوا في عمومه ، فمنهم من قال : إنه أراد به كل المؤمنين.
وعند أبي علي الجبائي الآية مخصوصة.
واختلف العلماء في وجوب هذا التغير :
فمنهم من قال : المراد به وجوب النفور إلى الرسول إذا دعا إلى الجهاد وأمر به ، وهو الأصح.
ومنهم من قال : إن المراد به عند الحاجة وظهور الكفرة واشتداد شوكتهم.
وظاهر الآية يدل على أن ذلك على وجه الاستدعاء ، فعلى هذا لا يتجه الحمل على وقت ظهور المشركين ، فإن وجوب ذلك لا يختص بالاستدعاء ، وإذا ثبت ذلك ، فالاستدعاء والاستبقاء يبعد أن يكون موجبا شيئا لم يجب من قبل ، إلا أن الإمام إذا عين قوما وندبهم إلى الجهاد ، لم يكن لهم أن يتثاقلوا عنه ، وله ولاية التعيين ، ويصير بعينه فرضا على من عينه لا لمكان
الجهاد ، ولكن طاعة الامام واجبة ، وإذا لم يكن كذلك وكان من أهل الثغور كفاية ، فالذي قاله أصحابنا أنه يجب على الامام أن يفرق في الجهات الأربعة قوما في كل سنة ، يظهر لهم النكاية في العدو ، ويمنعهم ذلك من انتهاز فرصة الاحتشاد والاستعداد ، وإذا حصلت الكفاية لقوم ، سقط عن الباقين ، فليس الجهاد على هذا الرأي فرضا على كل واحد ، وإنما هو فرض كفاية ، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين.
قوله تعالى : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، الآية / ٤٠.
يستدل به على إضافة الفعل إلى غير فاعله ، إذا كان منه تسبب ، فإنه تعالى قال : (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، وما أخرجوه حقيقة بل أخافوه حتى اضطر إلى أن يخرج ، وكان الصديق معه ، فتارة كان يمشي بين يديه ، وتارة يمشي خلفه ، وقال يا رسول الله : إذا ذكرت الرصد مشيت بين يديك ، وإذا ذكرت الطلب مشيت خلفك.
وظن جهال الإمامية أن قول الرسول عليه الصلاة والسلام لأبي بكر : «لا تحزن» ، يدل على جهل منه ونقيصة ، وذلك يوجب مثله في قوله تعالى لموسى :
(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قُلْنا لا تَخَفْ)(١).
وقوله في قصة إبراهيم :
(فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ)(٢).
__________________
(١) سورة طه آية ٦٧ ـ ٦٨.
(٢) سورة هود آية ٧٠.
فإذا لم يكن ذلك طعنا عليهم ووصفا لهم بالنقص ، فكذلك في أبي بكر ، وليس حزنه من جهة الشدة والحيرة ، بل لتجويزه وصول الضرر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، وإليه ، وما كان الخبر أتاه بأن الرسول كان معصوما من القوم محروسا منهم ، حتى قال له الرسول لا تحزن ، فسكن إلى ذلك.
وقوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(١) ، نزل بعد الهجرة بسنين ، فلا يوجب كون أبي بكر عالما بعصمته ، ولو علم أنه يسلم منهم بنفسه لم يأمن مضرة بجراحة أو غيرها ، وفي ذلك جواز الحزن والخوف عليه.
قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) ، الآية / ٦٠.
ظاهر الآية أن المسكين غير الفقير.
وقال قوم : هما واحد ، إلا أنه ذكرهما باسمين لتأكيد الأمر فيه ، وليس ذلك بصحيح.
وإذا ثبت ذلك ، فللشافعي وأبي حنيفة اختلاف في اللفظ في أيهما أعظم حاجة وأشد خصاصة ، وليس يتعلق به كبير فائدة شرعية ، وليس ببين أن يجعل المسكين صنفا والفقير صنفا ، فيقال : يعطي الصنفان وهما فقيران إلا أن أحد الصنفين أشد فقرا من الآخر ، فمن هذا الوجه يقرب قول من جعلهما واحدا.
ومطلق لفظ الفقر لا يقتضي الاختصاص بالمسلمين دون أهل الذمة ، ولكن تظاهرت الأخبار في أن الصدقة تؤخذ من أغنياء المسلمين ، وترد في فقرائهم.
__________________
(١) سورة المائدة آية ٦٧.
والذي يمكن أن يفهم من الآية ، ومن السنة ، أن الله تعالى أطلق الصدقات ، وبين الرسول عليه الصلاة والسلام أصناف الصدقات ، وما تجب فيه الزكاة ، وما لا تجب ، والذي لا تجب قد تجب فيه إذا اتجر.
وقد حكي عن زين العابدين أنه قال : إنه تعالى علم قدر ما يرتفع من الزكاة ، وأنه بما تقع به الكفاية لهذه الأصناف فأوجبه لهم ، وجعله حقا لجميعهم ، فمن منعهم ذلك فهو الظالم لهم رزقهم.
ولذلك قال قوم من العلماء : إن الزكاة تصير شركة للفقراء ، وهو قول الشافعي.
وظاهر الآية يقتضي ذلك ، لأن قوله : إنما الصدقات للفقراء كالتمليك وإنما لم يجعله تمليكا حقيقة من حيث جعل لوصف لا لعين ، وكل حق جعل لموصوف ، فإنه لا يملكه إلا بالتسليم ، إلا أن ذلك لا يمنع استحقاق الأصناف لأنواع الصدقات ، حتى لا يحرم صنف منهم.
واختلف العلماء في استيعاب هذه الأصناف : فمنهم من قال الفرض به بيان المصارف حتى لا يخرج عنهم ، ثم الاختيار إلى من يقسم ، وهو قول عمر وابن عباس وحذيفة وخلق من التابعين ، كالحسن وابراهيم وغيرهما ، حتى ادعى مالك الإجماع في ذلك.
وقال الشافعي وبعض أهل الظاهر : يتعين استيعاب الجميع إلا إذا عدم بعضهم ، فيصرف نصيبه إلى الباقين (١).
فمن هذا الوجه ، فارق إضافة الأموال إلى مستحقيها ، وفارق الوصية إلى أقوام ، فإنه إذا تعذر الوصول إلى بعض من أوصى له لا يصرف نصيبه إلى الباقين.
__________________
(١) أنظر كتاب أحكام القرآن للإمام الشافعي وللجصاص.
ورأى الشافعي أن استيعاب جهات الحاجات ، يجوز أن يكون أعظم في القربة ، ولا يجوز رفع المزية بلا دليل مع موافقة الظاهر له ، وإذا تعذر البعض ، فالأقرب إلى القربة الصرف إلى الباقين.
فعلى هذا لا نقول : إن الصرف على الأصناف على نحو صرف الوصاية إلى الأصناف والأشخاص ، وأن الإضافة إليهم بلام التمليك ، ولكنا ندعي أن استيعاب جهات الحاجات في القربة أو في الصرف إلى واحد.
وإذا ثبت زيادة القربة في المنصوص عليه لم يجز الغاؤه ، وهذا بين.
وقد شنع علي بن موسى القمي على الشافعي بأن قال :
إذا كان قدر الواجب نصف دينار ، وكان هو القاسم لذلك ، ووجد السهمان كيف يفرق ذلك فيهم ، ولا يسد مسدا ، فإنه ينقسم نصف دينار على ثمانية أصناف ، ويصرف من كل صنف إلى ثلاثة ، فيحتاج أن يقسمه على أربعة وعشرين سهما ، وأحد السهام المكاتبون ، والمقصود إزالة الرق ، وأي أثر لهذا القدر في إزالة الرق.
والذي ذكره جهالة تلزم عليه ، إذا أوصى الموصي بها للأصناف.
ولأنه ليس الأمر مقصورا عليه وحده ، بل إذا كان بينه وبين غيره حصل الاستيعاب ، وحصل مقصود الأصناف منه ومن غيره ، فلا معنى لهذا التشنيع.
ولا خلاف أن لا يجوز صرف الجميع إلى العاملين عليها ، فإنه إنما يأخذ أجرته ، فلو وضع فيه تناقض ، فإنه يسعى للفقير ، فكيف يأخذ الكل إلى نفسه ، فهذا آخر فصول هذه الآية.
الفصل الآخر في الفقراء والمساكين ، وقد ذكرهما الله تعالى باسمين ، فقال بعضهم :
ذكرهما باسمين ليؤكد أمرهم في هذه الصدقات بأشد من تأكيد غيرهم. ومنهم من قال : ذكرهما باسمين لكونهما صنفين ، وهذا ما قدمناه.
ثم اختلفوا في معنى الفقير :
فمنهم من قال إنه المتعفف الساتر فقره عن الناس ، وقد وصفه الله تعالى بذلك في قوله :
(لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ... إلى قوله : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ)(١)
والمسكين الذي يسأل إذا احتاج ، ويمسك إذا استغنى ، ويتخاضع للمسألة ، وذلك هو اختيار الأصم.
ومنهم من قال : الفقير هو الضعيف الذي لا يسأل ، والمسكين الذي يسأل ، ورووه عن ابن عباس ، وهو قريب مما قدمناه.
وقد قيل : الفقير هو الزمن الذي لا يقدر على التكسب ، والمسكين الصحيح.
وقد قيل : الفقير أشد حاجة ، فإنه مأخوذ من كسر فقار الظهر ، والمسكين دونه في الحاجة.
وقد وصف الله تعالى ملاك السفينة ، بأنهم مساكين يعملون في البحر وأنه مأخوذ من السكون.
وبالجملة : الفقر في ظاهره أدل على الحاجة من المسكنة ، لأن المسكين إنما يدل حاله على الحاجة من حيث المعنى ، وهو التخاضع الذي هو دليل الحاجة لا من حيث اللفظ ، والفقر عبارة عن الحاجة.
ومن جعلهما صنفا واحدا ، قال لا فقير إلا ويحسن أن يسمّى مسكينا.
__________________
(١) سورة البقرة آية ٢٧٣
وللفقراء مراتب لا تنحصر في مرتين أو ثلاثة أو أربعة ، والذي يعددها ينظر إلى العطف ومعناه ، وذلك يقتضي الفرق بينهما ، فيقال :
الفقير هو الشديد الحاجة مع التعفف ، والمسكين هو المظهر لحاجته بالمسألة.
ولعل من جعل الفقير هو الزمن ، فلأن الزمانة تقعد عن الطلب ، ومن جعل المسكين الصحيح فلتمكينه من الطلب.
واعلم أن مطلق الفقير ليس فيه شرط وتقييد ، بل فيه دلالة جواز الصرف إلى ذوي القربى من بني هاشم وغيرهم ، ولكن السنة وردت باعتبار شروط ، منها أن يكون من بني هاشم. وروي عن أبي يوسف (١) جواز صرف صدقة الهاشمي إلى الهاشمي.
ومن شرائطه ألا يكون كسوبا مقدار كفايته ، فإنه عليه الصلاة والسلام قال :
«لا تحل الصدقة لغني ، ولا لذي مرة سوي» (٢).
والظاهر يقتضي جواز ذلك ، لأنه فقير مع قوته وصحة بدنه ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه.
ومن شرائطه : أن يكون ممن لا تلزم المتصدق نفقته ، ولكن هذا الوجه يحرم الزكاة للفقر لا للغرم أو غيره من الصفات.
واختلفوا فيما به يخرج عن كونه فقيرا ، فقال قوم : بألا يملك نصابا.
__________________
(١) وأبو يوسف هو صاحب الامام الأعظم أبو حنيفة رضي الله عنهما ، وهو القاضي الفقيه أبو يوسف يعقوب بن ابراهيم صاحب كتاب لخراج المشهور.
(٢) أخرجه الامام أحمد في مسنده والزيلعي في نصب الراية.
وقال قوم : إنه لا يتحدد ذلك ، ويختلف باختلاف أحوال الناس ، فمنهم من يكثر وجوه حرجه ، فيعد فقيرا مع ملك نصب كثيرة ، وربما احتاج في يوم إلى نصاب ، فهذا يعد فقيرا ، وهو أقرب إلى الظاهر ، وهو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى.
واختلفوا في أنه هل يدفع له مقدار أم لا؟
فقال بعضهم : لا يجوز أن يدفع إليه أكثر مما يصير به غنيا.
وقال آخرون : يجوز ، وهو الأليق بالظاهر ، فإنه تعالى جوز وضع الصدقة في الفقير ولم يفصل.
واختلفوا في هل استحقاق الصدقات كلها بالفقير والحاجة فقط ، أو بذلك مع غيره.
فمنهم من قال بالوجه الأول ، وزعم أن الله تعالى إنما ذكر الأصناف لاختلاف معنى الحاجة فيهم ، فأكد ذلك وبينه ، وإلا فالوجه الذي لأجله يجوز وضع الصدقة فيهم واحد ، على ما قاله عليه الصلاة والسلام ، وردها في فقرائهم.
فبين أن الاستحقاق بهذا الوجه الواحد.
وأما العاملون ، فإنهم يأخذون من جهة الفقراء لا من جهة رب المال ، إلا أنه لا يدفع إليهم إلا أجرة سعيهم ، فهم كالوكلاء للفقراء ، ومنهم يأخذون هذا السهم. وكذلك الجواب عن المؤلفة ، حيث كانت ، لأنهم مع الغنى كانوا يأخذون لإعزاز الدين.
ومن قال بالقول الثاني قال : إن الغارم قد يأخذ مع الغنى ، وكذلك ابن السبيل ، وكذلك الغازي.
والأقرب إلى الظاهر هذا القول ، فإن الله تعالى ذكر هذه الأصناف ، فإن أراد المريد بالحاجة أنه لا بد منها في جميعهم على بعض الوجوه
فصحيح ، فإن العامل وإن كان غنيا ، ففي صرف أجرته إليه تقوية لأمر الصدقات ، فالحاجة إليهم ماسة ، وفي الصرف إلى المؤلفة قلوبهم تقوية الإسلام ، فالحاجة واقعة ، وكذلك الغارم بالديات ، تمس الحاجة إليه لتسكين الفائزة (١) ، وتطفية الفتنة.
وقد استدل قوم في نصرة قول الشافعي ومذهب أبي حنيفة ، على أن ذكر العامل يدل على وجوب دفع الزكاة إليهم ، وأنه لا يجوز أن يفرق بنفسه ، وهذا فيه نظر ، لأن ذكرهم يتضمّن أنهم إذا كانوا أعطوا نصيبهم ، فأما إذا لم يكونوا فلا ، وليس في الظاهر أنه لا بد منهم ، كما أنه ليس في الظاهر أنه لا بد من رقاب وغارم ومؤلفة.
فأما المؤلفة ، فقد قيل كان ذلك وزال.
وقد قيل : للإمام أن يتألف قوما إذا رأى في تأليفهم صلاحا للمسلمين ، لما فيه من دفع ضررهم أو الضرر بمكانهم ، فله أن يدفع إليهم سهم المؤلفة قلوبهم ، فإن الله تعالى لم يخص وقتا دون وقت.
وأما الرقاب ، فقد اختلف فيه.
فقال قائلون أراد به العتق ، وهو قول ابن عباس (٢) ، وكان لا يرى بأسا أن يعطي الرجل من زكاته في عتق رقبة ، وهو قول الحسن.
وقال الأكثرون : المراد به المكاتبون ، وهو قول إبراهيم وسعيد بن جبير والشعبي وغيرهم ، وعلل سعيد بن جبير وقال : لا يعتق من الزكاة مخافة جر الولاء (٣).
__________________
(١) وفي نسخة أخرى : لتسكين النازلة.
(٢) أنظر تفسير الطبري ، وتفسير الدر المنثور في التفسير بالمأثور السيوطي ، وتفسير ابن كثير.
(٣) أنظر المصادر السابقة من كتب التفسير.
وذكر علي بن موسى القمي أنهم أجمعوا على أن المكاتب مراد ، واختلفوا في عتق الرقاب ، وذكر هو وجوها بينة في منع ذلك.
منها : أن العتق إبطال ملك وليس بتمليك ، وما يدفعه إلى المكاتب تمليك ، ومن حق الصدقة ألا تجري إلا إذا جرى فيها التمليك ، وقوى ذلك بأنه لو دفع الزكاة عن الغارم في دينه من غير إذنه ، لم يجزه من حيث إنه لم يملك ، فلأن لا يجزى ذلك في العتق أولى.
وذكر أن في العتق جرّ الولاء إلى نفسه ، وذلك لا يحصل في دفعه إلى المكاتب.
وذكر أن ثمن العبد إذا دفعه إلى العبد لم يملك ، وإن دفعه إلى السيد فقد ملكه الغنى ، وإن دفعه بعد الشراء والعتق ، فهو قاض دينا ، وذلك وذلك لا يجوز في الزكاة.
وأما حق الغارمين ، فقد قيل هو المستدين من غير سرف ولا وفاء في ماله بدينه ، وروى قريب من ذلك عن ابن عمر وعائشة ، وروى علي بن موسى القمي بإسناده عن الحسن بن علي أنه قال :
أن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة :
لذي فقر مدقع ، ولذي غرم مفظع ، ولذي دم (١) موجع ، وعلى هذا إذا تحمل مما له فيها مصلحة للمسلمين.
وروي عنه صلّى الله عليه وسلّم في حديث قبيصة بن مخارق أنه قال :
تحملت حمالة فأتيته صلّى الله عليه وسلّم فسألته فقال : «يؤديها عنك إذا جاءت نعم الصدقة». ثم قال : «أما علمت أن المسألة لا تحل إلا لثلاثة :
رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو سدادا من عيش.
__________________
(١) وهذا أخرجه أبو داود في سننه والطبراني في معجمه الكبير ، وابن حميد في مسنده.
ورجل أصابته فاقة وحاجة حتى تكلم ثلاثة من ذوي الحجر من قومه ، فحلت له المسألة ، حتى يصيب سدادا من عيش أو قواما من عيش ثم يمسك».
فدل قوله من تحمل حمالة ، أن المسألة تحل له حتى يؤدي ثم يمسك ، على أنه غني ، لأنه لو كان فقيرا لم يلزمه أن يمسك ، بل كان يحل له أن يسأل لفقره.
وظاهر الغارم يتناول الغارمين كلهم.
وقوله : وفي سبيل الله : قد قيل ، إن المراد به الغازي وإن كان غنيا (١) وقيل : هذا يختص بالفقير.
ومنهم من يقول : إن كان مستغنيا بالفيء ولم يعط ، وإلا أعطى.
والظاهر أنه الغازي ، وأنه لا فرق بين أن يكون محتاجا أو معه من الفيء ما يحرم أخذ الصدقة ، لأنه يحتاج لعدة جهاده وتقوية قلبه ، إلى ما لا يحتاج إليه غيره ، فصرف الصدقة إليه جائز والحالة هذه.
وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال :
«لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله».
وهذا موافق للظاهر.
وفي رواية : لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله وابن السبيل.
وابن السبيل يأخذ الزكاة مع غناه ، وقد قيل : هو مختص بمن يوجد مسافرا.
وقد قيل : يلحق به من يهم بسفر لا يضره تركه (٢).
__________________
(١) ذكر ذلك الطبري في تفسيره ، والسيوطي في الدر المنثور.
(٢) أنظر تفسير هذه الآية في محاسن التأويل لجمال الدين القاسمي.
قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) ، الآية / ٦٥ :
فيه دلالة على أن اللاعب والخائض سواء في إظهار كلمة الكفر على غير وجه الإكراه لأن المنافقين ذكروا أنهم قالوا ما قالوه لعبا ، فأخبر الله تعالى عن كفرهم باللعب بذلك.
ودل أن الاستهزاء بآيات الله تعالى كفر.
قوله تعالى : (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)(١).
روى ابن مسعود أنه قال :
«جاهدهم بيدك ، فإن لم تستطع فبلسانك ، فإن لم تستطع فاكفهر في وجوههم».
وقال ابن عباس : جاهد الكفار بالسيف ، والمنافقين باللسان.
قوله تعالى :
(يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) ، الآية / ٧٤ :
والذي قالوه من كلمة الكفر قول الخلامس بن سويد بن الصامت : إن كان ما جاء به محمد حقا لنحن شر من الحمير.
وقول عبد الله بن أبي في قوله تعالى : (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ)(٢) ، وفيما قص الله تعالى علينا من نبأ المنافقين مع استيعابهم ، دليل على أن توبة الزنديق مقبولة إذا لم يظهر الكفر.
__________________
(١) سورة التوبة آية ٧٣.
(٢) سورة المنافقون آية ٨
قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ) ، الآية / ٧٥.
ذكر ابن عباس في سبب نزول هذه الآية ، أن حاطب بن أبي بلتعة أبطأ عنه ماله بالشام ، فحنف في مجالس الأنصار ، إن سلّم ذلك لأتصدق منه ، ولأصلن منه ، فلما سلم بخل بذلك ، وهذا نذر التبرر المتفق عليه.
وقيل نزل ذلك في شأن المنافقين الذين عاهدوا ثم أخلفوا.
واستدل به قوم على أن من حلف إن فعل كذا ، فعلي كذا لله تعالى ، أنه يلزمه.
وظاهر الآية لا يدل عليه ، لأنه ليس بنذر ، ولا قصد فعله ، ولا إنه مما يقال فيه : لئن آتانا من فضله.
وقد استدل به على أن من قال إن آتاني الله مالا تصدقت به وفعلت وصنعت.
قوله تعالى : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ)(١) :
يحتمل أن يكون ذلك من الله تعالى ، ويحتمل أن يكون بعض المعاصي داعيا إلى البعض ، فكأن البخل أعقب النفاق.
وأبان به إن بعض الأفعال قد تكون لطفا في بعض ، وبعضها فسادا في بعض.
وقد يدل ذلك على أن الذي عاهد لم يكن منافقا من قبل.
فأعقبهم نفاقا. ثبتوا عليه إلى الممات ، وهو معنى قوله إلى يوم يلقونه (٢).
قوله تعالى : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) ، الآية / ٨٠.
__________________
(١) سورة التوبة آية ٧٧.
(٢) انظر ما ذكره السيوطي في لباب النقول ، والبيهقي في الدلائل.
كلمة (أو) هاهنا ليست للتخيير ، لأن التخيير ، لا يصح مع قوله : (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ).
وذكر السبعين كالمبالغة ، مثل قول القائل : لو سالتني مائة مرة ما أجبتك. ولا يكون المراد به التحديد ، وذلك معلوم من الفحوى.
ويدل عليه ، أنه علل بأنهم كفروا بالله ، والعلة قائمة بعد السبعين ، فظهر أن ذلك ليس بتخيير ، بل هو منع من الاستغفار.
وروي في بعض الأخبار أنه عليه الصلاة والسلام قال في هذه الآية : خيرني ربي ، والصحيح الأول.
قوله تعالى : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) ، الآية / ٨٤.
وكان قد صلّى على عبد الله بن أبي ، بناء على الظاهر من لفظ إسلامه ، وأما لأنه لم يعرف نفاقهم ، ثم لم يكن يفعل ذلك لما نهي عنه.
قوله تعالى : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) ، الآية / ٩١.
يحتج به في إسقاط الضمان عن قاتل البهيمة الصائلة.
وقوله تعالى : (السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) ، الآية / ١٠٠.
يدل على تفضل السابق إلى الخير على التالي ، لأنه داع إليه بسبقه ، والتالي تابع له ، فهو إمام له وله أجر مثله ، كما قال صلّى الله عليه وسلم :
«من سن سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سن سنة سيئة» ، الحديث (١).
قوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) ، الآية / ١٠٣ :
الأكثرون من المفسرين ، على أن المراد بالآية الصدقات الواجبة في
__________________
(١) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير عن وائلة رضي الله عنه.
الأموال ، وليس في الآية بيان مقدار المأخوذ ولا المأخوذ منه ، وليس في الآية بيان شروط معتبرة في المأخوذ منه ، ولا معتبرة في المأخوذ ، ولا شروط في المؤدي ، ولا شروط في الآخذ:
قوله تعالى : (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها).
يدل على أن الله تعالى جعل الزكاة تطهيرا ، ودعاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم طمأنينة لقلوبهم ، وعلما على أن الله تعالى غفر لهم ، فإنه لا يصلي على قوم إلا أن يؤذن له في ذلك ، ولا يؤذن له في ذلك إلا أن يكون مغفورا له.
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، الآية / ١٠٧.
يدل على أن الأفعال تختلف بالقصود والإرادات ، ولذلك قال : ـ (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) ، وإن الذي اتخذ لقصد التفريق بين المؤمنين لا تحل به حرمة ، ولذلك قال : (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) ، وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهدمه.
قوله تعالى : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) ، الآية / ١٠٨.
وذلك يدل على فضيلة الطهارة.
ثم قال : (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ) ، الآية / ١٠٩.
هو من المجاز المستحسن ، وذم اتخاذ المسجد للطعن على الإسلام والتفريق بينهم ، وبين أن هذا الصنيع يوجب انهيارهم في نار جهنم ، فعبر عن ذلك بقوله : (أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ).
ثم أبان عن موتهم على الإصرار بقوله : (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ)(١).
ومن المجاز المستحسن قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ) ، الآية / ١١١.
فجعل بذل أنفسهم في الجهاد وإنفاقهم في ذلك طلبا للثواب بيعا ، وجعل ما طلبوه ثمنا.
ولما كان تعالى هو المرغب في ذلك والداعي إليه ، وصف نفسه بأنه اشترى أنفسهم ، كما وصفوا بأنهم باعوا وابتاعوا ، وفي ذلك دلالة على عظم محل الجهاد ومنزلته.
ودل أن هذا التعبد كما ورد به القرآن ، فكذلك التوراة والإنجيل.
ودل به على أن الله تعالى لا يخلف الوعد ، ولذلك قال : (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ)؟ ويدخل في الوعد الوعيد.
ثم أبان تعالى ما يتعلق به تمام البشارة في معاهدة الله عز وجل فقال :
(التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) ، فبين الله تعالى أنه لا بد في المؤمن المجاهد أن يكون على هذه الصفات ، وعند ذلك يكون مبشرا على ما قال في آخره :
(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) ، الآية / ١١٢.
وانطوت الآية على سائر العبادات من توبة وعبادة ، وقيام بشكر ، وأمر بمعروف ، ونهي عن منكر.
ثم أجمل ما يأتي على كل مكلف به ، وهو الحفظ لحدود الله تعالى ، فيدخل تحت ذلك اجتناب الكبائر كلها ، والقيام بالطاعات كلها (٢).
__________________
(١) سورة التوبة آية ١١٠
(٢) أنظر محاسن التأويل لجمال الدين القاسمي.
قوله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) ، الآية / ١١٣.
فأبان أنه لا يغفر لهم ، وحرم ذلك ، لأنه طلب مغفرة مأيوس منها سمعا.
وأبان أن استغفار إبراهيم لأبيه ، كان على توقع الإيمان منه إذا آمن ، فلما علم أنه لا يؤمن امتنع من الاستغفار.
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) ، الآية / ١١٩.
فيه دلالة على التأمل في الأقوال ، وأن لا نتبع منها إلا ما دلت الدلالة عليه ، وبان صدقه ، فأما أن نأخذ تقليدا دون أن نعلم صدقه فلا وليس فيه دلالة على رد أخبار الآحاد والظنون ، فإنها لا تقبل عندنا إلا إذا دل الدليل القاطع على وجوب اتباعها والعمل بها عند ذلك الدليل ، الذي يوجب العلم به ، معلوم صدقه حقيقة ، فيكون الإتباع للصادق تحقيقا.
وقال تعالى في سورة البقرة :
(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ـ إلى قوله ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا)(١).
وهذه صفة أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ، المهاجرين والأنصار منهم ، ثم قال في هذه الآية : (كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)(٢).
فدل على وجوب إتباعهم والاقتداء بهم ، لإخباره أن من فعل ما ذكر
__________________
(١) سورة البقرة آية ١٧٧.
(٢) سورة التوبة آية ١١٩.
في الآية فهم الذين صدقوا ، ولا يدل ذلك على وجوب اتباع إجماعهم ، إلا إذا بان بالدليل صدقهم فيه.
قوله تعالى : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) ، الآية / ١٢٠.
بيّن في هذه الآية وجوب الخروج على أهل المدينة مع رسول الله في غزواته ، إلا المعذورين ومن أرخص له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في القعود.
وقال الله عز وجل : (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) ، الآية / ١٢٠.
أي لا يطلبون المنفعة بتوقية أنفسهم دون نفسه ، بل كان الواجب عليهم أن يوقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأنفسهم ، وقد كان من المهاجرين والأنصار من يفدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنفسه ، ويبذل نفسه للقتل ، ليبقى بذلك رسول الله.
وقال تعالى : (وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) ، الآية / ١٢٠.
استدل به قوم على أن وطء ديارهم إذا جعل بمنزلة النيل من الكفار ، وأخذ أموالهم ، وإخراجهم من ديارهم ـ وهو الذي يغيظهم ويدخل الذل عليهم ـ فهو بمنزلة نيل الغنيمة ، ولذلك قال علي : ما وطئ قوم في عقر ديارهم إلا ذلوا.
قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) ، الآية / ١٢٢.
روي عن ابن عباس أنه نسخ بقوله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً)