الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-46-9
الصفحات: ٣٤٣
الليالي .
ولو قال : ليالي هذا الشهر ؛ لم ينعقد عندنا ؛ لأنّ من شرط الاعتكاف الصوم ، والليل ليس محلاً للصوم .
وقال الشافعي : ينعقد ويلزم الاعتكاف ليلاً ، ولا يلزمه الأيّام (١) .
ولو نذر اعتكاف يوم ، قال الشافعي : لا يلزم ضمّ الليلة إلّا أن ينوي ، فحينئذٍ يلزم ؛ لأنّ اليوم قد يطلق ويراد به اليوم بليلته (٢) .
وللشافعي قول آخر : إنّه تدخل الليلة إلّا أن ينوي يوماً بلا ليلة (٣) .
ولو نذر اعتكاف يومين ، وجب عليه ضمّ ثالث إليهما عندنا ، وعند العامّة لا يلزم .
فعلى قولهم هل تلزمه الليلة بينهما ؟ للشافعية ثلاثة أوجه :
أحدها : لا تلزم إلّا إذا نواها ؛ لما سبق من أنّ اليوم عبارة عمّا بين طلوع الفجر وغروب الشمس .
والثاني : تلزم إلّا أن يريد بياض النهار ؛ لأنّها ليلة تتخلّل نهار الاعتكاف ، فأشبه ما لو نذر اعتكاف العشر .
والثالث : إن نوى التتابع أو قيّد به لفظاً ، لزمت ليحصل التواصل ، وإلّا فلا (٤) .
ولو نذر اعتكاف ليلتين ففي النهار المتخلّل بينهما هذا الخلاف .
ولو نذر ثلاثة أيام أو عشرة أيام أو ثلاثين يوماً ، ففي لزوم الليالي المتخلّلة ، الوجوه الثلاثة (٥) .
__________________
٤٩٣ .
(١) فتح العزيز ٦ : ٥١٣ ، المجموع ٦ : ٤٩٣ ، حلية العلماء ٣ : ٢١٨ .
(٢ و ٣) فتح العزيز ٦ : ٥١٤ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع ٦ : ٤٩٦ .
(٤) المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع ٦ : ٤٩٦ ـ ٤٩٧ ، فتح العزيز ٦ : ٥١٤ .
(٥) فتح العزيز ٦ : ٥١٥ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع ٦ : ٤٩٧ .
وقال بعض الشافعية : إن نذر اليومين لا يستتبع شيئاً من الليالي ، والخلاف في الثلاثة فصاعداً ؛ لأنّ العرب إذا أطلقت اليومين عنت مجرّد النهار ، وإذا أطلقت الأيّام عنت بلياليها (١) .
مسألة ٢٠٣ : لا خلاف بين الشافعية في أنّ الليالي لا تلزم بعدد الأيّام ، فإذا نذر يومين لم تلزم (٢) ليلتان بحال ، وبه قال مالك وأحمد (٣) .
وقال أبو حنيفة : تلزم (٤) ليلتان (٥) .
ولو نذر اعتكاف يوم ، لم يجز تفريقه ، ويلزمه أن يدخل معتكفه قبل طلوع الفجر ويخرج منه بعد غروب الشمس .
وقال مالك : يدخل معتكفه قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم ، كما لو نذر اعتكاف شهر ؛ لأنّ الليل يتبع النهار بدليل ما لو كان متتابعاً (٦) .
والوجه : ما قلناه من أنّ الليلة ليست من اليوم ، وهي من الشهر .
ولو نذر اعتكاف ليلة ، لزمه دخول معتكفه قبل غروب الشمس ويخرج منه بعد طلوع الفجر عند العامة (٧) . وليس له تفريق الاعتكاف عند أحمد (٨) .
وقال الشافعي : له التفريق (٩) .
مسألة ٢٠٤ : لو نذر العشر الأخير من بعض الشهور ، دخل فيه الأيّام والليالي ، وتكون الليالي هنا بعدد الأيّام ، كما في نذر الشهر ، وقد تقدّم .
__________________
(١) فتح العزيز ٦ : ٥١٥ ـ ٥١٦ .
(٢) في « ط ، ف ، ن » لم تلزمه .
(٣) المجموع ٦ : ٤٩٧ ، فتح العزيز ٦ : ٥١٦ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢١ ، المغني ٣ : ٥٩ ، الشرح الكبير ٣ : ١٣٩ .
(٤) في « ف ، ن » : تلزمه .
(٥) بدائع الصنائع ٢ : ١١٠ ، المبسوط للسرخسي ٣ : ١٢٢ ـ ١٢٣ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢١ ، المغني ٣ : ١٥٩ ، الشرح الكبير ٣ : ١٣٩ .
(٦) المغني ٣ : ١٥٩ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٠ ، بداية المجتهد ١ : ٣١٤ ـ ٣١٥ .
(٧ ـ ٩) المغني ٣ : ١٥٩ ـ ١٦٠ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٠ .
ويخرج عن العهدة إذا استهلّ الهلال ، كان الشهر كاملاً أو ناقصاً ؛ لأنّ الاسم يقع على ما بين العشرين إلى آخر الشهر .
ولو نذر أن يعتكف عشرة أيّام من آخر الشهر ودخل المسجد اليوم العشرين ، أو قُبَيْل الحادي والعشرين فنقص الشهر ، لزمه قضاء يوم ؛ لأنّه حدّد القصد إلى العشرة .
تذنيب : إذا نذر أن يعتكف يوم قدوم زيد فيه ، لم ينعقد ؛ لأنّه إن قدم ليلاً ، لم يلزمه شيء ، وإن قدم نهاراً ، لم ينعقد ؛ لمضيّ بعض اليوم غير صائم للاعتكاف .
ومَنْ لا شَرَط (١) الصوم أوجب عليه اعتكاف بقية النهار (٢) .
وللشافعي في قضاء ما مضى من النهار قولان :
أصحّهما عندهم : العدم ؛ لأنّ الوجوب ثبت من حين القدوم .
والثاني : الوجوب ؛ لأنّا نتبيّن بقدومه أنّ ذلك يوم القدوم ، فيجب أن يعتكف بقية اليوم ، ويقضي بقدر ما مضى من يوم آخر (٣) .
وقال بعضهم : يستأنف اعتكاف يوم ليكون اعتكافه موصولاً (٤) .
ولو كان الناذر وقت القدوم ممنوعاً من الاعتكاف بمرض أو حبس ، قضاه عند زوال العذر .
وقال بعضهم : لا شيء عليه ؛ لعجزه وقت الوجوب ، كما لو نذرت المرأة صوم يوم بعينه فحاضت فيه (٥) .
__________________
(١) أي : لم يشترط ، والدليل عليه قوله تعالى : ( فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ ) [ القيامة : ٣١ ] . والمغني : لم يصدّق ولم يصلّ .
(٢) فتح العزيز ٦ : ٥١٧ ، المجموع ٦ : ٥٤٠ .
(٣) فتح العزيز ٦ : ٥١٧ ـ ٥١٨ ، المجموع ٦ : ٥٤٠ ـ ٥٤١ .
(٤) فتح العزيز ٦ : ٥١٨ ، المجموع ٦ : ٥٤١ ، مختصر المزني : ٦١ .
(٥) فتح العزيز ٦ : ٥١٨ .
المطلب الخامس :
في الرجوع من الاعتكاف ، وأحكام الخروج من المسجد
مسألة ٢٠٥ : قد بيّنّا أنّ الاعتكاف في أصله مندوب إليه غير واجب بدون النذر وشبهه ، فإذا تبرّع به كان ندباً إجماعاً ، فإذا شرع في الاعتكاف ، فلعلمائنا في صيرورته واجباً حينئذٍ أقوال ثلاثة :
أحدها : قال الشيخ ـ رحمه الله ـ في بعض مصنّفاته : إنّه يصير واجباً بالنيّة والدخول فيه (١) ـ وبه قال أبو الصلاح (٢) من علمائنا ، وهو قول مالك وأبي حنيفة (٣) ـ لأنّ الأخبار دلّت على وجوب الكفّارة بإفساد الاعتكاف بجماع وغيره على الإِطلاق ، ولو لم ينقلب واجباً لم تجب الكفّارة ، وبالقياس على الحج والعمرة .
والأخبار محمولة على الاعتكاف الواجب . وأيضاً لا استبعاد في وجوب الكفّارة في هتك الاعتكاف المستحب . والفرق : احتياج الحجّ والعمرة إلى إنفاق مال كثير ففي إبطلاهما تضييع للمال وهو منهي عنه .
الثاني : أنّه إن اعتكف يومين وجب الثالث ، وإن اعتكف أقلّ لم يجب الإِكمال ـ وهو ظاهر كلام الشيخ في النهاية (٤) ومذهب ابن الجنيد (٥) وابن البرّاج (٦) ـ لقول الباقر عليه السلام : « إذا اعتكف يوماً ولم يكن اشترط فله أن
__________________
(١) المبسوط للطوسي ١ : ٢٨٩ .
(٢) الكافي في الفقه : ١٨٦ .
(٣) المدونّة الكبرى ١ : ٢٣٢ ، المنتقى ـ للباجي ـ ٢ : ٨٤ ، بدائع الصنائع ٢ : ١٠٨ ، المغني والشرح الكبير ٣ : ١٢٣ .
(٤) النهاية : ١٧١ ، وحكاه عنه في ظاهر النهاية أيضاً المحقق في المعتبر : ٣٢٤ .
(٥) حكاه عنه المحقق في المعتبر : ٣٢٤ .
(٦) المهذب لابن البراج ١ : ٢٠٤
يخرج ويفسخ اعتكافه ، وإن أقام يومين ولم يكن اشترط فليس له أن يخرج ويفسخ اعتكافه حتى تمضي ثلاثة أيام » (١) .
وفي طريقها علي بن فضّال ، وفيه ضعف .
الثالث : أنّ له إبطالَه مطلقاً ، وفسخه متى شاء ، سواء في اليوم الأول أو الثاني أو الثالث ، اختاره السيد المرتضى (٢) رضي الله عنه ، وابن إدريس (٣) ، وبه قال الشافعي وأحمد (٤) ، وهو الأقوى ؛ لأصالة بقاء ما كان على ما كان ، وبراءة الذمة .
مسألة ٢٠٦ : لا يجب الاعتكاف بمجرّد النيّة ـ وهو قول عامّة أهل العلم ـ للأصل .
وقال مَنْ لا يُعتدّ به : إنّه يجب الاعتكاف بمجرّد العزم عليه ؛ لأنّ عائشة رَوَتْ أنّ النبي صلّى الله عليه وآله ، كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان ، فاستأذنته عائشة فأذن لها فأمَرَتْ ببنائها (٥) فضُرب ، وسألت حفصة أن تستأذن لها رسول الله صلّى الله عليه وآله ، ففعلَتْ فأمرَتْ ببنائها فضُرب ، فلمّا رأت ذلك زينب بنت جحش أمَرَتْ ببنائها فضُرب .
قالت : وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله ، إذا صلّى الصبح دخل معتكفه ، فلمّا صلّى الصبح انصرف فبصر بالأبنية ، فقال : ( ما هذا ؟ ) فقالوا : بناء عائشة وحفصة وزينب ؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله :
__________________
(١) التهذيب ٤ : ٢٨٩ ـ ٢٩٠ / ٨٧٩ ، الاستبصار ٢ : ١٢٩ / ٤٢١ .
(٢) حكاه عنه المحقق في المعتبر : ٣٢٤ .
(٣) السرائر : ٩٧ .
(٤) المجموع ٦ : ٤٩٠ ، المغني والشرح الكبير ٣ : ١٢٣ .
(٥) البناء واحد الأبنية ، وهي البيوت التي تسكنها العرب في الصحراء ، فمنها : الطراف والخباء والقبّة والمضرب . النهاية ـ لابن الأثير ـ ١ : ١٥٧ ـ ١٥٨ .
( ألبرَّ أردتنّ ؟ ما أنا بمعتكف ) فرجع ، فلمّا أفطر اعتكف عشراً من شوّال (١) .
ولأنّها عبادة تتعلّق بالمسجد فلزمت بالدخول فيها ، كالحج (٢) .
والرواية تدلّ على النقيض ؛ لأنّ تركه دليل على عدم الوجوب بالعزم .
والفرق بينه وبين الحجّ قد سبق .
مسألة ٢٠٧ : لو اعتكف ثلاثة أيّام ، كان بالخيار إن شاء زاد عليها وإن شاء لم يزد ، وإن زاد يوماً جاز له عدم الزيادة على الأربعة .
فإن زاد على الثلاثة يومين ، قال الشيخ رحمه الله : يجب الإِكمال ستة (٣) ؛ فأوجب السادس ـ وبه قال ابن الجنيد (٤) وأبو الصلاح (٥) ـ لقول الباقر عليه السلام : « من اعتكف ثلاثة أيّام فهو يوم الرابع بالخيار إن شاء ازداد أيّاماً اُخر ، وإن شاء خرج من المسجد ، فإن أقام يومين بعد الثلاثة فلا يخرج من المسجد حتى يستكمل ثلاثة اُخر » (٦) .
وفي طريقها علي بن فضّال ، والأصل براءة الذمة .
مسألة ٢٠٨ : لا يجوز للمعتكف الخروج من المسجد الذي اعتكف فيه حالة اعتكافه إلّا لضرورة بإجماع العلماء كافة ؛ لما رواه العامة عن عائشة أنّها قالت : السنّة للمعتكف أن لا يخرج إلّا لما لا بدّ له منه (٧) .
وعنها : أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله ، كان إذا اعتكف يُدني إليَّ
__________________
(١) أوردها ابنا قدامة في المغني والشرح الكبير ٣ : ١٢٣ ، وفي صحيح مسلم ٢ : ٨٣١ / ١١٧٣ ، وسنن ابن ماجة ١ : ٥٦٣ / ١٧٧١ ، وسنن أبي داود ٢ : ٣٣١ ـ ٣٣٢ / ٢٤٦٤ نحوها .
(٢) المغني والشرح الكبير ٣ : ١٢٣ ـ ١٢٤ .
(٣) النهاية : ١٧١ ، المبسوط للطوسي ١ : ٢٩٠ .
(٤) حكاه عنه المحقق في المعتبر : ٣٢٤ .
(٥) الكافي في الفقه : ١٨٦ .
(٦) التهذيب ٤ : ٢٨٨ / ٨٧٢ ، الاستبصار ٢ : ١٢٩ / ٤٢٠ .
(٧) سنن أبي داود ٢ : ٣٣٣ ـ ٣٣٤ / ٢٤٧٣ ، سنن البيهقي ٤ : ٣٢٠ .
رأسه فاُرجّله ، وكان لا يدخل البيت إلّا لحاجة الإِنسان (١) .
ومن طريق الخاصة : قول الصادق عليه السلام : « لا يخرج المعتكف من المسجد إلّا في حاجة » (٢) .
ولأنّ الاعتكاف هو اللبث ، فإذا خرج بطل الاسم .
والممنوع إنّما هو الخروج بجميع بدنه ، فلو أخرج يده أو رأسه ، لم يبطل اعتكافه ؛ لما تقدّم في رواية عائشة .
ولو أخرج إحدى رجليه أو كلتيهما وهو قاعد مادٌّ لهما ، فكذلك ، وإن اعتمد عليهما فهو خارج .
والممنوع منه الخروج عن كلّ المسجد .
فلو صعد على المنارة ، فإن كانت في وسط المسجد أو بابها فيه أو في رحبته وهي تُعدّ من المسجد ، جاز سواء كان الصعود للأذان أو لغيره ، كما يصعد على سطح المسجد ودخول بيت منه .
وإن كان الباب خارج المسجد ، لم يجز ؛ لأنّها لا تُعدّ حينئذٍ من المسجد ، ولا يصح الاعتكاف فيها .
وهل للمؤذّن صعودها للأذان ؟ الأقرب : المنع ـ وهو أحد وجهي الشافعية (٣) ـ لأنّه لا ضرورة إليه ، لإِمكان الأذان على سطح المسجد ، فصار كما لو صعدها لغير الأذان ، أو خرج لغير ضرورة ، أو خرج إلى الأمير ليُعْلمه الصلاة .
والثاني : الجواز ؛ لأنّها مبنيّة للمسجد معدودة من توابعه .
ولأنّه قد اعتاد صعودها للأذان وقد استأنس الناس بصوته ، فيعذر فيه .
__________________
(١) سنن أبي داود ٢ : ٣٣٢ / ٢٤٦٧ ، سنن الترمذي ٣ : ١٦٧ / ٨٠٤ ، سنن البيهقي ٤ : ٣١٥ ، مسند أحمد ٦ : ١٨١ .
(٢) التهذيب ٤ : ٢٩٣ / ٨٩١ ، الاستبصار ٢ : ١٢٨ / ٤١٦ .
(٣) فتح العزيز ٦ : ٥٣٠ .
ويجعل زمان الأذان مستثنى عن اعتكافه (١) .
مسألة ٢٠٩ : يجوز للمعتكف الخروج عن المسجد لقضاء الحاجة بإجماع العلماء .
قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أنّ للمعتكف أن يخرج من معتكفه للغائط والبول (٢) .
ولأنّ هذا ممّا لا بدّ منه ، ولا يمكن فعله في المسجد ، فلو بطل الاعتكاف بخروجه إليه ، لم يصح لأحد أن يعتكف .
ولأنّ النبي صلّى الله عليه وآله ، كان يعتكف ، ومن المعلوم أنّه كان يخرج لقضاء الحاجة .
ولما رواه العامة عن عائشة أنّ النبي صلّى الله عليه وآله ، كان إذا اعتكف لا يدخل البيت إلّا لحاجة الإِنسان (٣) .
ومن طريق الخاصة : ما رواه داود بن سرحان ، قال : كنت بالمدينة في شهر رمضان ، فقلت للصادق عليه السلام : إنّي اُريد أن أعتكف فماذا أقول وماذا أفرض على نفسي ؟ فقال : « لا تخرج من المسجد إلّا لحاجة لا بدّ منها ولا تقعد تحت ظلال حتى تعود إلى مجلسك » (٤) .
وفي معناه الخروج للاغتسال من الاحتلام .
ولو كان إلى جانب المسجد سقاية خرج إليها ولا يجوز التجاوز ، إلّا أن يجد غضاضةً بأن يكون من أهل الاحتشام (٥) ، فيحصل له مشقّة بدخولها ، فيجوز له العدول إلى منزله وإن كان أبعد .
__________________
(١) فتح العزيز ٦ : ٥٣٠ .
(٢) المغني ٣ : ١٣٢ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٢ .
(٣) تقدّمت الاشارة إلى مصادرها في الصفحة السابقة ، الهامش (١) .
(٤) الكافي ٤ : ١٧٨ / ٢ ، الفقيه ٢ : ١٢٢ / ٥٢٨ ، التهذيب ٤ : ٢٨٧ ـ ٢٨٨ / ٨٧٠ .
(٥) أي : الاستحياء . الصحاح ٥ : ١٩٠٠ .
ولو بذل له صديق منزله ـ وهو قريب من المسجد ـ لقضاء الحاجة ، لم تلزمه الإِجابة ؛ لما فيه من المشقّة بالاحتشام ، بل يمضي إلى منزل نفسه ، سواء كان منزله قريباً أو بعيداً بُعْداً متفاحشاً أو غير متفاحش ، إلّا أن يخرج بالبُعْد عن مسمّى الاعتكاف .
ولو كان له منزلان أحدهما أقرب ، تعيّن عليه القصد إليه ، خلافاً لبعض الشافعيّة حيث سوّغ له المضيّ إلى الأبعد (١) .
ولو احتلم ، وجب عليه المبادرة بالخروج عن المسجد للغسل ؛ لأنّ الاستيطان حرام .
مسألة ٢١٠ : يجوز للمعتكف الخروج لشراء المأكول والمشروب إذا لم يكن له مَنْ يأتيه به بالإِجماع ؛ لأنّ الحاجة تدعو إليه ، والضرورة ثابتة فيه ، فجاز كغيره من الضروريات .
وهل يجوز الخروج للأكل خارج المسجد ؟ إشكال ، أقربه ذلك إن كان فيه غضاضة ويكون من أهل الاحتشام ، وإلّا فلا .
وللشافعية وجهان : هذا أحدهما ؛ لأنّه قد يستحيي منه ويشقّ عليه .
والثاني : أنّه لا يجوز ـ وهو قول الشافعي في الاُمّ (٢) ـ لأنّ الأكل في المسجد ممكن (٣) .
ولو عطش ولم يجد الماء في المسجد ، فهو معذور في الخروج .
ولو وجده فالأقرب منعه من الخروج للشرب ـ وهو أصحّ وجهي الشافعية ـ لأنّ فعله في المسجد ممكن ، ولا يستحي منه ، ولا يُعدّ تركه من المروة ،
__________________
(١) المهذب للشيرازي ١ : ١٩٩ ، فتح العزيز ٦ : ٥٣٣ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٢ .
(٢) قال الشافعي في الأم ٢ : ١٠٥ : وإن أكل المعتكف في بيته فلا شيء عليه . وكذلك حكاه عنه النووي في المجموع ٦ : ٥٠٥ .
(٣) المهذب للشيرازي ١ : ١٩٩ ، المجموع ٦ : ٥٠٥ ، فتح العزيز ٦ : ٥٣٢ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٢ .
بخلاف الأكل فيه (١) .
ولو فجأه القيء خرج من المسجد ليتقيّأ خارجه صيانةً للمسجد وأهله عن الاستقذار .
وكلّ ما لا بدّ منه ولا يمكن فعله في المسجد فله الخروج إليه ، ولا يفسد اعتكافه ، وهو على اعتكافه ما لم يطل المكت ويخرج به عن اسم المعتكف .
مسألة ٢١١ : لو اعتكف في أحد المساجد الأربعة واُقيمت الجمعة في غيره لضرورة ، أو اعتكف في غيرها عند مَنْ سوَّغه ، خرج لأدائها ، ولم يبطل اعتكافه عند علمائنا ـ وبه قال أبو حنيفة وأحمد (٢) ـ لأنّه خرج لأداء واجب عليه ، فلا يبطل به اعتكافه ، كما لو خرج لأداء الشهادة ، أو لإِنقاذ غريق ، أو إطفاء حريق .
وقال الشافعي : يجب أن يخرج لصلاة الجمعة .
وفي بطلان اعتكافه قولان ، أحدهما : لا يبطل ، كما اخترناه . والثاني : أنّه يبطل ـ وبه قال مالك (٣) ـ لسهولة الاحتراز عن هذا الخروج بأن يعتكف في الجامع .
وعلى هذا لو كان اعتكافه المنذور أقلّ من اُسبوع ، ابتدأ من أول الاُسبوع أين شاء من المساجد وفي الجامع متى شاء ، وإن كان أكثر من اُسبوع ، فيجب أن يبتدئ به في الجامع حتى لا يحتاج إلى الخروج للجمعة .
فإن كان قد عيّن غير الجامع وقلنا بالتعيين ، فلا يخرج عن نذره إلّا بأن
__________________
(١) فتح العزيز ٦ : ٥٣٢ ، المجموع ٦ : ٥٠٥ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٣ .
(٢) الهداية للمرغيناني ١ : ١٣٢ ، بدائع الصنائع ٢ : ١١٤ ، المغني ٣ : ١٣٢ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٣ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٣ .
(٣) الكافي في فقه أهل المدينة : ١٣١ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٣ ، المجموع ٦ : ٥١٤ ، فتح العزيز ٦ : ٥٤٠ .
يمرض فتسقط عنه الجمعة ، أو بأن يتركها عاصياً ويدوم على اعتكافه (١) .
وهذا يستلزم الجمع بين الضدّين في الحكمين .
واحتجّ على بطلان الاعتكاف : بأنّه أمكنه أداء فرضه بحيث لا يخرج منه ، فبطل بالخروج ، كالمكفّر إذا ابتدأ صوم شهرين متتابعين في شعبان أو ذي الحجّة .
وليس بجيّد ؛ لأنّه إذا نذر أيّاماً معيّنة فيها جمعة ، فكأنّه استثنى الجمعة بلفظه .
ويبطل ما ذكره بما لو نذرت المرأة اعتكاف أيّام متتابعة فيها عادة حيضها .
مسألة ٢١٢ : يجوز للمعتكف أن يخرج لعيادة المرضى وشهادة الجنائز عند علمائنا أجمع ، سواء اشترط ذلك في اعتكافه أو لا ـ وبه قال علي عليه السلام ، وسعيد بن جبير والنخعي والحسن (٢) ـ لما رواه العامّة عن علي عليه السلام ، أنّه قال : « إذا اعتكف الرجل فليشهد الجمعة وليعد المريض وليحضر الجنازة وليأت أهله وليأمرهم بالحاجة وهو قائم » (٣) .
ومن طريق الخاصة : قول الصادق عليه السلام : « ولا يخرج في شيء إلّا لجنازة أو يعود مريضاً ولا يجلس حتى يرجع » (٤) .
ولأنّه مؤكّد الاستحباب ، والاعتكاف للعبادة ، فلا يناسب منعها من مؤكّداتها .
وقال عطاء وعروة ومجاهد والزهري والشافعي ومالك وأصحاب الرأي :
__________________
(١) المجموع ٦ : ٥١٣ ـ ٥١٤ ، فتح العزيز ٦ : ٥٤٠ .
(٢) المغني ٣ : ١٣٦ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٨ ، المجموع ٦ : ٥١٢ .
(٣) مصنّف ابن أبي شيبة ٣ : ٨٧ ـ ٨٨ ، وأوردها ابنا قدامة في المغني ٣ : ١٣٦ ، والشرح الكبير ٣ : ١٤٨ .
(٤) الكافي ٤ : ١٧٨ ـ ١٧٩ / ٣ ، الفقيه ٢ : ١٢٢ / ٥٢٩ ، التهذيب ٤ : ٢٨٨ / ٨٧١ .
ليس له الخروج في ذلك ـ وعن أحمد روايتان (١) ـ لما روته عائشة ، قالت : كان رسول الله صلّى الله عليه وآله ، إذا اعتكف لا يدخل البيت إلّا لحاجة الإِنسان (٢) .
وعنها : أنّها قالت : السنّة على المعتكف أن لا يعود مريضاً ولا يشهد جنازةً ولا يمسّ امرأةً ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلّا لما لا بدّ منه (٣) .
ولأنّه ليس بواجب ، فلا يجوز ترك الاعتكاف الواجب لأجله (٤) .
والحديث نقول بموجبه ، ولا دلالة فيه على موضع النزاع .
والحديث الثاني ليس مسنداً إلى الرسول صلّى الله عليه وآله ، فلا يكون حجّةً .
وكونه ليس بواجب لا يمنع الاعتكاف من فعله ، كقضاء الحاجة .
مسألة ٢١٣ : لو تعيّنت عليه صلاة الجنازة وأمكنه فعلها في المسجد ، لم يجز له الخروج إليها ، فإن لم يمكنه ذلك ، فله الخروج إليها .
وإن تعيّن عليه دفن الميت أو تغسيله ، جاز له الخروج لأجله ؛ لأنّه واجب متعيّن ، فيقدّم على الاعتكاف ، كصلاة الجمعة .
والشافعي لمّا منع من عيادة المريض وصلاة الجنازة قال : لو خرج لقضاء الحاجة فعاد في الطريق مريضاً ، فإن لم يقف ولا ازْوَرَّ (٥) عن الطريق ، بل اقتصر على السلام والسؤال ، فلا بأس ، وإن وقف وأطال ، بطل اعتكافه ، وإن لم يُطل فوجهان ، والأصحّ : أنّه لا بأس به .
__________________
(١) المغني ٣ : ١٣٦ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٨ .
(٢) سنن أبي داود ٢ : ٣٣٢ / ٢٤٦٧ ، سنن الترمذي ٣ : ١٦٧ / ٨٠٤ ، سنن البيهقي ٤ : ٣١٥ .
(٣) سنن أبي داود ٢ : ٣٣٣ ـ ٣٣٤ / ٢٤٧٣ ، سنن البيهقي ٤ : ٣٢١ .
(٤) المدوّنة الكبرى ١ : ٢٣٥ ، بدائع الصنائع ٢ : ١١٤ ، المجموع ٦ : ٥١٢ ، المغني ٣ : ١٣٦ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٨ ـ ١٤٩ .
(٥) ازْوَرَّ : عدل وانحرف . لسان العرب ٤ : ٣٣٥ .
ولو ازْوَرَّ عن الطريق قليلاً فعاده ، فقد جعلوه على هذين الوجهين . والأصحّ عندهم : المنع ؛ لما فيه من إنشاء سير لغير قضاء حاجة .
وقد روي أنّ النبي صلّى الله عليه وآله ، كان لا يسأل عن المريض إلّا مارّاً في اعتكافه ولا يعرّج عليه (١) (٢) .
ولو كان المريض في بيت الدار التي يدخلها لقضاء الحاجة ، فالعدول لعيادته قليل ، وإن كان في دار اُخرى فكثير .
ولو خرج لقضاء حاجة فعثر في الطريق على جنازة ، فلا بأس إذا لم ينتظرها ولا يزْوَرّ عن الطريق .
وفيه وجه آخر : أنّه لا يجوز ؛ لأنّ في صلاة الجنازة يفتقر إلى الوقفة (٣) .
مسألة ٢١٤ : يجوز الخروج للمعتكف لإِقامة الشهادة عند الحاكم ، سواء كان الاعتكاف واجباً أو ندباً ، وسواء كان متتابعاً أو غير متتابع ، تعيّن عليه التحمّل والأداء أو لم يتعيّن عليه أحدهما إذا دُعي إليها ؛ لأنّ إقامة الشهادة أمر واجب لا بدّ منه ، فصار ضرورةً ، كقضاء الحاجة ، فلا يكون مُبطلاً ، وإذا دُعي إليها مع عدم التعيين ، تجب الإِجابة ، فلا يمنع منه الاعتكاف .
وقال الشافعي : إن تعيّن عليه التحمّل والأداء ، خرج ، ولا يبطل اعتكافه المتتابع بخروجه ، ويستأنف إذا عاد ، وإن تعيّن عليه التحمّل دون الأداء ، فكما لو لم يتعيّنا عليه ، وإن كان بالعكس فقولان ؛ لأنّه خرج لغير حاجة ، فأبطل التتابع (٤) .
والمقدّمة الاُولى ممنوعة .
__________________
(١) لا يعرّج عليه ، أي : لم يُقم ولم يحتبس . النهاية ـ لابن الأثير ـ ٣ : ٢٠٣ .
(٢) أوردها الرافعي في فتح العزيز ٦ : ٥٣٣ ، وفي سنن أبي داود ٢ : ٣٣٣ / ٢٤٧٢ ، وسنن البيهقي ٤ : ٣٢١ بتفاوت في اللفظ .
(٣) فتح العزيز ٦ : ٥٣٣ ، والمجموع ٦ : ٥١١ ـ ٥١٢ .
(٤) المجموع ٦ : ٥١٥ ، فتح العزيز ٦ : ٥٣٨ .
مسألة ٢١٥ : يجوز للمعتكف أن يخرج في حاجة أخيه المؤمن ؛ لأنّه طاعة فلا يمنع الاعتكاف منه .
ولما رواه الصدوق ـ رحمه الله ـ عن ميمون بن مهران ، قال : كنت جالساً عند الحسن بن علي عليهما السلام ، فأتاه رجل فقال له : يا ابن رسول الله إنّ فلاناً له عليَّ مال ويريد أن يحبسني ؛ فقال : « والله ما عندي مال فأقضي عنك » قال : فكلّمه فلبس عليه السلام نعله ، فقلت له : يا ابن رسول الله أنسيت اعتكافك ؟ فقال : « لم أنس ولكني سمعت أبي يحدّث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فقال : مَنْ سعى في حاجة أخيه المسلم فكأنّما عَبَدَ الله عزّ وجلّ تسعة آلاف سنة صائماً نهاره قائماً ليله » (١) .
مسألة ٢١٦ : قال الشيخ رحمه الله : يجوز أن يخرج ليؤذّن في منارة خارجة عن المسجد وإن كان بينه وبين المسجد فضاء (٢) ؛ ولا يكون مبطلاً لاعتكافه ؛ لأنّ هذه المنارة بُنيت للمسجد وأذانه ، فصارت كالمتّصلة به .
ولأنّ الحاجة قد تدعو إلى ذلك بأن يكون مؤذّن المسجد وقد عرف الجيران صوته ووثقوا بمعرفته بالأوقات ، فجاز ذلك .
وقال الشافعي : إن لم يكن بابها في المسجد ولا في رحبته المتّصلة به ، ففي بطلان اعتكاف المؤذّن الراتب بصعودها للأذان وجهان .
ولو خرج إليها غير المؤذّن الراتب للأذان ، فإن أبطلنا اعتكاف الراتب فإبطال هذا أولى ، وإلّا فقولان مبنيّان على أنّها مبنيّة للمسجد ، فتكون معدودةً من توابعه ، فلا يبطل اعتكافه ، أو أنّ الراتب قد اعتاد صعودها للأذان ، واستأنس الناس بصوته ، فيبطل هذا (٣) ؛ لفقد هذا المعنى فيه (٤) .
__________________
(١) الفقيه ٢ : ١٢٣ ـ ١٢٤ / ٥٣٨ .
(٢) الخلاف ٢ : ٢٣٥ ، المسألة ١٠٦ ، والمبسوط للطوسي ١ : ٢٩٤ .
(٣) أي : اعتكاف المؤذّن غير الراتب .
(٤) المجموع ٦ : ٥٠٦ ، فتح العزيز ٦ : ٥٣٠ ـ ٥٣١ .
قال الشيخ رحمه الله : لو خرج المؤذّن إلى دار الوالي وقال : حيَّ على الصلاة أيّها الأمير ، أو قال : الصلاة أيّها الأمير ، بطل اعتكافه (١) .
وهو حسن ؛ لأنّه خرج من معتكفة لغير ضرورة .
وللشافعي قول بالجواز ؛ لأنّ بلالاً جاء فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمه الله وبركاته ، الصلاة يرحمك الله (٢) .
ونمنع كون بلال قاله حال اعتكافه ، أو أنّه خرج من المسجد فجاز أن يكون وقف على بابه .
سلّمنا ، لكن فعله ليس حجّةً .
ويجوز للمعتكف الصعود على سطح المسجد ؛ لأنّه من جملته ، وبه قال الفقهاء الأربعة (٣) . وكذا يجوز أن يبيت فيه .
ولو كان إلى جنب المسجد رحبة وليست منه ، لم يجز الخروج إليها إلّا لضرورة ؛ لأنّها خارجة عن المسجد فكانت كغيرها ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد . والثانية : الجواز ؛ لأنّها تابعة له ومعه ، فكانت بمنزلته (٤) .
والمقدّمتان ممنوعتان . ولا فرق بين أن يكون عليها حائط وباب أو لم يكن .
مسألة ٢١٧ : إذا خرج المعتكف لضرورة ، حرم عليه المشي تحت الظلال والوقوف فيه ـ إلّا لضرورة ـ إلى أن يعود إلى المسجد . وكذا لا يقف تحت غير الظلال ؛ لأنّه مُنافٍ للاعتكاف الذي هو اللبث في المسجد خاصة ، ولأنّ في المشي تحت الظلال نوعَ ترفّه .
قال الصادق عليه السلام : « ولا تقعد تحت ظلال حتى تعود إلى
__________________
(١) المبسوط للطوسي ١ : ٢٩٤ .
(٢) لم نعثر عليه في مظانّه .
(٣) المغني ٣ : ١٣٨ ، الشرح الكبير ٣ : ١٥٠ .
(٤) المغني ٣ : ١٣٨ ـ ١٣٩ ، الشرح الكبير ٣ : ١٥٠ .
مجلسك » (١) .
وقال الصادق عليه السلام : « لا ينبغي للمعتكف أن يخرج من المسجد إلّا لحاجة لا بدّ منها ثم لا يجلس حتى يرجع ولا يخرج في شيء إلّا لجنازة أو يعود مريضاً ولا يجلس حتى يرجع » (٢) .
وبه قال الثوري (٣) .
وحكى عنه الطحاوي في كتاب الاختلاف أنّ المعتكف لا يدخل تحت سقف إلّا أن يكون ممرّه فيه ، فإن دخل فسد اعتكافه (٤) . وباقي العامّة يجيزون له الاستظلال بالسقف (٥) .
و [ السيد المرتضى ] (٦) رحمه الله ، احتجّ عليهم : بإجماع الطائفة والاحتياط .
مسألة ٢١٨ : إذا خرج المعتكف لضرورة ، لم يجز له أن يصلّي إلّا في المسجد الذي اعتكف فيه إلّا بمكّة خاصة ، فإنه يصلّي في أيّ بيوتها شاء ؛ لأنّها حرم ، فلها حرمة ليست لغيرها .
ولقول الصادق عليه السلام : « المعتكف بمكّة يصلّي في أيّ بيوتها شاء سواء عليه صلّى في المسجد أو في بيوتها » ثم قال عليه السلام بعد كلام . « ولا يصلّي المعتكف في بيت غير المسجد الذي اعتكف فيه إلّا بمكّة » (٧) .
وقال الصادق عليه السلام : « المعتكف بمكّة يصلّي في أيّ بيوتها
__________________
(١) الكافي ٤ : ١٧٨ / ٢ ، الفقيه ٢ : ١٢٢ / ٥٢٨ ، التهذيب ٤ : ٢٨٧ ـ ٢٨٨ / ٨٧٠ .
(٢) الكافي ٤ : ١٧٨ ـ ١٧٩ / ٣ ، الفقيه ٢ : ١٢٢ / ٥٢٩ ، التهذيب ٤ : ٢٨٨ / ٨٧١ .
(٣ ـ ٥) كما في الانتصار للسيد المرتضى : ٧٤ .
(٦) في النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق وفي الطبعة الحجرية : الشيخ ؛ بدل السيد المرتضى . والظاهر كونه من سهو النسّاخ . وما أثبتناه هو الصحيح الموافق لمنتهى المطلب [ ٢ : ٦٣٥ ] للمصنّف ، والانتصار [ : ٧٤ ] للسيد المرتضى ، مضافاً إلى عدم ورود أصل المسألة في الخلاف للشيخ الطوسي .
(٧) التهذيب ٤ : ٢٩٣ / ٨٩١ ، الاستبصار ٢ : ١٢٨ / ٤١٦ .
شاء ، والمعتكف في غيرها لا يصلّي إلّا في المسجد الذي سمّاه » (١) .
ولو اعتكف في غير مكّة فخرج لضرورة فضاق وقت الصلاة عن عوده ، صلّى أين شاء ، ولا يبطل اعتكافه ؛ لأنّه صار ضرورياً ، فيكون معذوراً ، كالمضيّ إلى الجمعة .
مسألة ٢١٩ : أوقات الخروج للضرورة لا يجب تداركها ، ولا يخرج المعتكف فيها عن اعتكافه إذا لم يَطُل الزمان ، بل يكون الاعتكاف مستمرّاً في أوقات الخروج لقضاء الحاجة وشبهها ، ولهذا لو جامع في هذا الوقت ، بطل اعتكافه . وهو أحد وجهي الشافعيّة (٢) .
والثاني : أنّه لا يستمرّ ، بل يكون زمان الخروج لقضاء الحاجة كالمستثنى لفظاً عن المدّة المنذورة ؛ لأنّه لا بدّ منه ، فإن جعلناه كقضاء الحاجة ، لم يحتج إلى تجديد النيّة ، وإن جعلناه كالمستثنى ، فلأنّ اشتراط التتابع في الابتداء رابطة لجميع ما سوى تلك الأوقات (٣) .
وقال بعض الشافعية : إن طال الزمان ، ففي لزوم التجديد وجهان (٤) .
والحقّ : أنّ مع طول الزمان بحيث يخرج عن الاسم يبطل الاعتكاف .
وإذا خرج لقضاء الحاجة ، لم يكلّف الإِسراع ، بل يمشي على سجيّته المعهودة ؛ لأنّ عليه مشقّةً في إلزامه غير ذلك .
وإذا خرج لقضاء الحاجة ، لم يجز له أن يجامع في مروره بأن يكون في هودج ، أو فُرض ذلك في وقفة يسيرة ، فإن فعل بطل الاعتكاف .
وللشافعية في إبطال الاعتكاف وجهان : أصحهما : البطلان .
أمّا على تقدير القول باستمرار الاعتكاف في أوقات الخروج لقضاء
__________________
(١) الفقيه ٢ : ١٢١ / ٥٢٣ ، التهذيب ٤ : ٢٩٣ ـ ٢٩٤ / ٨٩٢ ، الاستبصار ٢ : ١٢٨ / ٤١٧ .
(٢ و ٣) فتح العزيز ٦ : ٥٣٢ ، المجموع ٦ : ٥٠٢ ـ ٥٠٣ .
(٤) فتح العزيز ٦ : ٥٣٢ ، المجموع ٦ : ٥٠٣ .
الحاجة : فظاهر ؛ لأنّ الجماع يكون قد صادف الاعتكاف .
وأمّا على تقدير القول بعدم استمراره : فلأنّ الجماع عظيم الوقع ، فالاشتغال به أشدّ إعراضاً عن العبادة .
والثاني : أنّه لا يبطل ؛ لأنّه غير معتكف في تلك الحالة ولم يصرف إليه زماناً (١) .
وإذا فرغ من قضاء الحاجة واستنجى ، لم يلزمه نقل الوضوء إلى المسجد ، بل يقع ذلك تابعاً ، بخلاف ما إذا احتاج إلى الوضوء بمعنى غير قضاء الحاجة ، كما لو قام من النوم ، فإنّه لا يجوز له الخروج ليتوضّأ في أظهر وجهي الشافعية إذا أمكن الوضوء في المسجد (٢) .
وإذا منعنا من الأكل خارج المسجد أو مشى إلى منزله لقضاء الحاجة ، جاز له أن يأكل لقمة أو لقمتين ، وليس له أن يأكل جميع أكله ؛ لأنّ القليل لا اعتداد به .
مسألة ٢٢٠ : إذا حاضت المرأة أو نفست وهي معتكفة ، لزمها الخروج من المسجد بلا خلاف ؛ لأنّ الحيض حدث يمنع اللبث في المسجد ، فهو كالجنابة وآكد منه وقد قال عليه السلام : ( لا اُحلّ المسجد لحائض ولا جنب ) (٣) .
وإذا خرجت لعذر الحيض ، مضت إلى بيتها . وبه قال الشافعي ومالك وربيعة والزهري وعمرو بن دينار (٤) .
أمّا خروجها من المسجد : فلما تقدّم من الإِجماع والحديث .
وأمّا رجوعها إلى منزلها : فلأنّه وجب عليها الخروج من المسجد وبطل
__________________
(١) فتح العزيز ٦ : ٥٣٣ ـ ٥٣٤ ، المجموع ٦ : ٥٠٤ .
(٢) فتح العزيز ٦ : ٥٣٤ ، المجموع ٦ : ٥٠٣ .
(٣) سنن أبي داود ١ : ٦٠ / ٢٣٢ .
(٤) المغني ٣ : ١٥٣ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٦ ، المجموع ٦ : ٥٢٠ ، المنتقى ـ للباجي ـ ٢ : ٨٥ .
اعتكافها .
ولقول الصادق عليه السلام : « إنّها ترجع إلى بيتها » (١) .
وقال أحمد : إن لم يكن في المسجد رحبة ، رجعت إلى منزلها ، وإن كان له رحبة خارجه يمكن أن تضرب فيها خباءها ، ضربت خباءها فيها مدّة حيضها (٢) .
وقال النخعي : تضرب فسطاطها في دارها ، فإذا طهرت ، قضت تلك الأيّام ، وإن دخلت بيتاً أو سقفاً استأنفت (٣) .
لأنّ عائشة قالت : كنّ المعتكفات إذا حضن أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله بإخراجهنّ من المسجد وأن يضربن الأخبية في رحبة المسجد حتى يطهرن (٤) .
ولا حجّة فيه ؛ لجواز أن يكون عليه السلام أمر بذلك ليعرف الناس أنّ رحبة المسجد ليست منه ، أو لأنّ الاعتكاف قد كان واجباً عليهنّ وعلم عليه السلام من حالهنّ توهّم سقوطه بخروجهنّ من المسجد .
إذا عرفت هذا ، فإن كان اعتكافها ثلاثة أيّام لا غير ، فإذا حاضت في أثنائه بطل ، ولم يجز لها البناء على ما فعلته ؛ لأنّ الاعتكاف لا يكون أقلّ من ثلاثة أيّام عندنا .
ثم إن كان واجباً ، وجب عليها بعد الطهر الاستئناف ، وإلّا فلا .
وإن كان أكثر ، فإن حاضت بعد الثلاثة ، جاز لها البناء على ما فعلته بعد الطهر ؛ لأنّه عذر كقضاء الحاجة .
ولا يُعدّ أيّام الحيض من الاعتكاف إجماعاً . ومَنْ لا يشترط الصوم من
__________________
(١) الكافي ٤ : ١٧٩ / ٢ ، الفقيه ٢ : ١٢٣ / ٥٣٦ .
(٢) المغني ٣ : ١٥٣ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٦ .
(٣) المغني ٣ : ١٥٣ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٦ ، المجموع ٦ : ٥٢٠ .
(٤) أورده ابنا قدامة في المغني ٣ : ١٥٤ ، والشرح الكبير ٣ : ١٤٧ .
العامّة يجوّز البناء على ما تقدّم مطلقاً (١) .
إذا ثبت هذا ، فالنفساء بحكم الحائض ؛ لأنّ النفاس في الحقيقة حيض ، وأمّا المستحاضة فإنّها بمنزلة الطاهر يجوز لها الاعتكاف مع الأغسال .
قالت عائشة : اعتكفَتْ مع رسول الله صلّى الله عليه وآله ، امرأة من أزواجه مستحاضة ، فكانت ترى الحمرة والصفرة ، وربما وضعنا الطست تحتها وهي تصلّي (٢) .
فإن لم يمكن صيانة المسجد عن التلويث ، خرجت ؛ لأنّه عذر ، فإن كان الزمان يسيراً جدّاً كقضاء الحاجة ، بَنَتْ على ما فَعَلَتْ وحسبت زمان الخروج من الاعتكاف ، كزمان قضاء الحاجة .
وقال الشافعي : إن كانت المدّة المنذورة طويلةً لا تخلو عن الحيض غالباً ، لم ينقطع التتابع ، بل تبني إذا طهرت ، كما لو حاضت في صوم الشهرين عن الكفّارة .
وإن كانت بحيث تخلو عن الحيض ، فقولان : أحدهما : أنّه لا ينقطع به التتابع ؛ لأنّ جنس الحيض متكرّر بالجبلة ، فلا يؤثّر في التتابع ، كقضاء الحاجة . وأظهرهما : ينقطع ؛ لأنّها بسبيل أن تشرع كما لو طهرت (٣) .
مسألة ٢٢١ : إذا طلّقت المعتكفة رجعيّاً ، خرجت من اعتكافها إلى منزلها عند علمائنا أجمع ـ وبه قال الشافعي وأحمد (٤) ـ لقوله تعالى : ( لَا
__________________
(١) المغني ٣ : ١٢٥ و ١٥٣ و ١٥٤ ، الشرح الكبير ٣ : ١٢٥ و ١٤٦ .
(٢) صحيح البخاري ٣ : ٦٤ ـ ٦٥ ، سنن أبي داود ٢ : ٣٣٤ / ٢٤٧٦ .
(٣) فتح العزيز ٦ : ٥٣٤ ، المجموع ٦ : ٥١٩ .
(٤) فتح العزيز ٦ : ٥٣٨ ـ ٥٣٩ ، وقالا به في المتوفّى عنها زوجها في المغني ٣ : ١٥١ ، والشرح الكبير ٣ : ١٤٧