الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-46-9
الصفحات: ٣٤٣
ويخرج بعد غروب الشمس ليلة العيد ، وإن بات ليلة العيد فيه إلى أن يصلّي فيه العيد أو يخرج منه إلى المصلّى كان أولى .
المطلب الثاني : في شرائطه
مسألة ١٧٠ : إنّما يصح الاعتكاف من مكلّف مسلم ؛ لأنّه عبادة وشرطه الصوم على ما يأتي (١) ، وإنّما يصحّ الصوم بالشرطين .
ويصحّ اعتكاف الصبي المميّز ، كما يصحّ صومه .
وهل هو مشروع أو تأديب ؟ إشكال .
ولا يصحّ من المجنون المُطبق ولا مَنْ يعتوره وقت جنونه ؛ لانتفاء التكليف عنه .
ولا ينعقد من الكافر الأصلي ؛ لفقدان الشرط ، وهو : النيّة المشروطة بالتقرّب .
مسألة ١٧١ : يشترط في الاعتكاف النية ، فلو اعتكف من غير نية ، لم يعتدّ به ؛ لأنّه فعل يقع على وجوه مختلفة ، فلا يختص بأحدها إلّا بواسطة النية التي تخلص بعض الأفعال أو الوجوه والاعتبارات عن بعض .
ولأنّ الاعتكاف عبادة ، فلا يصحّ من دون النية ؛ لقوله تعالى : ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (٢) ولا معنى للإِخلاص إلّا النية .
ولأنّه عمل وقد قال عليه السلام : ( إنّما الأعمال بالنيّات ) (٣) .
وتشترط نية الفعل ، والوجه من الوجوب أو الندب ، والتقرّب إلى الله تعالى ؛ لأنّ الفعل صالح للوجوب والندب والتقرّب واليمين أو منع النفس أو
__________________
(١) يأتي في المسألة ١٧٥ .
(٢) البيّنة : ٥ .
(٣) صحيح البخاري ١ : ٢ ، سنن أبي داود ٢ : ٢٦٢ / ٢٢٠١ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٤١٣ / ٤٢٢٧ ، سنن البيهقي ١ : ٢١٥ و ٧ : ٣٤١ .
الغضب ، فلا بدّ من التقرّب والوجه .
وإذا نوى الاعتكاف مدّةً لم تلزمه إجماعاً .
نعم يشترط استمرار النية حكماً ، فلو خرج لقضاء حاجة أو لغيره ، استأنف النية عند الرجوع إن بطل الاعتكاف بالخروج ، وإلّا فلا .
مسألة ١٧٢ : يشترط في الاعتكاف اللبث عند علمائنا أجمع ، وهو قول أهل العلم ؛ لأنّ الاعتكاف في اللغة عبارة عن المقام ، يقال : عكف واعتكف ؛ أي : أقام .
وللشافعي وجهان : هذا أحدهما ، والثاني : أنّه لا يشترط اللبث ، بل يكفي مجرّد الحضور ، كما يكفي الحضور بعرفة في تحقيق ركن الحج .
ثم فرّع على الوجهين ، فقال : إن اكتفينا بالحضور حصل الاعتكاف بالعبور حتى لو دخل من باب وخرج من باب ونوى ، فقد اعتكف ، وإن اعتبرنا اللبث ، لم يكف ما يكفي في الطمأنينة في أركان الصلاة ، بل لا بدّ وأن يزيد عليه بما يسمّى إقامة وعكوفاً ، ولا يعتبر السكون ، بل يصح اعتكافه قائماً وقاعداً ومتردّداً في أرجاء المسجد (١) .
وهذا القول لا عبرة به عند المحصّلين .
مسألة ١٧٣ : لا يجوز الاعتكاف عند علمائنا أقلّ من ثلاثة أيام بليلتين متواليات ، خلافاً للعامة كافة ؛ فإنّ الشافعي لم يقدّره بحدّ ، بل جوّز اعتكاف ساعة واحدة فأقلّ ، وهو رواية عن أحمد وأبي حنيفة (٢) .
ورواية أخرى عن أبي حنيفة أنّه لا يجوز أقلّ من يوم واحد ، وهو رواية عن مالك (٣) .
__________________
(١) فتح العزيز ٦ : ٤٨٠ .
(٢) المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع ٦ : ٤٩١ ، الوجيز ١ : ١٠٦ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٠ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٠ ، بدائع الصنائع ٢ : ١١٠ ، بداية المجتهد ١ : ٣١٤ .
(٣)
المبسوط للسرخسي ٣ : ١١٧ ، بدائع الصنائع ٢ : ١١٠ ، الهداية للمرغيناني ١ : ١٣٢ ،
وعن مالك رواية اُخرى أنّه لا يكون أقلّ من عشرة أيام (١) .
لنا : ما رواه العامة عن النبي صلّى الله عليه وآله ، أنّه قال : ( لا اعتكاف إلّا بصوم ) (٢) والصوم لا يقع في أقلّ من يوم ، فبطل قول الشافعي ومَنْ وافقه .
وأمّا التقدير بالثلاثة : فلأنّ الاعتكاف في اللغة هو اللبث المتطاول وفي الشرع قيّد بالعبادة ، ولا يصدق ذلك بيوم واحد ؛ لأنّ التقدير بيوم لا مُماثل له في الشرع ، والتقدير بعشرة سيأتي إبطاله ، فتتعيّن الثلاثة ، كصوم كفّارة اليمين وكفّارة بدل الهدي وغير ذلك من النظائر .
ولقول الصادق عليه السلام : « لا يكون الاعتكاف أقلّ من ثلاثة أيام ومن اعتكف صام » (٣) .
واحتجاج الشافعي : بأنّ الاعتكاف لبث ، وهو يصدق في القليل والكثير (٤) . وأبو حنيفة : بأنّ من شرطه الصوم ، وأقلّه يوم (٥) . ومالك : بأنّ النبي صلّى الله عليه وآله ، كان يعتكف العشر الأواخر (٦) ؛ باطل : بأنّ الاعتكاف في اللغة هو اللبث الطويل ، والأصل بقاء الوضع ، وقد بيّنّا أنّه لا
__________________
الكافي في فقه أهل المدينة : ١٣١ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٠ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع ٦ : ٤٩١ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨١ .
(١) بداية المجتهد ١ : ٣١٤ ، التفريع ١ : ٣١٢ ـ ٣١٣ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ١٣١ .
(٢) أوردها ابنا قدامة في المغني والشرح الكبير ٣ : ١٢٥ ، وفي سنن الدارقطني ٢ : ١٩٩ ـ ٢٠٠ / ٤ وسنن البيهقي ٤ : ٣١٧ ( بصيام ) بدل ( بصوم ) .
(٣) الكافي ٤ : ١٧٧ / ٢ ، الفقيه ٢ : ١٢١ / ٥٢٥ ، التهذيب ٤ : ٢٨٩ / ٨٧٦ ، الاستبصار ٢ : ١٢٨ ـ ١٢٩ / ٤١٨ .
(٤) المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع ٦ : ٤٨٩ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٠ .
(٥) المبسوط للسرخسي ٣ : ١١٧ ، بدائع الصنائع ٢ : ١١٠ ، الهداية للمرغيناني ١ : ١٣٢ .
(٦) كما في المعتبر للمحقق الحلي : ٣٢٢ ، كما أنّ فيه أيضاً التعرض لاحتجاج الشافعي وأبي حنيفة .
يكون أقلّ من ثلاثة أيام عن أهل البيت عليهم السلام . وفعل الرسول صلّى الله عليه وآله ، لا يدلّ على تحديد الأقلّ .
مسألة ١٧٤ : ويشترط في الاعتكاف أن يكون في مكان خاص ، وقد أجمع علماء الأمصار على اشتراط المسجد في الجملة ؛ لقوله تعالى : ( وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ) (١) ولو صحّ الاعتكاف في غير المسجد ، لم يكن للتقييد فائدة ؛ لأنّ الجماع في الاعتكاف مطلقاً حرام .
ولأنّ الاعتكاف لبث هو قربة ، فاختصّ بمكان كالوقوف .
ثم اختلف العلماء بعد ذلك في أنّه هل يشترط مسجد معيّن أم لا ؟ فالذي عليه أكثر علمائنا (٢) أنّه يشترط أن يكون في مسجد جمّع فيه نبي أو وصي نبي ، وهي أربعة مساجد : المسجد الحرام ومسجد النبي عليه السلام ، جمّع فيهما رسول الله صلّى الله عليه وآله ، ومسجد الكوفة ومسجد البصرة جمّع فيهما علي عليه السلام .
وقد روي في بعض الأخبار بدل « مسجد البصرة » : « مسجد المدائن » رواه الصدوق (٣) .
وقال ابن أبي عقيل منّا : إنّه يصح الاعتكاف في كلّ مسجد .
قال : وأفضل الاعتكاف في المسجد الحرام ومسجد الرسول صلّى الله عليه وآله ، ومسجد الكوفة ، وسائر الأمصار مساجد الجماعات (٤) . وبه قال الشافعي ومالك (٥) .
__________________
(١) البقرة : ١٨٧ .
(٢) منهم : الشيخ الطوسي في المبسوط ١ : ٢٨٩ ، والقاضي ابن البراج في المهذب ١ : ٢٠٤ ، وأبو الصلاح الحلبي في الكافي في الفقه : ١٨٦ ، وسلّار في المراسم : ٩٩ .
(٣) الفقيه ٢ : ١٢٠ / ٥٢٠ .
(٤) حكاه عنه المحقق في المعتبر : ٣٢٣ .
(٥)
المهذب للشيرازي ١ : ١٩٧ ، المجموع ٦ : ٤٨٠ و ٤٨٣ ، فتح العزيز ٦ : ٥٠١ ، بداية
وللشافعي قول قديم ـ كقول الزهري ـ إنّه يصحّ في كلّ جامع وغير جامع (١) .
وقال المفيد رحمه الله : لا يكون الاعتكاف إلّا في المسجد الأعظم ، وقد روي : أنّه لا يكون إلّا في مسجد جمّع فيه نبي أو وصي ، والمساجد التي جمّع فيها نبي أو وصي هي أربعة مساجد (٢) . وعدَّ ما اخترناه .
وقال أبو حنيفة وأحمد : لا يجوز إلّا في مسجد يجمّع فيه (٣) .
وعن حذيفة : أنّه لا يصحّ الاعتكاف إلّا في أحد المساجد الثلاثة : المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد الرسول عليه السلام (٤) .
لنا : أنّ الاعتكاف عبادة شرعية ، فيقف على مورد النصّ ، والذي وقع عليه الاتّفاق ما قلناه .
ولأنّ عمر بن يزيد سأل الصادق عليه السلام : ما تقول في الاعتكاف ببغداد في بعض مساجدها ؟ فقال : « لا اعتكاف إلّا في مسجد جماعة قد صلّى فيه إمام عدل صلاة جماعة ، ولا بأس أن يعتكف في مسجد الكوفة
__________________
المجتهد ١ : ٣١٣ ، مقدمات ابن رشد : ١٩٠ ، المغني ٣ : ١٢٨ ، الشرح الكبير ٣ : ١٣٠ .
(١) كذا ، ولكن المنسوب إلى الشافعي في القديم ، والزهري ، هو : اختصاص الاعتكاف بالمسجد الجامع . راجع المهذب للشيرازي ١ : ١٩٧ ، والمجموع ٦ : ٤٨٠ ، وفتح العزيز ٦ : ٥٠١ ـ ٥٠٢ ، وحلية العلماء ٣ : ٢١٧ ، والمغني ٣ : ١٢٨ ، والشرح الكبير ٣ : ١٣٠ .
(٢) المقنعة : ٥٨ .
(٣) بدائع الصنائع ٢ : ١١٣ ، الحجة على أهل المدينة ١ : ٤١٥ ، تحفة الفقهاء ١ : ٣٧٢ ، المغني ٣ : ١٢٧ ، الشرح الكبير ٣ : ١٢٩ ، حلية العلماء ٣ : ٢١٧ ، المجموع ٦ : ٤٨٣ .
(٤) حلية العلماء ٣ : ٢١٧ ، المجموع ٦ : ٤٨٣ ، المغني ٣ : ١٢٨ ، الشرح الكبير ٣ : ١٣٠ .
ومسجد المدينة ومسجد مكّة ومسجد البصرة » (١) .
ولأنّ الاعتكاف يتعلّق به أحكام شرعية من أفعال وتروك ، والأصل عدم تعلّقها بالمكلّف إلّا مع ثبوت المقتضي ولم يُوجد .
احتجّ المفيد : بقول أمير المؤمنين عليه السلام : « لا أرى الاعتكاف إلّا في المسجد الحرام أو مسجد الرسول صلّى الله عليه وآله ، أو في مسجد جامع » (٢) .
واحتجّ ابن أبي عقيل : بقوله تعالى : ( وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ) (٣) .
ولقول الصادق عليه السلام : « لا اعتكاف إلّا بصوم وفي المصر (٤) الذي أنت فيه » (٥) .
واحتجّ أبو حنيفة : بقوله عليه السلام : ( كلّ مسجد له إمام ومؤذّن يعتكف فيه ) (٦) .
ولأنّه قد يأتي عليه الجمعة ، فإن خرج ، أبطل اعتكافه ، وربما كان واجباً ، وإن لم يخرج ، أبطل جمعته ، فحينئذٍ يجب المسجد الذي يصلّي فيه جمعة .
والجواب : أنّ قول أمير المؤمنين عليه السلام : « أو في مسجد جامع » مطلق ، وما قلناه مقيّد ، فيحمل عليه ؛ جمعاً بين الأدلّة .
__________________
(١) التهذيب ٤ : ٢٩٠ / ٨٨٢ و ٨٨٣ ، الاستبصار ٢ : ١٢٦ / ٤٠٩ و ٤١٠ ، الكافي ٤ : ١٧٦ ( باب المساجد التي يصلح الاعتكاف فيها ) الحديث ١ ، والفقيه ٢ : ١٢٠ / ٥١٩ .
(٢) التهذيب ٤ : ٢٩١ / ٨٨٥ ، الاستبصار ٢ : ١٢٧ / ٤١٢ ، وراجع المعتبر : ٣٢٣ .
(٣) البقرة : ١٨٧ .
(٤) في المصدر : وفي مسجد المصر .
(٥) أورده المحقق في المعتبر : ٣٢٣ نقلاً عن جامع البزنطي .
(٦) أورده المحقق في المعتبر : ٣٢٣ . وفي سنن الدارقطني ٢ : ٢٠٠ / ٥ بتفاوت . وراجع : بدائع الصنائع ٢ : ١١٣ .
ولا دلالة في الآية ؛ لأنّ اللام قد تقع للعهد .
وقول الصادق عليه السلام ، محمول على المسجد الذي هو أحد الأربعة . ولا بدّ من التأويل ؛ لأنّه يقتضي تحريم الاعتكاف إلّا في مصره ، وهو خلاف الإِجماع .
وحجّة أبي حنيفة لنا .
تذنيب : ليس للمرأة الاعتكاف في مسجد بيتها ـ وهو الذي عزلته وهيّأته للصلاة فيه ـ لأنّه ليس له حرمة المساجد ، وليس مسجداً حقيقةً ، ولهذا يجوز تبديله وتوسيعه وتضييقه ، فلم يكن مسجداً حقيقةً ، فأشبه سائر المواضع ، وهو الجديد للشافعي ، وبه قال مالك وأحمد (١) .
وقال في القديم : يجوز لها ذلك ـ وهذا التفريع على رأي مَنْ يعمّم الأماكن . وأبو حنيفة قال بالجواز (٢) أيضاً ـ لأنّه مكان صلاتها ، كما أنّ المسجد مكان صلاة الرجل (٣) .
وليس بجيّد ؛ لأنّ نساء النبي صلّى الله عليه وآله ، كُنّ يعتكفن في المسجد (٤) ، ولو جاز اعتكافهنّ في البيوت ، لأشبه أن يلازمنها .
__________________
(١) المجموع ٦ : ٤٨٠ و ٤٨٤ ، الوجيز ١ : ١٠٧ ، فتح العزيز ٦ : ٥٠٢ ، حلية العلماء ٣ : ٢١٧ ، مقدمات ابن رشد : ١١٩ ، المغني ٣ : ١٢٩ ، الشرح الكبير ٣ : ١٣٢ ، المبسوط للسرخسي ٣ : ١١٩ .
(٢) بدائع الصنائع ٢ : ١١٣ ، المبسوط للسرخسي ٣ : ١١٩ ، الهداية للمرغيناني ١ : ١٣٢ ، المجموع ٦ : ٤٨٤ ، فتح العزيز ٦ : ٥٠٣ ، حلية العلماء ٣ : ٢١٨ ، المغني ٣ : ١٢٩ ، الشرح الكبير ٣ : ١٣٢ ، مقدمات ابن رشد : ١٩١ .
(٣) فتح العزيز ٦ : ٥٠٣ ، المجموع ٦ : ٤٨٠ ، حلية العلماء ٣ : ٢١٧ .
(٤) صحيح البخاري ٣ : ٦٣ ، صحيح مسلم ٢ : ٨٣١ / ١١٧٣ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٦٣ / ١٧٧١ .
وعلى الجواز ففي جواز الاعتكاف للرجل وجهان للشافعية ؛ لأنّ (١) تنفّل الرجل في البيت أفضل ، والاعتكاف ملحق بالنوافل (٢) .
وكلّ امرأة يكره لها حضور الجماعات يكره لها الاعتكاف في المساجد .
مسألة ١٧٥ : يشترط في الاعتكاف الصوم عند علمائنا أجمع ـ وبه قال ابن عمر ، وابن عباس وعائشة والزهري وأبو حنيفة ومالك والليث والأوزاعي والحسن بن صالح بن حي وأحمد في إحدى الروايتين (٣) ـ لما رواه العامة عن النبي صلّى الله عليه وآله ، أنّه قال : ( لا اعتكاف إلّا بصوم ) (٤) .
ومن طريق الخاصة : قول الصادق عليه السلام : « لا اعتكاف إلّا بصوم » (٥) .
ولأنّه لبث في مكان مخصوص ، فلم يكن بمجرّده قربةً ، كالوقوف بعرفة .
وقال الشافعي : لا يشترط الصوم ، بل يجوز من غير صوم ـ وبه قال ابن مسعود وسعيد بن المسيّب وعمر بن عبد العزيز والحسن وعطاء وطاوس وإسحاق وأحمد في الرواية الاُخرى ـ لأنّ عمر سأل النبي صلّى الله عليه وآله ، إنّي نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلةً في المسجد الحرام ، فقال النبي صلّى الله
__________________
(١) هذا وجه الجواز .
(٢) فتح العزيز ٦ : ٥٠٣ ، المجموع ٦ : ٤٨٠ .
(٣) المغني والشرح الكبير ٣ : ١٢٥ ، المجموع ٦ : ٤٨٧ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٤ ، حلية العلماء ٣ : ٢١٨ ، الهداية للمرغيناني ١ : ١٣٢ ، بدائع الصنائع ٢ : ١٠٩ ، بداية المجتهد ١ : ٣١٥ ، مقدّمات ابن رشد : ١٩١ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ١٣١ .
(٤) أوردها ابنا قدامة في المغني والشرح الكبير ٣ : ١٢٥ ، وفي سنن الدارقطني ٢ : ١٩٩ ـ ٢٠٠ / ٤ ، وسنن البيهقي ٤ : ٣١٧ : ( بصيام ) بدل ( بصوم ) .
(٥) الكافي ٤ : ١٧٦ ( باب أنه لا يكون الاعتكاف إلا بصوم ) الأحاديث ١ ـ ٣ ، التهذيب ٤ : ٢٨٨ / ٨٧٣ .
عليه وآله : ( أوْف بنذرك ) (١) ولو كان الصوم شرطاً لم يصح اعتكاف الليل .
ولقول ابن عباس : ( ليس على معتكف صوم ) (٢) .
ولأنّه عبادة تصح في الليل ، فلا يشترط لها الصيام ، كالصلاة (٣) .
والجواب : الليلة قد تطلق مع إرادة النهار معها ، كما يقال : أقَمْنا ليلتين أو ثلاثاً ؛ والمراد : الليل والنهار
ونمنع صحة الاعتكاف ليلاً خاصة . والفرق بينه وبين الصلاة ظاهر ؛ لأنّه بمجرّده لا يكون عبادةً ، فاشترط فيه الصوم .
وقول ابن عباس لا يكون حجّةً .
مسألة ١٧٦ : لا يشترط صوم معيّن ، بل أيّ صوم اتّفق صحّ الاعتكاف معه ، سواء كان الصوم واجباً أو ندباً ، وسواء كان الاعتكاف واجباً أو ندباً ، فلو نذر اعتكاف ثلاثة أيام مثلاً ، وجب الصوم بالنذر ؛ لأنّ ما لا يتمّ الواجب إلّا به يكون واجباً .
فلو اعتكف في شهر رمضان ، صحّ اعتكافه ، وكان الصوم واقعاً عن رمضان ، وأجزأ عن صوم اعتكافه الواجب .
وكذا لو نذر صوم شهر ونذر اعتكاف شهر ، وأطلق النذرين ، أو جعل زمانهما واحداً ، صحّ أن يعتكف في شهر صومه المنذور ، وتقع نية الصوم عن النذر المعيّن أو غير المعيّن .
وكذا لو نذر اعتكافاً وأطلق ، فاعتكف في أيّام أراد صومها مستحبّاً ،
__________________
(١) صحيح البخاري ٣ : ٦٣ ، سنن الدارقطني ٢ : ١٩٨ ـ ١٩٩ / ١ و ٢ ، سنن البيهقي ٤ : ٣١٨ .
(٢) المستدرك للحاكم ١ : ٤٣٩ بتفاوت يسير عن النبي صلّى الله عليه وآله .
(٣) المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع ٦ : ٤٨٥ و ٤٨٧ ـ ٤٨٨ ، الوجيز ١ : ١٠٦ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٤ ـ ٤٨٥ ، حلية العلماء ٣ : ٢١٨ ، المغني والشرح الكبير ٣ : ١٢٥ ـ ١٢٦ ، بدائع الصنائع ٢ : ١٠٩ ، مقدمات ابن رشد : ١٩١ ـ ١٩٢ .
جاز .
والقائلون بعدم اشتراط الصوم من العامة حكموا باستحبابه ؛ لأنّ النبي صلّى الله عليه وآله ، كان يعتكف وهو صائم (١) . ولا خلاف فيه ، وجوّزوا اعتكاف بعض يوم أو بعض ليلة (٢) .
ومن اشترطه منهم لم يسوّغوا اعتكاف بعض يوم ولا اعتكاف ليلة منفردة ولا بعضها ؛ لأنّ الصوم المشترط لا يصح في أقلّ من يوم (٣) .
ويحتمل عندهم صحة اعتكاف بعض يوم إذا صام اليوم بأسره ؛ لأنّ الصوم المشروط وُجد في زمن الاعتكاف ، ولا يعتبر وجود المشروط في زمن كلّ زمان الشرط (٤) .
وعلى مذهبنا من اشتراط الصوم لا يصح اعتكاف زمان لا يصح فيه الصوم ، كيومي العيدين وأيام التشريق والمرض المضر والسفر الذي يجب فيه القصر ، خلافاً للشافعي ؛ فإنّه جوّز الاعتكاف في يومي العيدين وأيام التشريق (٥) .
مسألة ١٧٧ : يشترط في صحة اعتكاف الزوجة المندوب : إذن زوجها ، وكذا السيد في حق عبده ؛ لأنّ منافع الاستمتاع والخدمة مملوكة للزوج والسيد ، فلا يجوز صرفهما إلى غيرهما إلّا بإذنهما ، وكذا المدبَّر واُمّ الولد ومن انعتق بعضه إلّا مع المهاياة وإيقاع الاعتكاف في أيام نفسه .
__________________
(١) المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع ٦ : ٤٨٥ و ٤٨٧ ، المغني والشرح الكبير ٣ : ١٢٦ .
(٢) المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع ٦ : ٤٨٩ ـ ٤٩١ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٠ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٠ .
(٣) المغني ٣ : ١٢٧ ، الشرح الكبير ٣ : ١٢٦ ، المجموع ٦ : ٤٩١ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٤ .
(٤) المغني ٣ : ١٢٧ ، الشرح الكبير ٣ : ١٢٦ .
(٥) الاُم ٢ : ١٠٧ ، المجموع ٦ : ٤٨٥ و ٤٨٩ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٤ ، مختصر المزني : ٦٠ .
أمّا المكاتب فإنّه كالعبد إذا كان مشروطاً ؛ لأنّه لم يخرج عن الرقّ بالكتابة ، فتوابع الرقّ لا حقة به .
وقال الشافعي : يجوز ؛ لأنّ منافعه لا حقّ للمولى فيها (١) .
وليس بجيّد ؛ لأنّ الرقّ لم يزل عنه ، وإطلاق الإِذن منصرف إلى الاكتساب دون غيره .
مسألة ١٧٨ : لو أذن لعبده في الاعتكاف أو لزوجته ، جاز له الرجوع ومنعهما ما لم يجب ـ وبه قال الشافعي (٢) ـ لأنّه فعل مندوب يجوز الرجوع فيه ؛ لأنّ التقدير أنّه لم يجب ؛ لأنّ الشروع غير ملزم عندنا على ما يأتي (٣) ، كما لو اعتكف بنفسه ثم بدا له في الرجوع .
ولأنّ مَنْ مَنَع غيره من الاعتكاف إذا أذن فيه وكان تطوّعاً ، كان له إخراجه منه ، كالسيد مع عبده .
وقال أبو حنيفة : له منع العبد وليس له منع الزوجة ـ وقال مالك : ليس له منعهما (٤) ـ لأنّ المرأة تملك بالتمليك ، فإذا أذن لها ، أسقط حقّه عن منافعها ، وأذن لها في استيفائها ، فصار كما لو ملّكها عيناً ، بخلاف العبد الذي لا يملك البتة ، وإنّما يتلف منافعه على ملك السيد ، فإذا أذن له في إتلافها ، صار كالمُعير (٥) .
__________________
(١) المجموع ٦ : ٤٧٨ ، فتح العزيز ٦ : ٤٩٣ ، حلية العلماء ٣ : ٢١٧ .
(٢) المجموع ٦ : ٤٧٧ ، فتح العزيز ٦ : ٤٩٢ ، حلية العلماء ٣ : ٢١٦ ، المغني ٣ : ١٥١ ، الشرح الكبير ٣ : ١٢٧ .
(٣) يأتي في المسألة ٢٠٥ .
(٤) المدونة الكبرى ١ : ٢٣٠ ، المغني ٣ : ١٥١ ، الشرح الكبير ٣ : ١٢٧ ، المجموع ٦ : ٤٧٧ ، فتح العزيز ٦ : ٤٩٢ ، حلية العلماء ٣ : ٢١٦ .
(٥) بدائع الصنائع ٢ : ١٠٩ ، المبسوط للسرخسي ٣ : ١٢٥ ، المغني ٣ : ١٥١ ـ ١٥٢ ، الشرح الكبير ٣ : ١٢٧ ، المجموع ٦ : ٤٧٧ ، فتح العزيز ٦ : ٤٩٢ ، حلية العلماء ٣ : ٢١٦ .
قال مالك : إنّ السيّد قد عقد على نفسه تمليك منافع كان يملكها لحقّ الله تعالى ، فلم يكن له الرجوع فيه ، كصلاة الجمعة (١) .
والجواب : أنّ منافع المرأة لزوجها ، ولهذا يجب عليها بذلها ، فإذا أذن لها في إتلافها ، جرى مجرى المُعير .
والجمعة تجب بالدخول فيها ، بخلاف الاعتكاف .
مسألة ١٧٩ : لا ينعقد نذر المرأة للاعتكاف إلّا بإذن زوجها ، وكذا العبد إلّا بإذن مولاه ، فإذا أذنا فإن كان النذر لأيّام معيّنة ، لم يجز للمولى ولا للزوج المنع ولا الرجوع ، وإن كان لأيّام غير معيّنة ، جاز المنع ما لم يجب بأن يمضي يومان ؛ لأنّه ليس على الفور .
ولو دخلا في المندوب بإذنه ، جاز الرجوع أيضاً .
وقال الشيخ الله : يجب عليه الصبر ثلاثة أيّام هي أقلّ الاعتكاف (٢) .
وليس بجيّد ؛ لأنّا لا نوجب المندوب بالشروع .
ولو نذرا نذراً غير معيّن بإذن الزوج والمولى ، لم يجز لهما الدخول فيه إلّا بإذنهما ؛ لأنّ منافعهما حقّ مضيّق يفوت بالتأخير ، بخلاف الاعتكاف .
وإذا أذن لعبده في الاعتكاف فاعتكف ثم اُعتق ، وجب عليه إتمام الواجب ، واستحبّ إتمام المندوب .
ولو دخل في الاعتكاف بغير نذر (٣) فاُعتق في الحال ، قال الشيخ رحمه
__________________
(١) راجع : المغني ٣ : ١٥٢ ، والشرح الكبير ٣ : ١٢٧ .
(٢) المبسوط للطوسي ١ : ٢٩٠ ، وحكاه عنه أيضاً المحقق في المعتبر : ٣٢٢ .
(٣) كذا في النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق وفي الطبعة الحجرية ، إلّا أنّ سياق العبارة يدلّ على أنّ المراد : الإِذن لا النذر . ويؤكّد ذلك ما أثبتته المصادر المذكورة في الهامش التالي ، فراجع .
الله : يلزمه (١) .
وليس بجيّد ؛ لأنّ الدخول منهي عنه ، فلا ينعقد به الاعتكاف ، فلا يجب إتمامه .
تذنيب : لا يجوز للأجير أن يعتكف زمان إجارته إلّا بإذن المستأجر ؛ لأنّ منافعه مملوكة له . وكذا ينبغي في الضيف ؛ لافتقار صومه تطوّعاً إلى الإِذن .
المطلب الثالث : في تروك الاعتكاف
مسألة ١٨٠ : يحرم على المعتكف الجماع بالنصّ والإِجماع .
قال الله تعالى : ( وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ) (٢) .
وأجمع العلماء كافّة على تحريم الوطء للمعتكف ، فإن اعتكف وجامع فيه متعمّداً ، فسد اعتكافه إجماعاً ؛ لأنّ الوطء إذا حرم في العبادة أفسدها ، كالحجّ والصوم .
وإن كان ناسياً ، لم يبطل ـ وبه قال الشافعي (٣) ـ لقوله عليه السلام : ( رُفع عن اُمّتي الخطأ والنسيان ) (٤) .
ولأنّها مباشرة لا تُفسد الصوم فلا تُفسد الاعتكاف ، كالمباشرة فيما دون
__________________
(١) المبسوط للطوسي ١ : ٢٩٠ ، وراجع : أيضاً المعتبر للمحقّق الحلّي : ٣٢٢ ، والمختلف ـ للمصنّف ـ : ٢٥٢ .
(٢) البقرة : ١٨٧ .
(٣) المهذب للشيرازي ١ : ٢٠١ ، المجموع ٦ : ٥٢٤ و ٥٢٧ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨١ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٥ ، المغني ٣ : ١٣٩ ، الشرح الكبير ٣ : ١٥٥ .
(٤) الفتح الكبير ٢ : ١٣٥ ، كنز العُمّال ٤ : ٢٣٣ / ١٠٣٠٧ نقلاً عن الطبراني في المعجم الكبير .
الفرج .
وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد : يبطل الاعتكاف ؛ لأنّ ما حرم في الاعتكاف استوى عمده وسهوه ، كالخروج من المسجد (١) .
ونمنع الأصل . والفرق : أنّ الخروج ترك المأمور به ، وهو مخالف لفعل المحظور فيه ؛ فإنّ مَنْ ترك النية في الصوم لا يصح صومه وإن كان ناسياً ، بخلاف ما لو جامع سهواً .
ولا فرق في التحريم بين الوطء في القُبُل والدُّبُر ، ولا بين الإِنزال وعدمه ، وكما يحرم الوطء نهاراً يحرم ليلاً ؛ لأنّ المقتضي للتحريم الاعتكاف فيهما ، ولا نعلم فيه خلافاً .
ويجوز أن يلامس بغير شهوة بالإِجماع ؛ لأنّ النبي صلّى الله عليه وآله ، كان يلامس بعض نسائه في الاعتكاف (٢) .
مسألة ١٨١ : القُبْلة حرام يبطل بها الاعتكاف ، وكذا اللمس بشهوة والجماع في غير الفرجين ؛ لقوله تعالى : ( وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ ) (٣) وهو عام في كلّ مباشرة ، وبه قال مالك (٤) .
وقال أبو حنيفة : إن أنزل ، أفسد اعتكافه ، وإن لم ينزل ، لم يفسد
__________________
(١) المبسوط للسرخسي ٣ : ١٢٣ ، الهداية للمرغيناني ١ : ١٣٣ ، المدوّنة الكبرى ١ : ٢٢٦ ، بداية المجتهد ١ : ٣١٦ ، المغني ٣ : ١٣٩ ، الشرح الكبير ٣ : ١٥٥ ، المجموع ٦ : ٥٢٧ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨١ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٥ .
(٢) كما في المعتبر للمحقّق الحلّي : ٣٢٥ ، وراجع : صحيح البخاري ٣ : ٦٢ ، سنن أبي داود ٢ : ٣٣٢ ـ ٣٣٣ / ٢٤٦٧ ـ ٢٤٦٩ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٦٥ / ١٧٧٨ ، سنن الترمذي ٣ : ١٦٧ / ٨٠٤ .
(٣) البقرة : ١٨٧ .
(٤) بداية المجتهد ١ : ٣١٦ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٦ ، المجموع ٦ : ٥٢٧ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٢ ، المغني ٣ : ١٤٢ ، الشرح الكبير ٣ : ١٥٧ .
ـ وللشافعي كالقولين (١) ـ لأنّه لا يفسد الصوم فلا يفسد الاعتكاف ، كما لو كان بغير شهوة (٢) .
والفرق : أنّ هذه المباشرة لم تحرم في الصوم لعينها ، بل إذا خاف الإِنزال ، وأمّا في الاعتكاف فإنّها محرّمة لعينها ـ كما ذهب إليه أبو حنيفة في وطء الساهي (٣) ـ فلا يفسد الصوم ويفسد الاعتكاف .
فروع :
أ ـ لا فرق في تحريم الجماع بين أن يجامع في المسجد أو خارجه ؛ لعموم الآية (٤) .
والتقييد بالفيئية (٥) في المساجد راجع إلى الاعتكاف لا المباشرة .
ب ـ لا فرق بين جماع وجماع .
وروى المزني عن الشافعي أنّه لا يفسد الاعتكاف من الوطء إلّا ما يوجب الحد (٦) .
قال الجويني : قضية هذا أنّه لا يفسد بإتيان البهيمة إذا لم يوجب به الحد (٧) .
__________________
(١) المهذب للشيرازي ١ : ٢٠١ ، المجموع ٦ : ٥٢٥ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٢ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٦ ، المغني ٣ : ١٤٢ ، الشرح الكبير ٣ : ١٥٧ .
(٢ و ٣) المبسوط للسرخسي ٣ : ١٢٣ ، الهداية للمرغيناني ١ : ١٣٣ ، المغني ٣ : ١٤١ ـ ١٤٢ ، الشرح الكبير ٣ : ١٥٧ ، المجموع ٦ : ٥٢٧ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٢ ، بداية المجتهد ١ : ٣١٦ .
(٤) البقرة : ١٨٧ .
(٥) ورد في هامش نسخة « ن » هكذا : أي تقييده تعالى في الآية بقوله : ( فِي الْمَسَاجِدِ ) فالياء في « بالفيئية » ياء النسبة كالياء في « زيدي » .
(٦) مختصر المزني : ٦١ ، المجموع ٦ : ٥٢٤ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٢ .
(٧) فتح العزيز ٦ : ٤٨٢ ، المجموع ٦ : ٥٢٤ ـ ٥٢٥ .
ج ـ قد بيّنّا (١) أنّ القُبْلة بشهوة واللمس كذلك متعمّداً مُفْسدان للاعتكاف ـ خلافاً (٢) لأحد قولي الشافعي (٣) ـ لأنّها مباشرة محرّمة في الاعتكاف ، فأشبهت الجماع .
والثاني (٤) : لأنّها مباشرة لا تبطل الحج فلا تبطل الاعتكاف ، كالقبلة بغير شهوة (٥) .
وما موضع القولين ؟ للشافعية ثلاث طرق :
أحدها : أنّ القولين فيما إذا أنزل ، فأمّا إذا لم ينزل لم يبطل الاعتكاف بلا خلاف ، كالصوم .
وثانيها : أنّ القولين فيما إذا لم ينزل ، أمّا إذا أنزل بطل اعتكافه بلا خلاف ؛ لخروجه عن أهلية الاعتكاف بالجنابة .
وثالثها ـ وهو الأظهر عندهم ـ : طرد القولين في الحالين .
والفرق على أحد القولين فيما إذا لم ينزل بين الاعتكاف والصوم : أنّ هذه الاستمتاعات في الاعتكاف محرّمة لعينها ، وفي الصوم ليست محرّمةً لعينها ، بل لخوف الإِنزال ، ولهذا يترخّص فيها إذا أمن أن لا تُحرّك القُبْلة شهوَته .
فحصل من هذا للشافعي ثلاثة أقوال :
أحدها : أنّها لا تفسد الاعتكاف ، أنزل أو لم ينزل .
__________________
(١) في « ط ، ف » : ثبت . بدل بيّنّا .
(٢) كذا في النسخ المعتمدة في التحقيق وفي الطبعة الحجرية . والصحيح : وفاقاً ؛ لتستقيم العبارة .
(٣) فتح العزيز ٦ : ٤٨٢ ، المجموع ٦ : ٥٢٥ .
(٤) أي : القول الثاني للشافعي ، وهو : عدم الإِفساد .
(٥) فتح العزيز ٦ : ٤٨٢ ، المجموع ٦ : ٥٢٥ .
والثاني : تفسده ، أنزل أو لم ينزل ، وبه قال مالك (١) .
والثالث ـ وبه قال أبو حنيفة (٢) ـ أنّ ما أنزل منها أفسد الاعتكاف ، وما لا فلا (٣) .
د ـ الاستمناء باليد حرام مُبْطل للاعتكاف إذا وقع نهاراً قطعاً ؛ لإِفساده الصوم .
وبالجملة استدعاء المني مطلقاً نهاراً وليلاً حرام .
وعند أكثر (٤) الشافعية أنّ الاستمناء باليد مرتّب على ما إذا لمس فأنزل ، إن قلنا : إنّه لا يبطل الاعتكاف فهذا أولى ، وإن قلنا : إنّه يبطله فوجهان . والفرق : كمال الاستمتاع والالتذاذ ثَمَّ باصطكاك السوأتين (٥) .
هـ ـ يجوز للمعتكف أن يُقبِّل على سبيل الشفقة والإِكرام ، ولا بأس أن يلمس بغير شهوة .
مسألة ١٨٢ : يحرم على المعتكف البيع والشراء ـ وبه قال مالك وأحمد (٦) ـ لما رواه العامة : أنّ النبي صلّى الله عليه وآله ، نهى عن البيع والشراء في المسجد (٧) .
ومن طريق الخاصة : قول الباقر عليه السلام : « المعتكف لا يشمّ
__________________
(١) بداية المجتهد ١ : ٣١٦ ، المغني ٣ : ١٤٢ ، الشرح الكبير ٣ : ١٥٧ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٢ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٦ .
(٢) الهداية للمرغيناني ١ : ١٣٣ ، المبسوط للسرخسي ٣ : ١٢٣ ، بداية المجتهد ١ : ٣١٦ ، المغني ٣ : ١٤١ ـ ١٤٢ ، الشرح الكبير ٣ : ١٥٧ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٢ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٦ .
(٣) فتح العزيز ٦ : ٤٨٢ ، المجموع ٦ : ٥٢٥ ـ ٥٢٦ .
(٤) وفي المصادر : عند البغوي والرافعي .
(٥) فتح العزيز ٦ : ٤٨٢ ـ ٤٨٣ ، المجموع ٦ : ٥٢٦ .
(٦) التفريع ١ : ٣١٤ ، المغني ٣ : ١٤٥ ، الشرح الكبير ٣ : ١٥٩ .
(٧) سنن الترمذي ٢ : ١٣٩ / ٣٢٣ ، سنن ابن ماجة ١ : ٢٤٧ / ٧٤٩ ، سنن النسائي ٢ : ٤٧ ـ ٤٨ .
الطيب ، ولا يتلذّذ بالريحان ، ولا يماري ، ولا يشتري ، ولا يبيع » (١) .
ولأنّ الاعتكاف لبث للعبادة ، فينافي ما غايرها .
وللشافعي قولان : أحدهما : الجواز ـ وبه قال أبو حنيفة (٢) ـ للأصل ، والثاني : الكراهة (٣) .
والأصل يُعْدَلُ عنه ؛ للدليل ، وقد بيّنّاه .
إذا عرفت هذا ، فلو باع أو اشترى فَعَل مُحرَّماً ، ولم يبطل البيع ؛ للأصل .
وقال الشيخ : يبطل ؛ للنهي (٤) .
وليس بجيّد ؛ لأنّه في المعاملات لا يدلّ على الفساد .
وينبغي المنع من كلّ ما يساوي البيع ممّا يقتضي الاشتغال ، كالإِجارة وشبهها .
قال السيد المرتضى رحمه الله : تحرم التجارة والبيع والشراء (٥) . والتجارة أعمّ .
ولا بأس بشراء ما يحتاج إليه ، كشراء غذائه ومائه وقميصه الذي يستتر به ويبيع شيئاً يشتري به قوته ؛ للضرورة .
وكذا الأقرب : تحريم الصنائع المُشْغلة عن العبادة ، كالحياكة والخياطة وأشباهها ، إلّا ما لا بدّ له منه ؛ لأنّه يجري مجرى الاشتغال بلبس
__________________
(١) الكافي ٤ : ١٧٧ ـ ١٧٨ / ٤ ، التهذيب ٤ : ٢٨٨ / ٨٧٢ ، الاستبصار ٢ : ١٢٩ / ٤٢٠ ، والفقيه ٢ : ١٢١ / ٥٢٧ .
(٢) الهداية للمرغيناني ١ : ١٣٣ ، بدائع الصنائع ٢ : ١١٦ ، المجموع ٦ : ٥٣٥ .
(٣) المجموع ٦ : ٥٢٩ و ٥٣٠ و ٥٣٥ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٣ ، المغني ٣ : ١٤٥ ، الشرح الكبير ٣ : ١٥٩ .
(٤) المبسوط للطوسي ١ : ٢٩٥ .
(٥) الانتصار : ٧٤ .
قميصه وعمامته .
نعم يجوز له النظر في أمر معاشه وصنعته ، ويتحدّث ما شاء من المباح ، ويأكل الطيّبات .
مسألة ١٨٣ : يحرم على المعتكف المماراة ؛ لقول الباقر عليه السلام : « ولا يماري » (١) .
وكذا يحرم عليه الكلام الفحش . ولا بأس بالحديث حالة الاعتكاف بإجماع العلماء ؛ لما في منعه من الضرر .
ويحرم الصمت ؛ لما تقدّم (٢) من أنّ صوم الصمت حرام في شرعنا .
وقد روى العامّة عن أمير المؤمنين عليه السلام ، أنّه قال : « حفظت عن رسول الله صلّى الله عليه وآله ، أنّه قال : لا صُمات يومٍ إلى الليل » (٣) .
ونهى [ النبي صلّى الله عليه وآله ] (٤) عن صوم الصمت (٥) .
فإن نذر الصمت في اعتكافه ، لم ينعقد بالإِجماع .
قال ابن عباس : بينا رسول الله صلّى الله عليه وآله ، يخطب إذا هو برجل قائم ، فسأل عنه ، فقالوا : أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظلّ ولا يتكلّم ويصوم ؛ فقال النبي صلّى الله عليه وآله : ( مُرْه فليتكلّم وليستظلّ ويقعد وليتمّ صومه ) (٦) .
ولأنّه نذر في معصية فلا ينعقد . وانضمامه إلى الاعتكاف لا يخرج به عن كونه بدعةً .
__________________
(١) تقدّمت الإِشارة إلى مصادره في الهامش (١) من الصفحة السابقة .
(٢) تقدّم في المسألة ١٤٧ .
(٣) سنن أبي داود ٣ : ١١٥ / ٢٨٧٣ .
(٤) زيادة من المصدر .
(٥) أورده ابنا قدامة في المغني ٣ : ١٤٨ ، الشرح الكبير ٣ : ١٦٠ .
(٦) صحيح البخاري ٨ : ١٧٨ .
قيل : لا يجوز أن يجعل القرآن بدلاً من كلامه ، وقد جاء : ( لا يُناظر (١) بكلام الله ) وهو أن لا يتكلّم عند الشيء بالقرآن ، كما يقال لمن جاء في وقته : ( جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يَا مُوسَىٰ ) (٢) وما شابهه ؛ لأنّ احترام القرآن ينافي ذلك وقد استعمله في غير ما هو له ، فأشبه استعمال المصحف في التوسّد (٣) .
ويستحب دراسة القرآن والبحث في العلم والمجادلة فيه ودراسته وتعليمه وتعلّمه في الاعتكاف ، بل هو أفضل من الصلاة المندوبة ـ وبه قال الشافعي (٤) ـ لما فيه من القربة والطاعة .
وقال أحمد : لا يستحب له إقراء القرآن ولا دراسة العلم ، بل التشاغل بذكر الله والتسبيح والصلاة أفضل ؛ لأنّ الاعتكاف عبادة شُرّع لها المسجد ، فلا يستحب فيها إقراء القرآن وتدريس العلم ، كالصلاة والطواف (٥) .
والفرق : أنّ الصلاة شرّع [ لها ] (٦) أذكار مخصوصة وخشوع ، واشتغاله بالعلم يقطعه عنها ، والطواف لا يكره فيه إقراء القرآن ولا تدريس العلم .
ولأنّ العلم أفضل العبادات ، ونفعه متعدٍّ (٧) ، فكان أولى من الصلاة .
مسألة ١٨٤ : وفي تحريم شم الطيب لعلمائنا قولان :
أحدهما : التحريم ، وهو الأقوى ؛ لقول الباقر عليه السلام :
__________________
(١) في المصدر : لا تناظروا .
(٢) طه : ٤٠ .
(٣) القائل هو ابنا قدامة في المغني ٣ : ١٤٨ ، والشرح الكبير ٣ : ١٦١ .
(٤) المجموع ٦ : ٥٢٨ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٤ ، المغني ٣ : ١٤٧ ، الشرح الكبير ٣ : ١٦١ .
(٥) المغني ٣ : ١٤٧ ، الشرح الكبير ٣ : ١٦١ ، المجموع ٦ : ٥٢٨ ، الشرح الكبير ٣ : ١٦١ .
(٦) زيادة يقتضيها السياق .
(٧) في « ط » : متعدّد .