بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمّدٍ وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
كتاب البيع
البيع لغة |
وهو في الأصل كما عن المصباح (١) ـ : مبادلة مالٍ بمال.
اختصاص المعوّض بالعين |
والظاهر اختصاص المعوّض بالعين ، فلا يعمّ إبدال المنافع بغيرها ، وعليه استقرّ اصطلاح الفقهاء (٢) في البيع (٣).
نعم ، ربما يستعمل في كلمات بعضهم (٤) في نقل غيرها ، بل يظهر ذلك من كثيرٍ من الأخبار ، كالخبر الدالّ على جواز بيع خدمة المدبّر (٥) ، وبيع سكنى الدار التي لا يُعلم صاحبها (٦) ، وكأخبار بيع الأرض الخراجية وشرائها (٧) ، والظاهر أنّها مسامحة في التعبير ، كما أنّ
__________________
(١) المصباح المنير : ٦٩ ، مادّة : «بيع».
(٢) في «ص» ونسخة بدل «ن» ، «خ» ، «م» و «ع» زيادة : في تعيّن العوض والمعوّض.
(٣) لم ترد «في البيع» في «ف».
(٤) كالشيخ قدسسره في المبسوط ٦ : ١٧٢.
(٥) الوسائل ١٦ : ٧٤ ، الباب ٣ من أبواب التدبير ، الأحاديث ١ ، ٣ و ٤.
(٦) الوسائل ١٢ : ٢٥٠ ، الباب الأوّل من أبواب عقد البيع وشروطه ، الحديث ٥.
(٧) الوسائل ١١ : ١١٨ ، الباب ٧١ من أبواب جهاد العدوّ ، الحديث ١ و ٦ ، و ١٢ : ٢٧٥ ، الباب ٢١ من أبواب عقد البيع وشروطه ، الحديث ٩ و ١٠.
لفظ الإجارة يستعمل عرفاً في نقل بعض الأعيان ، كالثمرة على الشجرة.
جواز كون العوض منفعة |
وأمّا العوض ، فلا إشكال في جواز كونها منفعة ، كما في غير موضع من القواعد (١) ، وعن التذكرة (٢) وجامع المقاصد (٣) ، ولا يبعد عدم الخلاف فيه.
نعم ، نُسب (٤) إلى بعض الأعيان (٥) الخلاف فيه ؛ ولعلّه لما اشتهر في كلامهم : من أنّ البيع لنقل (٦) الأعيان ، والظاهر إرادتهم بيان المبيع (٧) ، نظير قولهم : إنّ الإجارة لنقل المنافع.
جعل عمل الحرّ عوضاً |
وأمّا عمل الحرّ ، فإن قلنا : إنّه قبل المعاوضة عليه من الأموال ، فلا إشكال ، وإلاّ ففيه إشكال ؛ من حيث احتمال اعتبار كون العوضين في البيع «مالاً» قبل المعاوضة ؛ كما يدلّ عليه ما تقدّم عن المصباح.
أقسام الحقّ ، وما يقع منها عوضاً |
وأمّا الحقوق (٨) ، فإن لم (٩) تقبل المعاوضة بالمال كحقّ الحضانة
__________________
(١) القواعد ١ : ١٣٦ و ٢٢٥.
(٢) التذكرة ١ : ٥٥٦ ٥٥٧ و ٢ : ٢٩٢.
(٣) جامع المقاصد ٧ : ١٠٣.
(٤) نسبه الشيخ الكبير قدسسره في شرحه على القواعد (مخطوط) : الورقة ٤٨.
(٥) هو الوحيد البهبهاني قدسسره في رسالته العملية الموسومة ب «آداب التجارة» (انظر هداية الطالب : ١٤٩).
(٦) في غير «ف» : نقل.
(٧) في «ش» : البيع.
(٨) في غير «ش» زيادة : «الأُخر». قال الشهيدي في شرحه (الصفحة ١٤٩) : الظاهر زيادة كلمة «الأُخر».
(٩) في «ف» : فلو لم.
والولاية (١) فلا إشكال ، وكذا لو لم تقبل النقل (٢) ، كحقّ الشفعة ، وحقّ الخيار ؛ لأنّ البيع تمليك الغير.
ولا ينتقض (٣) ببيع الدين على من هو عليه ؛ لأنّه لا مانع من كونه تمليكاً فيسقط ؛ ولذا جعل الشهيد في قواعده «الإبراء» مردّداً بين الإسقاط والتمليك (٤).
والحاصل : أنّه يعقل أن يكون مالكاً لما (٥) في ذمّته فيؤثّر تمليكه السقوط ، ولا يعقل أن يتسلّط على نفسه. والسرّ : أنّ هذا (٦) الحقّ سلطنة فعلية لا يعقل قيام طرفيها بشخص واحد ، بخلاف الملك ، فإنّها نسبة بين المالك والمملوك ، ولا يحتاج إلى من يملك عليه حتى يستحيل اتّحاد المالك والمملوك عليه ، فافهم.
وأمّا الحقوق القابلة للانتقال كحقّ التحجير ونحوه فهي وإن قبلت النقل وقوبلت بالمال في الصلح ، إلاّ أنّ في جواز وقوعها عوضاً للبيع إشكالاً ، من أخذ المال في عوضي المبايعة لغةً وعرفاً ، مع ظهور كلمات الفقهاء عند التعرّض لشروط العوضين ولِما يصحّ أن يكون اجرة في الإجارة في حصر الثمن في المال.
__________________
(١) عبارة «كحقّ الحضانة والولاية» من «ش».
(٢) كذا في «ف» و «ش» ونسخة بدل «ن» ، «خ» ، «م» و «ع» ، وفي غيرها : الانتقال.
(٣) النقض من صاحب الجواهر ، انظر الجواهر ٢٢ : ٢٠٩.
(٤) القواعد والفوائد ١ : ٢٩١.
(٥) لم ترد «لما» في «ش».
(٦) في «ش» وهامش «ن» : مثل هذا.
تعاريف الفقهاء والمناقشة فيها |
ثمّ الظاهر : أنّ لفظ «البيع» ليس له حقيقة شرعية ولا متشرّعية (١) ، بل هو باقٍ على معناه العرفي ، كما سنوضّحه إن شاء الله ، إلاّ أنّ الفقهاء قد اختلفوا في تعريفه ، ففي المبسوط (٢) والسرائر (٣) والتذكرة (٤) وغيرها (٥) : «انتقال عينٍ من شخصٍ إلى غيره بعوض مقدّر على وجه التراضي».
وحيث إنّ في هذا التعريف مسامحة واضحة ، عدل آخرون (٦) إلى تعريفه ب : «الإيجاب والقبول الدالّين على الانتقال» ، وحيث إنّ البيع من مقولة المعنى دون اللفظ مجرّداً أو بشرط قصد المعنى ، وإلاّ لم يعقل إنشاؤه باللفظ عدل جامع المقاصد إلى تعريفه ب : «نقل العين بالصيغة المخصوصة» (٧).
ويرد عليه مع أنّ النقل ليس مرادفاً للبيع ؛ ولذا صرّح في التذكرة : بأنّ إيجاب البيع لا يقع بلفظ «نقلت» ، وجعله من الكنايات (٨) ،
__________________
(١) في «ف» : متشرّعة.
(٢) المبسوط ٢ : ٧٦.
(٣) لم ترد «السرائر» في غير «ف» ، انظر السرائر ٢ : ٢٤٠.
(٤) التذكرة ١ : ٤٦٢.
(٥) في «ن» ، «ع» ، «ص» و «ش» : غيرهما ، انظر القواعد ١ : ١٢٣ ، والتحرير ١ : ١٦٤.
(٦) منهم : المحقّق في المختصر النافع : ١١٨ ، والشهيد في الدروس ٣ : ١٩١ ، والفاضل المقداد في التنقيح ٢ : ٢٤.
(٧) جامع المقاصد ٤ : ٥٥.
(٨) لم نعثر عليه بعينه ، نعم فيه بعد ذكر شرط التصريح ـ : «عدم انعقاده بمثل : أدخلته في ملكك أو جعلته لك» ، انظر التذكرة ١ : ٤٦٢.
وأنّ المعاطاة عنده (١) بيع مع خلوّها عن الصيغة ـ : أنّ النقل بالصيغة أيضاً لا يعقل إنشاؤه بالصيغة.
ولا يندفع هذا : بأنّ المراد أنّ البيع نفس النقل الذي هو مدلول الصيغة ، فجعله مدلول الصيغة إشارة إلى تعيين ذلك الفرد من النقل ، لا أنّه (٢) مأخوذ في مفهومه حتى يكون مدلول «بعت» : نقلت بالصيغة ؛ لأنّه إن أُريد بالصيغة خصوص «بعت» لزم الدور ؛ لأنّ المقصود معرفة مادة «بعت» ، وإن أُريد بها ما يشمل (٣) «ملّكت» وجب الاقتصار على مجرّد التمليك والنقل.
الأولى في تعريف البيع |
فالأولى تعريفه بأنّه : «إنشاء تمليك عين بمال» ، ولا يلزم عليه شيء ممّا تقدّم.
ماذا يرد على هذا التعريف |
نعم ، يبقى عليه أُمور :
الإيراد الأوّل وجوابه |
منها : أنّه موقوف على جواز الإيجاب بلفظ «ملّكت» وإلاّ لم يكن مرادفاً له (٤).
ويردّه : أنّه الحقّ كما سيجيء (٥).
الإيراد الثاني وجوابه |
ومنها : أنّه لا يشمل بيع الدين على من هو عليه ؛ لأنّ الإنسان لا يملك مالاً على نفسه.
__________________
(١) أي عند المحقّق الثاني ، راجع جامع المقاصد ٤ : ٥٨.
(٢) في «ف» : لا لأنّه.
(٣) في «ف» : يشتمل.
(٤) في غير «ش» ومصحّحة «ن» : لها.
(٥) يجيء في الصفحة ١٥ و ١٢٠.
وفيه مع ما عرفت (١) وستعرف من تعقّل تملّك ما على نفسه (٢) ورجوعه إلى سقوطه عنه ، نظير تملّك ما هو مساوٍ لما في ذمّته ، وسقوطه بالتهاتر ـ : أنّه لو لم يعقل التمليك لم يعقل البيع ؛ إذ ليس للبيع لغةً وعرفاً معنى غير المبادلة والنقل والتمليك وما يساويها من الألفاظ ؛ ولذا قال فخر الدين : إنّ معنى «بعت» في لغة العرب : «ملّكت غيري» (٣) ، فإذا لم يعقل ملكيّة (٤) ما في ذمّة نفسه لم يعقل شيء ممّا يساويها ، فلا يعقل البيع.
الايراد الثالث وجوابه |
ومنها : أنّه يشمل التمليك بالمعاطاة ، مع حكم المشهور ، بل دعوى الإجماع على أنّها ليست بيعاً (٥).
وفيه : ما سيجيء من كون المعاطاة بيعاً (٦) ؛ وأنّ (٧) مراد النافين نفي صحّته.
الايراد الرابع وجوابه |
ومنها : صدقه على الشراء ؛ فإنّ المشتري بقبوله للبيع يملّك ماله بعوض المبيع.
__________________
(١) راجع الصفحة ٩ ، قوله : «والحاصل : أنّه يعقل ..».
(٢) في «ف» : «ما في ذمّة نفسه». وفي مصحّحة «ن» ونسخة بدل «ش» : ما في ذمّته.
(٣) قاله في شرح الإرشاد ، على ما حكاه عنه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ١٥٢.
(٤) في «ف» : ملكيّته.
(٥) كما ادّعاه ابن زهرة في الغنية : ٢١٤.
(٦) يأتي في الصفحة ٤٠.
(٧) في «ش» : لأنّ.
وفيه : أنّ التمليك فيه ضمنيّ ، وإنّما حقيقته التملّك بعوض ؛ ولذا لا يجوز الشراء بلفظ «ملّكت» ، تقدّم على الإيجاب أو تأخّر. وبه يظهر اندفاع الإيراد بانتقاضه بمستأجر العين بعين (١) ؛ حيث إنّ الاستئجار يتضمّن تمليك العين بمالٍ ، أعني : المنفعة.
الايراد الخامس وجوابه |
ومنها : انتقاض طرده بالصلح على العين بمالٍ ، وبالهبة المعوّضة.
وفيه : أنّ حقيقة الصلح ولو تعلّق بالعين ليس هو التمليك على وجه المقابلة والمعاوضة ، بل معناه الأصلي هو التسالم ؛ ولذا لا يتعدّى بنفسه إلى المال. نعم ، هو متضمّن للتمليك إذا تعلّق بعينٍ ، لا أنّه نفسه.
حقيقة الصلح |
والذي يدلّك على هذا : أنّ الصلح قد يتعلّق بالمال عيناً أو منفعة ، فيفيد التمليك. وقد يتعلّق بالانتفاع به (٢) ، فيفيد فائدة العارية ، وهو مجرّد التسليط (٣) ، وقد يتعلّق بالحقوق ، فيفيد الإسقاط أو الانتقال ، وقد يتعلّق بتقرير أمرٍ بين المتصالحين كما في قول أحد الشريكين لصاحبه : «صالحتك على أن يكون الربح لك والخسران عليك» فيفيد مجرّد التقرير.
فلو كانت (٤) حقيقة الصلح هي عين كلٍّ من (٥) هذه المفاداة الخمسة لزم كونه مشتركاً لفظيّاً ، وهو واضح البطلان ، فلم يبقَ إلاّ أن يكون مفهومه معنىً آخر ، وهو التسالم ، فيفيد في كلِّ موضع (٦) فائدة من
__________________
(١) لم ترد «بعين» في «ف».
(٢) لم ترد «به» في غير «ف».
(٣) في «ف» : التسلّط.
(٤) في غير «ش» : كان.
(٥) لم ترد «كلٍّ من» في «ف».
(٦) في هامش «ف» زيادة : من المواضع.
الفوائد المذكورة بحسب ما يقتضيه متعلّقه.
فالصلح على العين بعوضٍ : تسالمٌ عليه (١) ، وهو يتضمّن التمليك ، لا أنّ مفهوم الصلح في خصوص هذا المقام وحقيقته هو إنشاء التمليك ، ومن هنا لم يكن طلبه من الخصم إقراراً (٢) ، بخلاف طلب التمليك.
حقيقة الهبة المعوّضة |
وأمّا الهبة المعوّضة والمراد بها هنا : ما اشترط فيها (٣) العوض فليست إنشاء تمليكٍ بعوض على جهة المقابلة ، وإلاّ لم يعقل تملّك أحدهما لأحد العوضين من دون تملّك الآخر للآخر (٤) ، مع أنّ ظاهرهم عدم تملّك العوض بمجرّد تملّك الموهوب الهبة (٥) ، بل غاية الأمر أنّ المتّهب لو لم يؤدِّ العوض كان للواهب الرجوع في هبته ، فالظاهر أنّ التعويض المشترط في الهبة كالتعويض الغير المشترط فيها في كونه تمليكاً (٦) مستقلا يقصد به وقوعه عوضاً ، لا أنّ حقيقة المعاوضة والمقابلة مقصودة في كلٍّ من العوضين ؛ كما يتّضح ذلك بملاحظة التعويض الغير المشترط في ضمن (٧) الهبة الاولى (٨).
__________________
(١) في «ف» زيادة : به.
(٢) في «ش» زيادة : له.
(٣) في «ص» : فيه.
(٤) لم ترد «للآخر» في «ف».
(٥) في «ش» و «م» ونسخة بدل «ن» ، «خ» و «ع» : بالهبة.
(٦) في «ف» : تملّكاً.
(٧) في «ف» بدل «ضمن» : إنشاء.
(٨) في غير «ف» و «ش» زيادة ما يلي : «وممّا ذكرنا تقدر على إخراج القرض من التعريف ؛ إذ ليس المقصود الأصلي منه المعاوضة والمقابلة ، فتأمّل» ، لكن شطب عليها في «م» وكتب عليها في «ن» : زائد.
فقد تحقّق ممّا ذكرنا : أنّ حقيقة تمليك العين بالعوض ليست إلاّ البيع ، فلو قال : «ملّكتك كذا بكذا» كان بيعاً ، ولا يصحّ صلحاً ولا هبة معوّضة وإن قصدهما ؛ إذ التمليك على جهة المقابلة الحقيقيّة ليس صلحاً ، ولا هبة ، فلا يقعان به.
نعم ، لو قلنا بوقوعهما بغير الألفاظ الصريحة توجّه تحقّقهما مع قصدهما ، فما قيل من أنّ البيع هو الأصل في تمليك الأعيان بالعوض ، فيقدّم على الصلح والهبة المعوّضة (١) ، محلّ تأمّل ، بل منع ؛ لما عرفت من أنّ تمليك الأعيان بالعوض هو البيع لا غير.
نعم ، لو اتي بلفظ «التمليك بالعوض» واحتمل إرادة غير حقيقته كان [مقتضى (٢)] الأصل اللفظي حمله على المعنى
الحقيقي ، فيحكم بالبيع ، لكنّ الظاهر أنّ الأصل بهذا المعنى ليس مراد القائل المتقدّم ، وسيجيء توضيحه في مسألة المعاطاة في غير البيع إن شاء الله (٣).
الإيراد الأخير وجوابه حقيقة القرض |
بقي (٤) القرض داخلاً في ظاهر الحدّ ، ويمكن إخراجه بأنّ مفهومه ليس نفس المعاوضة ، بل هو تمليك على وجه ضمان المثل (٥) أو القيمة ، لا معاوضة للعين بهما ؛ ولذا لا يجري فيه ربا المعاوضة (٦) ، ولا الغرر
__________________
(١) انظر الجواهر ٢٢ : ٢٤٦.
(٢) لم ترد «مقتضى» في النسخ ، إلاّ أنّها زيدت في «ن» ، «ص» و «ش» تصحيحاً أو استظهاراً.
(٣) يجيء في الصفحة ٩١ عند قوله : الخامس في حكم جريان المعاطاة ..
(٤) في «ف» و «ن» : وبقي.
(٥) في «ف» : الضمان للمثل.
(٦) في «ف» : المعاوضات.
المنفي فيها ، ولا ذكر العوض ، ولا العلم به ، فتأمّل (١).
استعمال البيع في معانٍ اُخر |
ثمّ إنّ ما ذكرنا ، تعريفٌ للبيع المأخوذ في صيغة «بعت» وغيره (٢) من المشتقّات ، ويظهر من بعض من قارب عصرنا (٣) استعماله في معانٍ أُخر غير ما ذكر (٤) :
أحدها : التمليك المذكور ، لكن (٥) بشرط تعقّبه بتملّك المشتري ، وإليه نظر بعض مشايخنا (٦) ، حيث أخذ قيد التعقّب (٧) بالقبول (٨) في تعريف البيع المصطلح ؛ ولعلّه لتبادر التمليك المقرون بالقبول من اللفظ ، بل وصحّة السلب عن المجرّد ؛ ولهذا لا يقال : «باع فلان ماله» ، إلاّ بعد أن يكون قد اشتراه غيره ، ويستفاد من قول القائل : «بعت مالي» ، أنّه اشتراه غيره ، لا أنّه أوجب (٩) البيع فقط.
__________________
(١) عبارة «بقي القرض إلى فتأمّل» لم ترد في «خ» ، وكتب عليها في غير «ف» و «ش» : «زائد» ، وقد تقدّم (في الصفحة ١٤ ، الهامش ٨) زيادة عبارةٍ عن بعض النسخ ترتبط بإخراج القرض ، والظاهر أنّ المؤلف قدسسره كتب أوّلاً تلك العبارة ثمّ أعرض عنها وبيّنها هنا بلفظٍ أوفى ، فصار ذلك منشأً لاختلاف النسخ.
(٢) في «ف» : غيرها.
(٣) انظر مقابس الأنوار : ١٠٧ (كتاب البيع) ، و ٢٧٥ (كتاب النكاح).
(٤) عبارة «غير ما ذكر» من «ف» و «ش» ومصحّحة «ن».
(٥) في «ف» : لكنّه.
(٦) لم نعثر عليه ، ولعلّه المحقّق النراقي ، انظر المستند ٢ : ٣٦٠.
(٧) في «ف» : التعقيب.
(٨) في غير «ش» زيادة : «مأخوذاً» ، وشطب عليها في «ن».
(٩) في «ف» : وجب.
الثاني : الأثر الحاصل من الإيجاب والقبول ، وهو الانتقال ، كما يظهر من المبسوط (١) وغيره (٢).
الثالث : نفس العقد المركّب من الإيجاب والقبول ، وإليه ينظر من عرّف البيع بالعقد (٣). قال (٤) : بل الظاهر اتّفاقهم على إرادة هذا المعنى في عناوين أبواب المعاملات ، حتى الإجارة وشبهها التي ليست هي في الأصل (٥) اسماً لأحد طرفي العقد (٦).
المناقشة في هذه الاستعمالات |
أقول : أمّا البيع بمعنى الإيجاب المتعقّب للقبول ، فالظاهر أنّه ليس مقابلاً للأوّل ، وإنّما هو فردٌ انصرف إليه اللفظ في مقام قيام القرينة على إرادة الإيجاب المثمر ؛ إذ لا ثمرة في الإيجاب المجرّد ، فقول المخبر : «بعت» ، إنّما أراد الإيجاب المقيّد ، فالقيد مستفاد من الخارج ، لا أنّ البيع مستعمل في الإيجاب المتعقّب للقبول ، وكذلك لفظ «النقل» و «الإبدال» و «التمليك» وشبهها ، مع أنّه لم يقل (٧) أحد بأنّ تعقّب القبول له دخل في معناها.
نعم ، تحقّق القبول شرط للانتقال في الخارج ، لا في نظر الناقل ؛ إذ
__________________
(١) المبسوط ٢ : ٧٦.
(٢) السرائر ٢ : ٢٤٠.
(٣) مثل الحلبي في الكافي : ٣٥٢ ، وابن حمزة في الوسيلة : ٢٣٦ ، واختاره العلاّمة في المختلف ٥ : ٥١.
(٤) أي بعض من قارب عصر المؤلّف قدسسره ، المشار إليه آنفاً.
(٥) لم ترد «هي في الأصل» في «ف».
(٦) انظر مقابس الأنوار : ١٠٧ و ٢٧٥.
(٧) في «ف» : لم ينقل.
لا ينفكّ التأثير عن الأثر (١) ، فالبيع وما يساويه معنىً من قبيل الإيجاب والوجوب ، لا الكسر والانكسار كما تخيّله بعض (٢) فتأمّل. ومنه يظهر ضعف أخذ القيد المذكور في معنى البيع المصطلح ، فضلاً عن أن يجعل أحد معانيها (٣).
وأمّا البيع بمعنى الأثر وهو الانتقال ، فلم يوجد في اللغة ولا في العرف (٤) ، وإنّما وقع في تعريف جماعة تبعاً للمبسوط (٥). وقد يوجّه (٦) : بأنّ المراد بالبيع المحدود المصدر من المبنيّ للمفعول ، أعني : «المبيعيّة» ، وهو تكلّف حسن.
وأمّا البيع بمعنى العقد ، فقد صرّح الشهيد الثاني رحمهالله : بأنّ إطلاقه عليه مجاز ؛ لعلاقة السببية (٧).
والظاهر أنّ المسبّب هو الأثر الحاصل في نظر الشارع ؛ لأنّه المسبّب عن العقد ، لا النقل الحاصل من فعل الموجِب ؛ لما عرفت من أنّه حاصل بنفس إنشاء الموجِب من دون توقّف على شيءٍ ، كحصول وجوب الضرب في نظر الآمر (٨) بمجرّد الأمر وإن لم يَصر واجباً في
__________________
(١) كذا في «ف» ومصحّحة «ن» ، وقد وردت العبارة في سائر النسخ مع اختلاف غير مخلّ في التقديم والتأخير.
(٢) المراد به ظاهراً الشيخ أسد الله التستري ، راجع مقابس الأنوار : ١٠٧.
(٣) كذا في النسخ ، والمناسب : معانيه.
(٤) العبارة في «ف» هكذا : فلم يوجد له أثر في اللغة ولا العرف.
(٥) راجع الصفحة ١٠.
(٦) وجّهه المحقّق التستري في مقابس الأنوار : ٢٧٤.
(٧) المسالك ٣ : ١٤٤.
(٨) في «ف» : في نفس الآمر.
الخارج (١) في نظر غيره.
وإلى هذا نظر جميع ما ورد في النصوص والفتاوى من قولهم : «لزم البيع» ، أو «وجب» ، أو «لا بيع بينهما» ، أو «أقاله في البيع» ونحو ذلك.
والحاصل : أنّ البيع الذي يجعلونه من العقود يراد به النقل بمعنى اسم المصدر مع اعتبار تحقّقه في نظر الشارع ، المتوقّف على تحقّق الإيجاب والقبول ، فإضافة العقد إلى البيع بهذا المعنى ليست بيانيّة ؛ ولذا يقال : «انعقد البيع» ، و «لا ينعقد البيع».
البيع ونحوه من العقود اسم للصحيح أو للأعم؟ اختيار الشهيدين كونه للصحيح |
ثمّ إنّ الشهيد الثاني نصّ في «كتاب اليمين» من المسالك على أنّ عقد البيع وغيره من العقود حقيقة في الصحيح ، مجاز في الفاسد ؛ لوجود خواصّ الحقيقة والمجاز ، كالتبادر وصحّة السلب. قال : ومِن ثَمّ حُمل (٢) الإقرار به عليه ، حتى لو ادّعى إرادة الفاسد لم يسمع إجماعاً ، ولو كان مشتركاً بين الصحيح والفاسد لقبل تفسيره بأحدهما كغيره من الألفاظ المشتركة ، وانقسامه إلى الصحيح والفاسد أعمّ من الحقيقة (٣) ، انتهى.
وقال الشهيد الأوّل (٤) في قواعده : الماهيّات الجعليّة كالصلاة والصوم وسائر العقود لا تطلق على الفاسد إلاّ الحجّ ؛ لوجوب المضيّ فيه (٥) ، انتهى. وظاهره إرادة الإطلاق الحقيقي.
المناقشة فيما أفاده الشهيدان |
ويشكل ما ذكراه بأنّ وضعها للصحيح يوجب عدم جواز التمسّك
__________________
(١) لم ترد «في الخارج» في «ف» ، وشطب عليها في «ن».
(٢) في غير «ش» : «قبل» ، وصحّح في أكثر النسخ بما في المتن.
(٣) المسالك (الطبعة الحجرية) ٢ : ١٥٩.
(٤) لم ترد «الأوّل» في «ف».
(٥) القواعد والفوائد ١ : ١٥٨.
بإطلاق نحو (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (١) ، وإطلاقات (٢) أدلّة سائر العقود في مقام الشكّ في اعتبار شيءٍ فيها ، مع أنّ سيرة علماء الإسلام التمسّك بها في هذه المقامات.
توجيه ما أفاده الشهيدان |
نعم ، يمكن أن يقال : إنّ البيع وشبهه في العرف إذا استعمل في الحاصل من المصدر الذي يراد من قول القائل (٣) : «بعت» عند الإنشاء ، لا يستعمل حقيقة إلاّ في ما كان صحيحاً مؤثّراً ولو في نظر القائل (٤) ، ثمّ إذا كان مؤثّراً في نظر الشارع كان بيعاً عنده ، وإلاّ كان صورة بيع ، نظير بيع الهازل عند العرف.
فالبيع الذي يراد منه ما حصل عقيب قول القائل : «بعت» عند العرف والشرع حقيقة في الصحيح المفيد للأثر ، ومجاز في غيره ، إلاّ أنّ الإفادة وثبوت الفائدة مختلف في نظر العرف والشرع.
وجه التمسّك بإطلاق أدلّة البيع ونحوه |
وأمّا وجه تمسّك العلماء بإطلاق أدلّة البيع ونحوه ؛ فلأنّ الخطابات لمّا وردت على طبق العرف ، حمل لفظ «البيع» وشبهه في الخطابات الشرعيّة على ما هو الصحيح المؤثّر عند العرف ، أو على المصدر الذي يراد من لفظ «بعت» ، فيستدلّ بإطلاق الحكم بحلّه أو بوجوب الوفاء على كونه مؤثّراً في نظر الشارع أيضاً ، فتأمّل فإنّ للكلام محلاّ آخر.
__________________
(١) البقرة : ٢٧٥.
(٢) في «ف» : إطلاق.
(٣) كلمة «القائل» من «ش» ومصحّحة «ن».
(٤) في «ف» : «نظر الفاعل» ، وفي «ش» : «نظرهم» ، وفي سائر النسخ جُمع بين ما أثبتناه وما في «ش».