التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0668-X
الصفحات: ٥٩٧

أى : قال الملائكة للوط لإدخال الطمأنينة على نفسه : يا لوط نحن ما جئنا لإزعاجك أو إساءتك ، وإنما جئناك بأمر كان المجرمون من قومك ، يشكون في وقوعه ، وهو العذاب الذي كنت تحذرهم منه إذا ما استمروا في كفرهم وفجورهم ...

وإنا ما أتيناك إلا بالأمر الثابت المحقق الذي لا مرية فيه ولا تردد ، وهو إهلاك هؤلاء المجرمين من قومك ، وإنا لصادقون في كل ما قلناه لك ، وأخبرناك به ، فكن آمنا مطمئنا.

فالإضراب في قوله (قالُوا بَلْ جِئْناكَ ...) إنما هو لإزالة ما وقر في قلب لوط ـ عليه‌السلام ـ تجاه الملائكة من وساوس وهواجس.

فكأنهم قالوا له : نحن ما جئناك بشيء تكرهه أو تخافه .. وإنما جئناك بما يسرك ويشفى غليلك من هؤلاء القوم المنكوسين.

وعبر عن العذاب بقوله (بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) زيادة في إدخال الأنس على نفسه وتحقيقا لوقوع العذاب بهم.

وقوله (وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) تأكيد على تأكيد.

وهذه التأكيدات المتعددة والمتنوعة تشعر بأن لوطا ـ عليه‌السلام ـ كان في غاية الهم والكرب لمجيء الملائكة إليه بهذه الصورة التي تغرى المجرمين بهم دون أن يملك حمايتهم أو الدفاع عنهم.

لذا كانت هذه التأكيدات من الملائكة له في أسمى درجات البلاغة ، حتى يزول خوفه ، ويزداد اطمئنانه إليهم ، قبل أن يخبروه بما أمرهم الله ـ تعالى ـ بإخباره به ، وهو قوله ـ تعالى ـ (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ. وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ ، وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ).

قال القرطبي : قوله (فَأَسْرِ ..) قرئ فاسر وقرئ فأسر ، بوصل الهمزة وقطعها لغتان فصيحتان. قال ـ تعالى ـ (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ..) وقال : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ..). وقيل : فأسر تقال لمن سار من أول الليل .. وسرى لمن سار في آخره ، ولا يقال في النهار إلا سار» (١).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٩ ص ٧٩.

٦١

وقوله (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ..) أى : بجزء من الليل. والمراد به الجزء الأخير منه.

أى : قال الملائكة للوط ـ عليه‌السلام ـ بعد أن أزالوا خوفه منه : يا لوط إنا نأمرك ـ بإذن الله تعالى ـ أن تخرج من هذه المدينة التي تسكنها مع قومك وأن يخرج معك أتباعك المؤمنون ، وليكن خروجكم في الجزء الأخير من الليل.

وقوله (وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) أى : وكن وراءهم لتطلع عليهم وعلى أحوالهم.

قال الإمام ابن كثير : يذكر الله ـ تعالى ـ عن الملائكة أنهم أمروا لوطا أن يسرى بأهله بعد مضى جانب من الليل ، وأن يكون لوط ـ عليه‌السلام ـ يمشى وراءهم ليكون أحفظ لهم.

وهكذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمشى في الغزاة يزجى الضعيف ، ويحمل المنقطع (١).

وقوله (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) أى : ولا يلتفت منكم أحد أيها المؤمنون ـ خلفه ، حتى لا يرى العذاب المروع النازل بالمجرمين.

وإنما أمرهم ـ سبحانه ـ بعدم الالتفات إلى الخلف ، لأن من عادة التارك لوطنه ، أن يلتفت إليه عند مغادرته ، كأنه يودعه.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت ما معنى أمره باتباع أدبارهم ونهيهم عن الالتفات؟

قلت : قد بعث الله الهلاك على قوم لوط ، ونجاه وأهله إجابة لدعوته عليهم وخرج مهاجرا فلم يكن له بد من الاجتهاد في شكر الله ، وإدامة ذكره وتفريغ باله لذلك ، فأمر بأن يقدّمهم لئلا يشتغل بمن خلفه قلبه ، وليكون مطلعا عليهم وعلى أحوالهم ، فلا تفرط منهم التفاتة احتشاما منه ولا غيرها من الهفوات في تلك الحال المهولة المحذورة ، ولئلا يتخلف منهم أحد لغرض له فيصيبه العذاب ، وليكون مسيره مسير الهارب الذي يقدم سربه ويفوت به. ونهوا عن الالتفات لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقوا له ، وليوطنوا نفوسهم على المهاجرة ، ويمضوا قدما غير ملتفتين إلى ما وراءهم ، كالذي يتحسر على مفارقة وطنه ...

أو جعل النهى عن الالتفات ، كناية عن مواصلة السير ، وترك التواني والتوقف ، لأن من يتلفت لا بد له في ذلك من أدنى وقفة» (٢).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٤٥٦.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٩٥.

٦٢

وقوله (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) إرشاد من الملائكة للوط ـ عليه‌السلام ـ إلى الجهة التي أمره الله ـ تعالى ـ بالتوجه إليها.

أى : وامضوا في سيركم إلى الجهة التي أمركم الله ـ تعالى ـ بالسير إليها ، مبتعدين عن ديار القوم المجرمين ، تصحبكم رعاية الله وحمايته.

قيل : أمروا بالتوجه إلى بلاد الشام ، وقيل إلى الأردن ، وقيل إلى مصر.

ولم يرد حديث صحيح يحدد الجهة التي أمروا بالتوجه إليها ، ولكن الذي نعتقده أنهم ذهبوا بأمر الله ـ تعالى ـ إلى مكان آخر ، أهله لم يعملوا ما كان يعمله العادون من قوم لوط ـ عليه‌السلام ـ.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) بيان لجانب آخر من جوانب الرعاية والتكريم للوط ـ عليه‌السلام ـ.

وعدى «قضينا» بإلى ، لتضمنه معنى أوحينا.

والمراد بذلك الأمر : إهلاك الكافرين من قوم لوط ـ عليه‌السلام ـ.

وجملة (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) مفسرة ومبينة لذلك الأمر.

وعبر عن عذابهم وإهلاكهم بالإبهام أولا. ثم بالتفسير والتوضيح ثانيا ، للإشعار بأنه عذاب هائل شديد.

ودابرهم : أى آخرهم الذي يدبرهم. يقال : فلان دبر القوم يدبرهم دبورا إذا كان آخرهم في المجيء. والمراد أنهم استؤصلوا بالعذاب استئصالا.

وقوله (مُصْبِحِينَ) أى : داخلين في الصباح ، مأخوذ من أصبح التامة ، وصيغة أفعل تأتى للدخول في الشيء ، نحو أنجد وأتهم ، أى دخل في بلاد نجد وفي بلاد تهامة ، وهو حال من اسم الإشارة هؤلاء ، والعامل فيه معنى الإضافة.

والمعنى : وقضينا الأمر بإبادتهم ، وأوحينا إلى نبينا لوط ـ عليه‌السلام ـ أن آخر هؤلاء المجرمين مقطوع ومستأصل ومهلك مع دخول وقت الصباح.

وفي هذا التعبير ما فيه من الدلالة على أن العذاب سيمحقهم جميعا ، بحيث لا يبقى منهم أحدا ، لا من كبيرهم ولا من صغيرهم ، ولا من أولهم ولا من آخرهم.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما حدث من القوم المجرمين ، بعد أن تسامعوا بأن في بيت لوط

٦٣

ـ عليه‌السلام ـ شبانا فيهم جمال ووضاءة فقال ـ تعالى ـ (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ).

والمراد بأهل المدينة : أهل مدينة سدوم التي كان يسكنها لوط وقومه.

ويستبشرون : أى يبشر بعضهم بعضا بأن هناك شبانا في بيت لوط ـ عليه‌السلام ـ ، من الاستبشار وهو إظهار الفرح والسرور.

وهذا التعبير الذي صورته الآية الكريمة ، يدل دلالة واضحة على أن القوم قد وصلوا إلى الدرك الأسفل من الانتكاس والشذوذ وانعدام الحياء ...

إنهم لا يأتون لارتكاب المنكر فردا أو أفرادا ، وإنما يأتون جميعا ـ أهل المدينة ـ وفي فرح وسرور ، وفي الجهر والعلانية ، لا في السر والخفاء ...

ولأى غرض يأتون؟ إنهم يأتون لارتكاب الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين.

وهكذا النفوس عند ما ترتكس وتنتكس ، تصل في مجاهرتها بإتيان الفواحش ، إلى ما لم تصل إليه بعض الحيوانات ...

ويقف لوط ـ عليه‌السلام ـ أمام شذوذ قومه مغيظا مكروبا ، يحاول أن يدفع عن ضيفه شرورهم ، كما يحاول أن يحرك فيهم ذرة من الآدمية فيقول لهم : (إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ).

وتفضحون : من الفضح والفضيحة. يقال فضح فلان فلانا فضحا وفضيحة ، إذا أظهر من أمره ما يلزمه العار بسببه.

أى : قال لوط ـ عليه‌السلام ـ لمن جاءوا يهرعون إليه من قومه لارتكاب الفاحشة مع ضيوفه : يا قوم إن هؤلاء الموجودين عندي ضيوفى الذين يلزمني حمايتهم ، فابتعدوا عن دارى وعودوا إلى دياركم ، ولا تفضحون عندهم بتعرضكم لهم بالفاحشة فأهون في نظرهم ، لعجزى عن حمايتهم ، وأنتم تعلمون أن كرامة الضيف جزء من كرامة مضيفه ...

وعبر لوط ـ عليه‌السلام ـ عن الملائكة بالضيف لأنه لم يكن قد علم أنهم ملائكة ولأنهم قد جاءوا إليه في هيئة الآدميين.

ثم أضاف لوط ـ عليه‌السلام ـ إلى رجاء قومه رجاء آخر ، حيث ذكرهم بتقوى الله فقال : (وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ).

أى : واتقوا الله وصونوا أنفسكم عن عذابه وغضبه ، ولا تخزون مع ضيفي ، وتذلونى وتهينونى أمامهم.

٦٤

يقال : خزي الرجل يخزى خزيا وخزي ، إذا وقع في مصيبة فذل لذلك.

ولكن هذه النصائح الحكيمة من لوط ـ عليه‌السلام ـ لقومه ، لم تجد أذنا صاغية ، بل قابلوها بسوء الأدب معه ، وبالتطاول عليه ، شأن الطغاة الفجرة (قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ).

والاستفهام للإنكار. والواو للعطف على محذوف ، والعالمين : جمع عالم ، وهو كل موجود سوى الله ـ تعالى ـ والمراد بالعالمين هنا : الرجال الذين كانوا يأتون معهم الفاحشة من دون النساء.

أى : قال قوم لوط له بوقاحة وسوء أدب. أو لم يسبق لنا يا لوط أننا نهيناك عن أن تحول بيننا وبين من نريد ارتكاب الفاحشة معه من الرجال ، وإذا كان الأمر كذلك فكيف ساغ لك بعد هذا النهى أن تمنعنا عما نريده من ضيوفك وأنت تعلم ما نريده منهم؟

ولكن لوطا ـ عليه‌السلام ـ مع شناعة قولهم هذا ، لم ييأس من محاولة منعهم عما يريدونه من ضيوفه ، فأخذ يرشدهم إلى ما تدعو إليه الفطرة السليمة فقال : (هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ).

والمراد ببناته هنا : زوجاتهم ونساؤهم اللائي يصلحن للزواج. وأضافهن إلى نفسه لأن كل نبي أب لأمته من حيث الشفقة والرعاية وحسن التربية.

قال ابن كثير ما ملخصه : يرشد لوطا ـ عليه‌السلام ـ قومه إلى نسائهم فإن النبي للأمة بمنزلة الوالد ، فأرشدهم إلى ما هو أنفع لهم ، كما قال ـ تعالى ـ في آية أخرى : (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ. وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) (١).

وقيل المراد ببناته هنا : بناته من صلبه ، وأنه عرض عليهم الزواج بهن.

ويضعف هذا الرأى أن لوطا ـ عليه‌السلام ـ كان له بنتان أو ثلاثة كما جاء في بعض الروايات ، وعدد المتدافعين من قومه إلى بيته كان كثيرا ، كما يرشد إليه قوله ـ تعالى ـ (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ) فكيف تكفيهم بنتان أو ثلاثة للزواج بهن؟

قال الإمام الرازي في ترجيح الرأى الأول ما ملخصه : «وهذا القول عندي هو المختار ، ويدل عليه وجوه منها : أنه قال هؤلاء بناتي .. وبناته اللاتي من صلبه لا تكفى هذا الجمع العظيم ، أما نساء أمته ففيهم كفاية للكل ، ومنها : أنه صحت الرواية أنه كان له بنتان وهما :

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٦٨.

٦٥

«زنتا وزاعورا» وإطلاق لفظ البنات على البنتين لا يجوز ، لما ثبت أن أقل الجمع ثلاثة» (١).

والمعنى : أن لوطا ـ عليه‌السلام ـ لما رأى هيجان قومه ، وإصرارهم على ارتكاب الفاحشة مع ضيوفه ، قال لهم على سبيل الإرشاد إلى ما يشبع الفطرة السليمة : يا قوم هؤلاء نساؤكم اللائي هن بمنزلة بناتي ، فاقضوا معهن شهوتكم إن كنتم فاعلين لما أرشدكم إليه من توجيهات وآداب.

وعبر بإن في قوله (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) لشكه في استجابتهم لما يدعوهم إليه فكأنه يقول لهم : إن كنتم فاعلين لما أطلبه منكم ، وما أظنكم تفعلونه لانتكاس فطرتكم ، وانقلاب أمزجتكم ..

وجواب الشرط محذوف ، أى : إن كنتم فاعلين ما أرشدكم إليه فهو خير لكم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) يرى جمهور المفسرين أنه كلام معترض بين أجزاء قصة لوط ـ عليه‌السلام ـ مع قومه ، لبيان أن الموعظة لا تجدى مع القوم الغاوين ، ولتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من سفهاء قومه.

فالخطاب فيه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واللام في «لعمرك» لام القسم ، والمقسم به حياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم والعمر ـ بفتح العين ـ لغة في العمر ـ بضمها ، ومعناهما : مدة حياة الإنسان وبقائه في هذه الدنيا ، إلا أنهم ألزموا مفتوح العين في القسم ، وهو مبتدأ وخبره محذوف وجوبا والتقدير لعمرك قسمي أو يمينى.

والسكرة : ذهاب العقل ، مأخوذة من السكر ـ بفتح السين وإسكان الكاف ـ وهو السد والإغلاق. وأطلقت هنا على الغواية والضلالة لإزالتهما الرشد والهداية عن عقل الإنسان و (يَعْمَهُونَ) من العمه بمعنى التحير والتردد في الأمر. وهو للبصيرة بمنزلة العمى للبصر.

يقال : عمه فلان ـ كفرح ـ عمها ، إذا تردد وتحير ، فهو عمه وعامه ، وهم عمهون وعمه ـ كركع ـ والمعنى : بحق حياتك ـ أيها الرسول الكريم ـ إن هؤلاء المكذبين لك ، لفي غفلتهم وغوايتهم يترددون ويتحيرون ، شأنهم في ذلك شأن الضالين من قبلهم كقوم لوط وقوم شعيب وقوم صالح ، وغيرهم من المتكبرين في الأرض بغير الحق ..

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٨ ص ٣٢.

٦٦

قال الآلوسى : وقوله (لَعَمْرُكَ) قسم من الله ـ تعالى ـ بعمر نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما عليه جمهور المفسرين. وأخرج البيهقي في الدلائل ، وأبو نعيم وابن مردويه وغيرهم عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : ما خلق الله ـ تعالى ـ وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما سمعت الله ـ تعالى ـ أقسم بحياة أحد غيره ، قال ـ تعالى ـ : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) وقيل هو قسم من الملائكة بعمر لوط ـ عليه‌السلام ـ ، وهو مع مخالفته للمأثور محتاج لتقدير القول ، أى. قالت الملائكة للوط ـ عليه‌السلام ـ لعمرك .. وهو خلاف الأصل وإن كان سياق القصة شاهدا له وقرينة عليه ..» (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ القصة ببيان النهاية الأليمة لهؤلاء المفسدين من قوم لوط فقال ـ تعالى ـ (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ. فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ).

والصيحة : من الصياح وهو الصوت الشديد. يقال : صاح فلان إذا رفع صوته بشدة. وأصل ذلك تشقيق الصوت من قولهم : انصاح الخشب أو الثوب ، إذا انشق فسمع منه صوت. قالوا : وكل شيء أهلك به قوم فهو صيحة وصاعقة.

(مُشْرِقِينَ) : اسم فاعل من أشرقوا إذا دخلوا في وقت شروق الشمس ، أى : أن الله ـ تعالى ـ بعد أن أخبر لوطا ـ عليه‌السلام ـ بإهلاك قومه ، وأمره عن طريق الملائكة ـ بالخروج ومعه المؤمنون من هذه المدينة .. جاءت الصيحة الهائلة من السماء فأهلكتهم جميعا وهم داخلون في وقت شروق الشمس.

وقال ـ سبحانه ـ قبل ذلك : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) وقال هنا (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) للإشارة إلى أن ابتداء عذابهم كان عند الصباح وانتهاءه باستئصال شأفتهم كان مع وقت الشروق.

والضمير في قوله (عالِيَها سافِلَها) يعود إلى المدينة التي كان يسكنها المجرمون من قوم لوط.

أى : فجعلنا بقدرتنا عالى هذه المدينة سافلها ، بأن قلبناها قلبا كاملا (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ) أى على هؤلاء المجرمين من قوم لوط (حِجارَةً) كائنة (مِنْ سِجِّيلٍ) أى من طين متحجر. فهلكوا جميعا.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ٦٦.

٦٧

وهكذا أخذ الله ـ تعالى ـ هؤلاء المجرمين أخذ عزيز مقتدر ، حيث أهلكهم بهذه العقوبة التي تتناسب مع جريمتهم ، فهم قلبوا الأوضاع ، فأتوا بفاحشة لم يسبقوا إليها ، فانتقم الله ـ تعالى ـ منهم بهذه العقوبة التي جعلت أعلى مساكنهم أسفلها.

ثم ساقت السورة الكريمة بعض العبر والعظات التي يهتدى بها العقلاء من قصتي إبراهيم ولوط ـ عليهما‌السلام ـ كما ساقت بعد ذلك جانبا من قصتي شعيب وصالح ـ عليهما‌السلام ـ فقال ـ تعالى ـ :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨٤)

فاسم الإشارة في قوله ـ سبحانه ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) يعود إلى ما تضمنته القصة السابقة من عبر وعظات.

والآيات جمع آية ، والمراد بها هنا الأدلة والعلامات الدالة على ما يوصل إلى الحق والهداية. والمتوسمون : جمع المتوسم ، وهو المتأمل في الأسباب وعواقبها ، وفي المقدمات ونتائجها ..

قال القرطبي ما ملخصه : التوسم تفعل من الوسم ، وهي العلامة التي يستدل بها على مطلوب غيره. يقال : توسمت في فلان الخير ، إذا رأيت ميسم ذلك فيه ، ومنه قول عبد الله ابن رواحة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

إنى توسمت فيك الخير أعرفه

والله يعلم أنى ثابت البصر

٦٨

وأصل التوسم : التثبت والتفكر ، مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة في جلد البعير وغيره .. وذلك يكون بجودة القريحة ، وحدة الخاطر ، وصفاء الفكر ، وتطهير القلب من أدناس المعاصي.

والمراد بالمتوسمين : المتفرسين ، أو المتفكرين ، أو المعتبرين ، أو المتبصرين .. والمعنى متقارب ..» (١).

والمعنى : إن في ذلك الذي سقناه في قصتي إبراهيم ولوط ـ عليهما‌السلام ـ لأدلة واضحة على حسن عاقبة المؤمنين وسوء عاقبة الغاوين ، لمن كان ذا فكر سليم ، وبصيرة نافذة تتأمل في حقائق الأشياء ، وتتعرف على ما يوصلها إلى الهداية والطريق القويم.

قال بعض العلماء عند تفسيره لهذه الآية : هذه الآية أصل في الفراسة. أخرج الترمذي من حديث أبى سعيد مرفوعا : «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» ثم قرأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية ...

وقد أجاد الكلام في الفراسة ، الراغب الأصفهاني في كتابه «الذريعة» حيث قال في الباب السابع : وأما الفراسة فالاستدلال بهيئة الإنسان وأشكاله وألوانه وأقواله ، على أخلاقه وفضائله ورذائله ...

وقد نبه ـ سبحانه ـ على صدقها بقوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) وبقوله (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) (٢). وبقوله (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (٣).

ولفظها مأخوذ من قولهم «فرس السبع الشاه» فكأن الفراسة اختلاس المعارف (٤).

وفي هذه الآية الكريمة تعريض لمن تمر عليهم العبر والعظات. والأدلة الدالة على وحدانية الله ـ تعالى ـ ، وكمال قدرته ... فلا يعتبرون ولا يتعظون ولا يتفكرون فيها ، لانطماس بصيرتهم ، واستيلاء الأهواء والشهوات على نفوسهم ، كما قال ـ تعالى ـ (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٤٢.

(٢) سورة البقرة الآية ٢٧٣.

(٣) سورة محمد الآية ٣٠.

(٤) راجع تفسير القاسمى ج ١٤ ص ٣٧٦٤.

٦٩

فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ. وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ ، إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١).

والضمير في قوله ـ سبحانه ـ (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) يعود إلى المدينة أو القرى التي كان يسكنها قوم لوط ـ عليه‌السلام ـ.

أى : وإن هذه المساكن التي كان يسكنها هؤلاء المجرمون ، لبطريق ثابت واضح يسلكه الناس ، ويراه كل مجتاز له وهو في سفره من الحجاز إلى الشام ، كما قال ـ تعالى ـ (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٢).

والمقصود تذكير كفار قريش وغيرهم بعاقبة الظالمين ، حتى يقلعوا عن كفرهم وجحودهم ، وحتى يعتبروا ويتعظوا ، ويدخلوا مع الداخلين في دين الإسلام.

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) تذييل قصد به التعميم بعد التخصيص ، لأن اسم الإشارة هنا يعود إلى جميع ما تقدم من قصتي إبراهيم ولوط ـ عليهما‌السلام ـ وإلى ما انضم إليهما من التذكير بآثار الأقوام المهلكين.

أى : إن فيما ذكرناه فيما سبق من أدلة واضحة على حسن عاقبة المتقين ، وسوء نهاية الظالمين ، لعبرة واضحة ، وحكمة بالغة ، للمؤمنين الصادقين.

وخصهم بالذكر لأنهم هم المنتفعون بالأدلة والعظات ، وللتنبيه على أن التفرس في الأمور لمعرفة أسبابها ونتائجها من صفاتهم وحدهم.

وجمع الآيات قبل ذلك في قوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) وأفردها هنا فقال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) للأشعار بأن المؤمنين الصادقين تكفى لهدايتهم ، ولزيادة إيمانهم ، آية واحدة من الآيات. الدالة على أن دين الإسلام هو الدين الحق ، وفي ذلك ما فيه من الثناء عليهم ، والمدح لهم ، بصدق الإيمان ، وسلامة اليقين ...

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك جانبا من قصة أصحاب الأيكة لزيادة العظات والعبر ، فقال ـ تعالى ـ : (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) و (إِنْ) هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن المحذوف.

وأصحاب الأيكة ، هم قوم شعيب ـ عليه‌السلام ـ ، والأيك الشجر الكثير الملتف واحدته أيكة ـ كتمر وتمره ـ.

__________________

(١) سورة يوسف الآيتان ١٠٥ ، ١٠٦.

(٢) سورة الصافات الآيتان ١٣٧ ، ١٣٨.

٧٠

والمراد بها البقعة الكثيرة الأشجار التي كانت فيها مساكنهم ، قرب مدين قرية شعيب ـ عليه‌السلام ـ.

وجمهور العلماء على أن أهل مدين وأصحاب الأيكة قبيلة واحدة ، وأرسل الله ـ تعالى ـ إليهم جميعا شعيبا ـ عليه‌السلام ـ لأمرهم بإخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ ، ونهيهم عن تطفيف الكبل والميزان ، وعن قطع الطريق ...

وكانوا جميعا يسكنون في المنطقة التي تسمى بمعّان ، على حدود الحجاز والشام ، أو أن بعضهم كان يسكن الحاضرة وهم أهل مدين ، والبعض الآخر كان يسكن في البوادي المجاورة لها والمليئة بالأشجار.

وقيل : إن شعيبا ـ عليه‌السلام ـ أرسل إلى أمتين : أهل مدين ، وأصحاب الأيكة ، وهذه خصوصية له ـ عليه‌السلام ـ.

وعلى أية حال فالعلماء متفقون على أن أصحاب الأيكة هم قوم شعيب ـ عليه‌السلام ـ.

والإمام : الطريق الواضح المعالم. وسمى الطريق إماما لأن المسافر يأتم به ، ويهتدى بمسالكه ، حتى يصل إلى الموضع الذي يريده.

والمعنى : وإن الشأن والحال أن أصحاب الأيكة كانوا ظالمين متجاوزين لكل حد ، فاقتضت عدالتنا أن ننتقم منهم ، بسبب كفرهم وفجورهم.

(وَإِنَّهُما) أى مساكن قوم لوط ، ومساكن قوم شعيب (لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) أى : لبطريق واضح يأتم به أهل مكة في سفرهم من بلادهم إلى بلاد الشام.

قال ابن كثير : وقد كانوا ـ أى أصحاب الأيكة ـ قريبا من قوم لوط ، بعدهم في الزمان ، ومسامتين لهم في المكان ، ولهذا لما أنذر شعيب قومه قال في إنذاره لهم (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) (١).

ثم ختمت السورة الكريمة حديثها عن قصص الأنبياء مع أقوامهم بجانب من قصة صالح ـ عليه‌السلام ـ مع قومه. فقال ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) ...

وأصحاب الحجر : هم ثمود قوم صالح ـ عليه‌السلام ـ.

والحجر : واد بين الشام والمدينة المنورة ، كان قوم صالح يسكنونه. والحجر في الأصل :

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٤٩٢.

٧١

كل مكان أحاطت به الحجارة ، أو كل مكان محجور أى ممنوع من الناس بسبب اختصاص بعضهم به.

وما زال هذا المكان يعرف إلى الآن باسم مدائن صالح على الطريق من خيبر إلى تبوك ، كما أشرنا إلى ذلك عند التعريف بالسورة الكريمة.

وقال ـ سبحانه ـ : (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) مع أنهم لم يكذبوا إلا رسولهم ـ عليه‌السلام ـ ، لأن تكذيب رسول واحد ، تكذيب لجميع الرسل ، حيث إن رسالتهم واحدة ، وهي الأمر بإخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ وحده ، والدعوة إلى مكارم الأخلاق ، والنهى عن الرذائل والمفاسد.

ثم بين ـ سبحانه ـ مظاهر هذا التكذيب لرسولهم ـ عليه‌السلام ـ فقال : (وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ).

أى : وأعطينا قوم صالح ـ عليه‌السلام ـ آياتنا الدالة على صدقه وعلى أنه رسول من عندنا ، والتي من بينها الناقة التي أخرجها الله ـ تعالى ـ لهم ببركة دعاء نبيهم (فَكانُوا عَنْها) أى عن هذه الآيات الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا (مُعْرِضِينَ) لا يلتفتون إليها ، ولا يفكرون فيها ، ولهذا عقروا الناقة (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض مظاهر حضارتهم وتحصنهم في بيوتهم المنحوتة في الجبال فقال ـ تعالى ـ (وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ).

وينحتون : من النحت وهو برى الحجر من وسطه أو جوانبه ، لإعداده للبناء أو للسكن أى : وكانوا لقوتهم وغناهم يتخذون لأنفسهم بيوتا في بطون الجبال وهم آمنون مطمئنون ، أو يقطعون الصخر منها ليتخذوه بيوتا لهم.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ) (١) ، أى : حاذقين في نحتها. وقوله ـ تعالى ـ (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً) (٢).

قال ابن كثير : ذكر ـ تعالى ـ أنهم (كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ) أى : من

__________________

(١) سورة الشعراء الآية ١٤٩.

(٢) سورة الأعراف الآية ٧٤.

٧٢

غير خوف ولا احتياج إليها ، بل بطرا وعبثا ، كما هو المشاهد من صنيعهم في بيوتهم بوادي الحجر ، الذي مر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ذاهب إلى تبوك فقنع رأسه ـ أى غطاها بثوبه ـ وأسرع دابته ، وقال لأصحابه : «لا تدخلوا بيوت القوم المعذبين ، إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تبكوا فتباكوا خشية أن يصيبكم ما أصابهم» (١).

ولكن ماذا كانت نتيجة هذه القوة الغاشمة ، والثراء الذي ليس معه شكر لله ـ تعالى ـ والإصرار على الكفر والتكذيب لرسل الله ـ تعالى ـ ، والإعراض عن الحق ...؟

لقد بين القرآن عاقبة ذلك فقال : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ. فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ).

أى : فكانت نتيجة تكذيب أصحاب الحجر لرسولهم صالح ـ عليه‌السلام ـ أن أهلكهم الله ـ تعالى ـ وهم داخلون في وقت الصباح ، عن طريق الصيحة الهائلة ، التي جعلتهم في ديارهم جاثمين ، دون أن يغنى عنهم شيئا ما كانوا يكسبونه من جمع الأموال ، وما كانوا يصنعونه من نحت البيوت في الجبال.

وهكذا نرى أن كل وقاية ضائعة ، وكل أمان ذاهب ، وكل تحصن زائل أمام عذاب الله المسلط على أعدائه المجرمين.

وهكذا تنتهي تلك الحلقات المتصلة من قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم والتي تتفق جميعها في بيان سنة من سنن الله ـ تعالى ـ في خلقه ، وهي أن النجاة والسعادة والنصر للمؤمنين ، والهلاك والشقاء والهزيمة للمكذبين.

ثم ختمت السورة الكريمة ببيان كمال قدرة الله ـ تعالى ـ ، وببيان جانب من النعم التي منحها ـ سبحانه ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبتهديد المشركين الذين جعلوا القرآن عضين ، والذين جعلوا مع الله إلها آخر ، وبتسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما لحقه منهم من أذى ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٤٦٣.

٧٣

الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (٩٩)

فقوله ـ سبحانه ـ (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) توجيه للناس إلى التأمل في مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ ، وإلى الحق الأكبر الذي قام عليه هذا الوجود ، بعد أن بين ـ سبحانه ـ قبل ذلك ، سنته التي لا تتخلف ، وهي أن حسن العاقبة للمتقين ، وسوء المصير للمكذبين.

والحق : هو الأمر الثابت الذي تقتضيه عدالة الله ـ تعالى ـ وحكمته.

والباء فيه للملابسة.

أى : وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما من كائنات لا يعلمها إلا الله ، إلا خلقا ملتبسا بالحق الذي لا يحوم حوله باطل ، وبالعدل الذي لا يخالطه جور وبالحكمة التي تتنزه عن العبث ، وتأبى استمرار الفساد ، واستبقاء ضعف الحق أمام الباطل.

٧٤

والمراد بالساعة في قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) ساعة البعث والحساب والثواب والعقاب في الآخرة.

أى : وإن ساعة إعطاء كل ذي حق حقه ، ومعاقبة كل ذي باطل على باطله ، لآتية لا ريب فيها ، فمن فاته أخذ حقه في الدنيا فسيأخذه وافيا غير منقوص في الآخرة ، ومن أفلت من عقوبة الدنيا فسينال ما هو أشد وأخزى منها في يوم الحساب.

فالجملة الكريمة انتقال من تهديد المجرمين بعذاب الدنيا ، إلى تهديدهم بعذاب الآخرة ، والمقصود من ذلك تسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من المكذبين من أذى.

وأكد ـ سبحانه ـ هذه الجملة بإن وبلام التوكيد ، ليدل على أن الساعة آتية لا محالة ، وليخرس ألسنة الذين ينكرون وقوعها وحدوثها ...

وجملة (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) تفريع على ما قبلها.

والصفح الجميل : ترك المؤاخذة على الذنب ، وإغضاء الطرف عن مرتكبه بدون معاتبة.

أى : ما دام الأمر كما ذكرنا لك أيها الرسول الكريم ـ من أن هذا الكون قد خلقناه بالحق ، ومن أن الساعة آتية لا ريب فيها ... فاصفح عن هؤلاء المكذبين لك صفحا جميلا ، لا عتاب معه ولا حزن ولا غضب ... حتى يحكم الله بينك وبينهم.

وهذا التعبير فيه ما فيه من تسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتكريمه ، لأنه ـ سبحانه ـ أمره بالصفح الجميل عن أعدائه ، ومن شأن الذي يصفح عن غيره ، أن يكون أقوى وأعز من هذا الغير ـ فكأنه ـ سبحانه ـ يقول له : اصفح عنهم فعما قريب ستكون لك الكلمة العليا عليهم.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (... فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) تعليل للأمر بالصفح الجميل عنهم.

والخلاق والعليم : صيغتا مبالغة من الخلق والعلم ، للدلالة على كثرة خلقه ، وشمول علمه.

__________________

(١) سورة الزخرف الآية ٨٩.

(٢) سورة البقرة الآية ١٠٩.

٧٥

أى : (إِنَّ رَبَّكَ) أيها الرسول الكريم ، الذي رباك برعايته وعنايته ، واختارك لحمل رسالته (هُوَ) ـ سبحانه ـ (الْخَلَّاقُ) لك ولهم ولكل شيء في هذا الوجود.

(الْعَلِيمُ) بأحوالك وبأحوالهم ، وبما يصلح لك ولهم ولكل الكائنات.

وقد علم ـ سبحانه ـ أن الصفح عنهم في هذا الوقت فيه المنفعة لك ولهم ، فحقيق بك ـ أيها الرسول الكريم ـ أن تطيعه ـ سبحانه ـ ، وأن تكل الأمور إليه.

ولقد تحقق الخير من وراء هذا التوجيه السديد من الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد نرتب على هذا الصفح : النصر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين ، والهداية لبعض الكافرين وهم الذين دخلوا في الإسلام بعد نزول هذه الآية ، وصاروا قوة للدعوة الإسلامية بعد أن كانوا حربا عليها ، وتحقق ـ أيضا ـ قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ـ عزوجل ـ».

ثم أتبع ـ سبحانه ـ هذه التسلية والبشارة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بمنة ونعمة أجل وأعظم من كل ما سواها ، ليزيده اطمئنانا وثقة بوعد الله ـ تعالى ـ فقال : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ).

والمراد بالسبع المثاني : صورة الفاتحة. وسميت بذلك ، لأنها سبع آيات ، ولأنها تثنى أى تكرر في كل ركعة من ركعات الصلاة.

قال صاحب الكشاف : والمثاني من التثنية وهي التكرير للشيء ، لأن الفاتحة تكرر قراءتها في الصلاة. أو من الثناء ، لاشتمالها على ما هو ثناء على الله ـ تعالى ـ ...» (١).

والمعنى : ولقد أعطيناك ـ أيها الرسول الكريم ـ سورة الفاتحة التي هي سبع آيات ، والتي تعاد قراءتها في كل ركعة من ركعات الصلاة ، وأعطيناك ـ أيضا ـ القرآن العظيم الذي يهدى للطريق التي هي أقوم.

وأوثر فعل (آتَيْناكَ) بمعنى أعطيناك على أوحينا إليك ، أو أنزلنا عليك ؛ لأن الإعطاء أظهر في الإكرام والإنعام.

وقوله (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) معطوف على (سَبْعاً) من باب عطف الكل على الجزء ، اعتناء بهذا الجزء.

ووصف ـ سبحانه ـ القرآن بأنه عظيم ، تنويها بشأنه ، وإعلاء لقدره.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٩٧.

٧٦

ومما يدل على أن المراد بالسبع المثاني سورة الفاتحة ما أخرجه البخاري بسنده عن أبى سعيد بن المعلى قال : مربى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا أصلى ، فدعاني فلم آته حتى صليت ، ثم أتيته فقال : ما منعك أن تأتينى؟ فقلت : كنت أصلى.

فقال : ألم يقل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ).

ثم قال : ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد؟ ثم ذهب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليخرج ، فذكرته فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته».

وروى البخاري ـ أيضا ـ عن أبى هريرة قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أم القرآن هي : السبع المثاني والقرآن العظيم».

هذا ، وهناك أقوال أخرى في المقصود بالسبع المثاني ، ذكرها بعض المفسرين فقال : اختلف العلماء في السبع المثاني : فقيل الفاتحة. قاله على بن أبى طالب ، وأبو هريرة ، والربيع بن أنس ، وأبو العالية ، والحسن وغيرهم. وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وجوه ثابتة من حديث أبى بن كعب وأبى سعيد بن المعلى ...

وقال ابن عباس : هي السبع الطوال : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال والتوبة معا ...

وأنكر قوم هذا وقالوا : أنزلت هذه الآية بمكة ، ولم ينزل من السبع الطوال شيء إذ ذاك.

وقيل : المثاني القرآن كله ، قال الله ـ تعالى ـ (كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ). هذا قول الضحاك وطاوس ، وقاله ابن عباس. وقيل له : مثاني ، لأن الأنباء والقصص ثنيت فيه ..

وقيل : المراد بالسبع المثاني أقسام القرآن من الأمر والنهى والتبشير والإنذار ..

ثم قال : والصحيح الأول لأنه نص. وقد قدمنا في الفاتحة أنه ليس في تسميتها بالمثاني ما يمنع من تسمية غيرها بذلك ، إلا أنه إذا ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وثبت عنه نص في شيء لا يحتمل التأويل ، كان الوقوف عنده (١).

والذي نراه ، أن المقصود بالسبع المثاني هنا : سورة الفاتحة ، لثبوت النص الصحيح بذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومتى ثبت النص الصحيح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شيء فلا كلام لأحد معه أو بعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٥٥.

٧٧

ثم نهى الله ـ تعالى ـ المسلمين في شخص نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن التطلع إلى زينة الحياة الدنيا ، فقال ـ تعالى ـ : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) ...

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف وصل هذا بما قبله؟

قلت : يقول الله ـ تعالى ـ لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد أوتيت النعمة العظمى التي كل نعمة وإن عظمت فهي إليها حقيرة ضئيلة ، وهي القرآن العظيم ، فعليك أن تستغني به ، ولا تمدن عينيك إلى متاع الدنيا ...

قال أبو بكر الصديق ؛ من أوتى القرآن ، فرأى أن أحدا أوتى من الدنيا أفضل مما أوتى ، فقد صغر عظيما ، وعظم صغيرا» (١).

وقال ابن كثير : وقال ابن أبى حاتم : ذكر عن وكيع بن الجراح ، قال : حدثنا موسى بن عبيدة ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبى رافع صاحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أضاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضيفا ، ولم يكن عنده صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيء يصلحه ، فأرسل إلى رجل من اليهود : يقول لك محمد رسول الله : أسلفنى دقيقا إلى هلال رجب. قال اليهودي : لا إلا برهن. فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته ، فقال : أما والله إنى لأمين من في السماء ، وأمين من في الأرض ، ولئن أسلفنى أو باعني لأؤدين إليه. فلما خرجت من عنده نزلت هذه الآية. «لا تمدن عينيك» كأنه ـ سبحانه ـ يعزيه عن الدنيا» (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ (تَمُدَّنَ) من المد ، وأصله الزيادة. واستعير هنا للتطلع إلى ما عند الغير برغبة وتمن وإعجاب. يقال : مد فلان عينه إلى مال فلان ، إذا اشتهاه وتمناه وأراده.

والمراد بالأزواج : الأصناف من الكفار الذين متعهم الله بالكثير من زخارف الدنيا.

والمعنى : لا تحفل ـ أيها الرسول الكريم ـ ولا تطمح ببصرك طموح الراغب في ذلك المتاع الزائل ، الذي متع الله ـ تعالى ـ به أصنافا من المشركين فإن ما بين أيديهم منه شيء سينتهي عما قريب ، وقد آتاهم الله ـ تعالى ـ إياه على سبيل الاستدراج والإملاء ، وأعطاك ما هو خير منه وأبقى ، وهو القرآن العظيم.

قال صاحب الظلال : والعين لا تمتد. إنما يمتد البصر أى : يتوجه. ولكن التعبير التصويرى يرسم صورة العين ذاتها ممدودة إلى المتاع. وهي صورة طريفة حين يتخيلها المتخيل ..

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٣٩٨.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٥٦٦.

٧٨

والمعنى وراء ذلك ، ألا يحفل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك المتاع الذي آتاه الله ـ تعالى ـ لبعض الناس ... ولا يلقى إليه نظرة اهتمام ، أو نظرة استجمال ، أو نظرة تمن» (١).

وقال ـ سبحانه ـ هنا (لا تَمُدَّنَّ ...) بدون واو العطف ، وقال في سورة طه (وَلا تَمُدَّنَّ ...) بواو العطف ، لأن الجملة هنا مستأنفة استئنافا بيانيا ، جوابا لما يختلج في نفوس بعض المؤمنين من تساؤل عن أسباب الإملاء والعطاء الدنيوي لبعض الكافرين. ولأن الجملة السابقة عليها وهي قوله (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي ...) كانت بمنزلة التمهيد لها ، والإجمال لمضمونها.

أما في سورة طه ، فجملة (وَلا تَمُدَّنَّ ...) معطوفة على ما سبقها من طلب وهو قوله ـ تعالى ـ (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها ، وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى. وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً ...) (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) نهى له صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الاهتمام بالمصير السيئ الذي ينتظر أعداءه.

أى : ولا تحزن ـ أيها الرسول الكريم ـ لكفر من كفر من قومك ، أو لموتهم على ذلك ، أو لأعراضهم عن الحق الذي جئتهم به ، فإن القلوب بأيدينا نصرفها كيف نشاء ، أما أنت فعليك البلاغ.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) بيان لما يجب عليه نحو أتباعه ، بعد بيان ما يجب عليه نحو أعدائه.

وخفض الجناح كناية عن اللين والمودة والعطف.

أى : وكن متواضعا مع أتباعك المؤمنين ، رءوفا بهم ، عطوفا عليهم.

قال الشوكانى : وخفض الجناح كناية عن التواضع ولين الجانب ... وأصله أن الطائر إذا ضم فرخه إليه بسط جناحه ثم قبض على الفرخ ، فجعل ذلك وصفا لتواضع الإنسان لأتباعه ... والجناحان من ابن آدم : جانباه (٣).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) معطوف على ما قبله.

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن ج ١٤ ص ٣١٥٤.

(٢) سورة طه الآيتان ١٣٠ ، ١٣١.

(٣) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٣ ص ١٤٢.

٧٩

أى : لا تحزن ـ أيها الرسول الكريم ـ على مصير الكافرين ، وتواضع لأتباعك المؤمنين ، وقل للناس جميعا ما قاله كل نبي قبلك لقومه : إنى أنا المنذر لكم من عذاب الله إذا ما بقيتم على كفركم ، الموضح لكم كل ما يخفى عليكم.

فالنذير هنا بمعنى المنذر ، والمبين بمعنى الكاشف والموضح.

وفي الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به ، كمثل رجل أتى قومه فقال : يا قوم ، إنى رأيت الجيش بعيني ، وإنى أنا النذير العريان ، فالنجاء النجاء ، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا ، وانطلقوا على مهلهم فنجوا. وكذبه طائفة منهم فأصبحوا مكانهم ، فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم ، فذلك مثل من أطاعنى واتبع ما جئت به ، ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق» (١).

ثم هدد ـ سبحانه ـ الذين يحاربون دعوة الحق ، ويصفون القرآن بأوصاف لا تليق به فقال ـ تعالى ـ : (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ. الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) ..

والكاف في قوله (كَما) للتشبيه ، وما موصوله أو مصدرية وهي المشبه به أما المشبه فهو الإيتاء المأخوذ من قوله ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي).

ولفظ «المقتسمين» افتعال من القسم بمعنى تجزئة الشيء وجعله أقساما ..

والمراد بهم بعض طوائف أهل الكتاب ، الذين آمنوا ببعضه وكفروا بالبعض الآخر.

أو المراد بهم ـ كما قال ابن كثير : «المقتسمين» أى المتحالفين ، أى الذين تحالفوا على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم ...» (٢).

ولفظ «عضين» جمع عضة ـ بزنة عزة ـ ، وهي الجزء والقطعة من الشيء. تقول : عضيت الشيء تعضية ، أى : فرقته وجعلته أجزاء كل فرقة عضة.

قال القرطبي ما ملخصه : وواحد العضين عضة ، من عضيت الشيء تعضية أى فرقته ، وكل فرقة عضة. قال الشاعر : وليس دين الله بالمعضى. أى : بالمفرق.

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب الاعتصام ، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ج ٩ ص ١١٥ وصحيح مسلم كتاب الفضائل ج ٧ ص ٦٣.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٦٦.

٨٠