التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0668-X
الصفحات: ٥٩٧

وثالثها : أن المرأة إذا باشرت الزنا ، استقذرها كل طبع سليم ، وحينئذ لا تحصل الألفة والمحبة ، ولا يتم السكن والازدواج ..

ورابعها : أنه إذا فتح باب الزنا ، فحينئذ لا يبقى لرجل اختصاص بامرأة وحينئذ لا يبقى بين نوع الإنسان ، وبين سائر البهائم فرق في هذا الباب.

وخامسها : أنه ليس المقصود من المرأة قضاء الشهوة ، بل أن تصير شريكة للرجل في ترتيب المنزل وإعداد مهماته .. وهذه المهمات لا تتم إلا إذا كانت مقصورة الهمة على هذا الرجل الواحد ، منقطعة الطمع عن سائر الرجال ، وذلك لا يحصل إلا بتحريم الزنا ... فثبت بما ذكرنا أن العقول السليمة تقضى على الزنا بالقبح (١).

ولقد سد الإسلام جميع المنافذ التي تؤدى إلى ارتكاب هذه الفاحشة ، وسلك لذلك وسائل من أهمها :

١ ـ تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية ، ومنع الاختلاط بين الرجال والنساء إلا في حدود الضرورة الشرعية ، ومن الأحاديث التي وردت في هذا المعنى ، ما رواه الشيخان عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم».

وروى الشيخان ـ أيضا ـ عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إياكم والدخول على النساء. فقال رجل من الأنصار : أفرأيت الحمو ـ بفتح الحاء وسكون الميم ـ وهو قريب الزوج كأخيه وابن عمه فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحمو الموت» (٢). أى : دخوله قد يؤدى إلى الموت.

٢ ـ تحريم النظر إلى المرأة الأجنبية. ووجوب غض البصر.

قال ـ تعالى ـ : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ..).

وقال ـ سبحانه ـ : (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ..) (٣).

وروى الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة : العينان زناهما النظر ، والأذنان زناهما الاستماع ، واللسان زناه الكلام ... والقلب يهوى ويتمنى ، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه» (٤).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٢٠ ص ١٩٨.

(٢) رياض الصالحين ص ٦٢٤ باب تحريم الخلوة بالأجنبية.

(٣) سورة النور الآيتان ٣٠ ، ٣١.

(٤) رياض الصالحين ص ٦٢٢ للإمام النووي.

٣٤١

٣ ـ وجوب التستر والاحتشام للمرأة ؛ فإن التبرج والسفور يغرى الرجال بالنساء ، ويحرك الغريزة الجنسية بينهما.

قال ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ ..) (١).

٤ ـ الحض على الزواج ، وتيسير وسائله ، والبعد عن التغالى في نفقاته ، وتخفيف مؤنه وتكاليفه .. فإن الزواج من شأنه أن يحصن الإنسان ، ويجعله يقضى شهوته في الحلال ..

فإذا لم يستطع الشاب الزواج ، فعليه بالصوم فإنه له وقاية ـ كما جاء في الحديث الشريف ـ.

٥ ـ إقامة حدود الله بحزم وشدة على الزناة سواء أكانوا من الرجال أم من النساء ، كما قال ـ تعالى ـ : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ. وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢).

وهذا الجلد إنما هو بالنسبة للبكر ذكرا كان أو أنثى ، أما بالنسبة للمحصن وهو المتزوج أو الذي سبق له الزواج ، فعقوبته الرجم ذكرا كان أو أنثى ، وقد ثبت ذلك بالأحاديث الصحيحة.

ففي الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى في زان لم يتزوج وزانية متزوجة ، بقوله لوالد الرجل : «على ابنك مائة جلدة وتغريب عام» ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأحد أصحابه واسمه أنيس : اغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها» فغدا عليها فاعترفت فرجمها.

ومما لا شك أنه لو تم تنفيذ حدود الله ـ تعالى ـ على الزناة ، لمحقت هذه الفاحشة محقا ، لأن الشخص إن لم يتركها خوفا من ربه ـ عزوجل ـ لتركها خوفا من تلك العقوبة الرادعة ، ومن فضيحته على رءوس الأشهاد.

هذه بعض وسائل الوقاية من تلك الفاحشة القبيحة ، ولو اتبعها المسلمون ، لطهرت أمتهم من رجسها ، ولحفظت في دينها ودنياها.

ثم نهى ـ سبحانه ـ عن قتل النفس المعصومة الدم ، بعد نهيه عن قتل الأولاد ، وعن الاقتراب من فاحشة الزنا فقال ـ تعالى ـ : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ).

__________________

(١) سورة الأحزاب الآية ٥٩.

(٢) سورة النور الآية ٢.

٣٤٢

أى : ولا تقتلوا النفس التي حرم الله قتلها ، إلا بالحق الذي يبيح قتلها شرعا ، كردة ، أو قصاص ، أو زنا يوجب الرجم.

قال الإمام ابن كثير : يقول ـ تعالى ـ ناهيا عن قتل النفس بغير حق شرعي ، كما ثبت في الصحيحين ـ عن عبد الله بن مسعود ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والزاني المحصن ، والتارك لدينه المفارق للجماعة».

وفي السنن : «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مسلم (١)».

وقوله : (إِلَّا بِالْحَقِ) متعلق بلا تقتلوا ، والباء للسببية ، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أى : لا تقتلوها في حال من الأحوال ، إلا في حال ارتكابها لما يوجب قتلها.

وذلك : لأن الإسلام ينظر إلى وجود الإنسان على أنه بناء بناه الله ـ تعالى ـ فلا يحل لأحد أن يهدمه إلا بحق.

وبهذا يقرر الإسلام عصمة الدم الإنسانى ، ويعتبر من يعتدى على نفس واحدة ، فكأنما قد اعتدى على الناس جميعا. قال ـ تعالى ـ : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ، وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ..) (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) إرشاد لولى المقتول إلى سلوك طريق العدل عند المطالبة بحقه.

والمراد بوليه : من يلي أمر المقتول ، كأبيه وابنه وأخيه وغيرهم من أقاربه الذين لهم الحق في المطالبة بدمه. فإن لم يكن للمقتول ولى ، فالحاكم وليه.

والمراد بالسلطان : القوة التي منحتها شريعة الله ـ تعالى ـ لولى المقتول على القاتل ، حيث جعلت من حق هذا الولي المطالبة بالقصاص من القاتل ، أو أخذ الدية منه ، أو العفو عنه ، ولا يستطيع أحد أن ينازعه في هذا الحق ، أو أن يجبره على التنازل عنه.

والمعنى : ومن قتل مظلوما ، أى : بدون سبب يوجب قتله ، فإن دمه لم يذهب هدرا ، فقد شرعنا «لوليه سلطانا» على القاتل ، لأنه ـ أى الولي ـ إن شاء طالب بالقصاص منه ، وإن شاء أخذ الدية ، وإن شاء عفا عنه. وبذلك يصير الولي هو صاحب الكلمة الأولى في

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٧٠.

(٢) سورة المائدة الآية ٣٢.

٣٤٣

التصرف في القاتل ، حتى لكأنه مملوك له.

وما دامت شريعة الله ـ تعالى ـ قد أعطت الولي هذا السلطان على القاتل ، فعليه أن لا يسرف في القتل ، وأن لا يتجاوز ما شرعه الله ـ تعالى ـ.

ومن مظاهر هذا التجاوز : أن يقتل اثنين ـ مثلا ـ في مقابل قتيل واحد أو أن يقتل غير القاتل ، أو أن يمثل بالقاتل بعد قتله.

قال الآلوسى ما ملخصه : كان من عادتهم في الجاهلية ، أنهم إذا قتل منهم واحد ، قتلوا قاتله ، وقتلوا معه غيره ...

وأخرج البيهقي في سننه عن زيد بن أسلم أنه قال : إن الناس في الجاهلية كانوا إذا قتل من ليس شريفا شريفا ، لم يقتلوه به ، وقتلوا شريفا من قومه ، فنهوا عن ذلك ، كما نهوا عن المثلة بالقاتل.

وقرأ حمزة والكسائي : «فلا تسرف» بالخطاب للولي على سبيل الالتفات (١).

وقوله : (إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) تذييل المقصود به تعليل النهى عن الإسراف في القتل. والضمير يعود إلى الولي ـ أيضا ـ.

أى : فلا يسرف هذا الولي في القتل ، لأن الله ـ تعالى ـ قد نصره عن طريق ما شرعه له من سلطان عظيم ، من مظاهره : المطالبة بالقصاص من القاتل ، أو بأخذ الدية ، ومن مظاهره ـ أيضا ـ وقوف الحاكم وغيره إلى جانبه حتى يستوفى حقه من القاتل ، دون أن ينازعه منازع في هذا الحق.

ومنهم من يرى أن الضمير في قوله (إِنَّهُ) يعود إلى المقتول ظلما ، على معنى : أن الله ـ تعالى ـ قد نصره في الدنيا بمشروعية القصاص والدية حتى لا يضيع دمه ، ونصره في الآخرة بالثواب الذي يستحقه ، وما دام الأمر كذلك فعلى وليه أن لا يسرف في القتل.

ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب. لأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة.

قال ابن جرير بعد أن ساق الأقوال في ذلك : وأشبه ذلك بالصواب عندي ، قول من قال : عنى بها ـ أى بالهاء في إنه ـ الولي ، وعليه عادت ، لأنه هو المظلوم ووليه المقتول ، وهي إلى ذكره أقرب من ذكر المقتول ، وهو المنصور ـ أيضا ـ لأن الله ـ جل ثناؤه ـ قضى في كتابه المنزل ، أن سلطه على قاتل وليه ، وحكمه فيه ، بأن جعل إليه قتله إن شاء ،

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٧٠.

٣٤٤

واستبقاءه على الدية إن أحب ، والعفو عنه إن رأى. وكفى بذلك نصرة له من الله ـ تعالى ـ ، فلذلك هو المعنى بالهاء التي في قوله (إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) (١).

والمتأمل في هذه الآية الكريمة التي هي أول آية نزلت في شأن القتل كما قال الضحاك (٢) : يراها قد عالجت هذه الجريمة علاجا حكيما.

فهي أولا : تنهى عن القتل ، لأنه من أكبر الكبائر التي تؤدى إلى غضب الله ـ تعالى ـ وسخطه ، قال ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها ، وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) (٣).

وجاء النهى عنه في بعض الآيات بعد النهى عن الإشراك بالله ـ عزوجل ـ. قال ـ سبحانه ـ : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ..) (٤).

كما جاء النهى عنه في كثير من الأحاديث النبوية ، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء».

وفي حديث آخر يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الآدمي بنيان الرب ، ملعون من هدم بنيان الرب».

وفي حديث ثالث : «لو اجتمع أهل السموات والأرض على قتل رجل مسلم ، لأكبهم الله في النار».

وهذا النهى الشديد عن قتل النفس من أسبابه : أنه يؤدى إلى شيوع الغل والبغض والتقاتل ... بين الأفراد والجماعات ؛ إذ النفس البشرية في كل زمان ومكان ، يؤلمها ، ويثير غضبها وانتقامها ، أن ترى قاتل عزيز لديها يمشى على الأرض ..

وهي ثانيا : تسوق لولى المقتول من التوجيهات الحكيمة ، ما يهدئ نفسه ، ويقلل من غضبه ، ويطفئ من نار ثورته المشتعلة.

وقد أجاد صاحب الظلال ـ رحمه‌الله ـ في توضيح هذا المعنى فقال :

«وفي تولية صاحب الدم على القصاص من القاتل ، وتجنيد سلطان الشرع وتجنيد الحاكم

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٨ ص ٦٠ ـ طبعة دار المعرفة ـ بيروت.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٧٠.

(٣) سورة النساء الآية ٩٣.

(٤) سورة الفرقان الآية ٦٨.

٣٤٥

لنصرته ، تلبية للفطرة البشرية ، وتهدئة للغليان الذي تستشعره نفس الولي ، الغليان الذي قد يجرفه ويدفعه إلى الضرب يمينا وشمالا ، في حمى الغضب والانفعال على غير هدى. فأما حين يحس أن الله قد ولاه على دم القاتل. وأن الحاكم مجند لنصرته على القصاص ، فإن ثائرته تهدأ ، ونفسه تسكن ، ويقف عند حد القصاص العادل الهادئ.

والإنسان إنسان ، فلا يطالب بغير ما ركب في فطرته من الرغبة العميقة في القصاص. لذلك يعترف الإسلام بهذه الفطرة ويلبيها في الحدود المأمونة ، ولا يتجاهلها فيفرض التسامح فرضا. إنما هو يدعو إلى التسامح ويؤثره ، ويجبب فيه ، ويأجر عليه ، ولكن بعد أن يعطى الحق. فلولى الدم أن يقتص أو يصفح.

وشعور ولى الدم بأنه قادر على كليهما ، قد يجنح به إلى الصفح والتسامح ، أما شعوره بأنه مرغم على الصفح فقد يهيج نفسه ، ويدفع به إلى الغلو والجموح (١).

هذا ، والذي نعتقده وندين الله ـ تعالى ـ عليه ، أنه لا علاج لجريمة القتل ـ وغيرها ـ إلا بتطبيق شريعة الله ـ تعالى ـ التي جمعت بين الرحمة والعدل.

وبالرحمة والعدل : تتلاقى القلوب بعد التفرق ، وتلتئم بعد التصدع ، وتتسامى عن الانتقام إلى ما هو أعلى منه وهو العفو.

وبعد أن نهى ـ سبحانه ـ عن إتلاف النفوس عن طريق القتل والزنا ، أتبع ذلك بالنهى عن إتلاف الأموال التي هي قوام الحياة ، وبدأ ـ سبحانه ـ بالنهى عن الاقتراب من مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ، ثم ثنى بالأمر بإيفاء الكيل والميزان عند التعامل ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ، وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً. وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ ، وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ، ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً).

واليتيم : هو الصغير الذي مات أبوه مأخوذ من اليتم بمعنى الانفراد ، ومنه الدرة اليتيمة.

والخطاب في قوله : (وَلا تَقْرَبُوا ...) لأولياء اليتيم ، والأوصياء على ماله.

والأشد : قوة الإنسان ، واشتعال حرارته ، ومن الشدة بمعنى القوة. يقال : شد النهار إذا ارتفع واكتمل ، وهو مفرد جاء بصيغة الجمع. أو هو جمع لا واحد له من لفظه ، أو جمع شدة كأنعم ونعمة.

__________________

(١) في ظلال القرآن ج ١٥ ص ٢٢٣٥.

٣٤٦

أى : ولا تقربوا ـ أيها الأولياء على اليتيم ـ ماله الذي منحه الله إياه عن طريق الميراث أو غيره ، إلا بالطريقة التي هي أحسن الطرق ، والتي من شأنها أن تنفعه ، كالمحافظة عليه ، واستثماره له ، وإنفاقه في الوجوه المشروعة.

واعلموا أن كل تصرف مع اليتيم أو في ماله لا يقع في تلك الدائرة ـ دائرة الأنفع والأحسن ـ فهو تصرف محظور ومنهى عنه ، وسيحاسبكم الله ـ تعالى ـ عليه.

وتعليق النهى بالقربان ، للمبالغة في الزجر عن التصرف في مال اليتيم ، إلا بالطريقة التي هي أحسن.

وقوله : (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) ليس غاية للنهى ، إذ ليس المعنى : فإذا بلغ أشده فاقربوه ، لأن هذا المعنى يقتضى إباحة أكل الولي لمال اليتيم بعد بلوغه ، وإنما هو غاية لما يفهم من النهى ، فيكون المعنى : لا تقربوا مال اليتيم إلا بالطريقة التي هي أحسن ، واستمروا على ذلك حتى يبلغ أشده ، أى : حتى يصير بالغا عاقلا رشيدا ، فإذا ما صار كذلك ، فسلموا إليه ماله بأمانة واستعفاف عن التطلع إلى شيء منه.

هذا ، وقد أمرت شريعة الإسلام ، بحسن رعاية اليتيم ، وبالمحافظة على حقوقه ، ونهت عن الإساءة إليه ، بأى لون من ألوان الإساءة.

قال ـ تعالى ـ : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ، وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ ..) (١).

وقال ـ سبحانه ـ : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً ، إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً ، وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (٢).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الذي رواه الإمام البخاري عن سهل بن سعد رضى الله عنه : «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا» وأشار بالسبابة والوسطى (٣).

وروى الشيخان عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا : يا رسول الله وما هن؟ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات».

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٢٠.

(٢) سورة النساء الآية ١٠.

(٣) من كتاب رياض الصالحين ص ١٣٧ للإمام النووي.

٣٤٧

ومن الحكم التي من أجلها أمر الإسلام بالعطف على اليتيم ونهى عن ظلمه ، أنه إنسان ضعيف فقد الأب الحانى ، والعائل والنصير منذ صغره ..

فإذا نشأ في بيئة ترعاه وتكرمه .. شب محبا لمن حوله ، وللمجتمع الذي يعيش فيه.

وإذا نشأ في بيئة تقهره وتذله وتظلمه .. نظر إلى من حوله ، وإلى المجتمع الذي يعيش فيه ، نظرة العدو إلى عدوه ..

وكأنه يقول لنفسه : إذا كان الناس لم يحسنوا إلى في صغرى وفي حالة ضعفى ، فلما ذا أحسن إليهم في حال كبرى وقوتي!! وإذا كانوا قد حرموني حقي الذي منحه الله لي فلما ذا أعطيهم شيئا من خيرى وبرى!!.

هذه بعض الأسباب التي من أجلها أمر الإسلام أتباعه برعاية اليتيم وإكرامه ، وصيانة حقوقه من أى اعتداء أو ظلم.

وبعد أن نهى ـ سبحانه ـ عن الاقتراب من مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ، أمر بالوفاء بالعهود فقال : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً).

والعهد : ما من شأنه أن يراعى ويحفظ ، كالوصية واليمين. وعهد الله : أوامره ونواهيه وعهد الناس : ما يتعاهدون عليه من معاملات وعقود وغير ذلك مما تقتضيه شئون حياتهم.

أى : وأوفوا بالعهود التي بينكم وبين الله ـ تعالى ـ ، والتي بينكم وبين الناس ، بأن تؤدوها كاملة غير منقوصة ، وأن تقوموا بما تقتضيه من حقوق شرعية. وقوله (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) تعليل لوجوب الوفاء بالعهد.

أى : كونوا أوفياء بعهودكم لأن صاحب العهد كان مسئولا عنه ، أمام الله ـ تعالى ـ وأمام الناس ، فالكلام على حذف مضاف كما في قوله ـ سبحانه ـ (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ).

وقال ـ سبحانه ـ : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ ...) بالإظهار دون الإضمار للإشعار بكمال العناية بشأن الوفاء بالعهود.

ويجوز أن يكون المعنى : وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ، أى : كان مطلوبا بالوفاء به وقد مدح الله ـ تعالى ـ الذين يوفون بعهودهم في آيات كثيرة ، منها قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ. الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا ، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ

__________________

(١) سورة الرعد الآية ١٩ ، ٢٠.

٣٤٨

وَحِينَ الْبَأْسِ ، أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (١).

وبعد أن أمر ـ سبحانه ـ بالوفاء بصفة عامة ، أتبع ذلك بالوفاء في شئون البيع والشراء ، فقال ـ تعالى ـ : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ ، وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ، ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً).

والقسطاس : الميزان الذي يوزن به في حالتي البيع والشراء.

قال صاحب الكشاف : قرئ «بالقسطاس» بكسر القاف وضمها .. قيل : كل ميزان صغر أو كبر من موازين الدراهم وغيرها (٢).

وقال الآلوسى ما ملخصه : وهذا اللفظ رومي معرب .. وقيل : عربي .. وعلى القول بأنه رومي معرب ـ وهو الصحيح ـ لا يقدح استعماله في القرآن في عربيته المذكورة في قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) لأنه بعد التعريب والسماع في فصيح الكلام ، يصير عربيا ، فلا حاجة إلى إنكار تعريبه .. (٣).

وقوله : (تَأْوِيلاً) من الأول ـ بفتح الهمزة وسكون الواو ـ بمعنى الرجوع. يقال : آل هذا الأمر إلى كذا ، إذا رجع إليه.

والمعنى : وأتموا أيها المؤمنون الكيل إذا كلتم لغيركم عند بيعكم لهم ما تريدون بيعه ، وزنوا لهم كذلك بالميزان المستقيم العادل ما تريدون وزنه لهم.

وقيد ـ سبحانه ـ الأمر بوجوب إتمام الكيل والميزان في حالة البيع ، لأنها الحالة التي يكون فيها التطفيف في العادة ، إذ أن البائع هو الذي غالبا ما يطفف للمشتري في المكيال والميزان ولا يعطيه حقه كاملا.

قال ـ تعالى ـ : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ).

أى : ذلك الذي أمرناكم به. من وجوب إتمام المكيال والميزان عند التعامل ، خير لكم في الدنيا ، لأنه يرغب الناس في التعامل معكم ، أما في الآخرة فهو أحسن عاقبة ومآلا ، لما يترتب عليه من الثواب الجزيل لكم من الله ـ عزوجل ـ.

ثم ختم ـ سبحانه ـ تلك التوجيهات السامية السديدة ، بالنهى عن تتبع مالا علم للإنسان به ، وعن الفخر والتكبر والخيلاء .. فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١٧٧.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٤٨.

(٣) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٧٢.

٣٤٩

(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ ، كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ، إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ ، وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً. كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً. ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ. وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ. فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً).

قال القرطبي ـ رحمه‌الله ـ ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أى : ولا تتبع ما لا تعلم ولا يعنيك ـ من قول أو فعل ـ قال قتادة : لا تقل رأيت وأنت لم تر ، وسمعت وأنت لم تسمع ، وعلمت وأنت لم تعلم ..

ثم قال : وأصل القفو البهت ، والقذف بالباطل. ومنه قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أمّنا ، ولا ننتفى من أبينا» أى : لا نسبّ أمنا.

وقال : قفوته أقفوه ... إذا اتبعت أثره. وقافية كل شيء آخره ، ومنه اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : المقفّى ، لأنه آخر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ـ ، ومنه القائف ، وهو الذي يتبع الأثر .. (١).

وقال صاحب الكشاف ـ رحمه‌الله ـ : قوله : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) : يعنى ، ولا تكن في اتباعك ما لا علم لك به من قول أو فعل ، كمن يتبع مسلكا لا يدرى أنه يوصله إلى مقصده فهو ضال. والمراد : النهى عن أن يقول الرجل ما لا يعلم ، وأن يعمل بما لا يعلم. ويدخل فيه النهى عن التقليد الأعمى دخولا ظاهرا لأنه اتباع لما لا يعلم صحته من فساده .. (٢).

وقوله : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ ، كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) تحذير شديد من أن يقول الإنسان قولا لا علم له به ، أو أن يفعل فعلا بدون تحقق ، أو أن يحكم حكما بلا بينة أو دليل.

أى : إن السمع الذي تسمع به ـ أيها المكلف ـ ، والبصر الذي تبصر به ، والفؤاد ـ أى القلب ـ الذي تحيا به ، كل أولئك الأعضاء ستكون مسئولا عن أفعالها يوم القيامة ، وسيقال لك بتأنيب وتوبيخ : لما ذا سمعت ما لا يحل لك سماعه ، ونظرت إلى ما لا يجوز لك النظر إليه ، وسعيت إلى ما لا يصح لك أن تسعى إليه!!.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٢٥٧.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٤٩.

٣٥٠

وعلى هذا التفسير يكون السؤال في قوله ـ تعالى ـ : (كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) للإنسان الذي تتبع ما ليس له به علم من قول أو فعل.

ومن الآيات التي تشهد لهذا التفسير قوله ـ تعالى ـ : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (١).

ومنهم من يرى أن السؤال موجه إلى تلك الأعضاء ، لتنطق بما اجترحه صاحبها ، ولتكون شاهدة عليه ، فيكون المعنى :.

إن السمع والبصر والفؤاد ، كل واحد من أولئك الأعضاء ، كان مسئولا عن فعله ، بأن يقال له : هل استعملك صاحبك فيما خلقت من أجله أولا؟.

ويكون هذا السؤال للأعضاء من باب التوبيخ لأصحابها ، كما قال ـ تعالى ـ : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ ، وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٢).

وكما قال ـ سبحانه ـ : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٣).

واسم الإشارة (أُولئِكَ) على التفسيرين يعود إلى السمع والبصر والفؤاد ، إما لأن هذا الاسم يشار به إلى العقلاء ويشار به إلى غير العقلاء ، كما في قول الشاعر :

ذمّ المنازل بعد منزلة اللوى

والعيش بعد أولئك الأيام

وإما لأن هذه الأعضاء أخذت حكم العقلاء ، لأنها جزء منهم ، وشاهدة عليهم.

وعلى كلا التفسيرين أيضا ، يتمثل التحذير الشديد للإنسان عن أن يتبع ما ليس له به علم.

قال الجمل : وقوله ـ تعالى ـ : (كُلُّ أُولئِكَ) مبتدأ ، خبره جملة (كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) ، والضمير في «كان» وفي «عنه» وفي «مسئولا» يعود على كل. أى : كان كل واحد منها مسئولا عن نفسه ، يعنى عما فعل به صاحبه : ويجوز أن يكون الضمير في : «عنه» لصاحب السمع والبصر والفؤاد .. (٤).

__________________

(١) سورة الحجر الآية ٩٢ ، ٩٣.

(٢) سورة يس الآية ٦٥.

(٣) سورة فصلت الآيتان ١٩ ، ٢٠.

(٤) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٦٢٥.

٣٥١

وشبيه بهذه الآية في النهى عن اتباع ما لا علم للإنسان به. قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ، وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً ، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً ، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٢).

قال الإمام ابن كثير : ومضمون ما ذكروه ـ في معنى قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ..) أن الله ـ تعالى ـ نهى عن القول بلا علم ، كما قال ـ سبحانه ـ : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ..) وفي الحديث : «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ...» وفي سنن أبى داود : «بئس مطية الرجل زعموا» وفي الحديث الآخر : «إن أفرى الفري ـ أى أكذب الكذب ـ أن يرى الرجل عينيه ما لم تريا» (٣).

وقال بعض العلماء : وهذه الكلمات القليلة ـ التي اشتملت عليها الآية ـ تقيم منهجا كاملا للقلب والعقل ، يشمل المنهج العلمي الذي عرفته البشرية حديثا جدا ، ويضيف إليه استقامة القلب ، ومراقبة الله ، ميزة الإسلام على المناهج العقلية الجافة!.

فالتثبت من كل خبر ، ومن كل ظاهرة ، ومن كل حركة ، قبل الحكم عليها ، هو دعوة القرآن الكريم ، ومنهج الإسلام الدقيق ..

فلا يقول اللسان كلمة ، ولا ينقل رواية ، ولا يروى حادثة ، ولا يحكم العقل حكما ، ولا يبرم الإنسان أمرا. إلا وقد تثبت من كل جزئية ، ومن كل ملابسة ومن كل نتيجة ، فلم يبق هنالك شك ولا شبهة في صحتها .. (٤).

ثم ينتقل القرآن الكريم من النهى عن أن يتبع الإنسان ما لا علم له به ، إلى النهى عن التفاخر والتكبر والإعجاب في النفس فيقول : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ...).

والمرح في الأصل : شدة الفرح ، والتوسع فيه ، مع الخيلاء والتعالي على الناس ، يقال : مرح ـ بزنة فرح ـ يمرح مرحا ، إذا اشتد فرحه ومشى مشية المتكبرين. وهو مصدر وقع موقع الحال.

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ٣٣.

(٢) سورة البقرة الآية ١٦٨ ، ١٦٩.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٧٢.

(٤) من تفسير «في ظلال القرآن» ج ١٥ ص ٢٢٢٧.

٣٥٢

أى : ولا تمش ـ أيها الإنسان ـ في الأرض مشية الفخور المتكبر المختال بل كن متواضعا متأدبا بأدب الإسلام في سلوكك.

وتقييد النهى بقوله «في الأرض» للتذكير بالمبدأ والمعاد ، المانعين من الكبر والخيلاء ، إذ من الأرض خلق وإليها يعود ، ومن كان كذلك كان جديرا به أن يتواضع لا أن يتكبر.

قال ـ تعالى ـ : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ ، وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ ، وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) تعليل للنهى عن التفاخر مع السخرية والتهكم من المتفاخر المغرور.

أى : إنك ـ أيها الماشي في الأرض مرحا ـ لن تخرق الأرض بوطئك عليها ، أو بمشيك فوقها ، ولن تبلغ ـ مهما ارتفعت قامتك ـ الجبال في الطول والعلو. ومادام شأنك كذلك ، فكن متواضعا ، فمن تواضع لله ـ تعالى ـ رفعه.

وقوله «طولا» تمييز محول عن الفاعل. أى : لن يبلغ طولك الجبال.

وشبيه بهذه الآية في النهى عن التعالي والتطاول ، قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ، وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ، إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) (٢).

وقد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتواضع ، ونهى عن التكبر والغرور ، وبين سوء عاقبة ذلك في أحاديث كثيرة ، منها ما رواه مسلم في صحيحه عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله ـ تعالى ـ أوحى إلى أن تواضعوا ، حتى لا يفخر أحد على أحد ، ولا يبغى أحد على أحد» (٣).

وروى الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا» (٤).

وروى الترمذي عن سلمة بن الأكوع قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يزال الرجل يذهب بنفسه ـ أى يرتفع ويتكبر ـ حتى يكتب في الجبارين ـ فيصيبه ما أصابهم» (٥).

ورحم الله القائل :

ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا

فكم تحتها قوم همو منك أرفع

وإن كنت في عز وحرز ومنعة

فكم مات من قوم همو منك أمنع

__________________

(١) سورة طه الآية ٥٥.

(٢) سورة لقمان الآية ١٨.

(٣ ، ٤ ، ٥) من كتاب رياض الصالحين ص ٢٨٥ للإمام النووي.

٣٥٣

ثم ختم ـ سبحانه ـ تلك التكاليف التي يغلب عليها طابع النهى عن الرذائل بقوله : (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً).

واسم الإشارة (ذلِكَ) يعود إلى ما تقدم ذكره من التكاليف والأوامر والنواهي. التي لا يتطرق إليها النسخ ، والتي تبلغ خمسة وعشرين تكليفا ، تبدأ بقوله ـ تعالى ـ : (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) ثم يأتى بعد ذلك النهى عن عقوق الوالدين ، والأمر بصلة الأرحام ، وبالعطف على المسكين وابن السبيل ، ثم النهى عن البخل ، والإسراف ، وقتل الأولاد ، والاقتراب من الزنا ، وقتل النفس إلا بالحق ، والاعتداء على مال اليتيم .. إلخ.

والضمير في (سَيِّئُهُ) يعود إلى ما نهى الله عنه من أفعال ، كالشرك ، وعقوق الوالدين ، والزنا. أى : كل ذلك الذي بيناه لك فيما سبق ، كان الفعل السيئ منه ، عند ربك مكروها ، أى : مبغوضا عنده ـ سبحانه ـ وأما الفعل الحسن كالوفاء بالعهد ، وإعطاء ذي القربى حقه ، فهو محمود عند ربك ـ عزوجل ـ.

قال الآلوسى : ووصف ذلك بمطلق الكراهة مع أن أكثره من الكبائر ـ كالشرك والزنا ... ـ للإيذان بأن مجرد الكراهة عنده ـ تعالى ـ كافية في وجوب الكف عن ذلك.

وتوجيه الإشارة إلى الكل ، ثم تعيين البعض دون توجيهها إليه ابتداء ، لما قيل : من أن البعض المذكور ليس بمذكور جملة ، بل على وجه الاختلاط لنكتة اقتضته ، وفيه إشعار بكون ما عداه مرضيا عنده ـ سبحانه ـ.

وإنما لم يصرح بذلك ، إيذانا بالغنى عنه ، أو اهتماما بشأن التنفير من النواهي .. (١).

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ) بالتاء والتنوين.

وعلى هذه القراءة يكون اسم الإشارة ، يعود إلى المنهيات السابقة فقط ، ويكون المعنى : كل ذلك الذي نهيناك عنه في الآيات السابقة ، من الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، واتباع ما ليس لك به علم .. كان اقترافه سيئة من السيئات المبغوضة عند ربك ، المحرمة في شرعه ، المعاقب مرتكبها.

ثم ختم ـ سبحانه ـ تلك الأحكام المحكمة ، والتكاليف السامية ، بقوله : (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٧٦.

٣٥٤

أى : ذلك الذي أمرناك به ، ونهيناك عنه ـ أيها الرسول الكريم ـ بعض ما أوحاه الله ـ تعالى ـ عليك «من الحكمة» التي هي علم الشرائع ومعرفة الحق ، والعمل به ، وحذار أن تجعل بعد هذا البيان الحكيم ، مع الله ـ تعالى ـ إلها آخر ـ أيها المخاطب ـ فتلقى وتطرح في جهنم ، ملوما من نفسك ومن غيرك ، مدحورا أى : مبعدا من رحمة الله ـ تعالى ـ قال صاحب الكشاف : ولقد جعل الله ـ تعالى ـ فاتحتها ـ أى تلك الآيات المشتملة على تلك الأوامر والنواهي ـ وخاتمتها ، النهى عن الشرك ، لأن التوحيد هو رأس كل حكمة وملاكها ومن عدمه لم تنفعه حكمه وعلومه وإن بذّفيها الحكماء ، وحك بيافوخه السماء ، وما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم وهم عن دين الله أضل من النعم (١).

وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة التي اشتملت على بضع وعشرين تكليفا ، والتي ابتدأت بقوله ـ تعالى ـ لا تجعل مع الله إلها آخر ... وانتهت بقوله ـ سبحانه ـ : (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ..) قد ربطت قواعد السلوك والآداب : والتكاليف الفردية والاجتماعية ، بإخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ لأن هذا الإخلاص لله ـ تعالى ـ في العقيدة والعبادة والقول والعمل .. هو رأس كل حكمة وملاكها. كما قال صاحب الكشاف ـ رحمه‌الله ـ.

وبعد أن ذكر ـ سبحانه ـ ما ذكر من الأوامر والنواهي في الآيات السابقة ، التي بدأها وختمها بالنهى عن الإشراك بالله ـ تعالى ـ أتبع ذلك بإقامة الأدلة على استحالة أن يكون له شريك أو ولد ، بل كل من في السموات ومن الأرض ، خاضع لسلطانه ، وما من شيء إلا ويسبح بحمده ، فقال ـ تعالى ـ.

(أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٥٠.

٣٥٥

السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (٤٤)

والخطاب في قوله ـ تعالى ـ : (أَفَأَصْفاكُمْ ..) للكافرين الذين قالوا ، الملائكة بنات الله.

والإصفاء بالشيء : جعله خالصا. يقال : أصفى فلان فلانا بالشيء ، إذا آثره به. ويقال للأشياء التي يختص السلطان بها نفسه : الصوافي. وفعله : صفا يصفو ، وتضمن هنا معنى التخصيص.

والاستفهام للإنكار والتوبيخ والتهكم.

والمعنى ـ كما يقول صاحب الكشاف ـ أفخصكم ربكم على وجه الخلوص والصفاء بأفضل الأولاد ، وهم الذكور ، ولم يجعل فيهم نصيبا لنفسه ، واتخذ أدونهم ، وهن البنات ، وأنتم لا ترضونهن لأنفسكم ، بل تئدوهن وتقتلونهن!! فهذا خلاف الحكمة وما عليه معقولكم وعادتكم. فإن العبيد لا يؤثرون بأجود الأشياء وأصفاها من الشوب ، ويكون أردؤها وأدونها للسادات (١).

والمقصود من الجملة الكريمة نفى ما زعموه من أن الملائكة بنات الله بأبلغ وجه ، أى : لم يخصكم ربكم بالبنين ، ولم يتخذ من الملائكة إناثا ، لأنه ـ سبحانه ـ تنزه عن الشريك والولد والوالد والشبيه.

قال ـ تعالى ـ : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ ، سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٢).

وقال ـ تعالى ـ : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) (٣).

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) تسفيه لأقوالهم الباطلة وأفكارهم الفاسدة وعقولهم السقيمة.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٥٠.

(٢) سورة الزمر الآية ٤.

(٣) سورة النجم الآية ٢١ ، ٢٢.

٣٥٦

أى : إنكم بنسبتكم البنات إلى الله ـ تعالى ـ ، لتقولون قولا عظيما في قبحه وشناعته ، وفي استهجان العقول السليمة له ، وفيما يترتب عليه من عقوبات أليمة من الله ـ تعالى ـ لكم.

قال ـ تعالى ـ : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً ، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً. إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً. لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن هذا القرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد اشتمل على ألوان متعددة من الهدايات والآداب والأحكام ، فقال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا ، وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً).

وقوله ـ تعالى ـ : (صَرَّفْنا) من التصريف وهو في الأصل صرف الشيء من حالة إلى أخرى ، ومن جهة إلى أخرى.

والمراد به هنا : بينا ، وكررنا ، ومفعوله محذوف للعلم به.

والمعنى : ولقد بينا وكررنا في هذا القرآن أنواعا من الوعد والوعيد ، والقصص ، والأمثال ، والمواعظ والأخبار ، والآداب والتشريعات ، ليتذكر هؤلاء الضالون ويتعظوا ويعتبروا ، ويوقنوا بأنه من عند الله ـ تعالى ـ فيهديهم ذلك إلى اتباع الحق ، والسير في الطريق القويم.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً) تصوير بديع لإصرارهم على كفرهم وعنادهم ، وإيثارهم الغي على الرشد.

والنفور : التباعد والإعراض عن الشيء. يقال : نفرت الدابة تنفر ـ بكسر الفاء وضمها ـ نفورا ، إذا جزعت وتباعدت وشردت.

أى : وما يزيدهم هذا البيان والتكرار الذي اشتمل عليه القرآن الكريم ، إلا تباعدا عن الحق ، وإعراضا عنه ، وعكوفا على باطلهم ، بسبب جحودهم وعنادهم وحسدهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما آتاه الله من فضله.

__________________

(١) سورة مريم الآيات من ٨٨ ـ ٩٥.

٣٥٧

وكان بعض الصالحين إذا قرأ هذه الآية قال : زادني لك خضوعا ، ما زاد أعداءك نفورا.

ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يوبخهم على شركهم ، وأن يسوق لهم الدليل الواضح على فساد عقولهم ، فقال ـ تعالى ـ : (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ ، إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً).

وقد قرأ جمهور القراء «كما تقولون» وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم «كما يقولون».

وللمفسرين في تفسير هذه الآية اتجاهان ، أما الاتجاه الأول فيرى أصحابه أن المعنى.

قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء المشركين ، لو كان مع الله ـ تعالى ـ آلهة أخرى ـ كما يزعمون ـ إذا لطلبوا إلى ذي العرش ـ وهو الله عزوجل ـ طريقا وسبيلا لتوصلهم إليه ، لكي ينازعوه في ملكه ، ويقاسموه إياه ، كما هي عادة الشركاء ، وكما هو ديدن الرؤساء والملوك فيما بينهم.

قال ـ تعالى ـ : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ ، وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ، سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (١).

وقال سبحانه ـ : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا ، فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٢).

وهذا الاتجاه قد صدر به صاحب الكشاف كلامه فقال ما ملخصه : قوله (إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) جواب عن مقالة المشركين وجزاء للو. أى : إذا لطلبوا إلى من له الملك والربوبية سبيلا بالمغالية ، كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض .. (٣).

وأما الاتجاه الثاني فيرى أصحابه أن المعنى : قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين ، لو كان مع الله ـ تعالى ـ آلهة أخرى ـ كما يزعمون ـ ، إذا لابتغوا ـ أى الآلهة المزعومة ـ إلى ذي العرش سبيلا وطريقا ليقتربوا إليه ، ويعترفوا بفضله ، ويخلصوا له العبادة ، كما قال ـ تعالى ـ : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ، وَيَخافُونَ عَذابَهُ ، إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) (٤).

__________________

(١) سورة المؤمنون الآية ٩١.

(٢) سورة الأنبياء الآية ٢٢.

(٣) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٥١.

(٤) سورة الإسراء الآية ٥٧.

٣٥٨

وقد اقتصر ابن كثير على هذا الوجه في تفسيره للآية فقال : يقول ـ تعالى ـ : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الزاعمين أن لله شريكا من خلقه ، لو كان الأمر كما تقولون ، من أن معه آلهة تعبد .. لكان أولئك المعبودون يعبدونه ويتقربون إليه يبتغون إليه الوسيلة والقربة. (١).

ومع وجاهة الرأيين ، إلا أن الرأى الأول أظهر ، لأن في الآية فرض المحال ، وهو وجود الآلهة مع الله ـ تعالى ـ ، وافتراض وجودها المحال لا يظهر منه أنها تتقرب إليه ـ سبحانه ـ ، بل الذي يظهر منه أنها تنازعه لو كانت موجودة ، ولأن هذا الرأى يناسبه ـ أيضا ـ قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً).

أى : تنزه الله ـ تعالى ـ عما يقوله المشركون في شأنه وتباعد ، وعلا علوا كبيرا ، فإنه ـ جل شأنه ـ لا ولد له ، فلا شريك له ...

قال ـ تعالى ـ : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ).

والتعبير بقوله ـ سبحانه ـ : (إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) يشير إلى الارتفاع والتسامى على تلك الآلهة المزعومة ، وأنها دون عرشه ـ تعالى ـ وتحته ، وليست معه ..

ثم بين ـ سبحانه ـ أن جميع الكائنات تسبح بحمده فقال ـ تعالى ـ : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ ، وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ).

والتسبيح : مأخوذ من السبح ، وهو المر السريع في الماء أو في الهواء ، فالمسبح مسرع في تنزيه الله وتبرئته من السوء ، ومن كل ما لا يليق به ـ سبحانه ـ.

أى تنزه الله ـ تعالى ـ وتمجده السموات السبع ، والأرض ، ومن فيهن من الإنس والجن والملائكة وغير ذلك ، وما من شيء من مخلوقاته التي لا تحصى إلا ويسبح بحمد خالقه ـ تعالى ـ ، ولكن أنتم يا بنى آدم «لا تفقهون تسبيحهم» لأن تسبيحهم بخلاف لغتكم ، وفوق مستوى فهمكم ، وإنما الذي يعلم تسبيحهم هو خالقهم عزوجل ، وصدق ـ سبحانه ـ إذ يقول : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).

والمتدبر في هذه الآية الكريمة ، يراها تبعث في النفوس الخشية والرهبة من الخالق ـ عزوجل ـ ، لأنها تصرح تصريحا بليغا بأن كل جماد ، وكل حيوان ، وكل طير ، وكل حشرة ..

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٧٦.

٣٥٩

بل كل كائن في هذا الوجود يسبح بحمده ـ تعالى ـ.

وهذا التصريح يحمل كل إنسان عاقل على طاعة الله ، وإخلاص العبادة له ، ومداومة ذكره ... حتى لا يكون ـ وهو الذي كرمه ربه وفضله ـ أقل من غيره طاعة لله ـ تعالى ـ.

وقوله : (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) تذييل قصد به بيان فضل الله ـ تعالى ـ ورحمته بعباده مع تقصيرهم في تسبيحه وذكره.

أى : (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً) لا يعاجل المقصر بالعقوبة ، بل يمهله لعله يرعوى وينزجر عن تقصيره ومعصيته ، (غَفُوراً) لمن تاب وآمن وعمل صالحا واهتدى إلى صراطه المستقيم.

هذا ، ومن العلماء من يرى أن تسبيح هذه الكائنات بلسان الحال.

قال بعض العلماء تسبيح هذه الكائنات لله ـ تعالى ـ هو دلالتها ـ بإمكانها وحدوثها ، وتغير شئونها ، وبديع صنعها ـ على وجود مبدعها ، ووحدته وقدرته ، وتنزهه عن لوازم الإمكان والحدوث ، كما يدل الأثر على المؤثر.

فهي دلالة بلسان الحال ، لا يفقهها إلا ذوو البصائر. أما الكافرون فلا يفقهون هذا التسبيح ، لفرط جهلهم وانطماس بصيرتهم .. (١).

ومنهم من يرى أن تسبيحها بلسان المقال ، أى أن التسبيح بمعناه الحقيقي ، فالكل يسبح بحمد الله ، ولكن بلغته الخاصة التي لا يفهمها الناس.

قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : وقوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) أى : وما من شيء من المخلوقات إلا يسبح بحمد الله (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) أى : لا تفقهون تسبيحهم ـ أيها الناس ـ لأنها بخلاف لغتكم وهذا عام في الحيوانات والنبات والجماد.

وهذا أشهر القولين كما ثبت في صحيح البخاري وغيره ، عن ابن مسعود أنه قال : كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل.

وفي حديث أبى ذر : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ في يده حصيات ، فسمع لهن تسبيح كحنين النحل. وكذا في يد أبى بكر وعمر وعثمان ـ رضى الله عنهم ـ وهو حديث مشهور في المسانيد ...

ثم قال ويشهد لهذا القول آية السجدة في أول سورة الحج ـ وهو قوله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ

__________________

(١) صفوة البيان لمعانى القرآن ج ١ ص ٤٥٧ لفضيلة الشيخ حسنين مخلوف.

٣٦٠