الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-051-X
الصفحات: ٥٠٢
ولا خلاف في هذا بين علماء الإسلام .
مسألة ٥٣٢ : إذا فرغ من الصلاتين ، جاء إلىٰ الموقف فوقف ، ويستحب له الاغتسال للموقف .
قال الصادق عليهالسلام : « الغسل يوم عرفة إذا زالت الشمس » (١) .
ويقطع التلبية عند زوال الشمس من يوم عرفة ؛ لأنّ عبد الله بن سنان (٢) سأل ـ في الصحيح ـ الصادقَ عليهالسلام : عن تلبية المتمتّع متىٰ يقطعها ؟ قال : « إذا رأيت بيوت مكة ، ويقطع تلبية الحج عند زوال الشمس يوم عرفة » (٣) .
ويقطع تلبية العمرة المبتولة حين تقع أخفاف الإبل في الحرم .
فإذا جاء إلىٰ الموقف بسكينة ووقار ، حمد الله وأثنىٰ عليه وكبّره وهلّله ودعا واجتهد .
قال الصادق عليهالسلام ـ في الصحيح ـ : « وإنّما تعجّل الصلاة وتجمع بينهما لتفرغ نفسك للدعاء ، فإنّه يوم دعاء ومسألة ، ثم تأتي الموقف بالسكينة والوقار ، فاحمد الله وهلّله ومجّده وأثن عليه وكبّره مائة مرّة واحمد الله مائة مرّة وسبّح مائة مرّة واقرأ قل هو الله أحد مائة مرّة ، وتخيّر لنفسك من الدعاء ما أحببت فإنّه يوم دعاء ، وتعوّذ بالله من الشيطان فإنّ الشيطان لن يذهلك في موطن قطّ أحبّ إليه من أن يذهلك في ذلك الموطن ، وإيّاك أن تشتغل بالنظر إلىٰ الناس وأقبل قِبَل نفسك » (٤) الحديث .
__________________
(١) الكافي ٤ : ٤٦٢ / ٤ ، التهذيب ٥ : ١٨١ / ٦٠٧ .
(٢) في المصدر : عبد الله بن مسكان .
(٣) التهذيب ٥ : ١٨٢ / ٦٠٩ .
(٤) التهذيب ٥ : ١٨٢ / ٦١١ بتفاوت يسير .
ويستحب فيه الدعاء الذي دعا به زين العابدين عليهالسلام في الموقف (١) ، وأن يُكثر من الدعاء لإخوانه المؤمنين ويؤثرهم علىٰ نفسه .
قال إبراهيم بن هاشم : رأيت عبد الله بن جندب بالموقف فلم أر موقفاً كان أحسن من موقفه ، ما زال مادّاً يديه إلىٰ السماء ودموعه تسيل علىٰ خدّيه حتىٰ تبلغ الأرض ، فلمّا صرف الناس قلت : يا أبا محمد ما رأيت موقفاً قطّ أحسن من موقفك ، قال : والله ما دعوت فيه إلّا لإخواني ، وذلك لأنّ أبا الحسن موسىٰ عليهالسلام أخبرني أنّه « مَنْ دعا لأخيه بظهر الغيب نُودي من العرش ولك مائة ألف ضعف مثله » فكرهت أن أدع مائة ألف ضعف مضمونة لواحد لا أدري يستجاب أم لا (٢) .
إذا عرفت هذا ، فهذه الأدعية وغيرها ليست واجبةً ، وإنّما الواجب اسم الحضور في جزء من أجزاء عرفة ولو مجتازاً مع النيّة .
مسألة ٥٣٣ : أوّل وقت الوقوف بعرفة زوال الشمس من يوم عرفة ، عند علمائنا أجمع ـ وبه قال الشافعي ومالك (٣) ـ لأنّ النبي صلىاللهعليهوآله وقف بعد الزوال (٤) ، وقال : ( خُذوا عنّي مناسككم ) (٥) ووقف الصحابة كذلك ، وأهل الأعصار من زمن النبي صلىاللهعليهوآله إلىٰ زماننا هذا مطبقون علىٰ الابتداء في
__________________
(١) اُنظر : مصباح المتهجّد : ٦٣٠ ـ ٦٤٠ .
(٢) الكافي ٤ : ٤٦٥ / ٧ ، التهذيب ٥ : ١٨٤ / ٦١٥ .
(٣) الحاوي الكبير ٤ : ١٧٢ ، فتح العزيز ٧ : ٣٦٣ ، حلية العلماء ٣ : ٣٣٧ ، شرح السنّة ـ للبغوي ـ ٤ : ٣١٩ و ٤٠٩ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢٣٣ ، المجموع ٨ : ١٠١ و ١٢٠ ، المغني ٣ : ٤٤٣ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤١ ، بداية المجتهد ١ : ٣٤٨ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ١٤٣ .
(٤) صحيح مسلم ٢ : ٨٩٠ / ١٢١٨ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٠٢٥ / ٣٠٧٤ ، سنن أبي داود ٢ : ١٨٥ / ١٩٠٥ ، سنن الدارمي ٢ : ٤٨ .
(٥) سنن البيهقي ٥ : ١٢٥ .
الوقوف بعد زوال الشمس ، ولو كان جائزاً قبل ذلك لفَعَله بعضهم .
قال ابن عبد البرّ : أجمع العلماء علىٰ أنّ أوّل الوقوف بعرفة بعد زوال الشمس (١) .
وقال الصادق عليهالسلام ـ في الصحيح ـ : « ثم تأتي الموقف » بعد الصلاتين (٢) ، والأمر للوجوب .
وقال أحمد : أوّله طلوع الفجر من يوم عرفة ؛ لقوله صلىاللهعليهوآله : ( مَنْ صلّىٰ معنا هذه الصلاة ـ يعني صلاة الصبح يوم النحر ـ وأتىٰ عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تمّ حجّه وقضىٰ تفثه ) (٣) ولم يفصّل قبل الزوال وبعده (٤) .
وهو محمول علىٰ ما بعد الزوال استناداً إلىٰ فعله عليهالسلام .
مسألة ٥٣٤ : آخر الوقت الاختياري غروب الشمس من يوم عرفة .
روىٰ العامّة عن عليّ عليهالسلام وأسامة بن زيد أنّ النبي صلىاللهعليهوآله دفع حين غربت الشمس (٥) .
ومن طريق الخاصّة : قول الصادق عليهالسلام ـ في الصحيح ـ : « فأفاض رسول الله صلىاللهعليهوآله بعد غروب الشمس » (٦) .
وسأل يونس بن يعقوب الصادقَ عليهالسلام: متىٰ نفيض من عرفات ؟
__________________
(١) الاستذكار ١٣ : ٢٨ ـ ٢٩ ، المغني ٣ : ٤٤٣ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤١ .
(٢) التهذيب ٥ : ١٨٢ / ٦١١ .
(٣) سنن الترمذي ٣ : ٢٣٩ / ٨٩١ ، سنن النسائي ٥ : ٢٦٣ و ٢٦٤ ، سنن البيهقي ٥ : ١١٦ ، المستدرك ـ للحاكم ـ ١ : ٤٦٣ بتفاوت يسير .
(٤) المغني ٣ : ٤٤٣ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤١ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٧٢ ، المجموع ٨ : ١٢٠ .
(٥) المغني ٣ : ٤٤١ ، سنن الترمذي ٣ : ٢٣٢ / ٨٨٥ ، سنن أبي داود ٢ : ١٩١ / ١٩٢٤ .
(٦) التهذيب ٥ : ١٨٦ / ٦١٩ .
قال : « إذا ذهبت الحمرة من هاهنا » وأشار بيده إلىٰ المشرق وإلىٰ مطلع الشمس (١) .
مسألة ٥٣٥ : لو لم يتمكّن من الوقوف بعرفة نهاراً وأمكنه أن يقف بها ليلاً ولو قليلاً إلىٰ أن يطلع الفجر أو قبله ، وجب عليه ، وأجزأه إذا أدرك المشعر قبل طلوع الشمس يوم النحر ، ولا نعلم في ذلك خلافاً ؛ لما رواه العامّة أنّ النبي صلىاللهعليهوآله قال : ( وأتىٰ عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تمّ حجّه وقضىٰ تفثه ) (٢) .
ومن طريق الخاصّة : رواية الحلبي ـ الصحيحة ـ عن الصادق عليهالسلام ، قال : سألته عن الرجل يأتي بعد ما يفيض الناس من عرفات ، فقال : « إن كان في مهل حتىٰ يأتي عرفات من ليلته فيقف بها ثم يفيض فيدرك الناس في المشعر قبل أن يفيضوا فلا يتمّ حجّه حتىٰ يأتي عرفات ، وإن قدم وقد فاتته عرفات فليقف بالمشعر الحرام ، فإنّ الله تعالىٰ أعذر لعبده ، وقد تمّ حجّه إذا أدرك المشعر الحرام قبل طلوع الشمس وقبل أن يفيض الناس ، فإن لم يدرك المشعر الحرام فقد فاته الحجّ فليجعلها عمرة [ مفردة ] ، وعليه الحجّ من قابل » (٣) .
البحث الثالث : في الأحكام .
مسألة ٥٣٦ : الوقوف بعرفة ركن في الحجّ يبطل الحجّ بتركه عمداً ، عند علماء الإسلام .
__________________
(١) التهذيب ٥ : ١٨٦ / ٦١٨ .
(٢) تقدّمت الإشارة إلىٰ مصادره في ص ١٨٣ ، الهامش (٣) .
(٣) التهذيب ٥ : ٢٨٩ / ٩٨١ ، الاستبصار ٢ : ٣٠١ / ١٠٧٦ ، وما بين المعقوفين من المصدر .
روىٰ العامّة عن عبد الرحمن بن يعمر الدئلي (١) ، قال : أتيت رسول الله صلىاللهعليهوآله بعرفة ، فجاءه نفر من أهل نجد ، فقالوا : يا رسول الله كيف الحجّ ؟ قال : ( الحجّ عرفة ، فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جَمْع (٢) فقد تمّ حجّه ) وأمر رجلاً ينادي : الحجّ عرفة (٣) .
ومن طريق الخاصّة : قول الصادق عليهالسلام : « قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : أصحاب الأراك لا حجّ لهم » (٤) وإذا انتفىٰ الحجّ مع الوقوف بحدّ عرفة فمع عدم الوقوف أولىٰ .
ولو ترك وقوف عرفة سهواً أو لعذر ، تداركه ولو قبل الفجر من يوم النحر إذا علم أنّه يلحق المشعر قبل طلوع الشمس ، فإن لم يلحق عرفات إلّا ليلاً ولم يلحق المشعر إلّا بعد طلوع الشمس ، فقد فاته الحجّ .
روىٰ الحلبي ـ في الصحيح ـ أنّه سأل الصادقَ عليهالسلام : عن الرجل يأتي بعد ما يفيض الناس من عرفات ، فقال : « إن كان في مهل حتىٰ يأتي عرفات من ليلته فيقف بها ثم يفيض فيدرك الناس في المشعر قبل أن يفيضوا فلا يتمّ حجّه حتىٰ يأتي عرفات ، وإن قدم وقد فاتته عرفات فليقف
__________________
(١) في الطبعة الحجرية : عبد الرحمن بن نعيم الديلمي . وفي نسخة بدل منها وأيضاً في « ق ، ك » : عبد الرحمن بن نعم الديلمي ، وكذا في المغني لابن قدامة ، إلّا أنّ فيه : الديلي . وما أثبتناه من الطبقات ـ لابن سعد ـ ٧ : ٣٦٧ ، واُسد الغابة ٣ : ٣٢٨ ، وتهذيب التهذيب ٦ : ٢٧٠ / ٥٨٩ ، والإصابة ٢ : ٢٤٥ ، والمصادر الحديثية .
(٢) في « ق ، ك » والطبعة الحجرية : ليلة الحج . والصحيح ما أثبتناه من المصادر .
(٣) سنن أبي داود ٢ : ١٩٦ / ١٩٤٩ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٠٠٣ / ٣٠١٥ ، سنن الترمذي ٣ : ٢٣٧ / ٨٨٩ ، سنن النسائي ٥ : ٢٥٦ ، سنن البيهقي ٥ : ١٧٣ ، المغني ٣ : ٤٣٧ .
(٤) التهذيب ٥ : ٢٨٧ / ٩٧٦ ، الاستبصار ٢ : ٣٠٢ / ١٠٧٩ .
بالمشعر الحرام فإنّ الله تعالىٰ أعذر لعبده وقد تمّ حجّه إذا أدرك المشعر الحرام قبل طلوع الشمس وقبل أن يفيض الناس ، فإن لم يدرك المشعر الحرام فقد فاته الحجّ فليجعلها عمرة مفردة ، وعليه الحجّ من قابل » (١) .
مسألة ٥٣٧ : لعرفة وقتان : اختياري من زوال الشمس يوم عرفة إلىٰ غروبها ، واضطراري من الغروب إلىٰ طلوع الفجر من يوم النحر ، عند علمائنا .
ووافقنا الشافعي في المبدأ وأنّه يدخل بزوال الشمس يوم عرفة ، وخالفنا في آخره ، فجعله طلوع الفجر يوم النحر (٢) .
فلو اقتصر علىٰ الوقوف ليلاً ، كان مدركاً للحجّ علىٰ المذهب المشهور عندهم (٣) .
ولهم ثلاثة أوجه ، أحدها ـ وهو الصحيح عندهم ـ : أنّ المقتصر علىٰ الوقوف ليلاً مدرك ، سواء أنشأ الإحرام قبل ليلة العيد أو فيها . والثاني : أنّه ليس بمدرك علىٰ التقديرين . والثالث : أنّه يدرك بشرط تقديم الإحرام عليها (٤) .
ولو اقتصر علىٰ الوقوف نهاراً ، صحّ وقوفه بالإجماع .
مسألة ٥٣٨ : يجب أن يقف إلىٰ غروب الشمس بعرفة ، فإن أفاض قبله عامداً ، وجب عليه بدنة ، فإن عجز عن البدنة ، صام ثمانية عشر يوماً
__________________
(١) التهذيب ٥ : ٢٨٩ / ٩٨١ ، الاستبصار ٢ : ٣٠١ / ١٠٧٦ .
(٢) الحاوي الكبير ٤ : ١٧٢ ، فتح العزيز ٧ : ٣٦٣ ، حلية العلماء ٣ : ٣٣٧ ، المهذب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢٣٣ ، المجموع ٨ : ١٠١ و ١٢٠ ، شرح السنّة ـ للبغوي ـ ٤ : ٣١٩ و ٤٠٩ .
(٣) فتح العزيز ٧ : ٣٦٣ .
(٤) فتح العزيز ٧ : ٣٦٣ .
بمكّة أو في الطريق أو في أهله ، وصحّ حجّه ، عند علمائنا ، وبه قال ابن جُريج والحسن البصري (١) .
وقال باقي العامّة ـ إلّا مالكاً ـ : يجب عليه دم (٢) .
وللشافعي قول باستحباب الدم (٣) .
وقال مالك : يبطل حجّه (٤) .
لنا علىٰ صحّة الحجّ : ما رواه العامّة عن عروة بن مضرّس بن أوس ابن حارثة بن لامٍ الطائي ، قال : أتيت رسول الله صلىاللهعليهوآله بمزدلفة حين خرج إلىٰ الصلاة ، فقلت : يا رسول الله إنّي جئت من جبلي طيِّء ، أكللت راحلتي ، وأتعبت نفسي ، والله ما تركت من جبل إلّا وقفت عليه ، فهل لي حجّ ؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : ( مَنْ شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتىٰ ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تمّ حجّه وقضىٰ تفثه ) (٥) .
ومن طريق الخاصّة : ما رواه محمد بن سنان عن الكاظم عليهالسلام ، قال : سألته عن الذي إن أدركه الإنسان فقد أدرك الحجّ ، فقال : « إذا أتىٰ جَمْعاً والناس في المشعر الحرام قبل طلوع الشمس فقد أدرك الحجّ ولا عمرة له ،
__________________
(١) الاستذكار ١٣ : ٣٠ ، المغني ٣ : ٤٤٢ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٤ .
(٢) الاُمّ ٢ : ٢١٢ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢٣٣ ، المجموع ٨ : ١٠٢ و ١١٩ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٧٤ ، الاستذكار ١٣ : ٢٩ ـ ٣٠ ، المغني ٣ : ٤٤٢ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٤ ، المبسوط ـ للسرخسي ـ ٤ : ٥٥ ـ ٥٦ ، حلية العلماء ٣ : ٣٣٩ .
(٣) الحاوي الكبير ٤ : ١٧٤ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢٣٣ ، المجموع ٨ : ١٠٢ ، حلية العلماء ٣ : ٣٣٩ .
(٤) بداية المجتهد ١ : ٣٤٨ ، الاستذكار ١٣ : ٢٩ ، المغني ٣ : ٤٤١ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٣ ، فتح العزيز ٧ : ٣٦٤ .
(٥) سنن الترمذي ٣ : ٢٣٨ ـ ٢٣٩ / ٨٩١ ، سنن أبي داود ٢ : ١٩٦ / ١٩٥٠ ، سنن النسائي ٥ : ٢٦٣ ـ ٢٦٤ ، سنن البيهقي ٥ : ١٧٣ .
وإن أدرك جَمْعاً بعد طلوع الشمس فهي عمرة مفردة ولا حجّ له ، فإن شاء أن يقيم بمكّة أقام ، وإن شاء أن يرجع إلىٰ أهله رجع ، وعليه الحجّ من قابل » (١) .
احتجّ مالك : بما رواه ابن عمر : أنّ النبي صلىاللهعليهوآله قال : ( مَنْ أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحجّ ، ومَنْ فاته عرفات بليل فقد فاته الحجّ ، فليحلّ بعمرة ، وعليه الحجّ من قابل ) (٢) .
والجواب : إنّما خصّ الليل لأنّ الفوات يتعلّق به إذا كان يوجد بعد النهار فهو آخر وقت الوقوف ، كقوله صلىاللهعليهوآله : ( مَنْ أدرك ركعةً من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها ) (٣) .
وعلىٰ وجوب البدنة : ما رواه العامّة عن النبي صلىاللهعليهوآله قال : ( مَنْ ترك نسكاً فعليه دم ) (٤) . والأحوط البدنة ؛ لحصول يقين البراءة معها .
ومن طريق الخاصّة : ما رواه ضريس عن الباقر عليهالسلام ، قال : سألته عمّن أفاض من عرفات قبل أن تغيب الشمس ، قال : « عليه بدنة ينحرها يوم النحر ، فإن لم يقدر صام ثمانية عشر يوماً بمكّة أو في الطريق أو في أهله » (٥) .
ولو أفاض قبل الغروب ساهياً ، لم يكن عليه شيء ، وكذا الجاهل ؛ لأصالة البراءة .
__________________
(١) الاستبصار ٢ : ٣٠٣ / ١٠٨٢ ، والتهذيب ٥ : ٢٩٠ / ٩٨٤ .
(٢) المغني ٣ : ٤٤١ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٣ .
(٣) المغني ٣ : ٤٤٢ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٤ .
(٤) أورده الرافعي في فتح العزيز ٧ : ٣٦٤ ، والشيرازي في المهذّب ١ : ٢٣٣ ، والماوردي في الحاوي الكبير ٤ : ١٧٤ ، وابنا قدامة في المغني ٣ : ٣٩٦ والشرح الكبير ٣ : ٣٩٨ .
(٥) الكافي ٤ : ٤٦٧ ـ ٤٦٨ / ٤ ، التهذيب ٥ : ١٨٦ / ٦٢٠ .
ولقول الصادق عليهالسلام في رجل أفاض من عرفات قبل غروب الشمس ، قال : « إذا كان جاهلاً فلا شيء عليه ، وإن كان متعمّداً فعليه بدنة » (١) .
مسألة ٥٣٩ : لو أفاض قبل الغروب عامداً عالماً ثم عاد إلىٰ الموقف نهاراً فوقف حتىٰ غربت الشمس ، فلا دم عليه ـ وبه قال مالك والشافعي تفريعاً علىٰ الوجوب عنده ، وأحمد (٢) ـ لأنّه أتىٰ بالواجب ، وهو الجمع بين الوقوف في الليل والنهار ، فلم يجب عليه دم ، كمن تجاوز الميقات وهو [ غير ] (٣) مُحْرم ثم رجع فأحرم منه .
ولأنّ الواجب عليه الوقوف حالة الغروب وقد فعله .
ولأنّه لو لم يقف أوّلاً ثم أتىٰ قبل غروب الشمس ووقف حتىٰ تغرب الشمس ، لم يجب عليه شيء ، كذا هنا .
وقال الكوفيّون وأبو ثور : عليه دم (٤) .
ولو كان عوده بعد الغروب ، لم يسقط عنه الدم ـ وبه قال أحمد (٥) ـ لأنّ الواجب عليه الوقوف حالة الغروب وقد فاته .
وقال الشافعي : يسقط الدم (٦) .
__________________
(١) التهذيب ٥ : ١٨٧ / ٦٢١ .
(٢) فتح العزيز ٧ : ٣٦٣ ـ ٣٦٤ ، المجموع ٨ : ١٠٢ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٧٤ ، الاستذكار ١٣ : ٢٩ ، المغني ٣ : ٤٤٢ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٤ .
(٣) أضفناها لأجل السياق .
(٤) المغني ٣ : ٤٤٢ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٤ ، الاستذكار ١٣ : ٣٠ ، شرح السنّة ـ للبغوي ـ ٤ : ٣٢١ .
(٥) المغني ٣ : ٤٤٢ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٤ ، فتح العزيز ٧ : ٣٦٤ ، حلية العلماء ٣ : ٣٣٩ .
(٦) الاُم ٢ : ٢١٢ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٧٤ ، فتح العزيز ٧ : ٣٦٤ و ٣٦٦ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢٣٣ ، المجموع ٨ : ١٠٢ و ١١٩ ، حلية العلماء ٣ : ٣٣٩ .
ولو فاته الوقوف بعرفة نهاراً وجاء بعد غروب الشمس ووقف بها ، صحّ حجّه ، ولا شيء عليه إجماعاً ؛ لقول النبي صلىاللهعليهوآله : ( مَنْ أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحجّ ) (١) .
ويجوز له أن يدفع من عرفات أيّ وقت شاء ، ولا دم عليه إجماعاً .
لا يقال : إنّه وقف أحد الزمانين ، فوجب الدم ، كما قلتم إذا وقف نهاراً وأفاض قبل الليل .
لأنّا نقول : الفرق : أنّ مَنْ أدرك النهار أمكنه الوقوف إلىٰ الليل والجمع بين الليل والنهار ، فتعيّن ذلك عليه ، فإذا تركه ، لزمه الدم ، ومَنْ أتاها ليلاً لا يمكنه الوقوف نهاراً ، فلم يتعيّن عليه ، فلا يجب الدم بتركه .
مسألة ٥٤٠ : لو غمّ الهلال ليلة الثلاثين من ذي القعدة ، فوقف الناس تاسع ذي الحجة ، ثم قامت البيّنة أنّه العاشر ، فالوجه : فوات الحجّ إذا لم يتّفق له الحضور بعرفة ولا المشعر قبل طلوع الشمس ؛ لقوله عليهالسلام : ( الحجّ عرفة ) (٢) ولم يدركها .
وقال الشافعي : يجزئهم ؛ لقول النبي صلىاللهعليهوآله : ( حجّكم يوم تحجّون ) .
ولأنّ ذلك لا يؤمن مثله في القضاء مع اشتماله علىٰ المشقّة العظيمة الحاصلة من السفر الطويل وإنفاق المال الكثير (٣) .
قال : ولو وقفوا يوم التروية ، لم يجزئهم ؛ لأنّه لا يقع فيه الخطأ ؛ لأنّ نسيان العدد لا يتصوّر من العدد الكثير ـ والعدد القليل يعذرون في ذلك ـ
__________________
(١) أورده ابنا قدامة في المغني ٣ : ٤٤٢ ، والشرح الكبير ٣ : ٤٤٤ .
(٢) سنن ابن ماجة ٢ : ١٠٠٣ / ٣٠١٥ ، سنن الترمذي ٣ : ٢٣٧ / ٨٨٩ ، سنن النسائي ٥ : ٢٥٦ ، سنن البيهقي ٥ : ١٧٣ ، سنن الدارقطني ٢ : ٢٤٠ ـ ٢٤١ / ١٩ .
(٣) فتح العزيز ٧ : ٣٦٤ ـ ٣٦٥ ، المجموع ٨ : ٢٩٢ .
لأنّهم مفرطون ، ويأمنون ذلك في القضاء (١) .
ولو شهد اثنان عشيّة عرفة برؤية الهلال ولم يبق من النهار والليل ما يمكن الإتيان إلىٰ عرفة ، اجتزأ بالمزدلفة .
وقال الشافعي : يقفون من الغد (٢) .
ولو أخطأ الناس أجمع في العدد فوقفوا غير يوم (٣) عرفة ، لم يجزئهم .
وقال بعض العامّة : يجزئهم ؛ لأنّ النبي صلىاللهعليهوآله قال : ( يوم عرفة الذي يعرف الناس فيه ) (٤) (٥) .
وإن اختلفوا فأصاب بعضهم وأخطأ بعض ، لم يجزئهم ؛ لأنّهم غير معذورين في هذا .
ولو شهد واحد أو اثنان برؤية هلال ذي الحجّة وردّ الحاكم شهادتهما ، وقفوا يوم التاسع علىٰ وفق رؤيتهم وإن وقف الناس يوم العاشر عندهما ، وبه قال الشافعي (٦) .
وقال محمد بن الحسن : لا يجزئه حتىٰ يقف مع الناس يوم العاشر (٧) ؛ لأنّ الوقوف لا يكون في يومين ، وقد ثبت في حقّ الجماعة يوم العاشر .
__________________
(١) اُنظر : فتح العزيز ٧ : ٣٦٦ ، المجموع ٨ : ٢٩٣ .
(٢) فتح العزيز ٧ : ٣٦٥ ، المجموع ٨ : ٢٩٢ .
(٣) في « ق ، ك » والطبعة الحجرية : ليلة . والصحيح ما أثبتناه .
(٤) سنن الدارقطني ٢ : ٢٢٣ ـ ٢٢٤ / ٣٣ ، سنن البيهقي ٥ : ١٧٦ .
(٥) فتح العزيز ٧ : ٣٦٤ ـ ٣٦٥ .
(٦) فتح العزيز ٧ : ٣٦٦ ، المجموع ٨ : ٢٩٢ ، حلية العلماء ٣ : ٣٣٩ .
(٧) المجموع ٨ : ٢٩٢ ، حلية العلماء ٣ : ٢٣٩ .
ونمنع كونه لا يقع في يومين مطلقاً ؛ لإمكانه بالنسبة إلىٰ شخصين ؛ لاختلاف سبب الوجوب في حقّهما ، والأصل فيه أنّ الوقوف في نفس الأمر واحد وتعدّد بالاشتباه ، كالصلاة المنسيّة .
تذنيب : لو غلطوا في المكان فوقفوا بغير عرفة ، لم يصحّ حجّهم .
* * *
الفصل الثالث في الوقوف بالمشعر الحرام
وفيه مباحث :
الأوّل : في مقدّماته
مسألة ٥٤١ : إذا غربت الشمس في عرفات ، فليفض منها قبل الصلاة إلىٰ المشعر ويدعو بالمنقول ، ويستحب أن يقتصد في السير ، فيسير سيراً جميلاً بسكينة ووقار ، ويستغفر الله تعالىٰ ويكثر منه ؛ لما رواه العامّة عن جعفر الصادق عليهالسلام عن أبيه عليهالسلام عن جابر عن النبي صلىاللهعليهوآله ـ في حديث طويل ـ : حتىٰ دفع وقد شنق القصواء (١) بالزِّمام حتىٰ أنّ رأسها ليُصيب مَوْرِك رحله (٢) ويقول بيده اليمنىٰ : ( أيّها الناس السكينة السكينة ) (٣) .
ومن طريق الخاصّة : قول الصادق عليهالسلام ـ في الصحيح ـ : « إذا غربت الشمس فأفض مع الناس وعليك السكينة والوقار ، وأفض من حيث أفاض الناس واستغفر الله إنّ الله غفور رحيم ، فإذا انتهيت إلىٰ الكثيب الأحمر عن
__________________
(١) يقال : شنقت البعير : إذا كففته بزمامه وأنت راكب . والقصواء لقب ناقة رسول الله صلىاللهعليهوآله . النهاية ـ لابن الأثير ـ ٢ : ٥٠٦ و ٤ : ٧٥ « شنق » « قصا » .
(٢) المَوْرِك : المرفقة التي تكون عند قادمة الرَّحْل يضع الراكب رجله عليها ليستريح من وضع رجله في الركاب . أراد أنّه كان قد بلغ في جذب رأسها إليه ليكفّها عن السير . النهاية ـ لابن الأثير ـ ٥ : ١٧٦ ـ ١٧٧ « ورك » .
(٣) صحيح مسلم ٢ : ٨٩٠ ـ ٨٩١ / ١٢١٨ ، سنن أبي داود ٢ : ١٨٥ ـ ١٨٦ / ١٩٠٥ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٠٢٦ / ٣٠٧٤ ، سنن الدارمي ٢ : ٤٨ .
يمين الطريق فقُل (١) : اللّهم ارحم موقفي » (٢) الحديث .
مسألة ٥٤٢ : لا ينبغي أن يلبّي في سيره ؛ لما تقدّم (٣) من أنّ الحاج يقطع التلبية يوم عرفة ، خلافاً لأحمد ؛ فإنّه استحبّها (٤) .
ويستحب أن يمضي علىٰ طريق المأزمين ؛ لأنّ النبي صلىاللهعليهوآله سلكها (٥) .
ويستحب له الإكثار من ذكر الله تعالىٰ .
قال عزّ وجلّ : ( فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ) (٦) .
ويستحب له أن يصلّي المغرب والعشاء بالمزدلفة وإن ذهب ربع الليل أو ثلثه ، بإجماع العلماء .
ورواه العامّة عن جعفر الصادق عليهالسلام عن أبيه عليهالسلام عن جابر أنّ النبي صلىاللهعليهوآله جمع بمزدلفة (٧) .
ومن طريق الخاصّة : قول أحدهما عليهماالسلام ـ في الصحيح ـ : « لا تصلّ المغرب حتىٰ تأتي جَمْعاً وإن ذهب ثلث الليل » (٨) .
مسألة ٥٤٣ : يستحب أن يؤذّن للمغرب ويُقيم ويصلّيها ثم يُقيم للعشاء من غير أذان ويصلّيها ، عند علمائنا ـ وهو أحد أقوال الشافعي ،
__________________
(١) في « ق ، ك » والطبعة الحجرية : « فإذا انتهىٰ . . . فليقل » وما أثبتناه من المصدر .
(٢) التهذيب ٥ : ١٨٧ / ٦٢٣ .
(٣) تقدّم في المسألة ٥٣٢ .
(٤) المغني ٣ : ٤٤٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٥ .
(٥) الحاوي الكبير ٤ : ١٧٦ ، المغني ٣ : ٤٤٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٥ .
(٦) البقرة : ١٩٨ .
(٧) صحيح مسلم ٢ : ٨٩١ / ١٢١٨ ، سنن أبي داود ٢ : ١٨٦ / ١٩٠٥ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٠٢٦ / ٣٠٧٤ ، سنن البيهقي ٥ : ١٢١ .
(٨) التهذيب ٥ : ١٨٨ / ٦٢٥ ، الاستبصار ٢ : ٢٥٤ / ٨٩٥ .
واختاره أبو ثور وابن المنذر وأحمد في إحدىٰ الروايات (١) ـ لما رواه العامّة عن الصادق جعفر بن محمد عليهماالسلام عن جابر في صفة حجّ رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وأنّه جمع بين المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين (٢) .
ومن طريق الخاصّة : قول الصادق عليهالسلام ـ في الصحيح ـ : « صلاة المغرب والعشاء بجَمْع بأذان واحد وإقامتين ، ولا تصلّ بينهما شيئاً » وقال : « هكذا صلّىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآله » (٣) .
وقال الشافعي : يقيم لكلّ صلاة إقامة (٤) . وهو رواية عن أحمد (٥) ، وبه قال إسحاق وسالم والقاسم بن محمد ، وهو قول ابن عمر (٦) .
وقال الثوري : يقيم للاُولىٰ من غير أذان ، ويصلّي الاُخرىٰ بغير أذان ولا إقامة (٧) . وهو مروي عن ابن عمر أيضاً وأحمد (٨) .
وقال مالك : يجمع بينهما بأذانين وإقامتين (٩) .
__________________
(١) الحاوي الكبير ٤ : ١٧٦ ، المجموع ٨ : ١٣٤ و ١٤٩ ، حلية العلماء ٣ : ٣٣٩ ، الاستذكار ٣ : ١٥٠ ، المغني والشرح الكبير ٣ : ٤٤٧ .
(٢) اُنظر المصادر في ص ١٩٤ ، الهامش (٧) .
(٣) التهذيب ٥ : ١٩٠ / ٦٣٠ ، الاستبصار ٢ : ٢٥٥ / ٨٩٩ .
(٤) الحاوي الكبير ٤ : ١٧٦ ، المجموع ٨ : ١٣٤ ، حلية العلماء ٣ : ٣٣٩ ، شرح السنّة ـ للبغوي ـ ٤ : ٣٢٩ ، المغني ٣ : ٤٤٧ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٦ ، الاستذكار ١٣ : ١٥٠ .
(٥) المغني ٣ : ٤٤٧ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٦ ، المجموع ٨ : ١٤٩ ، حلية العلماء ٣ : ٣٣٩ .
(٦) المغني ٣ : ٤٤٧ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٦ ، المجموع ٨ : ١٤٩ ، شرح السنّة ـ للبغوي ـ ٤ : ٣٢٩ .
(٧) شرح معاني الآثار ٢ : ٢١٤ ، المغني ٣ : ٤٤٧ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٦ ، الاستذكار ١٣ : ١٥٠ .
(٨) المغني ٣ : ٤٤٧ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٦ .
(٩) الكافي في فقه أهل المدينة : ١٤٣ ، الاستذكار ٣ : ١٥٠ ، المجموع ٨ : ١٤٩ ، شرح السنّة ـ للبغوي ـ ٤ : ٣٢٩ .
احتجّ أحمد : بما رواه اُسامة بن زيد ، قال : دفع رسول الله صلىاللهعليهوآله من عرفة حتىٰ إذا كان بالشعب نزل فبال ، ثم توضّأ ، فقلت له : الصلاة يا رسول الله ، فقال : ( الصلاة أمامك ) فركب فلمّا جاء مزدلفة نزل فتوضّأ فأسبغ الوضوء ثم اُقيمت الصلاة فصلّىٰ المغرب ثم أناخ كلّ إنسان بعيره في مبركه (١) ثم اُقيمت الصلاة فصلّىٰ ولم يصلّ بينهما (٢) (٣) .
واحتجّ الثوري : بما رواه ابن عمر ، قال : جمع رسول الله صلىاللهعليهوآله بين المغرب والعشاء بجَمْع ، صلّىٰ المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين بإقامة واحدة (٤) .
واحتجّ مالك : بأنّ عمر وابن مسعود أذّنا أذانين وإقامتين (٥) .
والجواب : أنّ روايتنا تضمّنت الزيادة ، فكانت أولىٰ ، وقول مالك مخالف للإجماع .
قال ابن عبد البرّ : لا أعلم فيما قاله مالك حديثاً مرفوعاً بوجه من الوجوه (٦) .
وأمّا عمر فإنّما أمر بالتأذين للثانية ؛ لأنّ الناس كانوا قد تفرّقوا لعشائهم ، فأذّن لجمعهم (٧) .
__________________
(١) في المصادر : منزله .
(٢) صحيح مسلم ٢ : ٩٣٩ / ١٢٨٠ ، صحيح البخاري ١ : ٤٧ ، سنن أبي داود ٢ : ١٩١ / ١٩٢٥ ، سنن البيهقي ٥ : ١٢٢ ، الموطّأ ١ : ٤٠٠ ـ ٤٠١ / ١٩٧ ، شرح معاني الآثار ٢ : ٢١٤ .
(٣) المغني ٣ : ٤٤٧ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٦ .
(٤) صحيح مسلم ٢ : ٩٣٨ / ٢٩٠ ، المغني ٣ : ٤٤٧ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٦ .
(٥) المغني ٣ : ٤٤٧ ـ ٤٤٨ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٧ .
(٦) المغني ٣ : ٤٤٨ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٧ .
(٧) شرح معاني الآثار ٢ : ٢١١ ، الاستذكار ١٣ : ١٥٩ ، المغني ٣ : ٤٤٨ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٧ .
ولا ينبغي أن يصلّي بينهما شيئاً من النوافل إجماعاً ؛ لحديث جابر (١) واُسامة (٢) من طريق العامّة .
ومن طريق الخاصّة : قول عنبسة بن مصعب : قلت للصادق عليهالسلام : إذا صلّيت المغرب بجَمْع اُصلّي الركعات بعد المغرب ؟ قال : « لا ، صلّ المغرب والعشاء ثم تصلّي الركعات بَعْدُ » (٣) .
ولو صلّىٰ بينهما شيئاً من النوافل ، لم يكن مأثوماً ؛ لأنّ الجمع مستحبّ ، فلا يترتّب علىٰ تركه إثم .
وما رواه العامّة عن ابن مسعود أنّه كان يتطوّع بينهما ، ورواه عن النبي صلىاللهعليهوآله (٤) .
ومن طريق الخاصّة : قول أبان بن تغلب ـ في الصحيح ـ : صلّيت خلف الصادق عليهالسلام المغرب بالمزدلفة ، فقام فصلّىٰ المغرب ثم صلّىٰ العشاء الآخرة ولم يركع فيما بينهما ، ثم صلّيت خلفه بعد ذلك بسنة فلمّا صلّىٰ المغرب قام فتنفّل بأربع ركعات (٥) .
مسألة ٥٤٤ : لو ترك الجمع فصلّىٰ المغرب في وقتها ، والعشاء في وقتها ، صحّت صلاته ، ولا إثم عليه ، ذهب إليه علماؤنا ـ وبه قال عطاء وعروة والقاسم بن محمد وسعيد بن جبير ومالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأحمد وأبو يوسف وابن المنذر (٦) ـ لأنّ كلّ صلاتين جاز الجمع
__________________
(١) تقدّمت الإشارة إلىٰ مصادره في ص ١٩٤ ، الهامش (٧) .
(٢) تقدّمت الإشارة إلىٰ مصادره في ص ١٩٦ ، الهامش (٢) .
(٣) التهذيب ٥ : ١٩٠ / ٦٣١ ، الاستبصار ٢ : ٢٥٥ / ٩٠٠ .
(٤) المغني ٣ : ٤٤٨ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٧ .
(٥) التهذيب ٥ : ١٩٠ / ٦٣٢ ، الاستبصار ٢ : ٢٥٦ / ٩٠١ .
(٦) المغني ٣ : ٤٤٩ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٧ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٧٦ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢٣٣ ـ ٢٣٤ ، المجموع ٨ : ١٣٤ .
بينهما جاز التفريق بينهما ، كالظهر والعصر بعرفة .
وما تقدّم من الأخبار .
احتجّوا (١) بأنّ النبي صلىاللهعليهوآله جمع بين الصلاتين ، فكان نسكاً ، وقال : ( خذوا عنّي مناسككم ) (٢) .
ولأنّه قال عليهالسلام لاُسامة : ( الصلاة أمامك ) (٣) .
وهو محمول علىٰ الاستحباب ، لئلّا يقطع سيره .
ولو فاته مع الإمام الجمع ، جمع منفرداً إجماعاً ؛ لأنّ الثانية منهما تصلّىٰ في وقتها ، بخلاف الظهر مع العصر (٤) عند العامّة (٥) .
ولو عاقه في الطريق عائق وخاف أن يذهب أكثر الليل ، صلّىٰ في الطريق ؛ لئلّا يفوت الوقت ؛ لقول الصادق عليهالسلام ـ في الصحيح ـ : « لا بأس أن يصلّي الرجل المغرب إذا أمسىٰ بعرفة » (٦) .
وينبغي أن يصلّي نوافل المغرب بعد العشاء ، ولا يفصل بين الصلاتين ، ولو فَعَل ، جاز ، لكنّ الأوّل أولىٰ ؛ لرواية أبان (٧) .
وينبغي أن يصلّي قبل حطّ الرحال ؛ لأنّ النبي صلىاللهعليهوآله كذا فَعَل (٨) .
__________________
(١) كذا من غير سبق لذكر قول المخالف ، وفي المغني ٣ : ٤٤٩ والشرح الكبير ٣ : ٤٤٧ ورد هكذا : وقال أبو حنيفة والثوري : لا يجزئه ؛ لأنّ النبي صلىاللهعليهوآله جمع بين الصلاتين ، إلىٰ آخر ما جاء في المتن .
(٢) سنن البيهقي ٥ : ١٢٥ .
(٣) تقدّمت الإشارة إلىٰ مصادره في ص ١٩٦ ، الهامش (٢) .
(٤) كذا ، والأنسب : بخلاف العصر مع الظهر .
(٥) المغني ٣ : ٤٤٨ .
(٦) التهذيب ٥ : ١٨٩ / ٦٢٩ ، الاستبصار ٢ : ٢٥٥ / ٨٩٨ .
(٧) تقدّمت الرواية مع الإشارة إلىٰ مصدرها في ص ١٩٧ الهامش (٥) .
(٨)
صحيح البخاري ١ : ٤٧ ، صحيح مسلم ٢ : ٩٣٩ / ١٢٨٠ ، سنن أبي داود ٢ :
=
ويبيت تلك الليلة بمزدلفة ، ويكثر فيها من ذكر الله تعالىٰ والدعاء والتضرّع والابتهال إلىٰ الله تعالىٰ .
قال الصادق عليهالسلام ـ في الحسن ـ : « لا تجاوز الحياض ليلة المزدلفة وتقول : اللّهم هذه جَمْع » إلىٰ آخره ، قال عليهالسلام : « وإن استطعت أن تحيي تلك الليلة فافعل ، فإنّه بلغنا أنّ أبواب السماء لا تغلق تلك الليلة لأصوات المؤمنين ، لهم دويّ كدويّ النحل ، يقول الله عزّ وجلّ ثناؤه : أنا ربّكم وأنتم عبادي أدّيتم حقّي ، وحقٌّ عليَّ أن أستجيب لكم ، فيحطّ تلك الليلة عمّن أراد أن يحطّ عنه ذنوبه ، ويغفر لمن أراد أن يغفر له » (١) .
والمبيت بمزدلفة ليس ركناً وإن كان الوقوف بها ركناً ؛ لما رواه العامّة عن عروة بن مضرّس ، قال : أتيت النبي صلىاللهعليهوآله بجَمْع ، فقال : ( مَنْ صلّىٰ معنا هذه الصلاة وأتىٰ عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تمّ حجّه ) (٢) .
ولأنّه مبيت في مكان ، فلا يكون ركناً ، كالمبيت بمنىٰ .
وحكي عن الشعبي والنخعي أنّهما قالا : المبيت بمزدلفة ركن (٣) ؛ لقوله عليهالسلام : ( مَنْ ترك المبيت بالمزدلفة فلا حجّ له ) (٤) .
وجوابه ـ بعد تسليمه ـ أنّ المراد مَنْ لم يبت بها ولم يقف وقت
__________________
= ١٩١ / ١٩٢٥ ، شرح معاني الآثار ٢ : ٢١٤ ، سنن البيهقي ٥ : ١٢٢ ، الموطّأ ١ : ٤٠٠ ـ ٤٠١ / ١٩٧ .
(١) الكافي ٤ : ٤٦٨ ـ ٤٦٩ / ١ ، التهذيب ٥ : ١٨٨ ـ ١٨٩ / ٦٢٦ .
(٢) سنن أبي داود ٢ : ١٩٦ ـ ١٩٧ / ١٩٥٠ ، سنن النسائي ٥ : ٢٦٣ ـ ٢٦٤ ، سنن الترمذي ٣ : ٢٣٨ ـ ٢٣٩ / ٨٩١ ، سنن البيهقي ٥ : ١٧٣ .
(٣) المجموع ٨ : ١٥٠ ، المغني ٣ : ٤٥٠ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٩ .
(٤) أورده الرافعي في فتح العزيز ٧ : ٣٦٧ .
الوقوف ؛ جمعاً بين الأدلّة .
البحث الثاني : في الكيفيّة .
مسألة ٥٤٥ : يجب في الوقوف بالمشعر شيئان : النيّة ، لأنّه عبادة ، فلا يصحّ بدونها . وللآية (١) والأخبار (٢) .
ويشترط فيها التقرّب إلىٰ الله تعالىٰ ، ونيّة الوجوب ، وأنّ وقوفه لحجّة الإسلام أو غيرها .
الثاني : الوقوف بعد طلوع الفجر الثاني ، لما رواه العامّة أنّ النبي صلىاللهعليهوآله صلّىٰ الصبح حين تبيّن له الصبح (٣) .
قال جابر : إنّ النبي صلىاللهعليهوآله لم يزل واقفاً حتىٰ أسفر جدّاً (٤) .
ومن طريق الخاصّة : قول الصادق عليهالسلام : « أصبح علىٰ طهر بعد ما تصلّي الفجر فقف إن شئت قريباً من الجبل وإن شئت حيث تبيت (٥) » (٦) .
ولأنّ الكفّارة تجب لو أفاض قبل الفجر علىٰ ما يأتي ، وهي مرتّبة علىٰ الذنب .
وقال الشافعي : يجوز أن يدفع بعد نصف الليل ولو بجزء قليل (٧) .
__________________
(١) البيّنة : ٥ .
(٢) صحيح البخاري ١ : ٢ ، سنن أبي داود ٢ : ٢٦٢ / ٢٢٠١ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٤١٣ / ٤٢٢٧ ، سنن البيهقي ٧ : ٣٤١ ، أمالي الطوسي ٢ : ٢٠٣ .
(٣ و ٤) صحيح مسلم ٢ : ٨٩١ / ١٢١٨ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٠٢٦ / ٣٠٧٤ ، سنن أبي داود ٢ : ١٨٦ / ١٩٠٥ ، سنن البيهقي ٥ : ١٢٤ .
(٥) في الكافي : « حيث شئت » .
(٦) التهذيب ٥ : ١٩١ / ٦٣٥ ، الكافي ٤ : ٤٦٩ / ٤ .
(٧) الحاوي الكبير ٤ : ١٧٧ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢٣٤ ، المجموع ٨ : ١٣٥ ، فتح العزيز ٧ : ٣٦٧ ـ ٣٦٨ ، الاستذكار ١٣ : ٣٧ ، المغني ٣ : ٤٥١ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٩ .