أصول الفقه - ج ٩

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٩

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-82-9
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٠٢

في النهار ، والمقصود إبقاؤه هو وجوب نفس الصوم ـ إلى قوله ـ وأمّا بناءً على اعتباره بحسب نظر العرف فلا إشكال فيه ، كما أوضحناه فيما علّقناه على مباحث الاستصحاب من الكفاية ، فراجع (١).

فيمكن التأمّل فيه ، من جهة أنّه لم يكن الإشكال من ناحية أنّ المعلوم سابقاً هو وجوب الصوم في النهار ، وأنّ المقصود إبقاؤه هو وجوب نفس الصوم ، ليجاب عنه بالتسامح العرفي المذكور ، بل إنّ منشأ الإشكال هو أنّ المطلوب إحراز كون صومنا الفعلي صوماً في النهار ، بناءً على اعتبار الظرفية في المتعلّق ، كما قرّره في الصفحة السابقة ، فلاحظ.

والحاصل : أنّ هذه الجملة إنّما تقال في قبال من يريد إثبات وجوب نفس الصوم فعلاً استناداً إلى أنّ الوجوب كان متعلّقاً بالصوم في النهار ، فيورد عليه باختلاف المتيقّن مع المشكوك ، فإنّ المتيقّن السابق هو وجوب الصوم في النهار والمشكوك هو وجوب نفس الصوم فعلاً ، لا وجوب الصوم في النهار ، لعدم إحراز كون الآن الحاضر نهاراً ، أو لاحراز انقضاء النهار والشكّ في بقاء وجوب الصيام بعده ، كما سيأتي التعرّض له في من علم بوجوب القيام عليه نهاراً وقد انقضى النهار ولكنّه يحتمل بقاء وجوب القيام عليه في الليل أيضاً. وحينئذ يمكن الجواب عن هذا الإيراد : بأنّ المدار في الاتّحاد على النظر العرفي.

أمّا من يريد من استصحاب وجوب الصوم في النهار إثبات وجوب الصوم في هذا الآن المشكوك كونه نهاراً ، وأنّه بذلك يحرز القيد في هذا الصوم وهو كونه في النهار ، فمن الواضح أنّ هذه الجهة لا يصلحها التسامح العرفي وأنّ الاتّحاد المعتبر إنّما هو بالنظر العرفي لا بالنظر إلى لسان الدليل.

__________________

(١) مستمسك العروة الوثقى ٨ : ٣٩٥.

٤٠١

وأمّا ما أشار إليه ممّا أفاده في الحاشية على الكفاية ، فالظاهر أنّ المراد به ما أفاده في المجلّد الثاني في مسألة ما لو وجب القيام في النهار مثلاً وقد علم بانقضاء النهار وشكّ في بقاء الوجوب بعده ، فإنّ صاحب الكفاية قدس‌سره قيّد الرجوع في ذلك إلى استصحاب الوجوب بخصوص ما لم يؤخذ الزمان فيه إلاّظرفاً لثبوته لا قيداً مقوّماً لموضوعه الخ (١) وأجاب عنه بقوله : وفيه أنّ قيد الزمان كسائر القيود التي تؤخذ في موضوعات الأحكام لا يوجب انتفاؤه تعدّد الموضوع (٢) ، وقاس ذلك على مثال التغيّر والنجاسة وزوال التغيّر.

ومن الواضح أنّ هذا إنّما ينفع في تصحيح استصحاب التكليف بعد العلم بارتفاع الظرف الذي هو النهار مثلاً والشكّ في بقاء نفس وجوب الصوم بعده ، ولا دخل له بما عرفت من الإشكال الراجع إلى أنّ استصحاب الحكم المذكور لا يترتّب عليه الجهة المطلوبة ، أعني إحراز قيد الفعل المأمور به الذي هو مقارنته للزمان المذكور أو وقوعه فيه ، فلاحظ.

ثمّ إنّ قياس المسألة على مسألة التغيّر لعلّه مع الفارق ، لأنّ باب التسامح في مسألة التغيّر راجع إلى دعوى كون التغيّر علّة في النظر العرفي على ما عرفت تفصيله ، وباب التسامح في المسألة المذكورة ـ أعني القيام في النهار ـ راجع إلى دعوى التسامح العرفي في القيد الذي هو الزمان ، وأنّه من باب الظرفية الصرفة لا من باب القيدية.

ولو سلّمنا كون التسامح في المسألتين واحداً فهو غير مربوط بما نحن فيه ، لأنّ المفروض فيما نحن فيه أنّ الزمان قد أُخذ ظرفاً للصوم الواجب ، وأنّ الصوم

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٠٩.

(٢) حقائق الأُصول ٢ : ٤٦٤.

٤٠٢

المذكور مقيّد بكونه واقعاً في الزمان ، فدعوى عدم كونه قيداً خلاف المفروض في المسألة التي نحن فيها ، فلاحظ.

وعلى كلّ حال ، فإنّ تلك الجملة التي أفادها وهي قوله : ولا يقال عليه إنّ المعلوم الثبوت سابقاً هو وجوب الصوم في النهار ، والمقصود ابقاؤه هو وجوب نفس الصوم الخ ، وكذلك الجواب عنها بما هو راجع إلى

التسامح العرفي إنّما تناسب هذه المسألة ، وهي ما لو علم بوجوب القيام نهاراً وقد علم بانقضاء النهار وشكّ في استمرار الوجوب بعده ، فكان المتيقّن هو وجوب القيام في النهار والمشكوك هو بقاء وجوب نفس القيام ، ولا أخال هذه الجمل مناسبة لما نحن فيه ، فلاحظ.

قوله : فإنّ شيخنا مدّ ظلّه تعرّض للإشكال في المقام وأوعد الجواب عنه (١).

في الدورة الأخيرة أجاب قدس‌سره عن الإشكال المزبور بمنع كون الظرفية مأخوذة في متعلّق التكليف ، بل إنّ القيد هو الاجتماع مع الزمان المضروب ، فراجع ما حرّرته وحرّره عنه قدس‌سره في التقريرات المطبوعة في صيدا (٢) ، إلاّ أنه خلاف فرض الإشكال ، لأنّه إنّما توجّه الإشكال على فرض كون الواجب مقيّداً بالظرفية المزبورة ، فراجع وتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ الإشكال لا يتأتّى فيما يكون الزمان شرطاً في التكليف وإن قلنا بأنّ ما هو شرط للوجوب يكون شرطاً للواجب ، لأنّ شرطية الواجب حينئذ على حذو شرطية الوجوب الذي يكفي فيها مجرّد وجود الزمان وإن لم تثبت

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٣٩.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ١٠٦ ـ ١٠٧.

٤٠٣

بذلك الظرفية. ويمكن أن يقال : إنّ الزمان قيد للمكلّف ، وحينئذ يجري الاستصحاب في ناحية كونه في الزمان ، وهو كاف في حصول القيد المزبور.

ولا يخفى أنّ كلّ فعل واجب يكون مقيّداً بالزمان لابدّ أن يكون ذلك الزمان شرطاً في وجوب ذلك الفعل على ما حقّق في محلّه (١) من إبطال الواجب المعلّق ، وحينئذ نقول : إنّه عند الشكّ في بقاء ذلك الزمان نستصحب وجوده ، فيترتّب عليه وجوب ذلك الفعل ، ولا أثر للشكّ في صحّة ذلك الفعل الناشئ عن الشكّ في حصول قيده الذي هو وقوعه في ذلك الزمان ، إذ لا يترتّب أثر عملي على الفساد الآتي من هذه الناحية ، أعني ناحية عدم حصول القيد المذكور ، إذ على تقدير عدم حصول ذلك القيد لا يكون الوجوب متحقّقاً ، فعند استصحاب بقاء رمضان يجب صوم ذلك اليوم المشكوك ، ولا أثر للشكّ في صحّته من ناحية احتمال عدم وقوع ذلك الإمساك في رمضان ، إذ على تقدير هذا العدم لا يكون الصوم واجباً.

وبالجملة : أنّ كلّ قيد يكون احتمال عدمه ملازماً لعدم وجوب المقيّد لا أثر للشكّ في تحقّقه ، بعد فرض قيام الاستصحاب الموضوعي القاضي ببقاء الوجوب وإن لم يحرز به تحقّق قيد الواجب ، فلاحظ وتأمّل.

وهكذا الحال فيما لو كان أصل الوجوب محقّقاً ولكن كان الشكّ في وجوب تلك القطعة المشكوكة ، بأن كان عليه صوم يوم بنذر أو قضاء وقد صامه وإلى آخره شكّ في دخول الليل ، فإنّه يجب عليه بحكم استصحاب بقاء النهار استمرار الصوم في القطعة الأخيرة المشكوكة إلى أن يعلم دخول الليل ، ولا يضرّه عدم إحراز كون ذلك الصوم في القطعة المذكورة واقعاً في النهار ، لأنّه على تقدير

__________________

(١) راجع المجلّد الثاني من هذا الكتاب الصفحة : ٦٠ وما بعدها.

٤٠٤

عدم كونها من النهار لا يكون ذلك مخلاً في صحّة صومه فيما مضى ، ولا يكون إمساكه في القطعة الأخيرة إلاّ إمساكاً خارجاً عن ذلك اليوم ، فتأمّل.

وإن شئت فقل : إنّ قصده إلى الفعل بداعي ذلك الأمر الذي أحرزه باستصحاب بقاء الزمان كافٍ ، ولا يكون إحراز كون هذا الفعل مشتملاً على قيده المعتبر فيه ـ وهو وقوعه في الزمان الخاصّ ـ محتاجاً إليه في صحّة عمله المذكور لو صادف الوجوب الواقعي ، وإلاّ فلا وجوب في البين.

وهكذا الحال فيما لو شكّ في طلوع الشمس بالنسبة إلى صلاة الصبح مثلاً ، فإنّ استصحاب بقاء الوقت قاضٍ بوجوب الأداء ، ولا يضرّه عدم إحرازه القيد الذي هو كون الصلاة واقعة في الوقت ، لأنّه على تقدير عدم ذلك لا يكون موجباً إلاّ لعدم صحّة نيّة الأداء ، فإن قلنا بأنّه من قبيل الخطأ في التطبيق صحّت صلاته ولا حاجة إلى القضاء ، وإن لم نقل بذلك لزمه القضاء ، وذلك أمر آخر لا دخل له بما هو المراد من أنّه عند الشكّ في بقاء الوقت كان يلزمه نيّة الأداء ، ولو بقي على شكّه ولم ينكشف له الحال لم يلزمه شيء ، وفيه تأمّل.

ولو قلنا بأنّه يلزمه القضاء لعدم إحرازه صحّة ما أتى به بنيّة الأداء ، لم يكن ذلك أيضاً مخلاً بما هو المراد المذكور ، فتأمّل.

وهكذا الحال فيما لو قلنا إنّ شرط الوجوب في صلاة الظهر والعصر هو الزوال ، وأنّ كونهما واقعين فيما بينه وبين المغرب هو شرط الواجب ، فإنّ هذا القيد لكونه غير اختياري يكون موجباً لأن يكون وجود ذلك الزمان المستمرّ من الزوال إلى الغروب شرطاً في الوجوب.

وإن شئت فقل : إنّ حدوث ذلك الزمان شرط في حدوث الوجوب ، وبقاءه شرط في بقاء ذلك.

٤٠٥

وأمّا ما في المستمسك (١) من كون النهار عبارة عن حركة الشمس وسيرها من المشرق إلى المغرب ، وهو لا يصلح لظرفية الإمساك ، وإنّما يصلح للمقارنة مع الإمساك ، نظير مقارنة الطهارة للصلاة ، وهما معاً مظروفان للأمد الموهوم ، ففيه أوّلاً : المنع من كون النهار بمعنى تلك الحركة ، وإنّما هو عبارة عن أمدها. وثانياً : لو سلّمنا كونه بمعنى نفس تلك الحركة فلا أقل من كونه ـ أعني الامساك ـ مظروفاً للأمد الذي هو ظرف لهما ، كما يعطيه قوله : فمعنى قوله صم في النهار ، صم في زمان فيه النهار (٢) وحينئذ لا يكون استصحاب النهار بمعنى تلك الحركة كافياً في تحقّق القيد المذكور ، أعني كون الامساك واقعاً في الزمان الخاصّ ، أعني الزمان الذي فيه النهار.

اللهمّ إلاّ أن يكون المراد هو أنّ القيد المأخوذ في فعل المكلّف هو مقارنته لحركة الشمس من المشرق إلى المغرب ، وهما معاً مظروفان للأمد الموهوم ، إلاّ أنّ هذه الظرفية قهرية ولم تكن مأخوذة قيداً في فعل المكلّف. وفيه تأمّل ، لأنّ المدار على النظر العرفي لا الدقّة. ولعلّ ما أفاده شيخنا قدس‌سره فيما حرّره عنه السيّد من هذا القبيل ، فإنّه قال : ويمكن أن يؤخذ بنحو مفاد كان الناقصة ، بأن تعتبر الظرفية وحيثية وقوع العبادة فيه الخ (٣) فراجعه.

ولا يخفى أنّا لو أخذنا الزمان الخاصّ قيداً في الفعل الواجب على نحو الظرفية ، بأن كان الواجب هو الفعل الواقع في الزمان الخاصّ ، فاستصحاب بقاء الزمان الخاصّ لا ينقّح لنا هذا القيد أعني وقوع الفعل فيه ، لأنّ استصحاب وجود

__________________

(١) مستمسك العروة الوثقى ٨ : ٣٩٤ ، ٤٧٣.

(٢) مستمسك العروة الوثقى ٨ : ٤٧٣.

(٣) أجود التقريرات ٤ : ١٠٧.

٤٠٦

الزمان الخاصّ بمفاد كان التامّة لا يوجب كون هذا الآن الذي نحن فيه هو ذلك الزمان الخاصّ كي يكون فعلنا واقعاً في ذلك الزمان الخاصّ ، وهذا هو أصل الإشكال.

وهذه الجهة من الإشكال غير مبنية على دعوى كون ذلك الزمان الخاصّ صفة للفعل كي يجاب عنها بقوله : إذ ليس الزمان والعبادة من قبيل العرض ومحلّه الخ (١) بل هي مبنية على أخذ الزمان المذكور ظرفاً للفعل الواجب ، واستصحاب وجود ذلك الزمان بمفاد كان التامّة لا ينقّح الظرفية المذكورة ، بل لابدّ من إثبات أنّ هذا الزمان الذي نحن فيه هو ذلك الزمان الخاصّ ، كي يكون إيقاع فعلنا في هذا الآن الذي نحن فيه إيقاعاً له في ذلك الزمان الخاصّ ، وحينئذ لابدّ في إجراء الاستصحاب في ذلك من دعوى استصحاب اتّصاف هذا الآن الذي نحن فيه بأنّه هو ذلك الزمان ، بأن نقول إنّ هذا الآن آن نهاري مثلاً ، ولا أصل في البين يحرز لنا هذا المفاد الذي هو مفاد كان الناقصة ، وليس استصحاب وجود النهار بمفاد كان التامّة لإثبات كون هذا الآن الذي نحن فيه نهاراً إلاّمن قبيل استصحاب وجود الإنسان في هذه الغرفة لإثبات كون هذا الحيوان الموجود فيها فعلاً إنساناً.

والذي تلخّص : هو أنّه لا مخلص من هذا الإشكال إلاّبانكار قيدية الظرفية وأخذ القيد مجرّد الاجتماع ، أعني اجتماع فعلنا مع وجود النهار بمفاد كان التامّة. نعم بعد تمامية ما قدّمناه من كون تقيّد الفعل بوقوعه مظروفاً للنهار موجباً لكون وجوبه مشروطاً بذلك ، لا يبقى للشكّ في صحّة هذا الفعل لو أوقعناه في هذا الآن المشكوك كونه نهاراً أثر ، لما عرفت من أنّ فساده حينئذ ملازم لعدم وجوبه على

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١٠٧.

٤٠٧

ما عرفت تفصيله فلاحظ ، بل لو لم نقل بأنّ الوجوب مشروط لم يكن أثر لفساد الفعل ، إذ لا ريب في عدم وجوب الزائد على القيد المذكور ، أعني الامساك من أوّل الفجر إلى الغروب.

وإن شئت فقل : إنّه لا دليل على لزوم إحراز الشرط ، وإنّما الواجب هو الاتيان بالعمل واجداً للشرط وإن لم يكن الشرط حين العمل محرزاً. نعم في مورد يكون الشكّ في حصول الشرط موجباً للشكّ في حصول الامتثال كما فيما لا يكون ذلك الشرط شرطاً في نفس التكليف أيضاً ، فإنّه يكون العقل حاكماً بلزوم إحرازه ، لأنّ شغل الذمّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، حذراً من اتّفاق فقدان الشرط الموجب لفساد العمل مع فرض بقاء التكليف الموجب لاستحقاق العقاب ، ومن الواضح أنّ هذا المعنى ـ وهو الفرار من احتمال العقاب على تقدير مصادفة انعدام الشرط ـ لا يتأتّى فيما نحن فيه.

وبالجملة : أنّ قاعدة شغل الذمّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني إنّما تقتضي لزوم إحراز الشرط في المورد الذي يتوقّف فيه الفراغ اليقيني على إحراز الشرط ، أمّا لو لم يتوقّف الفراغ اليقيني على لزوم إحراز الشرط ، فلا يكون في البين ما يوجب إحرازه.

نعم ، إنّ هذه الطريقة لا تأتي في الحكم التحريمي أو الجواز ، كما لو فرضنا أنّ دخول يوم الجمعة كان شرطاً في حرمة الاكتساب والبيع على نحو ما دام ، وكان البيع المحرّم هو البيع الواقع في يوم الجمعة ، فيكون الحاصل أنّه إذا دخل يوم الجمعة فما دام اليوم موجوداً يحرم البيع الموجود في ذلك اليوم ، فلو شكّ في بقاء اليوم جرى استصحابه القاضي ببقاء حرمة البيع في يوم الجمعة ، لكنّه لا يوجب الحكم على هذا البيع الذي يوجده الآن بالحرمة ، لعدم إحراز قيد الفعل

٤٠٨

المحرّم وهو كونه في يوم الجمعة ، ولعلّه يمكنه حينئذ الرجوع في ذلك البيع الذي يوجده الآن إلى أصالة البراءة.

وهكذا الحال فيما لو قلنا بأنّ دخول الليل شرط في حلّية الأكل على نحو ما دام ، ولكن يكون الأكل الحلال مقيّداً بكونه واقعاً في الليل ، فإنّه بعد أن لم يكن استصحاب بقاء الليل قاضياً بحلّية الأكل الواقع في الآن المشكوك ، يمكنه الرجوع فيه إلى أصالة البراءة. لكن هذه فروض لا أساس لها ، فإنّ أقصى ما في البين هو كون حلّية الأكل مشروطة بدخول الليل ، وتبقى هذه الحلّية مستمرّة إلى دخول الفجر كما هو ظاهر الآية الشريفة ، وذلك قوله تعالى : ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ )(١) وسيأتي (٢) إن شاء الله تعالى توضيح الجواب وأنّه يستحيل تقييد الوجوب بالنهار مثلاً بنحو ما دام مع تقييد الصوم الواجب بكونه واقعاً في النهار أو كونه نهارياً أو كونه مقارناً لوجود النهار ، لأن التقييد الأوّل يوجب لغوية التقييد الثاني ، والتقييد الثاني لا يغني عن التقييد الأوّل وإن كان لازماً له ، بمعنى أنّ الشارع إذا أوجد التقييد الثاني فلابدّ له من التقييد الأوّل ، وحينما يشرّع يشرّعهما معاً ، لا أنّه يشرّع الثاني فيراه محتاجاً إلى الأوّل فيشرّعه.

وحينئذ نقول : إنّه إذا شرّعهما معاً كان التشريع الثاني لغواً ، وحينئذ فلا يكون لنا في هذا النحو من الموقتات إلاّ التشريع الأوّل من دون التشريع الثاني ، فلا يكون الفعل الواجب مقيّداً شرعاً بشيء وإن كان تحقّقه في النهار قهرياً ، وسيأتي توضيح ذلك إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٨٧.

(٢) في الصفحة : ٤١٦ ـ ٤١٨.

٤٠٩

نعم ، هنا مطلب آخر تعرّض له شيخنا قدس‌سره في الواجب المعلّق (١) وفي مباحث الواجب الموقت وغيره من المباحث ، وهو أنّ شرطية الزمان في الوجوب فيما تكون المصلحة متقوّمة بالفعل المقيد به ، تكون موجبة لتقيّد الوجوب به خطاباً لا ملاكاً ، بخلاف ما لو كان الزمان دخيلاً في المصلحة فإنّها تكون موجبة لتقييد الوجوب به خطاباً وملاكاً ، لكن هذا المقدار من الفرق لا يضرّ بالجهة التي نحن بصددها ، من أنّه مع تقيّد الوجوب بالزمان سواء كان خطاباً فقط أو كان خطاباً وملاكاً ، يكون موجباً للغوية تقييد الفعل الواجب بالوقوع في ذلك الزمان.

قول السيّد سلّمه الله : إنّ الزمان إذا كان متمحّضاً في الشرطية للحكم فلا محالة يكون مأخوذاً بنحو مفاد كان التامّة ، إذ اعتبار وقوع العبادة في زمان مخصوص الذي هو مفاد كان الناقصة إنّما يكون متأخّراً عن التكليف وواقعاً في مرتبة الامتثال ، فكيف يعقل أن يكون شرطاً للتكليف المتقدّم عليه رتبة ، وعليه فلا إشكال في استصحابه وترتيب أثره الشرعي عليه (٢).

لا يخفى أنّ الزمان لو أُخذ شرطاً في التكليف يمكن أن يؤخذ بمفاد كان التامّة ، بأن يقال : إذا وجد النهار وجب الصوم ، فيجري فيه استصحاب وجود النهار عند الشكّ في بقائه. ويمكن أن يؤخذ بمفاد كان الناقصة شرطاً في التكليف ، بأن يقال : إذا كان الزمان نهاراً وجب الصوم ، ومثل هذا لا يجري فيه الاستصحاب. وأمّا كون الصوم واقعاً في النهار فهو ممّا لا ريب في امتناع أخذه شرطاً في وجوب الصوم ، لما أُفيد من أنّ كيفية وقوع المكلّف به لا يعقل أخذها شرطاً في التكليف ، وإنّما يمكن أخذها شرطاً في المكلّف به ، لكن ذلك ـ أعني

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٠٩.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ١٠٦.

٤١٠

كون الصوم واقعاً في النهار ـ مطلب آخر غير أخذ النهار بمفاد كان الناقصة أعني كون الزمان نهاراً شرطاً في التكليف.

نعم لو أُخذت هذه الجهة ـ أعني كون الصوم واقعاً في النهار ـ شرطاً في المكلّف لم يكن استصحاب وجود النهار بمفاد كان التامّة نافعاً في إحرازها ، بل يتوقّف إحرازها على استصحاب النهار بمفاد كان الناقصة ، بأن يقال كان الزمان نهاراً والآن كما كان ، وهذا الأصل لا أصل له ، وهذا هو عين الإشكال في استصحاب الزمان لأجل إحراز الظرفية المذكورة ، فلاحظ.

وحاصل الجواب عن الإشكال المذكور : هو أنّه لا ريب في أنّه قد أُخذ الزمان قيداً في الواجب الذي هو الصوم ، إلاّ أن أخذ الزمان قيداً في الصوم تارةً يكون من مجرّد الاجتماع مع الزمان في الوعاء الدهري ، وأُخرى يكون على وجه يكون الزمان ظرفاً للفعل الواجب ، وعلى الأوّل يكفي فيه استصحاب وجود النهار بمفاد كان التامّة ، بخلافه على الثاني فإنّه لا يكفي استصحاب النهار بمفاد كان التامّة ، بل لابدّ من استصحابه بمفاد كان الناقصة ، ولا أصل للاستصحاب المذكور حينئذ. وأمّا أخذ نفس الزمان بالنسبة إلى الفعل بمفاد كان الناقصة فهو غير معقول ، لعدم معقولية أخذ الزمان صفة للفعل لعدم كونهما من قبيل العرض ومحلّه ، إلاّ إذا أُخذ وصفاً بأن يقال إنّ الواجب هو الصوم النهاري.

ثمّ إنّ في التحرير المذكور بعض العبائر التي لا تخلو عن تسامح ، والأمر فيها سهل بعد وضوح المراد ، مثل قوله : ويمكن أن يؤخذ بنحو مفاد كان الناقصة ، بأن يعتبر الظرفية وحيثية وقوع العبادة فيه الخ (١) ، فإنّ الظرفية هي غير أخذ الزمان بمفاد كان الناقصة ، نعم لا ينفع في إحرازها إلاّ الاستصحاب بمفاد كان

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١٠٧.

٤١١

الناقصة ، فلاحظ.

ولا يخفى أنّ ملخّص هذا الجواب الذي نقله السيّد سلّمه الله هو عبارة أُخرى عن الجواب الذي نقله المرحوم الشيخ محمّد علي بقوله : اللهمّ إلاّ أن يدّعى أنّ أدلّة التوقيت لا تقتضي أزيد من اعتبار وقوع الفعل عند وجود وقته وإن لم يتحقّق معنى الظرفية الخ ، وأشكل عليه بقوله : هذا ولكن الظاهر أنّه لا سبيل إلى هذه الدعوى ، فإنّه لا يمكن إنكار دلالة أدلّة التوقيت على اعتبار الظرفية ووقوع الفعل في الزمان المضروب له ـ ثمّ قال : ـ وليكن هذا الإشكال على ذكر منك لعلّه يأتي بعد ذلك ما يمكن الذبّ عنه ، فإنّ شيخنا الأُستاذ ( مدّ ظلّه ) تعرّض للإشكال في المقام ، وأوعد الجواب عنه (١).

وحينئذ لابدّ أن يكون في البين جواب آخر غير هذا الجواب المشار إليه بقوله : اللهمّ إلاّ أن يدّعى ، الذي فصله السيّد سلّمه الله في تحريره الذي [ هو ] عين المشار إليه بقول الشيخ محمّد علي : اللهمّ إلاّ أن يدّعى.

والذي وجدته في تحريراتي هو أنّ شيخنا ( دام ظلّه ) ذكر أنّ هذا الإشكال ذكره الشيخ قدس‌سره في آخر التنبيهات ، وأوعد ( دام ظلّه ) أن يتعرّض له عند الوصول إلى ذلك المقام إن شاء الله تعالى.

ولا يخفى أنّ الشيخ قدس‌سره في هذا التنبيه المعقود لجريان الاستصحاب في الزمان والزماني وهو التنبيه الثاني في كلامه ـ بعد أن وجّه جريان الاستصحاب باعتبار الوحدة ـ قال : إلاّ أن هذا المعنى ـ على تقدير صحّته والإغماض عمّا فيه ـ لا يكاد يجدي في إثبات كون الجزء المشكوك فيه متّصفاً بكونه من النهار أو من الليل ، حتّى يصدق على الفعل الواقع فيه أنّه واقع في الليل أو النهار ، إلاّعلى

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٣٧ ـ ٤٣٩.

٤١٢

القول بالأصل المثبت مطلقاً أو على بعض الوجوه الآتية ـ إلى أن قال ـ فالأولى التمسّك في هذا المقام باستصحاب الحكم المرتّب على الزمان لو كان جارياً فيه ، كعدم تحقّق حكم الصوم والإفطار عند الشكّ في هلال رمضان أو شوال الخ (١).

ولا يخفى أنّ قوله : لا يكاد يجدي في إثبات الخ ، هو عين الإشكال المزبور ، فهو قدس‌سره إنّما ذكره في هذا التنبيه لا في مقام آخر الذي هو آخر التنبيهات أو غيره.

كما أنّ قوله قدس‌سره : فالأولى الخ ، إنّما هو إشارة إلى التمسّك باستصحاب عدم وجوب الصوم في الأوّل وعدم جواز الافطار في الثاني ، لا استصحاب وجوب الصوم في مثل الشكّ في بقاء النهار ، ومع ذلك قد قيّده هو قدس‌سره بقوله : لو كان جارياً فيه الخ ، ولعلّه احتراز ممّا ربما يتوجّه عليه ممّا أفاده هو بقوله : إلاّ أن جواز الافطار الخ ، فراجع تمام كلامه قدس‌سره.

ثمّ لا يخفى أنّ دعوى كون القيد هو مقارنة الصوم مع اليوم لا أنّ اليوم يكون ظرفاً للصوم ، وإن كانت مطابقة للدقّة ، حيث إنّه لا معنى لليوم إلاّمسير الشمس من المشرق إلى المغرب ، وهذا ليس من الظروف ، إلاّ أن العرف يرى المسألة من قبيل الظرف والمظروف ، والمتّبع في باب الاستصحاب وصدق اليقين والشكّ والبقاء إنّما هو النظر العرفي.

وأمّا قوله فيما تقدّم : فإن كان الزمان الجاري فيه الاستصحاب متمحّضاً في كونه شرطاً للحكم فقط من دون أن يكون قيداً للواجب ، إمّا من جهة كون الواجب موسّعاً ، أو من جهة كون وقوع الفعل فيه قهرياً ولو كان مضيّقاً من

__________________

(١) فرائد الأُصول ٣ : ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

٤١٣

دون الخ (١) ، فحاصله هو أنّ أخذ الزمان شرطاً في الوجوب من دون أن يكون قيداً في الواجب يكون على نحوين :

الأوّل : أن يكون الواجب فيه غير منحصر بوقت خاصّ ، كأن يكون حدوث يوم الجمعة مثلاً شرطاً في وجوب التصدّق بدرهم في أيّ وقت وقع ذلك التصدّق ، وقد اصطلح على هذا بالموسّع ، فالمراد بالموسّع هنا ما يكون وقته العمر ، لا ما يكون وقته المضروب أوسع منه مثل ما بين الزوال والغروب بالنسبة إلى الظهرين.

والثاني : ما يكون أخذ الزمان شرطاً في الوجوب بنحو ما دام ذلك الزمان مثل أن يقول : إن دخل شهر رمضان وجب الصوم ما دام الشهر موجوداً ، ونتيجة هذا النحو من الاشتراط تضييق الواجب وكونه واقعاً قهراً في ذلك الزمان الذي أُخذ شرطاً في وجوبه ، من دون أن يكون ذلك الزمان قيداً في ذلك الفعل الواجب ، وهذا النحو يجري فيه استصحاب الشهر لو شكّ في بقائه ، وأثر هذا الاستصحاب هو بقاء وجوب الصوم.

لكن الظاهر أنّ هذا الاستصحاب لا موقع له في النحو الأوّل ، لأنّ وجود يوم الجمعة كافٍ في الحكم بوجوب التصدّق ، سواء انقضى اليوم المذكور أو لم ينقض. نعم لو كان الشكّ من ناحية أُخرى بأن بلغ المكلّف وقد شكّ في بقاء اليوم ، فإنّه يستصحب بقاءه ويجب عليه التصدّق ، ونظيره ما [ لو ] طهرت المرأة من الحيض وقد شكّت في بقاء الوقت ، بأن يكون الشرط هو إدراك الوقت ولو بعضه.

لكن الظاهر أنّه لا يوجد لذلك ـ أعني النحو الأوّل ـ مثال في الفقه بحيث

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١٠٣.

٤١٤

يكون الزمان المأخوذ شرطاً ممّا له بداية ونهاية وله نحو سعة مثل اليوم ونحوه.

قول السيّد سلّمه الله في تحريره : وأمّا إذا كان الزمان قيداً للواجب الخ (١).

لابدّ في ذلك الزمان الذي أُخذ قيداً في الواجب من كونه قيداً في الوجوب إمّا لما حقّق في محلّه من أنّ القيد في الواجب إذا كان خارجاً عن الاختيار لابدّ من كونه شرطاً في الوجوب ، وإمّا لأجل تصريح الدليل بأنّه قيد في كلّ من الوجوب والواجب.

وبالجملة : لو فرضنا كون الزمان ممحّضاً لقيدية الواجب من دون أن يكون قيداً في الوجوب ، لم يكن استصحابه موجباً لترتّب ذلك الوجوب ، بل لا يكون الشكّ في بقائه موجباً للشكّ في بقاء الوجوب ، إذ ليس ذلك الوجوب مربوطاً بذلك الزمان كي يكون الشكّ في بقاء ذلك الزمان موجباً للشكّ في بقاء ذلك الوجوب ، فلا يصحّ ما فرّعه على ذلك بقوله : فغاية ما يترتّب على استصحاب بقاء النهار هو إثبات بقاء وجوبهما الخ ، بل لا يصحّ استصحاب نفس الوجوب الذي ركن إليه الشيخ قدس‌سره ، وهذا ممّا يؤيّد ما قدّمناه من أنّ الشكّ في بقاء الزمان المأخوذ ظرفاً للفعل الواجب الذي ينشأ عنه الشكّ في صحّة ذلك الفعل ، يكون فساده المحتمل ملازماً لعدم وجوبه ، فلا أثر للشكّ في فساده المذكور الملازم لعدم وجوبه ، وحينئذ يكون المكلّف متمكّناً من الاتيان بذلك الفعل الواجب بداعي [ أمره ] بعد إحرازه وجوبه باستصحاب الزمان المأخوذ شرطاً في وجوبه ، وإن لم يحرز قيد ذلك الواجب وهو وقوعه في ذلك الزمان ، لأنّ عدم إحرازه لذلك القيد الذي هو الظرفية لذلك الزمان لا يكون مضرّاً بذلك ، لأنّ أقصى ما في

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١٠٣.

٤١٥

ذلك هو فساد ذلك الفعل لعدم كونه مظروفاً لذلك الزمان ، ومع عدم كونه مظروفاً لذلك الزمان لا يكون واجباً ، فتأمّل.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّه بعد فرض أن أخذنا الزمان شرطاً في الوجوب على نحو ما دام ، بأن كان الشرط في وجوب الصوم هو وجود النهار ، فيكون حدوثه شرطاً في حدوث وجوب الصوم وبقاؤه شرطاً في بقائه ، لا يبقى معنى محصّل لاعتبار كون الصوم واقعاً في النهار ، بل ولا لاعتبار كونه مقارناً للنهار ، لأنّ أخذ النهار شرطاً في وجوب الصوم على نحو ما دام يكون ـ كما عرفت ـ موجباً لكون الصوم واقعاً قهراً في النهار ، من دون حاجة إلى أخذ الظرفية أو الاقتران في الواجب الذي هو نفس الصوم ، بل يكون أخذ ذلك في الصوم الواجب لغواً صرفاً ، فلاحظ وتأمّل ، فإنّ هذا بمجرّده غير نافع في حلّ الإشكال في جميع الصور ، لأنّه إنّما يتمّ فيما لو أُخذ الزمان على نحو الدوام شرطاً في التكليف ، فإنّه يوجب تقيّد الفعل بذلك الزمان على نحو الظرفية تقيّداً قهرياً ، أمّا لو كان الأمر بالعكس بأن تعلّق الأمر بالامساك في النهار ، فإنّه يوجب تقيّد الوجوب بذلك الزمان تقيّداً قهرياً ، وحينئذ يكون اللازم إحراز ما دلّ عليه الدليل ابتداءً ، وهو تقيّد الفعل بالوقوع في ذلك الزمان فلاحظ ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ هذين التشريعين ـ أعني تشريع تقييد وجوب الصوم بوجود النهار بنحو ما دام ، على نحو يكون حدوثه علّة لحدوث الوجوب وبقاؤه علّة لبقائه ، وتشريع تقييد نفس الصوم بالوقوع في النهار المذكور ـ لا يمكن اجتماعهما في عالم الثبوت ، لأنّ التشريع الأوّل يغني عن التشريع الثاني ، بل إنّه يوجب لغوية التشريع الثاني.

ولو فرضنا ولو محالاً أنّ المشرّع قد أقدم على التشريع الثاني قبل التشريع

٤١٦

الأوّل ، فإنّه لا يكون مستغنياً عن التشريع الأوّل ، غايته أنّه لو شرّع الثاني يلزمه التشريع الأوّل ، لا أنّ التشريع الثاني يغني عن التشريع الأوّل ، فإنّ انحصار الوجوب بوجود النهار لا يتحقّق إلاّ إذا قيّده الشارع ، وبدون تقييد من جانب الشارع لا يتقيّد الوجوب المذكور ، بل يبقى على إطلاقه ، فيكون الحاصل أنّ الواجب هو الصوم في النهار سواء وجد النهار أو لم يوجد ، ومثل هذا الاطلاق لا يصدر من الشارع ، إذ لا يمكن أن يطلب الصوم في النهار في حال عدم وجود النهار ، ولأجل دفع هذا المحذور لابدّ له من تقييد الوجوب بوجود النهار بنحو ما دام ، وإذا شرّع هذا التقييد كان تشريعه الثاني لغواً ، فصار الحاصل أنّ التقييد الأوّل يغني عن التقييد الثاني ، بخلاف التقييد الثاني فإنّه لا يغني عن التقييد الأوّل ، وإن كان لابدّ منه ، وحينئذ يكون المتعيّن هو التشريع الأوّل لكفايته عن الثاني.

والمتحصّل من قولنا : إنّ التشريع الثاني يلزمه التشريع الأوّل ، هو أنّه يشرّعهما معاً ، لما عرفت من عدم صحّة التشريع الثاني ما لم يشرّع الأوّل ، إذ لا محصّل لأن يشرّع أوّلاً تشريعاً باطلاً ثمّ يتبعه بتشريع آخر يكون مصلحاً للتشريع الأوّل ، وإذا انتهت النوبة إلى أنّه قد شرّعهما معاً ، جاء إشكال لغوية التشريع الثاني مع التشريع الأوّل ، وحينئذ يكون المتعيّن في مقام الثبوت هو التشريع الأوّل.

لا يقال : إنّ التشريع الأوّل اللازم للتشريع الثاني ليس هو تقييد وجوب الصوم في النهار بوجود النهار بنحو ما دام ، على وجه يكون حدوثه شرطاً في حدوث الوجوب المذكور ودوامه شرطاً في دوامه ، بل يكفي لدفع إشكال عدم القدرة أن يجعل حدوث النهار شرطاً في الوجوب الوارد على الصوم المقيّد بكونه في النهار ، فإنّ النهار إذا حدث صار الصوم المقيّد بكونه فيه مقدوراً.

لأنّا نقول : لا يكفي أخذ حدوث اليوم شرطاً في الوجوب المذكور ، فإنّ

٤١٧

الحدوث لا يوجب القدرة إلاّعلى الصوم الموجود في آن الحدوث ، أمّا الصوم الموجود في الآنات المتأخّرة فلا يكون مقدوراً إلاّعند وجود تلك الآنات ، وحينئذ لابدّ أن يكون كل آن من آنات اليوم شرطاً في وجوب الصوم المقيّد بالوجود في ذلك الآن ، وحينئذ تكون النتيجة في التشريع الأوّل هي أنّ الشرط في الوجوب هو اليوم بنحو ما دام ، على وجه يكون حدوثه شرطاً لحدوث الوجوب وبقاؤه واستمراره شرطاً في بقاء الوجوب واستمراره ، وهذا التشريع يوجب لغوية التشريع الثاني ، لأنّه يوجب كون الصوم واقعاً في النهار وقوعاً قهرياً ، ومعه يكون تقييد الصوم الواجب بكونه واقعاً في النهار أو بكون وجوده مقارناً لوجود النهار أو بكونه متّصفاً بالصوم النهاري لغواً صرفاً ، وما ذلك إلاّمن قبيل تقييد الواجب المطلق الذي يكون وقته العمر بأنّه الفعل الواقع في زمانٍ ما أو في مكانٍ ما ، مع أنّ المفروض أنّه لابدّ من أن يقع في زمان ومكان ، وصار الحاصل أنّ التشريع الأوّل يوجب لغوية التشريع الثاني ، وأنّ التشريع الثاني يلزمه التشريع الأوّل ، وحينئذ يكون تشريعهما معاً محالاً ، فيتعيّن التشريع الأوّل.

وبعد أن تبيّن أنّه في مقام الثبوت لا يكون المقيّد بالنهار إلاّنفس الوجوب لم يكن مقام الاثبات ذا أهميّة ، حتّى أنّه لو كان لنا دليل ظاهره كون المقيّد هو نفس الواجب ، كان اللازم علينا صرفه إلى كون المقيّد هو الوجوب ، وحينئذ يرتفع موضوع الإشكال بحذافيره ، إذ لا يكون لنا في ناحية المكلّف به تقييد ، سواء قلنا إنّ القيد هو اقترانه مع الزمان ، أو قلنا إنّ القيد هو الوقوع في الزمان الذي هو النهار ، أو قلنا بأنّ القيد هو كون الامساك نهارياً ، فلاحظ وتأمّل. والظاهر أنّ ذلك لا يتأتّى في أخذ المكان قيداً في الفعل الواجب ، فإنّ أصل وجوده وإن كان شرطاً في الوجوب إلاّ أن بقاءه ليس شرطاً في بقاء الوجوب.

٤١٨

قال الأُستاذ العراقي في مقالته : ثمّ لا يخفى أنّ الاستصحاب الجاري في الزمان وغيره من التدريجيات إنّما يكون بنحو مفاد ليس التامّة ، وإلاّ بنحو مفاد كان الناقصة المقتضية لإثبات نهارية الآن المخصوص فلا يكاد يجري أبداً ، لعدم إحراز الحالة السابقة لهذا المعنى ، وحينئذ فكلّ أثر يترتّب على مثله لا يكاد يثبت ببركة الاستصحاب كما هو ظاهر. نعم لا بأس بترتيب الآثار المترتّبة على المعنى الأوّل ( يعني مفاد كان التامّة ) من دون فرق بين كون مورد الاستصحاب نفس القيد أو المقيّد الخ (١).

ولا يخفى أنّ صاحب الكفاية (٢) أطلق إجراء الاستصحاب في كلّ من القيد والمقيّد ، ولم يقيّده بما يكون من قبيل مفاد كان التامّة ، وهذا التفصيل الذي أفاده الأُستاذ العراقي هنا في قبال ذلك الاطلاق.

ثمّ إنّ تصوير كون القيد بمفاد كان التامّة ومفاد كان الناقصة واضح. ومثال الأوّل هو كون القيد الاجتماع في الوجود بين الصوم وبين النهار ، ومثال الثاني هو كون الواجب هو الامساك في زمان هو النهار ، بحيث يعتبر في ظرف الامساك الاتّصاف بكونه نهاراً ، ففي الأوّل يجدينا استصحاب وجود النهار بخلاف الثاني.

وأمّا تصوير كون المقيّد بمفاد كان التامّة ومفاد كان الناقصة ، فمثال مفاد كان التامّة هو أن يقول كما أفاده في حقائق الأُصول : إن كان الإمساك في رمضان فهو واجب ، فإنّ استصحاب كون الامساك في رمضان يوجب كونه واجباً ، أمّا إذا كان بنحو مفاد كان الناقصة كما إذا قيل : الامساك في زمان هو رمضان واجب ، فلا

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٣٩٤.

(٢) كفاية الأُصول : ٤٠٩.

٤١٩

مجال ( فيه ) للاستصحاب ، لعدم اليقين بالحالة السابقة الخ (١).

ولا يخفى أنّ قوله : إن كان الامساك في رمضان فهو واجب الخ ، إن كان مرجعه إلى أنّ الوجوب الوارد على الامساك مشروط بكون الامساك واقعاً في رمضان ، كان ذلك عبارة أُخرى عن أنّه يجب الامساك إن وقع في شهر رمضان ، فيكون وقوع الامساك في رمضان شرطاً في وجوبه ، وهو محال لأنّ وقوع الفعل لا يعقل أخذه شرطاً في وجوبه ، وهو ما أشار إليه الأُستاذ قدس‌سره فيما حرّره السيّد سلّمه الله (٢) من استحالة أخذ مرحلة الامتثال شرطاً في أصل التكليف.

وإن كان مرجعه إلى أنّ الواجب هو الامساك المظروف لشهر [ رمضان ] ، فهو عبارة أُخرى [ عن ] أنّ الواجب مقيّد بالوقوع في شهر رمضان ، وكما لا يمكن إثبات هذا القيد باستصحاب وجود الشهر ، فكذلك لا يمكن إثباته باستصحاب كون الامساك واقعاً في رمضان ، لأنّ المتّصف من الامساك بكونه واقعاً في رمضان هو ما مضى ، أمّا الامساك الحالي فليس له حالة سابقة ، والنظر الوحداني للامساك إنّما هو بالنسبة إلى الامساك المستمرّ من أوّل الشهر إلى آخره ، وأمّا الخارج عن الشهر فهو غير داخل في هذا النظر الوحداني ، فالمشكوك كونه في رمضان لم يعلم أنّه كان في رمضان.

ومن ذلك يظهر لك عدم تمامية ما أفاده المرحوم صاحب الدرر في الجواب عن هذا الإشكال بقوله : وأمّا المستقرّ الذي أُخذ الزمان قيداً له ، فإن أُريد استصحابه في حال الشكّ في انقضاء الزمان المأخوذ قيداً ( فيه ) كما هو ظاهر كلامه قدس‌سره ( يعني الشيخ قدس‌سره ) هنا ، فحاله حال استصحاب نفس الزمان ، كمن وجب

__________________

(١) حقائق الأُصول ٢ : ٤٦٣.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ١٠٦.

٤٢٠