أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٧٠

القضية الحملية الحقيقية.

إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول : إنّ معرّف الشيء حقيقة هو ما يفيد تصوّره تصوّر الشيء ، وربما استعمل فيما يكشف عن وجود الشيء ، كالمعلول والأمارات المنصوبة في الطرق لتكون علامة على شيء ، فإنّ مثل الحرارة كاشفة عن وجود النار ، وإنّ العلامة المنصوبة كاشفة عن مقدار من المسافة مثلا. ومن الواضح أنّ قولهم إنّ العلل الشرعية معرّفات للأحكام ليس المراد به النحو الثاني من علل الأحكام ، أعني موضوعاتها وشروطها المعلّق عليها وجودها وتحقّقها كما هو واضح (١). بل لا بدّ أن يكون المراد من العلل المذكورة هو النحو الأوّل ، أعني ما يكون من قبيل حكمة التشريع.

وليس المراد من كونها معرّفة للأحكام أنّها معرّفة لها حقيقة بالمعنى الأوّل للمعرّف ، أعني ما يوجب تصوّره تصوّر الشيء ، بل لا بدّ أن يكون المراد من كونها معرّفة لها هو المعنى الثاني للمعرّف ، أعني ما يكون كاشفا عن وجود الشيء لكونه معلولا لذلك الشيء ، أو لكونه أمارة عليه بالذات أو بالجعل. ولكن مع ذلك لا بدّ من تكلّف مسامحة ، حيث إنّ حكمة التشريع ليست من قبيل المعلول للحكم ، ولا من قبيل الأمارة عليه ، فلا بدّ أن يكون الوجه في تسميتها معرّفة بهذا المعنى من المعرّف هو مجرّد أنّها غير مطردة ولا منعكسة ، فإنّ المعرّف بهذا المعنى لا يكون مطردا ولا منعكسا ، وبهذا الاعتبار سمّيت حكمة التشريع معرفة ، لا أنّها معلولة للحكم أو أنّها تكون أمارة مجعولة أو منجعلة على

__________________

(١) قال المرحوم الشيخ محمّد علي : لأنّ موضوع التكليف ليس بمؤثّر ولا معرّف الخ. وقال : وأمّا موضوعات الأحكام فليست إلاّ كالعلل الحقيقية ، ولا يمكن أن تكون معرّفات الخ [ فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٩٢ ، ٤٩٦ منه قدس‌سره ].

٤١

وجوده. فقد اتّضح لك بهذا البيان أنّ حاصل هذه الجملة هو أنّ علل الأحكام ما يكون من قبيل حكمة التشريع تكون معرّفات ، أعني أنّها لا تكون مطردة ولا منعكسة ، وأين هذا ممّا نحن فيه من علل الأحكام بمعنى الشرط المعلّق عليه وجود الحكم الشرعي ، انتهى.

وحرصا على بيان مراد شيخنا قدس‌سره نقلت هذه الجملة التالية من المسودّة التي حرّرها عنه قدس‌سره نجله المعظّم باملاء منه قدس‌سره ، وهذا نصّ الجملة الموجودة في التحرير المشار إليه الذي هو باملائه قدس‌سره :

وأنت خبير بأنّ علل الشرع يطلق تارة ويراد بها ما كان من قبيل علل التشريع ، ككون الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر ، ونحو ذلك. وأخرى يراد به ما كان من موضوعات الأحكام ، وظاهر أنّه بالنسبة إلى موضوعات الأحكام والشرائط الوجوبية لا محصّل لدعوى أنّها معرّفات ، فإنّ المفروض أنّها تستتبع الأحكام ، بل بالنسبة إلى علل التشريع أيضا الذي يصحّ من دعوى أنّها معرّفات هو مجرّد أنّها غير مطردة ولا منعكسة ، وإلاّ فليس من باب المعرّف ، فإنّ المعرّف ما كان منبئا عن وجود الشيء ويكون معلولا له ، مثل الدخان بالنسبة إلى وجود النار ، أو ملازما له. وواضح أنّ علل التشريع ليس من هذا القبيل ، وإنّما هي المبادئ التي يستند التشريع إليها ، ورتبتها سابقة على رتبة الأحكام ، فلا يصحّ إطلاق المعرّف بمعناه الحقيقي عليها ، وإنّما المصحّح لاطلاق المعرّف عليها هو مجرّد عدم الاطراد والانعكاس. وغير خفي أنّ مورد البحث أجنبي عن ذلك الباب بالكلّية ، فأصل قضية أنّ علل التشريع معرّفات إنّما يستقيم في باب علل التشريع ، وأجنبي عن المقام بالكلّية ، ولا محلّ لأن يبنى النزاع في التداخل وعدمه على تلك المسألة ، انتهى.

٤٢

قلت : ولكن مع ذلك كلّه فالمطلب بعد يحتاج إلى التأمّل ، فإنّ الظاهر أنّ مراد من قال : إنّ الأسباب الشرعية معرّفات لا مؤثّرات ، هو أنّ الدلوك مثلا ليس بعلّة للوجوب على نحو سائر العلل التكوينية ليمتنع تعدّدها ، بل إنّها من قبيل العلائم الكاشفة عن المصالح التي هي علل الأحكام ، فلا مانع من تعدّدها. وحينئذ يكون الجواب عنه هو أنّها وإن كانت كذلك إلاّ أنّ ظاهر الجملة الشرطية هو حدوث الحكم في ناحية الجزاء عند حدوث الشرط ، فلا بدّ أن يكون كلّ شرط مؤثّرا أثرا مستقلا.

ويمكن أن يقال : إنّ هذا الجواب هو المراد من الكفاية بقوله قدس‌سره : وقد انقدح بذلك أنّ المجدي للقول بالتداخل هو أحد الوجوه المذكورة التي ذكرنا ، لا مجرّد كون الأسباب الشرعية معرّفات لا مؤثّرات الخ (١) بأن يكون مراده أنّ ظاهر الجملة الشرطية هو تعدّد الجزاء بتعدّد الشرط ، ولا يرفع اليد عن هذا الظاهر بمجرّد كون الأسباب الشرعية معرّفات ، فإنّ ذلك لا يصحّح الحكم بعدم التداخل ما دام ذلك الظاهر من الجملة الشرطية محفوظا ، وحينئذ ينحصر الوجه في الحكم بالتداخل بالتصرّف في ظاهر الجملة الشرطية بأحد الوجوه المذكورة.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ الوجه الأوّل من تلك الوجوه مبني على كون الأسباب الشرعية معرّفات ، لتخرج بذلك عن العلّية الموجبة لتحقّق المعلول عند وجود العلّة ، بل لا يكون في البين إلاّ مجرّد الثبوت عند الثبوت ، فتأمّل.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره بقوله : مع أنّ الأسباب الشرعية حالها حال غيرها في كونها معرّفات تارة ومؤثّرات أخرى (٢) ففيه تأمّل ، لأنّا إن قلنا بجعل السببية كانت جميع

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٠٤ ـ ٢٠٥ ( مع اختلاف يسير ).

(٢) كفاية الأصول : ٢٠٥.

٤٣

الشروط والأسباب الشرعية مؤثّرات ، وإن قلنا بأنّ المجعول هو المسبّب لم يكن شيء منها علّة ومؤثّرا في ناحية الحكم المجعول عندها ، فتأمّل.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره بقوله : نعم الخ ، فكأنّه قدس‌سره يريد بذلك توجيه القول بالمعرّفية بأنّ الشروط ليست من قبيل المصالح التي هي علل ودواع لجعل الحكم ، بل هي راجعة إلى موضوعات الأحكام. ولا يخفى أنّه بناء على ذلك لا تكون السببية مجعولة ، بل يكون المجعول هو الأحكام عند حدوث شروطها وموضوعاتها ، ولأجل ذلك قال : فله وجه لكنّه لا ينفع القائل بعدم التداخل. ويكون الحاصل من هذه الجملة هو الاشارة إلى الخلاف في أنّ المجعول هو السببية فتكون الأسباب مؤثّرة ، أو أنّ المجعول هو المسبّب عند حصول السبب فتكون الأسباب معرّفة ، ولكن ذلك لا يخرج المسألة عن التداخل ، وذلك لما عرفت من ظهور الجملة الشرطية في نفي التداخل ، سواء قلنا بجعل السببية أو قلنا بجعل المسبّب.

والظاهر أنّ هذا هو مراد ذلك القائل ، وينحصر الجواب عنه بأنّ هذا المطلب ـ أعني عدم كونها عللا مؤثّرة في الأحكام ـ مسلّم ، إلاّ أنّها مع فرض كونها غير علل بالمعنى المزبور لا تصحّح التداخل ، لما عرفت من ظهور الجملة الشرطية ، فتأمّل.

قوله : وأمّا القسم الثاني فهو ملحق بالقسم الأوّل ، وبناء على عدم التداخل يتقيّد الجزاء بكلّ من السببين ، فيؤثّر أحدهما عند ارتفاع الآخر ... الخ (١).

يظهر أثر ذلك جليّا في الخلاف في كونه من قبيل التداخل في المسبّب ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٦٦.

٤٤

فإنّه بناء على التداخل يتحقّق السقوط بمجرّد سقوط أحدها ، مثلا لو قلنا في مسألة الخيار أنّه من قبيل التداخل في المسبّب ، وأنّه عند اجتماع المجلس والحيوان مثلا لا يكون إلاّ مسبّب واحد ، فعند انقضاء المجلس يسقط الخيار ، بخلاف ما لو قلنا بعدم التداخل وإنّ الخيار يتعدّد باضافته إلى المجلس واضافته إلى الحيوان.

وكذلك لو قلنا بكونه من قبيل تداخل الأسباب وقلنا بأنّ معنى تداخلها هو عبارة عن [ كون ] المجموع سببا واحدا ، بحيث يكون الخيار مترتّبا على المجموع ، ويكون كلّ واحد جزء العلّة ، فإنّه بناء على التداخل المذكور يسقط الخيار بالمرّة عند انقضاء المجلس مثلا ، بخلافه على عدم التداخل.

أمّا لو قلنا إنّ معنى تداخل الأسباب عبارة عن كون السبب هو القدر الجامع ، وأنّه واحد لا يتعدّد ، سواء كان الموجود منه واحدا كالمجلس أو كان متعدّدا كالمجلس والحيوان ، فإنّه لا يظهر فيه للتداخل بالمعنى المزبور وعدم التداخل [ أثر ] ، فلا يكون الخيار ساقطا بانقضاء المجلس سواء قلنا بعدم التداخل أو قلنا بالتداخل. أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلأنّ ارتفاع أحد فردي القدر الجامع مع بقاء الآخر بحاله لا يكون موجبا لارتفاع القدر الجامع ، بل يكون القدر [ الجامع ] باقيا بحاله فيكون أيضا باقيا.

ثمّ لا يخفى أنّ مسألة القتل القصاصي يمكن أن يقال إنّه ليس من قبيل تعدّد وجوب القتل بالاضافة ، بل هو من قبيل الحقوق المتعدّدة لورثة المقتولين ، وأنّ ورثة كلّ مقتول لهم حقّ القصاص من القاتل ، غايته أنّ استيفاء البعض يوجب سقوط حقّ البعض الآخر من القصاص المذكور.

٤٥

قوله : الأوّل أنّه لا إشكال ـ كما عرفت سابقا ـ في أنّ كلّ قضية شرطية ترجع إلى قضية حقيقية ... الخ (١).

يمكن أن يقال : إنّ هذا تبعيد للمسافة ، فإنّ الأولى أن يقال : إنّ ذلك المعنى ـ وهو كون كلّ بول محكوما بوجوب الوضوء ـ تتكفّل به القضية الشرطية وإن لم نرجعها إلى القضية الحملية ، وذلك لما عرفت في المسألة السالفة (٢) في تقريب القول بتقدّم التصرّف بما هو مفاد العطف بأو ، فإنّ قوله : ( كلّما بلت يجب عليك الوضوء ) مفاده أنّ وجوب الوضوء يحدث كلّما تحقّق حدوث البول ، وهو كاف في سريان الحكم إلى كلّ بول ، بل هو كاف أيضا في سريانه إلى البول المسبوق بالنوم مثلا.

وبالجملة : أنّ الذي يظهر منه قدس‌سره في كيفية استفادة العموم الشمولي لكلّ بول من القضية الشرطية هو إرجاعها إلى القضية الحملية الحقيقية ، وفي استفادة العموم للبول المسبوق بالنوم الذي هو عموم أحوالي إلى نفس القضية الشرطية. والظاهر أنّ نفس القضية الشرطية متكفّلة بكلا العمومين ، بل إنّ تكفّلها للأوّل أولى من الثاني.

قوله : وأمّا القسم الثالث فهو خارج عن محلّ الكلام ، ولا مناصّ عن الالتزام بالتداخل فيه ، والوجه في ذلك ظاهر (٣).

فإنّ مثاله ما تقدّم ممّا لو كان الشخص واجب القتل بحقّ الله مثل المحارب

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٦٦ ـ ٢٦٧ [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

(٢) [ الظاهر أنّه قدس‌سره يقصد بذلك ما تقدّم في ص ٢٦ من قوله : ثمّ إنّ في المقام شيئا آخر ... ].

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٢٦٦.

٤٦

والمرتدّ ، وتقدّم (١) أنّه لا يمكن العفو عنه ، فيتأكّد الحكم عند اجتماع السببين لا محالة. لكن ذلك لا يخرجه عن التداخل ، غايته أنّه تداخل المسبّب بالتأكّد. والأولى التمثيل للقسم الثالث بما لو قال : ( إن نمت انتقض وضوءك ) فإنّه لو نام ثانيا لا يكون نومه مؤثّرا ، لأنّ الانتقاض ليس بقابل للتكرار لكي يكون من قبيل القسم الأوّل ، كما أنّه غير قابل للتقييد والتأكيد لكي يكون من القسم الثاني ، فلا أثر فيه لاجتماع الأسباب كي نتكلّم فيه على أنّ مقتضى الأصل هو عدم التداخل وأنّه هل يتأتّى فيه التداخل في السبب أو التداخل في المسبّب ، فإنّ مثل هذا المثال خارج عن هذا البحث بالمرّة.

ومن ذلك يظهر لك أنّ باب الوضوء خارج عن التداخل ، فإنّ النوم مثلا ليس بسبب للوضوء ، بل هو سبب لتحقّق الحدث وناقضية الوضوء ، والمفروض أنّه غير قابل للتداخل ، ووجوب الوضوء إنّما هو لكونه محدثا ، والحدث لا تكرّر فيه ولا تأكّد. وأمّا باب الخيار ونحوه باب القصاص وباب الحدود فهي أيضا خارجة ، إذ لم يقل أحد بسقوط الحقّ في ذلك باسقاط أو سقوط بعضه ، فلم يبق إلاّ باب الأغسال ، وهي من كفاية الغسل الواحد عن جنابات متعدّدة بمنزلة كفاية الوضوء الواحد في اجتماع أسبابه. نعم باب كفاية غسل الجنابة عن الوضوء وعن باقي الأغسال ، وهكذا كفاية الغسل الواحد عن الأغسال المتعدّدة كلّ ذلك على خلاف القاعدة ، وهو من قبيل التداخل في المسبّبات.

قوله : فانقدح من جميع ما ذكرناه أنّ مقتضى ظهور القضية الشرطية هو عدم التداخل إلاّ فيما إذا كان الجزاء غير قابل ... الخ (٢).

استثنى شيخنا قدس‌سره من أصالة عدم تداخل الأسباب مسألة وجوب القتل ، إذا

__________________

(١) في أجود التقريرات قبل عبارة المتن آنفة الذكر.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٧١ [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

٤٧

تعدّد سببه الشرعي الذي هو من حقوق الله تعالى ، مثل المحارب والمرتدّ الفطري ونحو ذلك.

والظاهر أنّ ذلك من قبيل وجوب صوم اليوم ، باعتبار كونه داخلا تحت عموم وجوب صوم يوم كلّ جمعة وعموم وجوب صوم أوّل كلّ شهر في أنّ مرجعه إلى التأكّد ، وأنّ ذلك التأكّد ما معناه. وعلى كلّ حال ، فالظاهر أنّه من تداخل المسبّبات لا الأسباب.

أمّا مسألة كفّارة الافطار فلو قلنا بأنّ السبب هو الافطار كانت خارجة عن تداخل الأسباب والمسبّبات ، إذ بناء على هذا القول لا يمكن أن يوجد لنا مفطران ، لا تدريجا ولا على سبيل الدفعة. أمّا الأوّل فواضح ، لعدم كون الأكل الثاني مفطرا ، وأمّا الثاني فلأن المفطر هو القدر الجامع ، لا هذا وحده وذاك وحده. وهكذا الحال في سببية البول والنوم لتحقّق الحدث. وأمّا ما في الحاشية (١) من أنّ الكفّارة مترتّبة على الأكل فلا يبعد صحّته ، لكن كلام شيخنا مبني على مجرّد التمثيل على فرض كون الكفّارة مترتّبة على عنوان الافطار ، بدعوى كون الأكل مثلا إنّما حكم عليه بالكفّارة لكونه مفطرا ، لا لعنوانه الخاص. وربما يورد عليه بأنّ من لم ينو الصوم واستمرّ يأكل ويشرب لا تجب عليه الكفّارة ، لأنّه لم يفطر ، إذ لم يصم. ويجاب عنه بأنّ المراد من الافطار هو عدم الصوم عمدا ، ولأجل ذلك يقال إنّ من لم ينو الصوم ولكنّه اتّفق أنّه لم يفعل شيئا من المفطرات تجب عليه الكفّارة ، لأنّه قد ترك الصوم عمدا ، وإن لم يصدق عليه الأكل والشرب ولا عنوان المفطر بمعنى نقض الصوم.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٢٧١ ـ ٢٧٢.

٤٨

قوله : الثاني أنّ كلّ طلب متعلّق بأي ماهية ... الخ (١).

تقدّم (٢) أنّ مفاد القضية الشرطية مثل قولنا للمتوضي : إذا بلت انتقض وضوءك ، هو أنّه كلّما حدث منك مثل البول يحدث عنده انتقاض الوضوء. وإنّا قد استفدنا من هذا العموم أمورا ثلاثة :

الأوّل : أنّ البول ليس يتوقّف حدوث الوجوب عنده على شيء آخر كالنوم مثلا. وهذا معنى الاستقلال في العلّية وأنّ البول تمام العلّة في حدوث ذلك الانتقاض ، وأنّه لا يتوقّف حدوث الوجوب على انضمام مثل النوم إليه ، وإلاّ لم يصدق قولنا كلّما حدث البول حدث انتقاض الوضوء.

الأمر الثاني : أنّ البول لا يقوم مقامه مثل النوم في كون حدوثه موجبا لحدوث انتقاض الوضوء ، لأنّ المفروض أنّ الانتقاض لا يقبل التعدّد ، فلو كان له سبب آخر كالنوم لم يكن قولنا : ( كلّما حدث البول حدث الانتقاض ) صادقا ، لكون الانتقاض حينئذ مستندا إلى النوم فيما لو كان سابقا ، وحينئذ يكون البول علّة تامّة منحصرة ، وعن هذا الانحصار يتولّد :

الأمر الثالث ممّا يستفاد من تلك القضية ، وهو انتفاء انتقاض الوضوء عند انتفاء البول.

ثمّ إنّا إذا ضممنا إلى هذه القضية الشرطية قضية شرطية أخرى ، مثل قولنا : إذا نمت انتقض وضوءك ، التجأنا إلى التخصيص بأحد طريقين :

أوّلهما : إخراج ما لو وجد البول وحده ، بأن نقول إنّ حدوث البول إنّما يوجب انتقاض الوضوء منحصر بما إذا وجد معه النوم.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٦٧ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) في الصفحة ٢٦ وما بعدها.

٤٩

ثانيهما : إخراج ما لو تقدّمه النوم ، فإنّ حدوث انتقاض الوضوء حينئذ يكون حاصلا عند حدث النوم ، فلا يكون الوجوب في هذه الصورة حادثا عند حدوث البول المتأخر عن النوم.

وقد رجّحنا الطريقة الثانية على الأولى لما يلزم على الأولى من تخصيص الأكثر ، بخلاف الطريقة الثانية فإنّها لا تخرج منها إلاّ صورة تقدّم النوم على البول ، أمّا صورة اجتماعه مع البول دفعة واحدة فيمكن القول ببقائها تحت العموم المذكور ، لأنّ الانتقاض إذا حدث بحدوثهما معا لا يكون موجبا لعدم صدق قولنا كلّما حدث البول حدث انتقاض الوضوء. نعم ، يبقى في هذه الصورة شيء أجنبي عن مدلولهما ، وذلك الشيء هو أنّ حدوث الانتقاض عند حدوثهما هل يكون مستندا إلى القدر الجامع بينهما ، أو أنّه مستند إلى مجموعهما ، والظاهر الأوّل.

ثمّ إنّه بعد أن التزمنا برفع اليد عن عموم القضية بالنسبة إلى البول المسبوق بالنوم ، وهكذا الحال بالنسبة إلى النوم المسبوق بالبول ، لا بدّ لنا من الالتزام بسقوط الدلالة على الانحصار ، لكنّه بالاضافة إلى كلّ واحد منهما عند مسبوقيته بالآخر لا بالنسبة إلى الثالث ، بل يكون مفاد الانحصار بالنسبة إلى الثالث باقيا بحاله ، وحينئذ يكون المتحصّل من الجمع بين مفهوميهما هو أنّ انتقاض الوضوء ينتفي بانتفائهما ، لا بانتفاء أحدهما مع وجود الآخر.

هذا كلّه فيما لو كان الحكم في طرف الجزاء غير قابل للتكرّر كما في مثل انتقاض الوضوء ، أمّا لو كان الحكم قابلا للتعدّد مثل إذا بلت وجب عليك الوضوء ، وإذا نمت وجب عليك الوضوء ، لقابلية وجوب الوضوء لأن يحدث عند النوم بعد أن حدث قبله بالبول ، وعند اجتماعهما معا يحدث للوضوء

٥٠

وجوبان ، ففي مثل ذلك نقول : إنّه لا داعي في مثل ذلك إلى الالتزام بالتخصيص بشيء من الطريقين : لامكان أن يحدث وجوب الوضوء عند النوم بعد البول وبالعكس ، ويحدث للوضوء وجوبان عند اجتماعهما دفعة واحدة ، فيبقى عموم القضيتين بحاله ، لصدق قولنا كلّما حدث البول حدث وجوب الوضوء ، سواء سبقه النوم أم لا ، وسواء اجتمع معه النوم أم لا. وهكذا الحال في قولنا كلّما حدث النوم حدث وجوب الوضوء ، فإنّه يبقى على عمومه وشموله لصورة تأخّره عن البول وصورة انفراده عنه وصورة اجتماعه معه.

ولا يخفى أنّ الانحصار في مثل هذه القضايا لا يكون مستفادا من نفس العموم المذكور ، أعني مثل قولنا كلّما حدث البول حدث وجوب الوضوء ، لأنّ هذا العموم بنفسه لا ينفي حدوث الوجوب أيضا عند حدوث النوم ، بل لا بدّ في استفادة الانحصار من أمر آخر ، وهو كون الوجوب الحادث عند حدوث البول المفروض كونه مقيّدا به تقييدا مطلقا هو سنخ الوجوب ، وحينئذ عند ورود مثل هاتين القضيتين يكون الذي يرفع عنه فيهما هو هذه الجهة ، دون عموم حدوث الوجوب كلّما حدث البول ، بل يبقى العموم المذكور بحاله ، فعند حدوث البول بعد النوم يحدث وجوب آخر للوضوء ، كما أنّه عند حدوثهما دفعة يحدث للوضوء وجوبان ، وحيث إنّه حقيقة واحدة يستحيل فيها اجتماع الوجوبين المفروض كونهما مثلين ، لم يكن لنا حينئذ بدّ من الالتزام بالتأكّد ، وتكون النتيجة هي تداخل المسبّبات بمعنى تداخل الوجوبات وتأكّدها ، إلاّ أن يقوم دليل خارجي يدلّ على اختلاف المتعلّق في إحدى القضيتين عنه في الأخرى كما في باب الأغسال ، بحيث يكون حقيقة غسل الجنابة مثلا مغايرة لحقيقة غسل الحيض ، فلو دلّ دليل مع ذلك على الاكتفاء بغسل واحد كان من قبيل التداخل في

٥١

المسبّبات بمعنى تعدّد الواجبات والاكتفاء في مقام الامتثال ببعضها ، هذا.

ولكن تداخل الوجوبات وتأكّد بعضها ببعض لا يخلو عن تأمّل ، تعرّضنا له فيما علّقناه على المباحث المتعلّقة بعبادية الطهارات الثلاث (١) ، ونزيده توضيحا في هذا المقام فنقول بعونه تعالى :

إنّ أظهر ما يمكن أن يقال فيه بالاندكاك ما لو وجب على الشخص صوم أوّل كلّ شهر ووجب عليه صوم كلّ جمعة مثلا ، واتّفق أن كان أوّل شهر يوم جمعة ، فلا إشكال في أنّه يلزمه صوم ذلك اليوم ، لكنّه ليس بخارج عن العموم الأوّل ولا عن العموم الثاني ، وحينئذ يجتمع الوجوبان في صوم ذلك اليوم ، فإن قلنا إنّه يندك أحدهما بالآخر ويتولّد منهما وجوب مؤكّد ، كان اللازم أنّه واجب بوجوب ثالث خارج عن كلّ من العمومين. مضافا إلى أنّه لا معنى لتأكّد الوجوب ، إذ هو غير قابل للشدّة والضعف.

وبناء على ذلك لا بدّ لنا من الالتزام بأنّه ليس في البين إلاّ ذانك الوجوبان ، ويكون كلّ واحد منهما موجودا بذاته. لكن يرد عليه إشكال اجتماع المثلين بناء على أنّه محال كاجتماع الضدّين ، فإن أمكن الاختلاف في المتعلّق ولو بنحو التقييد بعلّة الوجوب كان عليه التكرار ، ولمّا لم يكن الفعل قابلا للتكرار كان حكم العقل بالاطاعة مقصورا على هذا المقدار الذي يتمكّن منه المكلّف ، وهو إيقاع الصوم بداعي الجهتين.

مضافا إلى أنّه من الممكن أن يقال : إنّ ذلك هو مقتضى العمومين ، حيث إنّ الشارع العالم بأنّهما ربما اجتمعا ولم يخرج مورد الاجتماع عن أحدهما ولا

__________________

(١) راجع الحاشية المذكورة في الصفحة : ٢١٨ وما بعدها من المجلّد الثاني من هذا الكتاب.

٥٢

عن كليهما ، يكون مقتضى هذين العمومين هو ما ذكرناه من الاكتفاء بذلك الفعل الواحد امتثالا لهما معا ولزوم قصدهما معا ، على وجه يكون العمومان دالّين بالدلالة الالتزامية على لزوم قصد الجهتين وعلى الاكتفاء بذلك الصوم الواحد ، هذا كلّه فيما لا يكون قابلا للتكرار.

أمّا ما يكون قابلا لذلك كما فيما نحن فيه ، فلا يكون اجتماع الوجوبين في الطبيعة الواقعة في ناحية الجزاء إلاّ كاجتماعهما في صوم اليوم المذكور ، غايته أنّ العقل يحكم بالتقييد فيلزمه بامتثال كلّ من الوجوبين بالاتيان بالفعل مرّتين ، مرّة لأحدهما ومرّة أخرى للآخر ، لما ذكرناه من أنّ كلّ وجوب يستدعي امتثالا ، والمفروض أنّه يمكنه التكرار ، فيكون التكرار لازما من هذه الناحية ، لا من ناحية دلالة تعليق المادّة بما أنّها مورد للنسبة الطلبية كما أفاده شيخنا قدس‌سره (١) في الجواب عن الإشكال المزبور ، فإنّ تعليق المادّة التي هي مورد للنسبة الطلبية عبارة أخرى عن تعليق الطلب الوجوبي ، فلا يكون المتكرّر بتكرّر الطلب الوجوبي إلاّ نفس الوجوب دون متعلّقه ، إلاّ بضميمة ما ذكرناه من أنّ كلّ وجوب يستدعي إيجاد ذلك الواجب ، فيلزم الايجاد مرّتين ، ولا يرفع اليد عن ذلك إلاّ بدليل.

وينبغي أن يعلم أنّ وجوب الوضوء عند البول وعند النوم يمكن القول بخروجه عمّا نحن فيه ، فإنّ كلا من هذين السببين إنّما يكون مؤثّرا في ناحية تحقّق الحدث للقدر الجامع بينهما ، وبعد أن تحقّق منه الحدث يجب عليه الوضوء للصلاة مثلا ، فليس لنا أحداث متعدّدة وإلاّ لكانت حقيقة الوضوء مختلفة. نعم ، لو اجتمعت جهات تقتضي وجوب الوضوء كالصلاة والطواف ومسّ المصحف كان الواجب هو رفع الحدث ، ويكون قصد أحدها كافيا في رفع

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٧٠.

٥٣

الحدث ، وبذلك يصحّ له الدخول في البواقي ممّا وجب عليه فعلا كما مرّ تحقيقه في البحث المشار إليه ، فراجع وتأمّل.

نعم ، مسألة الغسل ممّا نحن فيه بالنسبة إلى أسباب الحدث كالجنابة والحيض والمسّ ونحوها ، لكن الظاهر من الأدلّة هو اختلاف حقيقة الأغسال ، فلا بدّ من التعدّد إلاّ مع الدليل الدالّ على الاكتفاء بالبعض ، بل لو لم نقل باختلاف حقيقتها لكان اللازم هو التعدّد ، بناء على أنّ كلّ واحد من هذه الأحداث يكون موجبا لحدوث وجوب الغسل الموجب لتعدّده كما عرفت ، إلاّ أنّه بعد دلالة الدليل على الاكتفاء بالبعض عن الجميع نرفع اليد عن ذلك.

قوله : فإنّ التأكّد إنّما يكون فيما إذا تعلّق الطلب بنفس الفرد ... الخ (١).

كما مرّ (٢) من مثال الصوم ، والظاهر أنّ مثل قوله : ( أكرم كلّ عالم ، وأكرم كلّ هاشمي ) يندرج في البدلي بالنظر إلى الاكرام القابل للتعدّد ، فيلزمه تعدّد الاكرام للشخص العالم الهاشمي. ومن ذلك يظهر لك أنّ مثل ( أكرم عالما وأكرم هاشميا ) قابل للتكرار من الجهتين ، نعم مثل ( صم يوم جمعة وصم أوّل شهر ) لا يقبل التكرار إلاّ من الجهة الثانية بأنّ يصوم يوما يكون هو جمعة وآخر يكون هو أوّل شهر. وما في الحاشية (٣) من لزوم اجتماع وجوبات ثلاثة كأنّه إيراد على خصوص العموم البدلي ، لكن الظاهر أنّه جار في الشمولي حتّى فيما ذكرناه من مثال الصوم.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٧٣ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) في الصفحة : ٥٢.

(٣) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٢٧٣.

٥٤

قوله : وجواز الاتيان بكلّ فرد إنّما هو بمقتضى الاطلاق ليس إلاّ ، فلا يلزم تأكّد في الطلب (١).

أوضحه في الطبعة الجديدة بقوله : وإنّما يجوز الاتيان به في مقام امتثال الأمر بالطبيعة ، لأنّه مقتضى الترخيص في التطبيق المستفاد من الاطلاق على ما تقدّم سابقا (٢).

ولكن نفس الاطلاق لا يدلّ إلاّ على الترخيص في امتثال الأمر بالطبيعة بأي فرد شاء ، أمّا امتثال الأمر بالفرد الذي وقع بداعي أمر آخر ليكون امتثالا لكلا الأمرين فهذا ممّا لا يقتضيه اطلاق الطبيعة المأمور بها.

وبالجملة : أنّ مقتضى تعدّد الأمر هو تعدّد المأمور به في مقام الامتثال ، وإطلاق الطبيعة ليس حاصله إلاّ كون المكلّف مخيّرا في امتثال الأمر المتعلّق بها في أي فرد من أفرادها ، لا امتثالها في ضمن الفرد الذي أتى به امتثالا لأمر آخر ، فإنّ ذلك موقوف على دليل يدلّ على الاكتفاء بفعل واحد عن أمرين ، هذا. مضافا إلى أنّ هذه الطريقة متأتّية فيما نحن فيه مثل ( إذا نمت فتوضّأ وإذا بلت فتوضّأ ) فإنّ الطبيعة واحدة وقد أمر بها مطلقة ، ومقتضى الاطلاق هو الترخيص في امتثال الأمر المتعلّق بها في ضمن الفرد الذي قد أتي به بداعي أمر آخر.

والحاصل : أنّه لم يظهر أثر للفرق بين ما نحن فيه وبين مواقع العموم من وجه إذا كان العموم بدليا ، حيث جوّزوا فيه الاكتفاء بالمجمع ولم يجوّزوا ذلك فيما نحن فيه. وما ذكرناه من الفرق فيما كنّا حرّرناه في التعليق على الدرس ص ١٠٤ (٣) من كون الاجتماع في العموم من وجه مأموريا ، ولم يكن الاجتماع من

__________________

(١ و ٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٧٣.

(٣) مخطوط لم يطبع بعد.

٥٥

ناحية الأمر ، لتباين المتعلّقين فلا داعي لحمله على التأكّد ، لتغاير المتعلّقين في عالم التعلّق وإن اتّحدا في عالم الامتثال ، بخلاف ما نحن فيه لوحدة المتعلّق فيه في عالم تعلّق الأمر ، فلا بدّ أن يكون مقتضيا للتعدّد ، لأنّ كلّ أمر يستدعي امتثالا ، والمفروض إمكان ذلك ، فلا داعي لحمله على التأكّد ، إلى آخر ما وجّهنا به الفرق ، لا يكون نافعا في الفرق المزبور ، فراجع وتأمّل.

قوله : وأمّا بالنسبة إلى معلوفة الجنس الآخر كالإبل فالتقييد بالوصف أجنبي عنها وغير متعرّض لحكمها قطعا ، فما عن بعض الشافعية من دلالة القضية المذكورة على عدم الزكاة في معلوفة الإبل فاسد قطعا ... الخ (١).

قال في الكفاية : ولعلّ وجهه استفادة العلّية المنحصرة منه ، وعليه فيجري فيما كان الوصف مساويا أو أعمّ مطلقا أيضا ، فيدلّ على انتفاء سنخ الحكم عند انتفائه ، فلا وجه للتفصيل بينهما وبين ما إذا كان أخصّ من وجه ، فيما إذا كان الافتراق من جانب الوصف ، بأنّه لا وجه للنزاع فيهما معلّلا بعدم الموضوع ، واستظهار جريانه من بعض الشافعية فيه ، كما لا يخفى ، فتأمّل جيّدا (٢).

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه : أمّا دلالته على انتفاء الحكم عمّا يكون غير واجد للوصف من غير الموصوف كالإبل المعلوفة ، فلا ينبغي الريب في خروجها عن محلّ النزاع ، وإن قال به بعض الشافعية ، إذ لا ريب في عدم دلالة الوصف على انتفاء الحكم عن غير الموصوف ، سواء كان واجدا لذلك الوصف أو كان فاقدا له ، لأنّ ذلك أجنبي بالمرّة عمّا هو موضوع الحكم ، حتّى بناء على استفادة العلّية المنحصرة ، لأنّ ذلك ـ أعني كون الوصف علّة منحصرة ـ إنّما هو بالنسبة إلى

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٧٦ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) كفاية الأصول : ٢٠٧.

٥٦

الحكم الوارد على هذا الموضوع ، أعني الغنم فيما ذكر من المثال ، لا بالنسبة إلى حكم موضوع آخر أعني الابل ، انتهى.

قلت : نعم ، لو استفيدت العلّية المنحصرة بالنسبة إلى كلّي وجوب الزكاة في مطلق الأنعام الثلاث ، لكان له دلالة على انتفاء الحكم عن غير مورد الوصف ممّا يكون من غير الموصوف ، إلاّ أنّه تصوّر محض وإمكان عقلي ، ولا أصل له في مقام الاثبات. مضافا إلى أنّه لو استفيد منه ذلك لم يكن الموصوف هو الغنم بخصوصها ، بل يكون الموصوف في الحقيقة هو النعم الثلاث ، ويكون ذكر الغنم من باب ذكر الخاصّ وإرادة العام ، وأنّى بإثبات ذلك. ولو ثبت لم يكن مضرّا بما ذكرناه من عدم دلالة الوصف على انتفاء الحكم عن غير الموصوف ممّا يكون مجرّدا عن الوصف حيث إنّه حينئذ يكون مثل الإبل داخلا في الموصوف.

ثمّ إنّ فيما أفاده في الكفاية من عدّ الإبل المعلوفة من قبيل الافتراق من جانب الوصف مناقشة لا تخفى ، فإنّها أجنبية عن كلّ من الموصوف والصفة. نعم ، إنّ سائمة الإبل من هذا القبيل ، أعني أنّها من قبيل الافتراق من جانب الصفة عن الموصوف ، لتحقّق الصفة فيها [ مفترقة ] عن الموصوف. لكنّه خارج عن النزاع في مفهوم الوصف ، بل هو داخل في مفهوم اللقب ، وذلك واضح لا يخفى.

ثمّ لا يخفى أنّ هذا كلّه إنّما هو فيما لو كان بيان الحكم بهذا اللسان ، أعني قولنا : في الغنم السائمة زكاة. أمّا لو كان بلسان : أنّ في سائمة الغنم زكاة لانعكس المطلب صفة وموصوفا ، لأنّ الموصوف حينئذ هو السائمة والصفة هو كونها من الغنم ، فلو كان دالا على المفهوم لكان مفهومه هو أنّه لا زكاة في سائمة الإبل ، لا أنّه لا زكاة في معلوفة الغنم ، كما كان كذلك في اللسان الأوّل.

٥٧

قوله : وحيث إنّ الظاهر في الأوصاف أن تكون قيودا للمفاهيم الافرادية ، فيكون الأصل فيها عدم الدلالة على المفهوم ، كما في اللقب ... الخ (١).

ولكن لا يخفى أنّه يمكن أن يدّعى أنّ كون التوصيف من قبيل التقييد الافرادي وأنّه ليس بلحاظ الحكم خلاف الظاهر ، بل قد يقال : إنّه ممتنع في المحاورات الكلامية المبنية على الإفادة ، فإنّ تضييق دائرة الماهية لا بدّ أن يكون بلحاظ طروّ الحكم عليها.

ومن ذلك يتّضح لك التأمّل فيما في الحاشية من قوله : إنّ توصيف متعلّق الحكم أو موضوعه بقيد ما في الكلام مع اعتباره قيدا لنفس الحكم في مقام اللبّ ومقام الثبوت خارج عن قانون المحاورة عرفا ، فلا معنى لقيام القرينة عليه من الخارج الخ (٢) ، فإنّه لم يدّع أحد أنّ القيد الوصفي مع كونه وصفا للموضوع يكون قيدا في الحكم الوارد عليه ، على وجه يكون قيدا صناعيا للحكم المذكور ، كي يورد عليه بأنّ ذلك خارج عن قانون المحاورة ، بل المدّعى إنّما هو كون توصيف الموضوع بلحاظ ورود الحكم عليه يكون موجبا قهرا لتضييق دائرة ذلك الحكم وبالأخرة ينتهي الأمر إلى كون ذلك الحكم في مقام اللبّ ، مقيّدا بذلك الوصف ، كما مرّ في باب الواجب المشروط (٣) في كيفية كون رجوع القيد إلى المادّة بلحاظ طرو الطلب عليها موجبا لتقيّد ذلك الطلب.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٧٧ [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

(٢) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٢٧٨.

(٣) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ١٢ وما بعدها من المجلّد الثاني من هذا الكتاب.

٥٨

ثمّ لا يخفى أنّ حاصل ما ندّعيه في هذا المقام وفي مقام الواجب المشروط كما مرّ عليك في محلّه (١) ، هو استحالة تقييد الماهية بذاتها بلا لحاظ طارئ يطرو عليها ، فإنّ الماهية في حدّ ذاتها وسيعة المنطقة ، ولا يعقل لأي أحد أن يضيّق منطقتها ، وإنّما أقصى ما في البين هو أنّه يمكنه تضييق ما يورده من الطوارئ ، وحينئذ يتسنّى له تضييق منطقة تلك الماهية باعتبار أخذها مطروّة لذلك الطارئ ، وحينئذ لا بدّ أن يكون تضييق منطقتها من حيث ذلك الطارئ ، وحينئذ يكون ذلك التضييق راجعا لبّا إلى ذلك الطارئ.

وقد تقدّم التأمّل في كلام شيخنا قدس‌سره في تصوير شرط نفس الواجب مثل الطهارة بكونه سابقا على رتبة الطلب بحيث يكون تقييدا إفراديا ، بما مفاده المنع من تقييد المادّة قبل ملاحظة طرو الطلب عليها ، وإنّما أقصى ما في البين هو تقييدها وملاحظتها مقيّدة في مرتبة إيراد الوجوب عليها ، وحينئذ لا يتمّ الفرق بين شرط الوجوب وشرط الواجب. ولو تمّ ما أفاده قدس‌سره من الفرق بينهما بأنّ شرط الواجب من قبيل التقييد الافرادي وشرط الوجوب من قبيل تقييد الجملة التركيبية ، لكان المفهوم ممتنعا في الأوّل وكان لازما في الثاني.

نعم يمكن أن يقال : إنّ التقييد الطارئ على المادّة ، لا بدّ أن يكون طرو ذلك القيد عليها باعتبار لحاظ كونها متعلّقة للطلب ، لكن لحاظ كونها متعلّقة للطلب تارة يكون المنظور به هو الطلب اللاحق ، فيكون ذلك القيد واقعا تحت الطلب ، فيكون أيضا مطلوبا. وأخرى يكون المنظور به هو الطلب السابق أو المقارن لطرو التقييد ، فيكون ذلك القيد خارجا عن حيّز الطلب. وعلى كلّ منهما لا يكون المجرّد من ذلك القيد متّصفا بالطلب ، بحيث يكون الطلب منحصرا بمورد ذلك

__________________

(١) راجع الصفحة : ٣٢ من المجلّد الثاني من هذا الكتاب.

٥٩

القيد ولا يتعدّاه إلى ما هو فاقد القيد ، وإنّما الفرق بينهما منحصر بكون ذلك القيد واقعا تحت الطلب وكونه خارجا ، وهذا الفرق ناش عن أنّ ذلك التقييد الطارئ على المادّة بلحاظ تعلّق الطلب بها ، الموجب لانحصار الطلب بما هو مورد القيد منها ، هل كان الملحوظ به هو المادّة التي قد ضيّقناها لأجل أن نعلّق بها الطلب ، أو كان الملحوظ به هو المادّة التي قد تعلّق بها الطلب ، بحيث كان تعلّق الطلب بها في عرض عروض التقييد عليها. وعلى الأوّل يكون القيد داخلا تحت الطلب ، وعلى الثاني يكون القيد خارجا عن حيّز الطلب ، هذا حال القيد الشرطي الراجع إلى المادّة في مقام تعلّق الطلب بها.

وأمّا وصف الموضوع الذي يتعلّق به الحكم مثل يجب إكرام الرجل العالم ، فلا شكّ في أنّ توصيف الرجل بكونه عالما إنّما هو بلحاظ كونه موردا للحكم المذكور ، فلا محالة يكون الحكم المذكور منحصرا بمورد الوصف على وجه لا يتعدّاه إلى غيره ، سواء قيّدنا الرجل بالعالم بلحاظ أن نورد عليه الحكم المذكور أو قيّدناه بذلك القيد بلحاظ ورود الحكم عليه ، ولكن حيث إنّ مرتبة الموضوع سابقة على مرتبة الحكم ، يكون الحاصل أنّا نلاحظ الرجل العالم في حال إيراد الحكم عليه ، ويكون تقيّده بالعالم من حيث إيراد الحكم عليه ، فيكون الحكم مقصورا على مورد القيد ، ويكون التقييد بلحاظ الحكم الطارئ. ويمكن التفرقة بين مثل أكرم رجلا عالما وبين أكرم الرجل العالم ، فإنّ الأوّل من سنخ كون القيد تحت الطلب والثاني من سنخ كون القيد قيدا للطلب ، فالأوّل بمنزلة أكرم رجلا عالما ، والثاني بمنزلة أكرم الرجل إن كان عالما ، فالعلم في الثاني يكون بمنزلة شرط الوجوب وفي الأوّل بمنزلة شرط الواجب ، وإن كان الوجوب في كلّ منهما مشروطا بوجود الرجل العالم فتأمّل.

٦٠