أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٧٠

ثمّ نقول : إنّك لو كنت رأيت أواني الخمر قبل اختلاطها ولم تكن عالما بعددها ثمّ اختلطت بباقي الأواني ولو لأجل الظلمة مثلا ، لكانت كلّها منجّزة عليك. بل لو كنت رأيت أواني متعدّدة وعلمت بنجاستها ولم تعلم بعددها ثمّ طرأ ما أوجب اختلاطها بغيرها من ظلمة ونحوها ، لكانت أيضا كلّها منجّزة.

والسرّ في ذلك أنّك قبل أن تختلط عليك تلك الأواني وإن كانت في ذلك الحال عندك مردّدة بين الأقل والأكثر ، إلاّ أنّ هذا التردّد لا أثر [ له ] في عدم تنجّز الزائد بعد فرض كونك في ذلك الحال عالما بحرمتها جميعا حينما كانت حاضرة أمامك غير مختلطة بغيرها.

وهذا على الظاهر لا إشكال فيه ، إذ لا يمكن أن يتفوّه أحد أنّ تردّدك في ذلك الحال يكون مؤثّرا في عدم تنجّز شيء من حرمة جميع ما تراه أمامك ، وحينئذ يكون حال تلك الأواني بعد الاختلاط كحالها قبل الاختلاط في كون الجميع منجّزا ، وهذا من الوضوح بمكان لا أظنّ أحدا أن يشكّك فيه.

ولا فرق على الظاهر بينه وبين ما نحن فيه سوى أنّ الاختلاط في هذا المثال كان بعد العلم بحرمة جميع تلك الأواني الموجودة ، وفيما نحن فيه كان الاختلاط سابقا على العلم بحرمة جميع البيض الموجودة في ضمن القطيع ، فإنّك ترى برؤية قلبية أنّ في ضمن هذا القطيع بيضا ، وأنّها بجميعها محرّمة ، وأنّك معاقب على مخالفة أي واحد منها ، ولنفرض أنّك في مرتبة هذه الرؤية متردّد في عدد تلك البيض الذي تراها بقلبك موجودة في ذلك القطيع ، فإنّ هذا التردّد منك في عددها لا يوجب عدم تنجّز شيء منها ، كما لم يوجب ذلك فيما لو كنت تراها ببصرك ، فكما تحكم هناك بعقلك أنّ جميع ما تراه ببصرك منجّز عليك مع كونك شاكّا في عدده ، فكذلك الحال هنا ، فتحكم بعقلك أنّ جميع ما

٢٤١

تراه بقلبك من البيض الموجودة في هذا القطيع منجّز عليك مع كونك شاكّا في عدده.

وحاصل الفرق حينئذ بين المعلّم وغير المعلّم ، أنّك في المعلّم ترى البيض الموجودة كلّها معلومة الحرمة لديك ، بخلاف غير المعلّم فإنّك لا ترى إلاّ القدر المتيقّن. وإن شئت قلت أنا في صورة غير المعلّم لا أرى محرّما في ذلك القطيع إلاّ الأقل بخلاف المعلّم فأنا أرى البيض بتمامها وأنّها جميعا محرّمة عليّ سواء كانت عشرة أو كانت خمس عشرة ، بخلاف غير المعلّم فأنا لا أرى شيئا موجودا محرّما إلاّ ما هو الأقل.

ولا يخفى أنّ هذا الطريق لا يتوقّف على دعوى تأخّر الشكّ والتردّد في العدد عن العلم بحرمة البيض ، ولعلّه أولى من الاستناد إلى التأخّر الرتبي ، حيث إنّ التأخّر الرتبي يمكن القول بأنّه لا يمنع من عدم التنجّز ، هذا.

ولكن كون ما نحن فيه من مخالفات الظواهر ومخالفات الأصول العملية الموجودة في الكتب التي بأيدينا ، من قبيل المعلوم الاجمالي المعلّم بعلامة خاصّة ، لا يخلو عن غموض ، إذ لا يزيد حالنا على أنّا نعلم بوجود تلك المخالفات في الكتب المذكورة ، وليس هو إلاّ كعلمنا بوجود محرّمات في ضمن هذا القطيع ، ولا فرق بينها إلاّ أنّ ما نحن فيه يمكن العثور عليه بالفحص بخلاف المحرّمات مثل موطوء الإنسان الموجودة في ضمن هذا القطيع فإنّها غالبا لا يمكن العثور عليها بالفحص عنها في ذلك القطيع ، نعم لو كانت مثل الأرانب الموجودة في هذا القطيع لأمكن العثور عليها بالفحص عنها فيه.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ دائرة المعلوم بالإجمال هو نفس موارد الأصول اللفظية والعملية ، وأنّ جميع هذه الموارد هي أطراف العلم الاجمالي الذي

٢٤٢

حاصله هو أنّ جملة من تلك الموارد تكون مخالفة الأصل فيها مبيّنة بما في تلك الكتب ، وحينئذ يكون المعلوم الاجمالي بالمخالفة للأصل فيه معلّما بعلامة خاصّة وهي كون ذلك المعلوم الاجمالي موجودا ما يخالفه في ضمن تلك الكتب.

لكن ذلك لا يزيد على ما إذا علمنا بأنّ في غنم هذه القرية ما هو موطوء الإنسان ، وأنّ ذلك المعلوم موجود في ضمن القطيع الشرقي مثلا ، وحينئذ ينحلّ ذلك العلم الاجمالي الكبير إلى العلم الاجمالي الصغير الذي هو القطيع الشرقي ، ويكون المدار على هذا القطيع الشرقي ، وحينئذ فيما نحن فيه يكون المدار على العلم الاجمالي في دائرة ما بأيدينا من الكتب ، والمعلوم في هذا العلم الاجمالي الصغير ليس بذي علامة خاصّة.

والحاصل أنّ العلم بالمخصّصات في الكتب لا يزيد على العلم بالحكم نظير العلم بالموطوء في القطيع ، وليس هو بزائد على أصل الحكم مثل البيض ، فلاحظ.

والخلاصة : هي أنّا في المعلّم بعلامة خاصّة مثل البيض يكون لنا علم تفصيلي بحكمه وبحرمته وإن لم نعلم بمقدار عدده ، والعمومات فيما نحن فيه وإن كثرت ونحن نعلم بحرمة العمل بالبعض منها وبسقوطه عن الحجّية ، إلاّ أنّ هذا الحكم المعلوم ليس بلاحق لذي علامة ، نظير لحوق الحرمة للبيض ، نعم هو أعني حرمة العمل والسقوط لاحق لما وجد مسقطه في أحد الكتب ، وهذا العنوان أعني ما وجد مسقطه في الكتب هو عين السقوط لا أنّه علامة خارجية لاحقة للساقط ، فإنّ حاصل علمنا هو أنّا نعلم بأنّ الكثير من هذه العمومات ساقط ومبيّن السقوط في الكتب ، ولا ريب في أنّ علمنا بأنّ بعض هذه العمومات ساقط ينحلّ

٢٤٣

في حدّ نفسه إلى الأقل والأكثر في الدرجة الأولى لا في الدرجة [ الثانية ] كما في العلم بحرمة البيض.

ومثال الدين المعلوم في الدفتر من هذا القبيل أيضا ، يعني أنّه يجري فيه الإشكال المزبور وهو العلم بأنّ في الدفتر ديونا كالعلم بأنّ في القطيع محرّما ، غير أنّ ذلك يمكن العثور عليه بالفحص عنه في الدفتر ، بخلاف مثال القطيع ، ولعلّ ذلك (١) ، أعني إمكان العثور عليه بالفحص ، هو الذي أوجب الفحص ، وإن كانت الشبهة موضوعية بدوية بعد فرض انحلال العلم الاجمالي بالعثور على الأقل الذي هو القدر المتيقّن ، وليس هو إلاّ كمن احتمل أنّ لزيد عليه دينا في دفتره من دون علم إجمالي ، فإنّ عليه الفحص ، ولا يسوّغ له العقل الرجوع إلى الأصول النافية قبل الفحص ، بل لو احتمل أنّ هذا الحيوان الذي هو أمامه في الليلة الظلماء أرنب فإنّه لا يسوّغ له العقل أكله قبل الفحص عنه بالمقدار الممكن المتعارف ، وهذا ملاك آخر لا دخل له بالعلم الاجمالي مرجعه إلى أنّه لا يجوز تغميض العين عمّا يحتمل أنّه لو فتح عينه لاطّلع على حرمته مثلا ، وهذا الملاك في الشبهات الموضوعية أشبه شيء بالملاك في الشبهات الحكمية الراجع إلى الأخذ بمقتضى العبودية.

قوله : لأنّ غاية ما هناك هو عدم اقتضاء العلم الثاني للتنجّز بالاضافة إلى المقدار الزائد على المتيقّن ، لا أنّه يقتضي عدم التنجّز بالاضافة إلى ذلك المقدار ، فلا يعقل أن يزاحم اقتضاء العلم الأوّل للتنجّز في تمام ما بأيدينا من الكتب على ما هو مقتضى المقدّمة الثالثة ... الخ (٢).

لا يخفى أنّه إذا وصلت النوبة إلى كون الخمسة الزائدة على العشرة

__________________

(١) [ في الأصل : ولعلّه لأجل ذلك ، وقد غيّرناه لاستقامة العبارة ].

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٥٨.

٢٤٤

المعلومة مشكوكة ، كان الشكّ المذكور مقتضيا لعدم تنجّزها ، إذ لا يعقل التنجّز بالنسبة إلى ما هو مشكوك ، فلم يبق إلاّ احتمال كون هذه الخمسة معلومة ، وذلك بمجرّده لا يوجب التنجّز ، بل إنّه بنفسه غير معقول ، إذ لا يعقل القول بأنّ هذه الخمسة المشكوكة يحتمل فيها المعلومية ، إذ لا معنى لاحتمال معلومية الشيء.

وبالجملة : أنّ كون الخمسة المذكورة معلومة وكونها مشكوكة متناقضان لا يجتمعان ، وغاية ما يمكن أن يقال في دفع هذا التناقض هو أنّ متعلّق الشكّ والترديد هو غير متّحد بما هو متعلّق العلم ، ففي مثال البيض المحرّمة المعلوم وجودها في ضمن هذا القطيع نقول إنّ العلم يكون متعلّقا بنفس البيض المحرّمة الموجودة في ذلك القطيع على ما هي عليه من العدد ، ويكون الشكّ والترديد متعلّقا بعددها المردّد بين العشرة والخمس عشرة على وجه يصحّ لنا أن نقول إنّها لو كانت عشرة فهي معلومة الوجود ، وإن كانت خمس عشرة فهي أيضا بتمامها معلومة الوجود.

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ علمنا إنّما تعلّق بحرمة البيض الموجودة في ذلك القطيع على حين أنّنا غير عالمين بأنّ الموجود منها هو العشرة فقط أو الخمس عشرة ، وحينئذ لا يصحّ لنا أن نقول إنّها لو كانت خمسة عشر فهي معلومة الوجود ، بل أقصى ما يمكننا أن نقول إنّها لو كانت خمسة عشر فهي معلومة الحرمة ، وأنّ حرمتها منجّزة لو كانت موجودة ، لكنّا لمّا لم نحرز وجودها ، تكون النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمات ، فنحن الآن لم نحرز الخطاب بحرمة تلك الخمسة الزائدة.

لا يقال : إنّكم وإن لم تحرزوا الحرمة إلاّ أنّكم تحتملون الحرمة المنجّزة وذلك كاف في حكم العقل بتنجّزها.

٢٤٥

لأنّا نقول : لا محصّل لاحتمال الحرمة المنجّزة ، بل هو تناقض ، إذ لا يجتمع التنجّز مع الاحتمال إلاّ مع العلم الاجمالي المفروض سقوطه بالنسبة إلى الخمسة المذكورة ، أو سلوك طريق مقتضى العبودية الذي أوجب الفحص مع قطع النظر عن العلم الاجمالي ، والمفروض أنّا نتكلّم في المسألة من ناحية اقتضاء العلم الاجمالي بوجود البيض ، لا من هذه الناحية أعني ناحية وجوب الفحص الثابت بطريق مقتضي العبودية الذي هو الوجه المختصّ بوجوب الفحص عمّا يخالف الأصول العملية.

وبالجملة : أنّ العمدة في بيان عدم انحلال العلم الاجمالي هو ما عرفته فيما تقدّم من الوجوه السابقة ، لا مجرّد أنّ المقام من قبيل اجتماع المقتضي واللاّمقتضي ، فتأمّل.

ومن ذلك كلّه يتّضح لك التأمّل فيما أفيد بقوله : لأنّ غاية ما هناك هو عدم اقتضاء العلم الثاني الخ ، إذ ليس لنا علمان إجماليان يكون الأوّل منهما متردّدا بين المتباينين والثاني منهما مردّدا بين الأقل والأكثر كي نقول إنّ عدم متنجّزية الأقل في العلم الثاني لا تنافي تنجّزه بالعلم الاجمالي الأوّل ، بل ليس لنا إلاّ علم إجمالي واحد وهو العلم بحرمة البيض المفروض كونها متردّدة بين الأقل والأكثر ، وأقصى ما في البين هو أنّ هذا العلم الاجمالي ذو جهتين ، من إحدى الجهتين يكون متردّدا بين المتباينين ، لتردّد تلك البيض على ما هي عليه من القلّة أو الكثرة بين المتباينين ، ومن الجهة الأخرى يكون متردّدا بين الأقل والأكثر ، لتردّد تلك البيض بين الأقل والأكثر ، فيكون حاله من هذه الجهة أعني اجتماع الجهتين كحال المعلوم غير المعلّم فإنّه أيضا واجد للجهتين المذكورتين ، وفي كلّ من العلمين يكون المعلوم متردّدا بين الأقل والأكثر.

٢٤٦

فالعمدة في إبداء الفرق هو أنّ تردّد المعلّم بين الأقل والأكثر لا يوجب انحلاله ، بخلاف تردّد غير المعلّم بين الأقل والأكثر فإنّ هذا التردّد موجب لانحلاله ، وذلك بما تقدّم (١) من إحدى الطرق وهي :

أوّلا : ما أشار إليه شيخنا قدس‌سره من أنّ الزائد في صورة المعلّم يكون على تقديره متعلّقا للعلم بخلافه في صورة غير المعلّم.

وثانيا : هو ما تقدّم ذكره من كون التردّد بين الأقل والأكثر في الأوّل واقعا في الرتبة الثانية من العلم الاجمالي بخلافه في الثاني.

وثالثا : هو ما تقدّم ذكره أيضا من أنّ التردّد بين الأقل والأكثر فيما نراه بالرؤية القلبية من البيض المحرّمة في ضمن القطيع لا يوجب عدم تنجّز واحد منهما ، كما أنّ التردّد فيما نراه في الرؤية الحسّية للبيض الموجودة منعزلة وحدها بين الأقل والأكثر لا يوجب عدم تنجّز واحد منهما ، فراجع وتأمّل.

وبقيت أبحاث في هذه المسألة تعرّضنا لها في الجزء الثاني في مبحث توقّف البراءة على الفحص (٢) ومع [ ذلك ] ففي النفس شيء من عدم الانحلال ، أمّا الأوّل وهو أنّ الزائد على تقديره يكون متعلّقا للعلم ، ففيه ما لا يخفى ، فإنّ ذلك راجع إلى احتمال وجوده ، وعلى تقدير وجوده يكون معلوم الحرمة ، لكن مع فرض عدم العلم بوجوده لا يكون معلوم الحرمة ، وذلك واضح ، ألا ترى أنّ هذا القطيع لو كان كلّه معلوم الحرمة ثمّ رأيت في جنبه شاة تحتمل أنّها منه وتحتمل أنّها من غيره ، فهل يكون لك مانع من إجراء البراءة وقاعدة الحل فيها.

وأمّا التأخّر الرتبي ، ففيه المنع من التأخّر ، بل يمكن القول بأنّ المتحقّق

__________________

(١) راجع ما تقدّم في الحاشية السابقة.

(٢) فوائد الأصول ٤ : ٢٧٧ ـ ٢٨٠ ، وتأتي حواشي المصنّف قدس‌سره على ذلك في المجلّد الثامن.

٢٤٧

أوّلا في الذهن هو التردّد في تلك البيض بين الأقل والأكثر ، ثمّ يتحقّق العلم بحرمة تلك البيض على كلّ من طرفي الأقل والأكثر. مضافا إلى المناقشة في مانعية التأخّر الرتبي عن الانحلال.

وأمّا ما ذكرناه من الرؤية الحسية عند وجود البيض قبل اختلاطها ، وقياس الرؤية القلبية عليها بعد الاختلاط ، ففيه أنّه في مرتبة النظر حسا أو قلبا إلى البيض لا يكون انحلال ، ولكن الانحلال إنّما هو في مقام التطبيق كما [ إذا ] أغلق الباب على البيض وأخرجت تدريجا فخرج القدر المتيقّن ، ثمّ بعد ذلك نحتمل أنّ البيض قد انتهت ، وهذا الخارج من غنم أخرى ، فلا ريب في الانحلال وعدم لزوم الاجتناب عن الخارج الجديد إلاّ بالاستصحاب الذي لا شكّ في عدم جريانه في أمثال المقام ، وهكذا الحال في المخلوطة بعد العثور على القدر المتيقّن من عدد البيض ولو كانت البيض موجودة.

وما أشبه الكلام في عدم الانحلال في هذه المسألة بعدم الانحلال في من فاتته فرائض يعلم بعددها ثمّ نسيه ، بل إنّ شبهة احتمال التنجّز تجري حتّى في من احتمل أنّه فاتته فريضة وأنّه يحتمل أنّه عند فوتها كان ملتفتا إلى فوتها ويحتمل طرو النسيان.

وإن شئت فقل : إنّ العلم بحرمة تمام البيض الموجودة لا يوجب إلاّ تنجّز المقدار المعلوم الوجود وهو العشرة ، أمّا الزائد وهو الخمسة مثلا فلا موجب لتنجّزها إلاّ احتمال كون البيض الموجودة التي علم بحرمتها خمسة عشر ، وهذا غير محرز لا تفصيلا وهو واضح ، ولا إجمالا لأنّ أقصى ما في البين أنّه طرف للعشرة وهو الأقل وهو عين الانحلال. والخلاصة هي أنّه وإن علم بحرمة كلّ ما وجد هنا من البيض ، سواء كان عشرة أو كان خمسة عشر ، إلاّ أنّ هذا العلم لا

٢٤٨

يكون علما إلاّ بحرمة عشرة في هذا القطيع ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : في الحاشية : لا يخفى أنّه إذا كانت التكاليف أو المخصّصات المعلوم وجودها إجمالا في الكتب المعتبرة مردّدة أيضا بين الأقل والأكثر كان حالها حال التكاليف الواقعية المعلوم وجودها في الشريعة المقدّسة ... الخ (١).

يعتقد المحشّي أنّ المعلوم الاجمالي المعلّم هو التكاليف الموجودة في الكتب ، فكونها في الكتب علامة للمعلوم الاجمالي ، ليكون حاصل علمنا هو أنّا نعلم بتكاليف موجودة في الكتب نظير قولك إنّا نعلم بمحرّمات موجودة في هذا القطيع ، ومن الواضح أنّ هذا ليس محلّ بحث شيخنا قدس‌سره فإنّ المعلوم منه مرسل وكونه في الكتب يكون عبارة عن دائرة العلم الاجمالي نظير العلم الاجمالي بحرمة مقدار من الشياه موجودة في هذا القطيع في قبال جميع الغنم الموجودة في القرية مثلا ، فعلمنا الاجمالي بتكاليف موجودة في الكتب لا يكون في الكتب علامة للمعلوم الاجمالي ، بل هو دائرة للعلم الاجمالي في قبال الدائرة الوسيعة في العلم الاجمالي الكبير أعني العلم بالتكاليف في الشريعة ، بل المراد بالمعلّم في بحث شيخنا قدس‌سره هو ما عرفت من أنّا لو نظرنا إلى العمومات التي بأيدينا التي هي ألف عام مثلا نعلم أنّ بعضها ساقط الحجّية ، وذلك المعلوم السقوط معلّم بعلامة خاصّة ، وهو كون مسقطه موجودا في الكتب.

وهكذا الحال في موارد احتمال التكليف التي هي ألف مورد مثلا التي هي في حدّ نفسها مورد لأصالة البراءة مثلا ، فهذه الموارد نحن نعلم إجمالا أنّ بعضها متعلّق التكليف ، وأنّ بيان ذلك البعض موجود في الكتب ، فدائرة العلم الاجمالي

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٥٦ ـ ٣٥٧.

٢٤٩

هو العمومات في الأصول اللفظية ومحتملات التكاليف في الأصول العملية ، والمعلوم بالاجمال في الأوّل هو سقوط بعض تلك العمومات وفي الثاني هو سقوط بعض تلك الأصول ، وهذا المعلوم في الطرفين معلّم بعلامة خاصّة هي كون بيانه في الكتب ، لا أنّ دائرة العلم الاجمالي هو في الكتب.

نعم في كون الموردين من قبيل المعلّم بعلامة خاصّة الزائدة على نفس التكليف ومركبه كما في البيض الذي هو عنوان زائد على الحرمة وعلى مركبها الذي هو ذات الغنم ، تأمّل وإشكال تقدّمت (١) الاشارة إليه ، وحاصله أنّ كون البيان في الكتب لا يزيد على المعلوم بالاجمال الذي هو أصل المخصّص وأصل التكليف ، كما أنّ أصل دعوى أنّ في كون المعلوم الاجمالي معلّما بعلامة خاصّة مثل البيض المحرّمة المردّدة بين الأقل مانعا عن الانحلال تأمّلا تقدّمت (٢) الاشارة إليه فلاحظ وتدبّر.

قوله في الحاشية : كما إذا علم بوجود نجس بين إناءات متعدّدة مردّد بين الواحد والأزيد ، وعلم أيضا بنجاسة إناء زيد بخصوصه المعلوم وجوده في ضمن تلك الاناءات ، فإنّه إذا علم بعد ذلك وجدانا أو تعبّدا بنجاسة أحد تلك الاناءات بعينه ، فهذا العلم وإن كان يوجب انحلال العلم الأوّل المتعلّق بوجود النجس في البين المردّد بين الأقل والأكثر ، إلاّ أنّه لا يوجب ارتفاع أثر العلم الثاني المحتمل انطباق معلومه على كلّ واحد من الأطراف ... الخ (٣).

لا يخفى أنّ العلم الأوّل قد انحلّ بالعلم الثاني الذي هو العلم الاجمالي

__________________

(١ و ٢) في الحاشيتين السابقتين.

(٣) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٥٧.

٢٥٠

بنجاسة إناء زيد بخصوصه المعلوم إجمالا وجوده بين تلك الاناءات ، فإنّ هذا العلم الثاني وإن كان اجماليا إلاّ أنّه يوجب انحلال العلم الاجمالي الأوّل كما يوجبه لو كان الثاني تفصيليا ، فكما أنّه إذا علم أنّ هذا الاناء الذي هو بعينه إناء زيد نجس ، يكون العلم الأوّل منحلا إلى العلم التفصيلي والشكّ البدوي فيما زاد عليه ، فكذلك ينحلّ العلم الأوّل المتعلّق بوجود نجس في البين مردّد بين الأقل والأكثر إلى العلم الاجمالي بنجاسة إناء زيد المردّد بين تلك الاناءات والشكّ البدوي فيما زاد عليه ، وحينئذ نبقى نحن والعلم الاجمالي بنجاسة إناء زيد المردّد بين تلك الاناءات ، فإذا علمنا تفصيلا بنجاسة هذا الاناء الخاص ففي بادي النظر ينبغي أن نقول إنّ العلم الاجمالي بوجود إناء زيد النجس بين تلك الاناءات ينحلّ إلى هذا العلم التفصيلي كما لو علمنا إجمالا بوجود نجس واحد بينها من غير تقييد بكونه إناء زيد ، ثمّ علمنا تفصيلا بنجاسة هذا الاناء ، وحينئذ فما المانع من الانحلال في صورة كون المعلوم الاجمالي هو نجاسة إناء زيد ، إلاّ ما ذكره من احتمال انطباق اناء زيد المعلوم إجمالا على كلّ واحد من الأطراف ، والمفروض أنّه قد تنجّز بعنوان كونه إناء زيد ، وهذه الجهة المانعة موجودة فيما لو كان المعلوم نجاسته من إناء زيد مردّدا بين الواحد والأكثر.

بل إنّ هذا المثال أيضا يرجع إلى الأقل والأكثر باعتبار أنّا بعد أن علمنا بأنّ إناء زيد الواحد المردّد بين الاناءات نجس ، وعلمنا تفصيلا بأنّ هذا الاناء الخاصّ نجس ، نقول إن كان إناء زيد هو هذا الاناء فقد علمناه تفصيلا وسقط العلم الاجمالي بوجود إناء زيد بين الاناءات ، وإن كان غير هذا الاناء الذي علمناه تفصيلا ، كان عندنا نجس آخر هو غير هذا النجس الذي علمناه تفصيلا ، وذلك الآخر هو إناء زيد ، وحينئذ يكون الحاصل أنّا فعلا عالمون تفصيلا بنجاسة هذا

٢٥١

الاناء وشاكّون في وجود نجس آخر غير هذا الذي علمناه تفصيلا.

فلا بدّ أن نقول إنّ الذي يقف في قبال البراءة عن وجود ذلك الزائد ، هو أنّ إناء زيد الواقعي المفروض كونه نجسا الذي قد علمنا بوجوده على الاجمال في ضمن تلك الاناءات ، نحتمل انطباقه على إناء آخر غير هذا الذي علمنا وجوب الاجتناب عنه منجّزا ، لأنّا قد علمنا به ، وكان علمنا به منجّزا للاجتناب عنه ، وهذا كلّه ناشئ من كون المعلوم بالاجمال معلّما بعلامة خاصّة فيتمّ المطلوب ، وغاية الأمر أنّ نفس المعلوم المعلّم بعلامة خاصّة في هذا المثال لم يكن مردّدا بين الأقل والأكثر.

لكن قد عرفت أنّ الشكّ بعد العلم التفصيلي بنجاسة هذا الاناء يعود إلى العلم التفصيلي والشكّ في الزائد ، فلما ذا لا تجري فيه البراءة ، فلو كان إناء زيد في المثال مردّدا بين الواحد والأكثر ، ثمّ علمنا بأنّ هذا هو إناء زيد ، يكون حاله حال هذا المثال في أنّا قد علمنا تفصيلا بلزوم الاجتناب عن هذا الاناء والشكّ فيما زاد عليه ، فكما قلنا إنّ هناك مانعا من الرجوع إلى البراءة في ذلك الزائد وهو احتمال انطباق عنوان إناء زيد على ذلك المشكوك ، فكذلك نقول هنا إنّ المانع من جريان البراءة في الزائد هو احتمال انطباق عنوان إناء زيد على ذلك الزائد.

ولو قلنا بالانحلال في هذه الصورة أعني صورة ما لو كان إناء زيد مردّدا بين الواحد والأكثر ثمّ علمنا بأنّ هذا الاناء الخاص هو إناء زيد واحتملنا أنّ له إناء آخر باقيا بين تلك الاناءات ، لكان يلزمنا الانحلال في الصورة المزبورة فيما لو كان المعلوم تفصيلا هو مجرّد نجاسة هذا الاناء من دون علم بكونه إناء زيد ، لأنّ المفروض أنّ تردّد اناء زيد المعلوم اجمالا وجوده بين الاناءات بين الواحد والأكثر لا أثر له عند المحشي ، بمعنى أنّه لا يكون المتنجّز من العلم الاجمالي

٢٥٢

بوجود إناء زيد المردّد بين الأقل والأكثر إلاّ الأقل الذي هو الاناء الواحد ، غايته أنّه إناء زيد ، فإذا علمنا تفصيلا بأنّ هذا الاناء نجس ينبغي أن ينحلّ العلم الاجمالي ، والمفروض أنّ المحشّي لا يقول بالانحلال كما مرّ فيما قدّمه من المثال ، فتأمّل.

والخلاصة : هي أنّ محلّ بحث شيخنا هو العلم الاجمالي الواحد الذي يكون المعلوم بالاجمال معلّما بعلامة خاصّة ، ويكون هو أعني المعلّم مردّدا بين الأقل والأكثر ، وبذلك ينحلّ إلى العلم بين المتباينين والعلم بين الأقل والأكثر ، وما ذكره المحشي من قبيل العلمين الاجماليين ، يكون المعلوم في أحدهما مرسلا مردّدا بين الأقل والأكثر وفي الآخر يكون معلّما بعلامة خاصّة ، فإنّ ذلك خارج عن محلّ بحث شيخنا قدس‌سره سواء كان المعلوم الثاني المعلّم بالعلامة الخاصّة مردّدا بين المتباينين أو كان مردّدا بين الأقل والأكثر. نعم إنّ الثاني لو لم يكن فيه إلاّ العلم الثاني لكان هو محلّ بحث شيخنا وهو العلم بأنّ هذه الاناءات فيها ما هو لزيد ، وأنّ ما هو لزيد نجس ، وأنّه مردّد بين الواحد والأكثر ، فلاحظ وتدبّر. وعلى كلّ حال نقول في المثالين أنّ المعلوم المرسل ينطبق على المعلّم ويكون المدار على الثاني.

قوله في الحاشية : قد ظهر ممّا ذكرناه أنّ العلم ( الاجمالي ) بكون مقدار من الدين مضبوطا في الدفتر لا يوجب الفحص ـ بعد الظفر بالمقدار المتيقّن ثبوته ـ عن الزائد المحتمل ثبوته ... الخ (١).

قد عرفت من مجموع ما تقدّم أنّه لو كان الدين المذكور من قسم المعلوم المعلّم بعلامة خاصّة كان الفحص بالنسبة إلى الزائد على القدر المتيقّن منه لازما

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٥٨.

٢٥٣

على ما عرفت ، وقد عرفت (١) ما فيه من المناقشة ، كما عرفت (٢) المناقشة في كونه من هذا القبيل ، وأنّ الظاهر كون ذلك من قبيل المعلوم المرسل فإنّه لا يعلم إلاّ بأنّ دفتره مشتمل على مقدار من الدين ، فيكون ذلك بمنزلة العلم بأنّ هذا القطيع مشتمل على ما هو الحرام ، وأنّ أقصى ما في البين هو أنّه يعلم إجمالا بأنّه مديون لزيد ، وأنّ ذلك الدين مذكور في دفتره ، فيكون حاله حال من علم بأنّ في غنم هذه القرية ما هو حرام ، وأنّ ذلك الحرام موجود في ضمن هذا القطيع.

قوله في الحاشية المذكورة : كما ادّعي ذلك في موارد الشكّ في بلوغ المال حدّ النصاب وفي حصول الاستطاعة ... الخ (٣).

يعني بذلك الشبهات الموضوعية المبنية على الحساب. ولكن يمكن أن يقال إنّ ما نحن فيه أسهل من ذلك ، فإنّ الشبهة البدوية في أصل وجود الدين المذكور في الدفتر من قبيل الشبهة في أنّ هذا الحيوان أرنب أو غنم مع وجود الظلمة المحتاجة إلى الاستضاءة ، فتكون الشبهة من قبيل تغميض العين عمّا لو فتح عينه عليه لارتفعت ، وهذا النحو من الشبهات والشكّ والتردّد لا يكون بحسب النظر العرفي معدودا في الشبهات كي تشمله الأدلّة اللفظية للبراءة ، بل ولا العقلية لأنّ العقل لا يحكم في أمثاله بعدم البيان.

ومن ذلك تعرف الإشكال فيما ذكره في هذه الحاشية من قوله : ويدلّ على ما ذكرناه ـ إلى قوله ـ مع أنّه لا يشكّ في أنّ المرجع حينئذ إنّما هي أصالة البراءة الخ ، فإنّك بعد أن عرفت أنّ هذا العلم الاجمالي ليس من قبيل ذي العلامة ، وأنّه من قبيل غير المعلّم بعلامة خاصّة الذي ينحلّ بالاطّلاع على المقدار

__________________

(١ و ٢) تقدّما في الهامش ١ و ٢ من الصفحة ٢٥٠.

(٣) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٥٨ ـ ٣٥٩.

٢٥٤

المتيقّن ، تعرف أنّ سقوط الفحص فيما لو ضاع الدفتر لا يكشف أنّ المعلّم بالعلامة يكون العلم فيه ساقطا بعد العثور على المقدار المذكور ، وذلك لأنّ ضياع الدفتر يخرج المسألة عمّا ذكرناه من الشبهات البدوية التي لا يعدّها العرف شبهة.

قوله في الحاشية : بل يصحّ الاستدلال بهذا الوجه بعينه على وجوب الفحص عن المخصّص المحتمل وجوده ـ إلى قوله ـ فلا يجوّز العقل العمل على طبق ظاهر كلام المولى في عموم الترخيص ... الخ (١).

لا يخفى أنّ ملاك الرجوع إلى الظواهر إنّما هو بناء العقلاء وأهل اللسان ، وإن شئت هو البناء العرفي ، وأين هذا من عدم حكم العقل بجواز العمل على عموم الترخيص إلاّ بعد الفحص عمّا يحتمله من التكليف الالزامي ، بل إنّ هذا البناء العرفي وتباني أهل اللسان لا يختصّ بالرخص ، بل هو متأتّ في العمومات الالزامية مثل آية النداء للصلاة يوم الجمعة (٢) المحتمل طروّ تخصيص عليها بالنسبة إلى مورد خاصّ وهو زمان الغيبة ، فإنّ العرف والعقلاء وأهل اللسان لا يأخذون بتلك العمومات إلاّ بعد الفحص وإن سوّغه العقل من باب أنّه على طبق الاحتياط ، بخلاف استصحاب وجوب الجمعة مثلا الثابت في زمان الحضور فإنّه لو عمل به المكلّف في زمان الغيبة بدون فحص لم يكن العقل مانعا له من ذلك ، فتأمّل.

وممّا عرفت يتّضح أنّ مدرك أصالة الظهور وما هو الملاك فيه قاصر عن العمومات التي تكون غالبا في معرض التخصيص ، وإن شئت قلت إنّ الظهورات قاطبة سواء كانت عموما أو كان غيرها لو كانت بمعرض المخالفة الكثيرة فهي وإن

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٥٩ ـ ٣٦٠.

(٢) الجمعة ٦٢ : ٩.

٢٥٥

كانت في حدّ نفسها منعقدة ، إلاّ أنّ العقلاء وأهل اللسان لا يأخذون بها ، يعني لا يجعلونها حجّة ، ومن ذلك تعرف الإشكال فيما ذكره في الحاشية بقوله : مع أنّه لو بني على ذلك لما كان استقرار طريقة الشارع على إبراز مقاصده بالقرائن المنفصلة مانعا من جريان مقدّمات الحكمة في مدخول الأداة ، ومن انعقاد ظهور الكلام في العموم ، الخ (١).

ومن الواضح أنّه لو بني على ذلك لكان استقرار طريقة الشارع على إبراز مقاصده بالقرائن المنفصلة موجبا لانتفاء المقدّمة الأولى من مقدّمات الحكمة ، وهي كون المتكلّم في مقام بيان مراده ، ومع انتفاء المقدّمة الأولى كيف ينعقد للكلام ظهور إطلاقي كي نقول إنّه قد تمّ الظهور ، وأنّ العثور على القرينة المنفصلة لا يكون موجبا لانعدام الظهور ، وأنّه إنّما يكون موجبا لسقوطه عن الحجّية.

وأمّا الإشكال الذي ذكره في صدر هذه الحاشية على ما أفاده شيخنا قدس‌سره من أنّ العمدة في أصالة العموم هي مقدّمات الحكمة في المصب الخ ، فهو إشكال في المبنى ، وقد تقدّم الكلام فيه في أوائل مباحث العموم فراجع (٢).

ولا بأس بنقل ما حرّرته عنه قدس‌سره في هذا المقام ونقل ما حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي رحمه‌الله فإنّ ذلك ممّا يزيد في وضوح ما أفاده قدس‌سره في مقام الفرق بين كون العام دليلا على مراد المتكلّم ، وكونه حجّة عقلائية في مقام الاحتجاج من المولى على العبد ومن العبد على المولى الذي يكون مرجعه إلى قاطعية عذر العبد وعدم قاطعية عذره.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٦١.

(٢) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ١٠٥ وما بعدها.

٢٥٦

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه في هذا المقام ما هذا لفظه : وتوضيح ما تقدّم أنّ الأخذ بالظاهر تارة يكون لأجل كونه كاشفا محضا عن مراد المتكلّم ، لا من باب أنّه حجّة على ذلك ، بل لأجل أنّ السامع له غرض في الاطّلاع على مراد المتكلّم ، ويكون أخذه بظاهره لكونه كاشفا عن ذلك نظير كشف المعلول عن علّته ، لما هو الغالب من كون الارادة باعثة على إلقاء الكلام ( على طبق المراد الواقعي ) وكونه فيه منبعثا عن ذلك المراد. ولا بدّ في هذه المرحلة من حصول الظنّ الفعلي بل الوثوق التامّ بأنّ ذلك المعنى هو مراده ، فلو احتمل احتمالا يعتنى به أنّ المتكلّم قد اعتمد في إفهام مخاطبه على القرينة المنفصلة لم يمكنه أن يستكشف مراده من مجرّد ظهور كلامه على وجه يرتّب الغرض الذي يريد ترتيبه على تقدير كونه مراده.

وتارة أخرى يكون الأخذ بالظاهر في مقام الاحتجاج من جانب المولى أو من جانب العبد ، وهذا هو الذي يكون الظهور فيه حجّة عقلائية ويكون اعتباره عند العقلاء من باب الموضوعية ، لا بمعنى أنّه موضوع صرف ، بل بمعنى أنّ هذا الطريق معتبر عندهم وإن لم يكن كاشفا عن المراد بذلك النحو من الكشف الذي يعتبر فيه الوثوق والاطمئنان ، ولعلّ اعتبار الظنّ الفعلي أو الوثوق في حجّية الظواهر إنّما نشأ عن الخلط بين المقامين.

ثمّ إنّ ما تقدّم من كون ديدن المتكلّم على الاتّكال على القرائن المنفصلة يكون موجبا لعدم إمكان استكشاف مراده حتّى بعد الفحص وعدم العثور على القرينة (١) ، أمّا بالنسبة إلى المقام الثاني أعني مقام الاحتجاج من الطرفين فهو إنّما يوجب سقوط الظهور قبل الفحص ، أمّا بعده فلا يكون موجبا لذلك.

__________________

(١) [ هكذا في الأصل ، والظاهر أنّ في العبارة سقطا لا يخفى على المتأمّل ].

٢٥٧

والسر فيه هو أنّ كون ديدن المتكلّم على ذلك لا يكون موجبا لتنجّز القرينة المنفصلة بقول مطلق حتّى لو تفحّصنا عنها فلم نعثر عليها ، بل يكون أقصى ما فيه أنّه يكون موجبا للتوسّط في التنجّز بالنسبة إلى القرينة المنفصلة ، بمعنى أنّه إنّما ينجّز القرينة التي يمكن المكلّف أن يعثر عليها بالفحص عنها ، بحيث يكون جريان ديدن المتكلّم على ذلك موجبا لتنجّز القرينة المنفصلة لو كانت موجودة وكان المكلّف متمكّنا من العثور عليها بالفحص ، لأنّ العقلاء بعد اطّلاعهم على ديدن المتكلّم لا يرون المخاطب معذورا في الأخذ بظاهر كلامه المفروض أنّه يحتمل احتمالا قريبا أنّه أراد خلافه وأنّه اعتمد كجاري عادته على القرينة المنفصلة المفروض إمكان الاطّلاع عليها بالفحص.

أمّا بعد الفحص وعدم العثور فذلك الاحتمال أعني احتمال الاعتماد على القرينة المنفصلة كجاري عادته وإن كان موجودا إلاّ أنّه لمّا كان المكلّف حينئذ غير متمكّن من الوصول إلى القرينة على تقدير وجودها واقعا ، يرونه معذورا في الأخذ بذلك الظاهر ، ويرون أنّ له أن يحتجّ على الآمر ويعتذر بما هو ظاهر كلامه.

والحاصل : أنّ احتمال وجود القرينة المنفصلة قبل الفحص يكون احتمالا عقلائيا ، ويكون موجبا في أنظارهم للتوقّف في الأخذ بأصالة الظهور ، ولا يرونها حجّة قاطعة للعذر ، إذ مع إحراز كون ديدن المتكلّم على الاعتماد على القرائن المنفصلة يقوى احتمال وجودها واحتمال العثور عليها بالفحص ، ومع وجود هذين الاحتمالين القويين في أنظارهم لا يرون أصالة الظهور مستندا وحجّة قاطعة من الطرفين ، بخلاف ما بعد الفحص وعدم العثور فإنّه حينئذ يكون الاحتمال الثاني منعدما بالمرّة ويكون الاحتمال الأوّل في منتهى الضعف والسقوط في أنظارهم.

٢٥٨

وبالجملة : أنّ الفحص وعدم العثور يكون موجبا لرفع ما يكون موهنا لأصالة الظهور من احتمال وجود القرينة التي لو تفحّص عنها لعثر عليها ، انتهى ما كنت حرّرته عنه قدس‌سره.

وقال المرحوم الشيخ محمّد علي فيما حرّره عنه : ويمكن الذبّ عن الإشكال أيضا ، بأنّ كون شأن المتكلّم ذلك يوجب عدم الاطمئنان والوثوق بأنّ واقع مراده هو ظاهر العام والمطلق ، فلو تعلّق غرض باستخراج واقع مراد المتكلّم لما أمكن بالنسبة إلى المتكلّم الذي يكون شأنه ذلك ، كما يتّضح ذلك بالقياس على المحاورات العرفية ، فإنّه لو فرض أنّ أحد التجّار ... ، ثمّ قال : وأمّا إذا لم يتعلّق الغرض باستخراج واقع مراد المتكلّم بل كان الغرض هو الالزام والالتزام بكلام المتكلّم وجعله حجّة قاطعة للعذر في مقام المحاجّة والمخاصمة ، فلا بدّ من الأخذ بما هو ظاهر كلامه ، وكون شأن المتكلّم التعويل على المنفصل لا يوجب أزيد من الفحص ، والسرّ في ذلك هو أنّ طريق الأخذ والالتزام والمحاجّة إنّما هو بيد العقل والعقلاء ، وبناء العقلاء في محاوراتهم على ذلك ، كما أنّ العقل يحكم بذلك أيضا ، وعليك بمقايسة الأحكام الشرعية على الأحكام العرفية الصادرة من الموالي العرفية الملقاة إلى عبيدهم ، فإنّه لا يكاد يشكّ في إلزام العبد بالأخذ بظاهر كلام المولى بعد الفحص عمّا يخالف الظاهر واليأس عن الظفر إذا كان شأن المولى التعويل على المنفصل ـ إلى أن قال : ـ

والحاصل : أنّ كون المتكلّم من دأبه التعويل على المنفصلات إنّما يوجب عند العقلاء عدم الأخذ بالظاهر قبل الفحص عن مظان وجود المنفصل ، وأمّا بعد الفحص فالعقل والعقلاء يلزمون العبد بالأخذ بالظاهر ، ويكون ظاهر كلام

٢٥٩

المتكلّم حجّة على العبد ، ولكلّ من المولى والعبد إلزام الآخر بذلك الظاهر ، الخ (١).

وعلى كلّ حال ، ليست المسألة منحصرة بالعموم أو الاطلاق ، بل هي جارية في كلّ ظاهر يريد المتكلّم خلافه اعتمادا على القرينة المنفصلة ، وهو المعنيّ بقولهم يجوز تأخير البيان عن الخطاب بل وعن وقت الحاجة ، فإنّه شامل لكلّ بيان حتّى بيان أنّ المراد من هذا النهي الذي هو ظاهر في التحريم هو الكراهة ، أو أنّ المراد من هذا الأمر الذي هو ظاهر في الوجوب هو الاستحباب أو مجرّد رفع المنع من الفعل ، ونحو ذلك من القرائن على إرادة خلاف الظاهر ، ولو مثل قرائن المجاز ، ولا ينحصر الأمر في المخصّص في قبال العام أو في المقيّد في قبال الاطلاق ، سواء كان ما تضمّنه ذلك الظاهر من قبيل الرخصة ونفي التكليف ، وكانت القرينة على خلافه ، أو كان الأمر بالعكس.

ولكن مع ذلك كلّه فليست المسألة مسألة المعرضية ، وأنّ الشارع قد سلك في إفادته طريقا آخر غير الطريقة التي جرى عليها أهل اللسان. نعم إنّ في البين معارضات بنحو التباين أو بنحو العموم من وجه أو بنحو العموم والخصوص المطلق أو بنحو الاطلاق ، وكلّها راجعة إلى التزاحم في مرحلة الحجّية ، ولأجل مظنّة المزاحم لا يمكن الاعتماد في نفيه على أصالة العدم ، بل لا بدّ من الفحص عنه في مظانّه بمقدار يحصل الاطمئنان بعدمه كما عرفت فيما تقدّم (٢) عند الكلام على دفع توهّم كون المقام بالنسبة إلى أصل دليل الحجّية من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية مع كون المخصّص لبّيا ، فراجع.

ويبقى الكلام في أنّه لما ذا صدر هذا التعارض ، وما الحكمة فيه في الأخبار

__________________

(١) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٥٤٦ ـ ٥٤٧.

(٢) في التنبيه المتقدّم في الصفحة : ٢٢٦ وما بعدها.

٢٦٠