آراء وأصداء حول عبدالله بن سبأ وروايات سيف

السيد مرتضى العسكري

آراء وأصداء حول عبدالله بن سبأ وروايات سيف

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دانشكده اصول دين
المطبعة: شفق
الطبعة: ١
ISBN: 964-5841-65-8
الصفحات: ٣٩٠

هذه الشخصية ، واعتبارها مختلقة ، وحمل سيف بن عمر مسؤولية ذلك ، وهذه الشخصية دار حولها جدل طويل قبل أن يثيرها المالكي ، بل قبل ان يثيثرها قدوته الهلابي ولعل أكثر الأطروحات اثارة ، وازعاجا على المستوى الخليجي ، وعلى مستوى جامعة الرياض ، ما قام به زميلنا وصديقنا الصامت إلى حد السكون الأستاذ الدكتور عبدالعزيز الهلابي. وذلك عندما نشر بحثه المحكم في حوليات كلية الآداب بجامعة الكويت ( الحولية الثامنة ، الرسالة الخامسة والأربعون عام ١٤٠٧ / ١٤٠٨ ه‍ بعنوان « عبدالله بن سبأ دراسة للمرويات التاريخية عن دوره في الفتنة ». وهذا البحث المثير هو الذي حفز المالكي ، وفتق حلقه ، وحمله على اهداء كتابه ( نحو انقاذ الإسلامي ـ قراءة نقدية لنماذج من الأعمال والدراسات الجامعية ) الذي قامت مؤسسة اليمامة الصحفية مشكورة بطباعته ضمن سلسلة ( كتاب الرياض ) لأستاذه ومعلمه الذي لم يتلق على يده الدراسة ، ولكنه تلقى على بحوثه وكتبه الثقافية.

والدكتور الهلابي توخى واسطة العقد في منظومة اشكاليات التاريخ الإسلامي ، ومارس فيها حفرياته المعرفية. وما أعده إلاّ كاتباً يتلقط في كتاباته الأشياء الحساسة والمثيرة ، ولا يعنيه بعد ذلك ، ما إذا كان أرضى الناس ، أو أسخطهم وأذكر أنه أهداني قبل سنوات « مستلة » من بحثه عن القرّاء ، ودورهم في معركة ( صفين ) وكان بحثه هذا ، وآخر لا أذكره الآن ، مثار اعجابي به ، وتساؤلي عن مصداقية النتائج التي توصل إليها ، ولما لم أكن إذ ذاك مهتما بالتاريخ وقضاياه المثارة على كل المستويات ، فقد صرفت النظر عن مساءلة الباحث القدير عن تلك الآراء المخالفة للسائد وأحسب أنها مرت بسلام فالأجواء يوم ذاك طبيعية ، والحالة هادئة لا توتر فيها.

١٠١

ومن قبل ومن بعد أخذت الأقلام المشبوهة تتجه صوب التاريخ الاسلامي ، وتراثه ، تنقب عن هفواته ، وتنفخ في هناته لأغراض دنيئة ، هذه القنافذ الهداجة حفزتني على الاهتمام بالتاريخ ، وبما يدور حوله من دراسات باقلام عربية وغربية منصفة او متحاملة مربية او مستريبة في هذه الأجواء الملوثة ، والمشبوهة استكملت الدراسات حول تفسير التاريخ كالتفسير الاشتراكي كما يصفه انجلز مردريك ، ومناهجه عند الغرب وعند العرب كما يجليه الدوري وعبد الغني حسين وعثمان حسن وأسد رستم وشوقي الجمل ، وحسين نصار ومن ثم عرفت شيئا عن مدارسه وخصائصها وصلة التاريخ بالعلوم الأخرى ومصادره المشروعة وغير المشروعة ، والموثوقة وغير الموثوقة ومستويات نقد التاريخ لقد سعدت حين عدت إلى مكتبتي فوجدت فيها العشرات من هذه الأنواع.

وزاد اهتمامي بالتاريخ الإسلامي بعد أن أوغل فيه العلمانيون ، والحداثيون ، وقرؤوا بعض الأحداث واتخذوها سلما للطعن في التجربة الاسلامية في الحكم. ومازلت أنحي باللائمة على اخواننا المؤرخين ، الأكاديميين ، الذين يمرون بهذه الأشياء وكأنها لا تعنيهم وانحي باللائمة ـ أيضاً ـ على أقسامنا العلمية المتخصصة ، التي لم تتخلص من نمطيتها ، وأسلوب تناولها المعتق وأتحسر على ضحالة الأكثرية منهم ، وارتجالهم الأشياء ، أو التسطح عليها واعجب كل العجب من ضعف التقي وجلد المنافق.

ومما زاد استيائي وصعد من حرصي على قراءة التاريخ الإسلامي ما تتابع من مناهج غربية تسابق المؤرخون على تطبيقها في دراسة التاريخ الاسلامي وتعمد البعض محاكمة الإسلام فيما كتبه بعض الاسلاميين كفعل المستشرقين مع

١٠٢

الاسرائيليات في التفسير ، ومحاكمة الإسلام فيما يفعله الاسلاميون كالذي كتبه العلماني الهالك فرج فودة في كتابه ( الحقيقة الغائبة ) وما تلفظه المطابع ، ودور النشر المشبوهة والمرتزقة من كتب تسيء إلى رموز الإسلام ، ومقدساته ، ولا تعف عن النيل من شخص الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه الكرام ، وأحداث التاريخ. ومن قبل هذا قرأت باستياء روايات جرجي زيدان التي وظف فيها آليات فرويد الجنسية وكتابات الدكتور طه حسين عن « الفتنة الكبرى » و « المعذبون في الأرض » ، و « الأدب الجاهلي » ومن بعد أولئك جمع غفير من الماركسيين القذرين الذين لم يتورعوا عن النيل من الرسول ومن المجتمع المدني وعندي من ذلك ما يغثي النفوس.

ثم ما نراه ونسمعه من كتابات المتطرفين في فكرهم كال‍ ( العروى ) وغيره ، ممن حكموا العقل المطلق ، أو حكموا المناهج الغربية في قراءة التاريخ ومع انني لا أتردد في ادانة كثير من المؤرخين ، ومع انني ـ أيضاً ـ أو من إيمانا لا يزعزعه الشك ، ان تاريخنا بحاجة إلى غربلة ، ومساءلة ، وتصفية ، وتنقية ، إلاّ ان هذا لا يجعلني اتفق مع المفكرين ، والعقلانيين ، والماديين ، في قراءة التاريخ على هذه الشاكلة ، ولمثل هذه الأهداف الدنيئة. ويقال مثل ذلك عن التفسير المليء بالإسرائيليات ، مما فتح ثنيات على فكر الأمة ، وتراثها. ثم يجب أن نعرف أن مدار الأعمال على النية وعلى العلم واستكمال آليات البحث ، فمن آخذ التاريخ ، ولام المؤرخين وآخذ المفسرين لغرض شريف ومقصد سليم ، وبعد أهلية الاجتهاد لا يرمى في مؤاخذته إلى تقرير نتائج مناهضة للإسلام ، فاولئك مع الذين أنعم الله عليهم واستعملهم في خدمته ، وطاعته ومن مارس الفعل نفسه وله نوايا دنيئة ، ومقاصد سيئة ، ثم هو دون القدرة المطلوبة لمثل هذا

١٠٣

العمل فاولئك مع الذين لا يستطيعون توصية ولا إلى اهلهم يرجعون.

والمالكي واحد ممن نتحفظ على بعض قراءاته.

ولا أشك انه يمثل عنصر الاثارة لزملائنا في الأقسام التاريخية فهل هم معه ، أو ضده ولماذا هذا الصمت الطويل هل ما يقوله لا يستحق الرد ، والمساءلة ، ام أنهم يرون أنفسهم أكبر من الرجل ، ومن المجال الصحفي الذي يشتغل من خلاله. وامنيتي أن يمد المالكي عينه لا إرادة لزينة الحياة الدنيا ، ولكن اتقاء كالذئب الذي ينام بإحدى مقلتيه ، ويتقي باخرى الأعادي ، يمدها ليقرأ لأولئك الذين أسالوا دم التاريخ من عقلانيين ، وعلمانيين ، ومستشرقين ، ثم ينازلهم ، إن كان ثمة فضلة من جهد وعلم. إذا كلما رأيتهم يخبون ، ويضعون في تراثنا ، دون منازع ، تذكرت قول الشاعر :

لو كنت من مازن لم تستبح إبلي

بنو اللقيطة من ذهل ابن شيبان

ان كتابات المالكي الفاقعة اللون ، تهز المسلمات ، وتحفز القارئ إلى إعادة النظر في مصداقية التاريخ ، وليست بأقل إثارة مما يكتبه الآخرون. فمتى يهب الأخوة في الجامعات ، لاعادة الثقة بهم ، وبالتاريخ المستباح ، لإيقاف هذه الهدميات التي تمارس بين الحين والآخر من مغرضين حادقين أليس فيهم رجل علم واثق ، ينازل باقتدار ، ويسائل بحكمة ، ويوقف هذه الجرأة التي نحترمها عند البعض ، وقد لا نتفق مع طائفة من مفرداتها.

ومن المؤكد ان ( التاريخ الإسلامي ) الذي أرى أن يسمى ( تاريخ المسلمين ) يهتم بأحداث السلاطين ، ولا يتسع للفكر ، ورجلاته ، والعلم واساطينه ، كما يمتلىء بالمبالغات ، والخرافات والأساطير ، واللا معقول ،

١٠٤

واللا لائق وسبق ان قيل : ( لا يكتب التاريخ إلا المنتصر ). ومع شديد الاستياء ، فالتاريخ في مفهومنا لا يمتد إلى تراجم الرجال من علماء ، وفلاسفة ، ومفكرين ، وإلى منجزهم ، بل يقف حيث تكون الأحداث السياسية ، والعسكرية ، وأخبار السلاطين. هذا التاريخ بآلياته ، ومرجعياته واهتمامته ، ومناهجه ، بحاجة إلى أقلام مخلصة واعية ، تمسه بلطف ، وتنقيه باقتدار ، لكي توقف طوفان التساؤلات المحرجة.

لقد كانت الضربات الموجعة للتاريخ ، تأتي من علماء الملل والنحل الاسلامية ، التي تعمدت إنكار بعض الأحداث ، وبعض الشخصيات المؤثرة ، كبعض الصحابة ، والتابعين المشبوهين وتأتي هذه الإثارات من المستشرقين الذين دخلوا على التاريخ الاسلامي بآليات غير ملائمة ونوايا مشبوهة ، ووجدوا فيه ما يريدون. وكنت أود لو عمد علماؤنا ومفكرونا ونفوا من التاريخ ما لا يتسع له نص ولا يحتمله عقل ولا تقبله أوضاع ، فنحن أحق بالمعالجة منهم ، وهذه مسؤوليتنا. وإذا يكون ابن سبأ محور كتابات المالكي فإن ممن كتب عن شخصية ابن سبأ في سياق إنكار هذه الشخصية مرتضى العسكري في عملين هامين ومشبوهين في آن هما :

( عبدالله بن سبأ بحث وتحقيق فيما كتبه المؤرخون والمستشرقون عن ابن سبأ ) المطبعة العلمية في النجف ١٣٧٥ ه‍ ـ ١٩٥٦ م ) وعبد الله بن سبأ وأساطير أخرى ) دار الغدير بيروت طهران ١٣٩٢ ه‍ / ١٩٧٢ م.

والجدل حول ابن سبأ يأخذ ثلاثة مستويات ـ المستوى السائد عند المؤرخين الإسلاميين. وهو ثبوت وجوده ، وثبوت دوره في الفتنة ، بكل حجمها المبالغ فيه.

١٠٥

ـ المستوى الإستشراقي والشيعي المتأخر. وهو انكار وجود ابن سبأ ، ومن ثم إنكار دوره. وعندما أقول الشيعي المتأخر فإنما أشير إلى أن المتقدمين من الشيعة لم ينكروا وجود ابن سبأ وان نفوا بعض أثره.

ـ المستوى المتوسط ، وهو اثبات وجود ابن سبأ ، والتقليل من دورة في الفتنة وهذا ما أميل إليه ، إن كنت لم أجدا الوقت والجهد الكافيين للقراءة النقدية الجادة حول هذه الشخصية ، لإعلان رأيي بصراحة ، وبدون تردد ، فموقفي متابع لمن أثق به من العلماء والمؤرخين والدارسين ، ومن ثم فهو رأي استئناسي تقليدي ، وليس نتيجة بحث وتقصي ، وحكم شخصي ، ولو فرغت لتقصي لا تخذت موقفاً لا محاباة فيه ، ولا تردد.

ويأتي الدكتور الهلابي ، ومن بعده حسن المالكي مع تيار المتشددين ، المنكرين لوجود هذه الشخصية. ومع قراءتي لما كتبا ووقوفي على الجهد المبذول في التقصي إلا أنني لا أطمئن لما ذهبا إليه ، ولا أرتاح له لأن في نسف هذه الشخصية نسفاً لأشياء كثيرة وتفريغاً لكتب تراثية لكبار العلماء من أمثال شيخ الاسلام ابن تيمية وابن حجر والذهبي وغيرهما ، فان سبأ أو ابن السوداء يشكل مذهبا عقدياً ويشكل مواقف أخرى لو تداعت لكنا امام زلزلة تمس بنايات كثيرة.

ومع هذا مازلت محتاجا إلى مزيد من القول لكي اعدل عن رأيي التبعي الاستئناسي.

وفي سياق مغاير يأتي الأستاذ الدكتور سليمان بن حمد العودة الأستاذ المشارك في قسم التاريخ بفرع جامعة الإمام بالقصيم متساوقاً مع المستوى السائد الذي يؤكد وجود هذه الشخصية وأثرها ومثله الأستاذ الدكتور سعدي

١٠٦

الهاشمي.

والدكتور العودة خبير كبني لهب في هذا المجال ، فقد قدم رسالة ماجستير عن ( ابن سبأ ) وهو باحث متمكن ، فيه أناة ، وبعد نظر ، ويملك آليات الحوار الجاد ، وهو المؤمل للمنازلة ، ولكنه بعد لم يقطع.

وأذكر ان لدي بحثنا صغيراً عن ابن سبأ للدكتور سعدي ، تناول فيه هذه الشخصية. وقرر أنها حقيقة لا خيال وقد حاولت الحصول عليه مع بحوث الدكتور الهلابي في كتبتي المركومة بشكل فوضوي فلم أجدها ووجدت كتاب ( الرواة الذين تأثروا بابن سبأ ) للهاشمي.

والدكتور العودة كرمني حين عرض علي أخيراً بحثاً قيماً تحت عنوان « ابن سبأ والسبئية » كتبه عام ١٤١١ ه‍ في إطار بحوث الترقية وفيه رد ، على منكري وجود ابن سبأ. وبالذات الدكتور الهلابي وعجبت كثيرا من تردده في نشر هذا البحث القيم الذي أتوقع أن يثير قضايا جديدة ، قد تحمل المالكي على اعادة النظر فيما توصل إليه من نتائج ساير فيها أستاذه الدكتور الهلابي ، وسايرا معا من لا يبحث عن الحق. وأملي أن يجد الدكتور العودة الشجاعة في نشره ، أو ارسال نسخة منه إلى الأستاذ الدكتور الهلابي ، وحسن المالكي ، لقراءته أملا في تعديل بعض آرائهما ، إن كان في البحث ما يحملهما على ذلك او اسقاطه في سياق ما يمارسانه من هدميات موسعة ، في بنية التاريخ فنحن مع الحق متى بدا لنا ، وليس بيننا وبين أحد نسب ، ولا عهد ، في قضايا العقيدة ، والفكر ، فكل نفس بما كسبت رهينة ، تأتي يوم القيامة تجادل عن نفسها ، والذي اعرفه ان المالكي يشير دائما في بحوثه المثيرة إلى انه طالب حق ، رجاع إليه ، متى تبين له وجه الصواب ، وهذا البحث هو المحك عن المصداقية.

١٠٧

بحث كهذا سيضع الاثنين أمام مساءلة لن يجدا مناصا من الإجابة عليها ، ورد ما يمكن رده ، وقبول ما يمكن قبوله والمالكي تناول من قبل أطروحة العودة عن ابن سبأ ص ١٧٥ من كتابه ( نحو انقاذ التاريخ الإسلامي ) بحيث أشار إلى أربع ملاحظات هامة ، ما كان يسع العودة السكوت عليها ، ولا سيما أنه يدعي امتلاك الوثائق التي تحمل المالكي على التراجع عن شيء من رأيه وعن بعض ملاحظاته.

والبحث الذي بين يدي للدكتور العودة يعول فيه على روايات لم تكن عن طريق سيف بن عمر في سبيل اثبات شخصية ابن سبأ.

والهلابي ومن بعده المالكي ، ومن قبلها العسكري ، يقتصرون في إنكار وجود شخصية ابن سبأ على رواية سيف بن عمر المجروح عند المحدثين ، وربما أخذا هذا الموقف التحفظي من منهج أسد رستم حول المصدر الواحد للقضية وكم كنت أتمنى لو ان ( الهلابي والمالكي ) لم يجعلا ضعف سيف بن عمر سبيلا لنسف حقيقة ابن سبأ ، ذلك أن الضعف في الرواي قد لا يحمله على اختلاق الشخصية من العدم ، واختلاق أحداث لها ، وإنما قد يحمله على نسبة أشياء لا تصح نسبتها إليه. وشخصية ابن سبأ مستفيضة في كتب التاريخ ، والعقائد ، وعند علماء التاريخ ، وعلماء الكلام ، وليس أحد من السلف ـ فيما أعلم ـ أثار هذه الإشكالية كإثارة الأخوين ، ولا أرى مبررا لنسف هذه الشخصية من أساسها. وسيف بن عمر ( عمدة في التاريخ ) كما يقول ابن حجر ، مع ان هناك روايات لم تأت عن طريق سيف بن عمر أشار إليها الدكتور العودة ، ويقال عن ( القعقاع ) ما يقال عن ( ابن سبأ ) ، ولا سيما أن القعقاع من عشيرة سيف بن عمر ، وهو أدرى به وبأخباره والمأخذ على سيف ربما يقتصر على تضخيم الدور ،

١٠٨

والتركيز على الشخصية لدافع قبلي أو عقدي لكنني لا أتصور اختلاق شخصيات من الوهم والخيال للتشيع ، إذا ليست الأمة وعلماؤها من الغفلة والذاجة ، بحيث تصنع لها شخصيات وهمية ، وتمرر عليها. أحسب ان ذاكرة الأمة أوعى من هذا الاستغفال وعلماء الحديث الذين كتبوا في الطبقات ، وفي تاريخ الرجال ، ذكروا القعقاع ، ولم يشكوا في ثبوت وجوده ، كشخصية فاعلة في الفتوح والغزوات. وقد نبهني بعض الزملاء إلى أطروحة دكتوراه كتبها طالب عراقي عن القعقاع بين الحقيقة والخيال ، وكم أتمنى الحصول عليها. وعلى ضوء ذلك فان ما يكتبه المالكي تحصيل حاصل ، وتسخين طبيخ. فلا أحسبه يضيف شيئا أكثر من تاكيد ما قيل. يقال هذا فيما سبق إليه ، ولامساس فيما بادر إليه من دراسات قيمة لا يهمنا الحديث عنها الآن.

وبصرف النظر عن كل ما سبق ، فانه يجب علينا في حالة الدخول في مثل هذه المضائق الحساسة ان نتجرد من الهوى ، وان نتوفر على المعلومات وان نتملك آليات الاجتهاد ، وأن نتحرى الدقة ، وأن نستخدم كل مانملك من إمكانات ، وان نكون واثقين من أنفسنا ، مستقبلين لكل اعتراض بصدر رحب ، فيما يتعلق بقضايا مثل هذه القضايا ، ولا سيما إذا كانت تلك القضايا قد سبق إلى التشكيك فيها مستشرقون مشبوهون ، وأصحاب ملل مستفيدون من هذا التشكيك. وعلى الذين يهزون الثوابت ويحملوننا على إعادة ترتيب معلوماتنا ، ان يستمعوا لنا بأدب جم ، وأن يحاورونا باحترام ، وان يتلطفوا بازالة الشك ، والارتياب ، بعلمية مهذبة ، وان لم يفعلوا فما بلغوا رسالتهم ، وفق أصول البحث العلمي وفي المقابل علينا ان نحسن الظن بمن لم يبد عواره ، ولم يثبت ارتيابه ، ولن نتحامى الحكم على النوايا فلا يحصل ما في الصدور إلا الله ، ولا يبلو السرائر

١٠٩

إلاّ خالقها ، ولا ينجو إلاّ من أتى الله بقلب سليم.

وثقتي بالأستاذ الدكتور الهلابي ومن بعده الأستاذ حسن المالكي قوية ، وأرجوا ألاّ يحملاني على زعزعة الثقة بالنفار أو بالإستهتار. ومع ذلك لا يمكن ان ارفعها فوق المساءلة ، والنقد ، والشك في امكاناتهما. وعتبي الشديد على اخواننا أساتذة التاريخ في جامعة الامام وفي الجامعات المماثلة ، وبخاصة المتخصصين منهم في التاريخ الإسلامي القديم فهم الأجدار بالمواجهة. وليس من اللائق أن ننازل عنهم ، فقد يخرج علينا من يقول : ( ليس هذا العش عشك فادرجي ) ، ولو وجدنا فسحة من الوقت وفضلة من الجهد لكنا اندى صوتا ، وأصلب عوداً. ولكننا كخراش وضبائه ، فالى الله المشتكى وما أفعله الان على الأقل من باب الغيرة ، وفك الاشتباك ، وأرجو ألا يقال لي « زادك الله حرصا ولا تعد » وأرجو ممن يجد الأهلية من نفسه ، مع توفر الوقت ، والقدرة ، أن يدخل دخولاً علميا لا تسفيه فيه ، ولا سخرية ، ولا لجاجة ، ولا هجاء مخلاً بحشمة العلماء ووقارهم ، ومسيئا لمكانة القضايا مجال النقاش ، فكم من مقتدر يمنعه من الدخول في الحوار ما يؤول إليه من مهاترات ، وتراشق بكلمات السباب ، والاتهام ، وما يخشاه من دخول أدعياء إذا ريع أحدهم اهتاج اعزلا على حد :

( ينيلك منه عرضا لم يصنه

ويرتع منك في عرض مصون )

لقد كان صمت المتخصصين مريباً ، واحجامهم مخلاً في الثقة بهم. فالصحافة الآن وقبل الآن تشتغل في تخصصهم ، وتدك حصونهم ، وهم صامتون إن عليهم ان يوظفوا قدراتهم ليحقوا الحق ويبطلوا الباطل ، ولا يعجب الانسان أن يقول أخطأت ، ويعود إلى الصواب ونصف العلم لا أدري ومن قال

١١٠

لا أدري فقد أفتى إذا كان سيف بن عمر متكأ المنكرين ( عمدة في التاريخ ) عند ابن حجر ( ويروي عند البخاري في التاريخ ) فالأمر فيه متسع ، ( فابن حبان ) و ( الذهبي ) ، و ( ابن حجر ) ، و ( المزي ) ، وغيرهم قالوا بضعفه ، وكذبه ووضعه ، وزندقته. على اختلاف فيما بينهم ، وتخفظ منهم على بعض التهم وكثير غير ابن عمر اختلف العلماء حولهم فمن موثق ومن مضعف ولكن لم يقل احد منهم ـ فيما أعلم ـ برد رواياته التاريخية ، ويكفيه تزكية في مجال التاريخ على الأقل ، شهادة ابن حجر ، ورواية البخاري له ، وأحسب أن الرجلين شاهدا عدل ، ولا يمكن استبدال الأدنى بالذي هو خير ، وفي تعليق القلعجي على العقيلي قال كان اخباريا عارفا إلا أنه في الحديث ضعيفا ) ولم يقل في التاريخ ، وقضية الزندقة اتهام تحفظ عليها الكثيرون. وعلى ضوء ذلك يحسن ب‍ ( الهلابي والمالكي ) مراجعة الموضوع.

وإشكالية المالكي الاولى : أنه يعيش عقدة « سيف بن عمر » وما وصم به من جرح قادح في روايته في الحديث ، دون التاريخ ، ومن ثم يشكل المنفذ الوحيد لمرافعته ضد بعض أحداث التاريخ وشخصياته.

واشكاليته الثانية : اصراره على تطبيق منهج المحدثين على الاطلاع ، في تمحيص المروي من طريق تتبع طرق الرواية ، ومعرفة الرجال.

واشكاليته الثالثة : انه ما يزال في اطار المثار ، ولم ينفرد بشيء بعد.

واشكاليته الرابعة : انه يقف حيث تكون أحداث الفتنة الكبرى وهي شائكة وحساسة وللسف في ذلك موقف أسلم وأحكم وتطبيق منهج المحدثين على الروايات التاريخية دون قيد ، فيه ما فيه من المحاذير ، وللسلف الصالح موقف عدل في هذا الأمر ولعل مشروع الدكتور ضياء العمري الذي وظف له

١١١

وظائفه من الدراسين كان مغرياً لكثير من اللاحقين ، إذ من اليسير على ضوء هذا المنهج نسف التاريخ بكامله ، فهذا الطبري وهو من هو يعتمد على وضاعين ، وطائفيين كابن مخنف مثلاً ، ولو قرأناه بتلك العيون لما أبقينا على متنه نصاً صحيحاً ، ومشروع ضياء العمري يقف عند تاريخ الصدر الأول المؤثرة أحداثه بأمور الشريعة ، والعقيدة ، والعبادة ، كسيرة الرسول (ص).

وإذا كانت الروايات الآتية من طريق سيف بن عمر ، ضعيفة عند المحدثين ، حجة عند المؤرخين ، والاخباريين ، فلا يمكن معها ان ننسف الظاهرة كلها. فابن عمر ليس من أهل البدع ، والأهواء ، وان اتهم بالزندقة تحاملاً من ابن حبان حيث قال « وكان قد اتهم بالزندقة » ، وليست كل رواياته مخالفة لنص قطعي الدلالة والثبوت ، وانما هي روايات تأتي في سياق معهودات مستفيضة ، « فابن سبأ ، والقعقاع » ، مثلا شخصيات تداولها ، وقبل بوجودها علماء التاريخ ، وعلماء الحديث ، وعلماء الجرح والتعديل ، وعلماء الكلام ، والمؤرخون للملل والنحل وبخاصة ابن سبأ فهم يذكرونها في سياق ما يكتبون ، ولم يكن اعترافهم بهذه الشخصيات إلاّ لأنها مستفيضة على الألسن يتداولها الناس ، وعلماء الجرح والتعديل انصفوا سيف بن عمر حتى لقد قال ابن حجر العسقلاني عنه : « ضعيف في الحديث عمدة في التاريخ » وأردف : « أفحش ابن حبان القول فيه » وقال العقيلي : « يحدث عنه البخاري » أي : في التاريخ ، ولو اننا طبقنا منهج المحدثين على بقية العلوم على اطلاقه مثلما يفعل البعض مع الروايات التاريخية ، ولتكن مثلا على روايات الجاحظ في « البيان والتبيين » وفي « الحيوان » ، أو على روايات أبي الفرج الاصفهاني في « الأغاني » ، أو على روايات علماء النحو والصرف واللغة ، والبلاغة ، كما لا نقبل أن يكون هذا الشعر لذلك الرجل

١١٢

المنسوب اليه لوصوله عن طريق مجهول الحال أو الذات ، أو يكون مجروحاً ، وهذا يمتد بنا إلى انكار الشخصيات ، كما أنكرها الهلابي ، والمالكي ، ومن قبلهم المستشرقون والمذهبيون.

واحتياجنا إلى منهج المحدثين في الجرح والتعديل قائم ، ولكنه ليس على اطلاقه ، وانما يقوم متى قامت الحاجة ، وذلك إذا تعارضت الروايات بين المؤرخين ، بحيث جاءت الواقعة عند مؤرخ مناقضة لواقعة اخرى عند مؤرخ آخر ، ولزم التوفيق بينهما ، أو عندما يأتي مقتضى الرواية التاريخية حكم شرعي ، او عقدي ، أو تعبدي ، أو عقلي ، ففي اختلاف المؤرخين نحاول الجمع ، فان أمكن صرنا اليه ، وان لم يمكن الجمع نظرنا إلى رجال السند ، فاثبتنا ما كان رجاله ثقات ، اسقطنا ما كان في رجاله قول. ومعارضة الرواية التاريخية للنص الثابت ، أو القطعي تسقط الرواية ولا كرامة ، وخروج الرواية على المعقول يسقطها عقلاً والذين درسوا مناهج التاريخ وضعوا ضوابط للنقد وحصروا مآخذ كل ضابط وفرقوا بين النقد السلبي والايجابي ، ونقد النص ، والاشخاص والوثائق ، وما يعرف بالنقد الظاهري ، والباطني ، ومع ذلك فما أحد منهم أفاض في منهج النقد على طريقة المحدثين ، وبخاصة عندما لا تقوم الحاجة لهذا المنهج كما أشرت.

وإذا جاء الناقد التاريخي إلى واقعة متعارف عليها ، متداولة بين المورخين ، مقبولة عند علماء الجرح والتعديل ، ممن ضعفوا راوي الواقعة التاريخية وقبلوها منه ، مثلما يفعل ابن حجر ، ومن قبله البخاري في التاريخ الكبير ، وهي أيضاً مستفيضة لدى كافة العلماء ، ثم تعمد نسفها من اساسها ،

١١٣

لمجرد أن في سندها مجروحين ، فذلك أمر لا يمكن القبول به ، ولا سيما إذا كان الحدث ، او الظاهرة ، مستفيضة ، ولم يكن لاحد من العلماء المتقدمين والمتأخرين من امثال ابن حجر والذهبي وغيرهما ، ومن جاء بعدهم ممن عرفوا ان ابن سبأ ، ـ مثلاً ـ لم يأت إلاّ من طريق سيف بن عمر ، ومن الذين درسوا الملل والنحل ، وعرضوا للسبئية ولم ينكروا وجود ابن سبأ واشكالية ابن سبأ انه لم يعد شخصية تاريخية وحسب كالقعقاع مثلا ، فكل متحدث عن الفتنة وعن العقائد وعن التاريخ عرض لهذه الشخصية.

لقد مرت بهؤلاء على مختلف تخصصاتهم ، في الحديث ، والتاريخ والملل ، والنحل ، وعلى مختلف العصور ، شخصيات كابن سبأ والقعقاع ، وقضايا ، وأحداث ، وما أحد منهم نظر في حقيقة وجودها ، لمجرد انه لا يوجد طريق إلاّ طريق سيف بن عمر المجروح عند المحدثين. وما أحد من علماء السلف المعتبرين من شكك بوجود هذه الشخصيات ، هذا فيما اعلم وفوق كل ذي علم عليم وكما أشرت فان ضعف الراوي في مجال التاريخ يحملنا على استخدام العقل ورد المبالغات التي لا تعقل إذا لم يترتب على ردها تعطيل لسلطة النص القطعي الدلالة والثبوت ، ورد الاحداث التي لا يتوقع صدورها من شخص ، أو جيل توفرت لدينا المعلومات الكافية لتزكية ، لا رد الحدث أو الظاهرة المعقولة والمبررة والمستفيضة ، فالرواية الضعيفة في بعض احاديث الصلاة لا تنفي الصلاة نفسها ، وثبوت شخصية ابن سبأ والقعقاع لا يلزم منه ثبوت كل ما نسب اليهما. ثم ان ثبوت شخصيتيهما مستفيضة ، ومعروفة ، ولم يشك احد من المعتبرين بوجودهما. وما أثار مثل ذلك إلاّ المستفيدون من انكار مثل هذه الشخصيات. والسلفيون ليس لهم فائدة من انكار شخصية كابن سبأ فلماذا

١١٤

نتواصل مع غيرنا لصالح الغير. وأي اجحاف بحق المصداقية التاريخية يحصل لو صرفنا النظر عن مثل هذه الأمور.

وظاهر الانتحال في الشعر العربي التي التقطها مرجليوث حين حقق كتاب الحموي ، تعيد نفسها بشكل آخر مع حسن المالكي ، ومع سلفه الذين أمدوه بالمادة وبالمنهج ، فهو حين نظر إلى شخصيات مثيرة كابن سبأ ، والقعقاع ، وليس لها طريق غير طريق سيف بن عمر المجروح راح يتقصى الروايات المنسوفة من قبل ليعيد نسفها من جديد رواية رواية من خلال آليات المحدثين ، متناسياً تباين القيمة الروائية بين المؤرخين والمحدثين ، وفاته ، أو ربما فوت على نفسه ما تعارف عليه العلماء ، والمؤرخون من التفريق بين شروط الرواية في الحديث تثبت حكماً شرعياً أو تعبدياً ، او عقدياً يمس أحوال الناس ، وقد يقدح في معقولية الحكم أما الرواية في التاريخ فأمر مختلف جداً ما لم يترتب على ذلك ضرر من أي وجه. كما انه لم يفرق بين الاستفاضة في الظاهرة ، وارتباطها بالرواية دون استفاضة ، وفاته أو فوت على نفسه ـ ما توصل اليه العلماء من تقرير قواعد ، وأصول ، لكل علم. وما اتخذه الفقهاء دليل على تغير الحكم بتغير سياقاته ، ولهذا قال الفقهاء تقبل شهادة الصبيان فيما بينهم والرجوع إلى أهل الخبرة ومراعاة الاحوال في بعض الاحكام رؤية اصولية فالقاضي محتاج إلى الصانع والمزارع والطبيب في القضايا المتعلقة بمهنهم. ومن ثم يرتكب بعض الباحثين أخطاء فاحشة عندما يعزلون القضية ـ أي قضية ـ من سياقها الزمني ، أو من سياقها المعرفي ، متجاهلين ـ لحاجة في النفس ـ الضوابط والسياقات المعرفية. واذكر انني وأنا اتقصى مذهب عبد الله القصيمي الالحادي الهالك تبين

١١٥

لي انه يهدم قضية بحجة عقلية ، ثم يهدم تلك الحجة باخرى ، فحاجته هي التي تمنح الاشياء مشروعية الوجود ، او المعقولية ثم تنزعها ، ولهذا عد من الهدامين ولم يصنف من المذهبين.

وما يجب في هذا السياق أن يعرفه مرجليوث ومن بعده طه حسين والمالكي ان هناك اصولاً لصناعة الأدب وأخرى لصناعة التاريخ وثالثة لصناعة الفقه ولا يجوز تجاهل شيء من ذلك اثناء محاكمة الظواهر ولو اننا طبقنا أصول علم على آخر لالحقنا الضرر بأنفسنا ، وبالفن الذي نعمل به. وقدوتنا في ذلك الامام البخاري رحمه الله ، لقد كان لصحيحه شرطه المعروف ولتاريخه الكبير « والادب المفرد » منهجهما وشرطهما ومن ثم روى في التاريخ الكبير لسيف بن عمر ، وهو يعرف انه ضعيف لا يحتج به في الحديث ، وأعود لأقول ما الذي يترتب على الاعتراف بوجود ابن سبأ ، أو القعقاع أمن الخلل المعرفي أو النقص في الدين أو القدح في الفكر أو في العقل العربي إذ ليس أحد منهم اسطورة لا يقبلها العقل ، وليس أحد منهم ينطوي على فعل يعارض الثبوت والدلالة القطعيين وليس أحد منهم ينطوي على مغمز حضاري لا يتسع له الفعل الإسلامي المعتبر ، وليس ثبوت احدهم قادحاً في المقتضى الشرعي أو التعبدي او العقدي ، فما المحذور إذاً عند السلفي ، وما النتائج التي يسعى باحث كالدكتور الهلابي ومن بعده المالكي حين أنفقوا مزيداً من الجهد والوقت لمصادمة السائد والمتعارف عليه والمتلقى بالقبول لدى عامة علماء المسلمين الثقات من مؤرخين ومحدثين وأصوليين ومتكلمين. ثم لماذا يعيدان ما قاله غيرهما من انكار لهذه الشخصيات ، اما كان يكفيهما الإشارة إلى هذه النتائج والإشتغال بما هو أهدى وأجدى.

١١٦

أقول هذا وأنا على رصيف الانتظار والترقب لاجابات كافية شافية ، من الهلابي ، أو من المالكي ، أو منهما معاً او من غيرهما فأنا طالب علم ، ولا أريد لاحد أن يخلط أوراقي ، وإذا كان المستشرقون وأصحاب الملل المنحرفة يرمون إلى اهداف وغايات بعيدة ويحاولون بطرق ماكرة أن يخلطوا الأمور ويحوسوا الفكر ويغرسوا الشك والإرتياب ، فان باحثا ليست له الغايات نفسها ، ولا الأهداف عينها يوظف نفسه من حيث يدري ، أو لا يدري لمؤازرة اولئك وخدمتهم ، لقد بشمنا من تقليب الحطب على نار الفتنة الكبرى وما احد منا شفى نفسه وأبرأ سقمها ، ومَن مِنَ السلفيين من يجرؤ على وضع نفسه بين « على وعائشة » رضى الله عنهما.

والتاريخ الاسلامي الذي انطوى على فتن بدرت بين الصحابة رضوان الله عليهم أوجب السلف الكف عنها ، ولغ في معينة الصافي علماء متضلعون وفلاسفة عميقون ومفكرون جهابذة ، من اصحاب ملل ، ونحل واهواء ، وديانات مختلفة ، وما زالت فيه بقايا لمن أراد الولوغ وكان يجب على كل من يجد في نفسه سدة التاريخ للافساد والتشكيك فأين المتخصصون والمثقفون والمؤرخون من « فيليب حتى » أو « بروكلمان » و « جرجي زيدان » وعشرات بل مئات المستشرقين الذين كتبوا عن القرآن والرسول والحديث والفقه والتاريخ الاسلامي وأوغلوا في الهدم والذم والتشكيك والاتهام.

لقد كانت زيارة حسن المالكي لنادي القصيم الادبي وحديثي معه الذي حملني على قراءة ما كتبه عن القعقاع بتمعن وكان لكتابه الذي اصدرته مؤسسة اليمامة وقام باهدائي نسخة منه حافز لقراءة مقالاته مجموعة في كتاب بعد

١١٧

قراءتها مفرقة في جريدة ، وحين فرغت من قراءة ما كتب عن الاطروحات وعن البيعة في كتابين على الرغم من المشاغل التي تنتابني من كل جانب ، عدت إلى نفسي أتساءل عما تحققه هذه المبادرات وبخاصة ما يوافق فيها هوى الآخرين وتصورت المالكي بعد هذا الجهد الجهيد يلتقط انفاسه ويمسح جبينه وينتبذ من أهله مكانا قصيا ، ينظر إلى هذه الهدميات في التاريخ الاسلامي ويحصي ما ظفر به من الغنائم على المستوى العام ، او على المستوى الشخصي ومن حقنا أن نتساءل ما الذي كسبه لنفسه وما الذي كسبه لأمته وما الذي حققه لتراثه وما الشوكة التي غرسها في حلق أعداء الأمة ، حين فرغ من هذا العمل الشاق المضني ومحى من الوجود شخصية ابن سبأ ، وشخصية القعقاع لقد وضع نفسه من حيث لا يعلم في خندق المشبوهين وما كان جهده المبذول ازاء قضايا ابتدرها ولا قضايا قلقة وملحة انفرد بها ، والأمر لا يعدو تحصيل حاصل وتذكيرا بمعلوم ، وفي هذا السياق اذكر ان عالما من علماء الشيعة تناول في كتاب متداول مئة وخمسين شخصية في التاريخ الإسلامي حيث اعتبرها وهمية وليس لها وجود حقيقي واذكر انني قرأت عن هذا العمل المشبوه ما لا أذكره ، ومازلت أتمنى الحصول عليه فأنا كحذيفة بن اليمان رضي الله عنه الذي يحرص على معرفة الشر لإتقائه ، ولان ظروفي لا تسمح بالمنازلة المكافئة ، فإنني أرجو أن ينهض المالكي أو الهلابي لقراءة هذا الكتاب وما شاكله من عشرات بل مئات الكتب المغروسة كالخناجر المسمومة في خاصرة التاريخ الاسلامي ونقدها واقرار ما يمكن إقراره ، ونفي ما يمكن نفيه فذلك هو العمل المفيد والجاد والمأجور ، وعليهما أن يقرءا ما يكتبه الماديون ، والعلمانيون والماسونيون ومعتزلة العصر والتنويريون والحداثيون والسذج من مغفلي المثقفين والتبعيين

١١٨

والادعياء والمأجورين النفعيين الذين يؤجرون قدراتهم لخدمة الايديولوجيات من أمثال جارودي الذي أعلن للملأ توظيف امكانياته لخدمة المذاهب التي تدفع أكثر ، والتطوع للتصدي ، لكل هذه الطوائف ، وانقاذ ما يمكن انقاذه من تحت حوافرها فاذا فرغوا من كل ذلك ، ولا أحسبهم فارغين ، أمكن الدخول على التاريخ بآليات الناقد الممحص المصفي النافي لما لا يليق عقلاً ، أو علماً ، أو اخلاقا ، وهو كثير. والقعقاع وابن سبأ لا يندرجان تحت أي محذور من تلك المحاذير ، وإذا كان لأحدهما رغبة في نفي المبالغات ، والتهويلات ، فما في ذلك من بأس ، ولكن يجب أن يكون وفق الأصول المعتبرة ومحاولات المالكي لقراءة التاريخ وفق آليات مغايرة لم تكن جديدة ، ولكنها كانت مبكرة على شاب بسنه ، وتجربته ، وخبرته.

لقد تبدى لي وأنا استعرض كتابات المالكي في قراءته الجريئة للتاريخ ، انه لا يملك براعة العالم المتخصص ، ولا دقة ملاحظته. فنحن ذلك الرجل ، فيما لا تخصص لنا به. والمثقف في العرف المعاصر ( من يعرف كل شيء عن شيء وشيئاً عن كل شيء ). ولكي أضرب مثلاً حياً على الفرق بين المتخصص والمثقف أضع ثقافة المالكي في مجال الفقه ، إلى جانب فقه الشيخ بكر عبدالله أبوزيد ـ مثلاً ـ نجد ان بينهما فرقاً حتى في لغة الفن فضلاً عن دقائقه. وأضرب له مثلاً آخر بنفسي ، لقد كان لي ولع في علم الحديث ، وكتابات صحفية في الضعيف والصحيح ، حتى لقد تواصل معي بعض المتخصصين لمراجعة بعض مخطوطاتهم في الحديث ظناً منه أنني متخصص ، وما انا بمتخصص ، ضع هذه الامكانيات الضئيلة إلى جانب امكانيات ( الالباني ) يتضح لك الفرق بين المثقف والمتخصص ، وبحوث المالكي المثيرة لم تكن في مجال تخصصه ، وإنما هي في مجال

١١٩

اهتماماته.

والخطورة تكمن في مثل هذا العمل ، فهو ـ وكثير من المشتغلين ـ لم يكن متخصصاً في التاريخ ، ولم يكن متخصصاً في الحديث ، وعلم الجرح والتعديل ومن ثم فإن ثغرات كثيرة ستبين لو أحداً من المتخصصين المتعمقين في علمي الحديث ، والتاريخ تعقب أطروحاته.

والشيء الذي أود تحاميه من كل المتداخلين معه ، وكل المفكرين في الدخول معه أو مع غيره القول في السرائر ، والنوايا ، أو الشك في المعتقد ، أو التجهيل المطلق إن في مثل ذلك قمعا وتسلطا لا يليقيان ، والناس لا يملكون شق الصدور.

وحين أشير إلى أهمية التخصص ، فليس معنى هذا أن الثقافة غير مؤهلة للدخول في بعض القضايا ، وليست مانعة من الدخول فهذا العقاد ـ رحمه الله ـ لم يكن متخصصاً في شيء من المعارف التي طرقها ، ومع ذلك كان مجليا في كل تناولاته ، كتب في التاريخ ، وفي الأدب ، وفي الفلسفة ، وفي سائر المعارف ، وهو حجة فيما كتب ، ومع كل هذا الاقتدار يؤخذ من قوله ويترك. وتبدو له هفوات لا تحتمل ، وتجاوزات لا تليق ، ومن تجاوزاته التي لا تليق بحق معاوية في كتابه ( معاوية في الميزان ) ويقال مثل ذلك عن كثير من العلماء. من أمثال أحمد أمين في مشروعه عن حضارة الاسلام.

ومن أقرب الشواهد أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري لقد خاض في قضايا كثيرة ، أخطأ وأصاب ، وأبدع وأخفق ، وهو لم يكن متخصصاً في كثير من المعارف التي تطرق لها.

ولكن يجب على الدراس الذي يبحث في غير تخصصه ، ويحس في نفسه

١٢٠