إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار

إدريس الجعيدي السلوي

إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار

المؤلف:

إدريس الجعيدي السلوي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-640-3
الصفحات: ٤٧٩

حياته ، مع مراعاة الظرفية السياسية الدولة التي كانت تعيشها أوربا بعد حرب ١٨٧٠ م وقبل مؤتمر برلين.

أما مشكلة ترجمة الوثائق الإيطالية فقد ساعدني فيها أخي المتخرج من جامعة بولونيا الإيطالية.

٤١

الفصل الثالث

الجانب السياسي والعسكري في الرحلة :

سياسيا

انطلاقا من الرسائل الرسمية (١) التي كان يتبادلها السفير الزبيدي ، إما مع حكومات الدول التي زارها أو مع المخزن المغربي ، استطاع المؤرخون التعرف على بعض الجوانب السياسية لمهمة هذه السفارة المغربية ، وتتلخص في كون السلطان لم يكن يطلب أكثر من احترام المعاهدات والاتفاقيات التي منحتها الحماية القنصلية في ظروف خاصة ، غير أن ممثلي الدول الأجنبية كانوا يتجاوزونها أو يتعمدون (٢) تأويلها على غير حقيقتها وهذه المطالب هي (٣) :

١ ـ قصر الحماية على المستخدمين مع القناصل ، وعلى السماسرة الذين يعملون مع التجار الأجانب ، على أن لا يتجاوز عدد المحميين منهم سمسارين لكل دار تجارية كبيرة.

٢ ـ قصر الحماية التي يمنحها القناصل على سكان الموانئ وحدهم دون أن تمد إلى

__________________

(١) هذه الرسائل منشورة بكتاب «الإتحاف ... ، لابن زيدان ، من ص ٢٧٩ إلى ص ٣١٥ ، الطبعة الأولى ، سنة ١٩٣٠ م ، وبمجلة «الوثائق» المجموعة الخامسة انطلاقا من محفظة الزبيدي الموجودة بمديرية الوثائق الملكية بالرباط.

(٢) «.. يحذر عظماءهم مما يرتكبه نوابهم ومن في حماهم من الخدم ، من مجاوزة الحدود ورفض العهود ، وارتكاب موجبات التفاقم وأسباب الندم ...» من رحلة الجعيدي ، وهي إشارة عارضة تلميحية إلى المهمة السفارية التي شارك فيها.

(٣) كما جاء في الرسالة التي بعث بها السفير الزبيدي إلى وزير خارجية فرنسا السيد دي كازDecas بتاريخ ٣٠ جمادى الأولى عام ١٢٩٣ ه‍ / الموافق ل ٢٣ يونيه ، سنة ١٨٧٦ م ، يعرض عليه كتابة هذه المطالب ، والذي أجابه أن فرنسا لم تكن تمنحها إلا باعتدال ، وصرح باستعداده لإسناد كل هذه المطالب لدى الدول الأوربية الأخرى لتقنين تلك الحماية ، جاك كيلي ، «السفارات والبعثات ...» ، مجلة تطوان ، عدد ٦ ، ص ١٥٥ سنة ١٩٦١.

٤٢

سكان المدن الداخلية.

٣ ـ إلغاء سكوك الحماية التي منحها القناصل لبعض سكان الأرياف بحيث لا يجوز منح الحماية لمن يسكن في البادية (١).

كما تعرض الزبيدي لقضية الشرفاء العلويين ـ أولاد السلطان عبد الملك بن السلطان مولاي إسماعيل العلوي ـ المستقرين بقرية تيوت ، وهي قرية مغربية ألحقها الجيش الفرنسي بالجزائر بعد انهزام الجيش المغربي أمامهم في معركة إيسلي سنة ١٨٤٤ م وأجبروا (٢) على أداء بعض الضرائب التي كانوا معفيين منها من قبل. وحول هذا الموضوع جرت العديد من الاتصالات التلغرافية (٣) بين وزارة الخارجية الفرنسية بباريس ، والقيادة العسكرية العليا بالجزائر العاصمة ووهران ، حول كيفية تسوية المشاكل المتعلقة بقرية التيوت. وفي الأخير قبل وزير الشؤون الخارجية الفرنسية أن

__________________

(١) ألغى السلطان سيدي محمد في يونيه سنة ١٨٦٤ م ، القرار الذي كان أصدره من قبل بمنع التسوق من الأسواق الداخلية ، فبسبب هذا القرار الجديد صار في إمكان الأجانب أن يتجروا ـ بيعا وشراء ـ مع غير أسواق الموانئ من مدن المغرب وقراه الأخرى ، ويجعلون من سكانها خلطاء لهم فيما يبيعون وفيما يشترون ، فاتسع نطاق أعمال الأجانب التجارية إلى القرى والأرياف الداخلية «الوثائق» ج ٥.

(٢) هؤلاء السكان بقوا على تعلقهم بالمغرب وسلطانه ، لذلك تدخل لفائدتهم لدى فرنسا ، لما يتعرضوا له باستمرار من لدن الجيش الفرنسي بالجزائر ، لحملهم على الهجرة من أرضهم وبالفعل هاجرت منهم بطون من قبيلة الأحلاف العربية التي كانت تسكن مع الشرفاء العلويين إلى داخل المغرب من مقاطعة العين الصفراء إلى تاوريرت بإقليم وجدة ، وبقيادة الكارة بسطات (انظر : مقدمة بن منصور «الوثائق» ، (العدد ٦ : ٢٦١). ولقد سبق أن تحدث السفير الحاج عبد الرحمان العاجي سنة ١٨٦٥ م مع الحكومة الفرنسية عن قضية أولاد سيدي الشيخ والحدود المغربية الجزائرية (انظر : «الإتحاف» لابن زيدان ، ج ٣ ، من ص ٥٣٠ إلى ص ٥٣٤) وللمزيد من التوسع في الموضوع انظر دراسة الأستاذ أحمد العماري عن «التوات».

(٣) انظر الوثائق التالية بأرشيف وزارة الخارجية الفرنسية :

Maroc. vol 04 6781) CorresPondance Politique (. Paris, N 159, 190, 191, 204, 205, 213, 215, 216.

٤٣

يحتفظ للشرفاء بامتيازهم (١) القديم على شرط أن يمسكوا عن القيام بأي نشاط سياسي.

وفي نهاية زيارته لأنجلترا أدرك الزبيدي أن لا فائدة ترجى من وراء مذاكراته مع الساسة الأوربيين حول إصلاح الوضع المتدهور في المغرب. فأخذ المبادرة بسرعة وكتب رسالتين في يوم ٣ غشت ١٨٧٦ م. الأولى (٢) إلى اللورد إدوارد ستانلي دربي يطلب منه إصدار توصيات إلى وزيره المفوض بطنجة للمساعدة على تتميم المذاكرة هنا. والثانية (٣) إلى الحاجب السلطاني موسى بن أحمد البخاري يخبره بمحادثاته في لندن ويشير إلى فكرة نقل المذكرات في موضوع الحماية القنصلية إلى طنجة.

فاقتراح الزبيدي الذي نستطيع أن نجزم أنه (٤) صاحب فكرة نقل المذكرات في موضوع الحماية القنصلية إلى طنجة ، قد لقي القبول من طرف أنجلترا والسلطان بهدف تدويل القضية المغربية. وبالفعل بعد عودة الزبيدي إلى طنجة يوم ٢٢ شعبان عام ١٢٩٣ ه‍ / الموافق ١٢ شتمبر سنة ١٨٧٦ م ، بدأ المخزن المغربي يعد نفسه لهذه الاجتماعات الدولية وتوجيه الدعوة إلى ممثلي الدول الأجنبية مصحوبة بمذكرة (٥) ١٠ مارس سنة ١٨٧٧ م. وقد استمرت الاجتماعات ثلاثة أعوام بحضور السيد بركاش والزبيدي الذي ألزمه السلطان (٦) «بالرجوع من فاس إلى طنجة لتتميم المسائل المحالة

__________________

(١) جاك كيلي ، «السفارات والبعثات المغربية إلى فرنسا» ، مجلة تطوان ، العدد ٦ ، سنة ١٩٦١ م ، ص ١٥٥.

(٢) نسخة مصورة منها بمديرية الوثائق الملكية بالرباط (ملف الحاج محمد الزبيدي).

(٣) هذه الرسالة مفقودة ، لكن توجد الرسالة التي أجابه بها الحاجب السلطاني وهي تتضمن على العادة كل ما ورد فيها بتاريخ ٣ شتمبر ١٨٧٦ م (نفس المحفظة السابقة).

(٤) إن الفكرة ظهرت أول مرة في مراسلات الزبيدي خلال وجوده بأنجلترا ، لا يستبعد أن تكون الفكرة موحى بها من طرف الأنجليز ، فهذا مجرد تخمين وافتراض.

(٥) انظر نصها بكتاب عبد الوهاب بنمنصور «الحماية القنصلية بالمغرب من نشأتها إلى مؤتمر مدريد سنة ١٨٨٠» ، المطبعة الملكية ، سنة ١٩٧٧ ص ١٩.

(٦) الإتحاف لابن زيدان ، ج ٢ : ٣١١.

٤٤

على القناصل والباشدورات القاطنين هنالك في حل مبرمها». هذه الاجتماعات تخللتها مراوغات ومناورات ولم تفض إلى نتيجة مرضية ، فكانت الدعوة لعقد مؤتمر دولي بمدريد سنة ١٨٨٠ م ، بإيعاز واضح من أنجلترا هذه المرة.

هنا يتوقف كلام الباحثين عن مردودية سفارة الزبيدي بأنه (١) «لم يحصل على طائل وعاد إلى موفده بوعود غامضة ...».

انطلاقا من الرحلة

إن رحلة الجعيدي ، التي تعتبر أكبر وأضخم رحلة سفارية ألفها المغاربة خلال القرن ١٩ م ، تكشف لنا جوانب أخرى كانت غامضة إلى حد ما ، عن مهمة سفارة الزبيدي ويجعلنا نعيشها من أولها إلى آخرها. ونتتبع مراحلها عن كثب ، والتي لم تكن مقتصرة على الجانب السياسي فقط ، بل تتعداه لتشمل باقي الجوانب الأخرى ، كالجانب العسكري والمالي والثقافي وغير ذلك. الأمر الذي يجعلنا نعتبر سفارة الزبيدي من خلال رحلة الجعيدي ، بمثابة أرضية دراسية أولية افتتح بها السلطان الحسن الأول عهد حكمه ، واستند عليها كمرجع للإصلاحات التي كان ينوي إدخالها للمغرب طوال النصف الثاني من العقد السابع ، وبداية العقد الثامن من القرن التاسع عشر. بحكم أن الزبيدي أشرف بعد عودته من سفارته الأوربية على معظم الإصلاحات التي قام بها السلطان في الكثير من المجالات ، حتى الأيام الأخيرة من حياة الزبيدي ، كما سيتضح لنا ذلك من خلال هذه الدراسة.

__________________

(١) انظر مقدمة بنمنصور «الوثائق» العدد ٥ : ٨. أما ابن زيدان فيقول عن عودة الزبيدي من سفارته إلى أوربا «... مقضى الأوطار وخلف في مدن أوربا بما أبداه من السياسة وقام به من التبرعات على الجمعيات الخيرية ذكرا جميلا حفظه التاريخ للمرسل والمرسل بل لسائر الإيالة المغربية» الإتحاف ج ٢ : ٣١١.

٤٥

أولى الانطباعات السياسية (١) التي تبرزها رحلة الجعيدي هي المكانة المرموقة التي كانت تحظى بها الدولة المغربية في أوربا بالذات ، لاعتبارات تاريخية وجيوسياسية واقتصادية ، فلقد حظيت السفارة المغربية بالكثير من الاعتبار والتقدير والاحترام من لدن الأوربيين ، خاصة في بلجيكا الدولة الفتية التي تسعى إلى ربط المزيد من علاقات الود والصداقة مع السلطان المغربي قصد تنمية مبادلاتها التجارية والعسكرية معه ، فالجعيدي يصف لنا حرارة الاستقبال الذي خصهم به ملكها (٢) «... حتى أنه قال : إنه يرجو الله أن يشرح صدورنا لبلده حتى نقيم فيها في عافية وراحة ويأذن في المسير للفابريكات التي بداخل المدينة (بروكسيل) وخارجها ، وزور الأماكن التي تصنع فيها العدة والسلاح. ونستوعب ذلك كله بحول الله ...».

أما في أنجلترا فقد خصتهم ملكتهم وإمبراطورة الهند ، بالتفاتة خاصة ، فإبان وصول السفارة المغربية لمدينة لندن ، وجدوا الملكة فكتوريا بنزلها الخاص Osborne House التي لها به العديد من الذكريات التي تربطها بزوجها الراحل ألبيرت ، والموجود بجزيرة Isle of Wight جنوب لندن ، قصد الراحة ومعالجة أحد أبنائها «... (٣) والعادة عندهم أنها إذا خرجت من البلاد لا تتلاقى مع أحد ممن يفد إليها حتى ترجع ، ووجدنا هناك باشدورات آخرين من الأتراك والهند ، سبقونا بنحو شهرين ، ولم يتلاقوا بها إلى الآن ، وكان ساءنا ذلك غاية ، وكان ولد باشدور أنجلترا يطلب من الباشدور الإكثار من الخروج للفرجات والملاقاة بالناس ، فكان يمتنع ويجيبه بقوله : إننا لم نات للفرجات ولا للملاقاة مع الناس الأجانب ، ولا غرض لي في ذلك حتى يتم الغرض الشريف الذي أتيت لأجله ، وبقي مصمما على ذلك حتى أذنت سلطانتهم بالطلوع إليها ...». هذا الموقف يبرز لنا مدى القوة التي كان يتمتع

__________________

(١) الرحلات السفارية كما هو معروف لا تحتوي على معلومات قيمة عن مهمة السفارة وأسبابها ، لأن الكاتب لا يتعرض في رحلته للغرض السياسي الرسمي الذي توجهت من أجله إلا سطحيا كما بين ذلك الجعيدي في رحلته «... لأنه يوجهه إليهم باشا دورا وسفيرا ، ويحمله أسرارا إليهم ...».

(٢) رحلة الجعيدي ، ص ٢١٥.

(٣) الرحلة ، ص ٢٨٦.

٤٦

بها المغرب عند البريطانيين رغم الظروف الصعبة التي كان يجتازها ، ونفس الشيء حدث عند وصولهم لإيطاليا التي خصتهم باستقبال حار وكبير ، توج بالاستقبال العظيم (١) الذي خصهم به ملكها الذي قطع إجازته الصيفية وعاد إلى مدينة طورين خصيصا لاستقبالهم وكلف ولي عهده بالعناية بهم وتكريمهم بالعودة على متن أكبر السفن الإيطالية إلى المغرب.

كما أشير في هذه الدراسة إلى اللقاء الهام الذي أجراه السفير الزبيدي مع ولي عهد ابروسيا آنذاك غليوم (٢) الثاني (١٨٥٩ ـ ١٩٤١) أثناء مأدبة العشاء التي أقامتها الأسرة المالكة ببلجيكا على شرفيهما ، كما جاء في رحلة الجعيدي (٣) دون أن يتطرق إلى تفاصيل هذا اللقاء كعادته في كل اللقاءات السياسية. غير أن التطورات السريعة للعلاقات المغربية الألمانية ، بعد عودة السفارة المغربية تجعلنا نربط بين الحدثين ونستنتج أن الزبيدي لعب دورا في إقناع ألمانيا القوية برغبة المغرب في تطوير علاقاته معها ، وهذا ما حدث بالفعل ، فبعد سبعة أشهر فقط من عودة الزبيدي إلى المغرب ، وفد على السلطان الحسن الأول بفاس السفير الألماني الجديد السيد تيودور ويبرTheodor Weber يوم ٧ ماي ١٨٧٧ م ، خلفا للقنصل السابق كوليش (٤) Gulich

__________________

(١) رحلة الجعيدي ، ص ٢١٤ ـ ٢١٥.

(٢) والده هو غليوم الأول (١٧٩٧ ـ ١٨٨٨) ملك ابروسيا ١٨٦١ م اتخذ بسمارك مستشارا ، وأنشأ جيشا قويا انتصر به على فرنسا ١٨٧٦ م ونودي به امبراطور ألمانيا سنة ١٨٧١ م. أما ابنه غليوم الثاني فأبعد بسمارك سنة ١٨٨٨ م وحكم بنفسه. زار طنجة ١٩٠٥ م معترفا باستقلالية سلطان المغرب ودخل الحرب العالمية الأولى ١٩١٤ م ، وتنازل عن العرش بعد هزيمة ١٩١٨ م. (المنجد).

(٣) «.. ثم خرج كبير دولتهم من قبة أخرى ومعه ولد سلطان ابروصيا ، لأنه استدعاه لهذه الضيافة تعظيما وفرحا بالجانب الشريف ، فتقدم إلى الباشدور وظهر منه بسط وسرور ، وعرف به لولد السلطان المذكور ، فظهر منه أدب كبير ...». الرحلة.

(٤) كشفت حرب ١٨٧٠ م لبسمارك عن الأهمية السياسية والاستراتيجية للمغرب المجاور لفرنسا المحتلة للجزائر ، خاصة أن السلطان محمد بن عبد الرحمان أخذ موقف الحياد إزاء ذلك الصراع ، فاتخذ قرار فتح قنصلية بطنجة سنة ١٨٧٢ م لتمثيل ألمانيا لدى البلاط المغربي (التاريخ الدبلوماسي للمغرب ، المجلد العاشر ، تأليف عبد الهادي التازي سنة ١٩٨٩ م).

٤٧

ومن جملة الهدايا التي رفعها ويبر إلى السلطان ماكينة تصنع الثلج ، التي تحدث عنها الجعيدي كثيرا في رحلته ، وفي أعقاب هذه السفارة توجه في نفس السنة الحاج العربي بريشة لاقتناء كمية من الأسلحة من معامل دار كروب KruPP الألمانية ، ثم أرسل السلطان سفارة مغربية إلى الإمبراطور غليوم الأول برئاسة قائد مدينة آسفي الطيبي ابن هيمة في ماي ١٨٧٨ م.

وكذلك أشير إلى الحوار الذي فتحه الزبيدي مع زعماء الطائفة اليهودية بالبلاد الأنجليزية ، والتي أقامت حفلا خاصا على شرفه ، والذي بقي مكانه فارغا في رحلة الجعيدي رغم إشارته في فهرسته إلى «إكرام بعض التجار للباشدور باللوندريز». وقد سلموا إليه (١) رسالة رفعوها إلى السلطان الحسن الأول تلفت فيها نظره إلى بعض المشاكل التي كان (٢) يعاني منها اليهود المغاربة. وتذكره بالظهير الذي أصدره سيدي محمد بن عبد الرحمان بعدما زاره السيد موسى حييم مونطيفيوري أحد زعماء اليهود ببريطانيا سنة ١٨٦٤ م.

وكختام للانطباعات السياسية الواردة في رحلة الجعيدي ، فإنها تعرفنا على التقاليد الدبلوماسية (٣) العريقة التي أتقن المغاربة فن ممارستها من أجل حسن المعاملة والذوق السليم والارتفاع بمستوى العلاقات الإنسانية الحضارية إلى مكانة رفيعة ، لأن حقيقة المهنة تتطلب من الممثل الدبلوماسي الناجح أن يكون فعالا. وينتظر منه الكثير من أجل البلاد التي يمثلها.

__________________

(١) الرسالة منشورة ب «الإتحاف» لابن زيدان ب ج ٢ : ٢٩٨ بتاريخ ٢٥ يوليوز سنة ١٨٧٦ م / الموافق ليوم الثلاثاء ٣ رجب سنة ١٢٩٣ ه‍.

(٢) كانت الصحافة الأوربية التي يشرف عليها اليهود تبالغ في تهويل حالة اليهود المغاربة ، كمثال على ذلك ما نشرته جريدة La Perseveronze بإيطاليا ، من قذف شديد اللهجة في حق السفير الزبيدي والمخزن المغربي بل طالبوا الحكومة الإيطالية بوقف أية مساعدة للمغرب ، غير أن الصحافة الإيطالية التابعة للحكومة ردت عليهم بعنف.

(٣) البروتوكول هو فن المعاملة مع الغير تحكمه مجموعة قواعد اكتسبتها الدبلوماسية المغربية وطورتها حسب التقاليد الإسلامية المغربية العريقة عبر قرون طويلة.

٤٨

الأنظمة السياسية

إن انطباعات الجعيدي لم تتطرق لأهمية الأنظمة السياسية ولم يشر إلى الحياة النيابية بالوضوح المعهود فيه ، يمكن أن يعلل ذلك لقصر المدة الزمنية التي قضاها في كل دولة لم تمكنه أن يستوعب تلك الأنظمة المعقدة (١) بسرعة ، بالإضافة لكونه موظف في الدولة وبالتالي يمثل وجهة نظرها في الأمور السياسية على الخصوص. إلا أننا نجد الصفار يشير في رحلته (٢) إلى توزيع الاختصاصات بين النواب والملك عندما زار القمرتين كما سمى مجلس النواب ومجلس الشيوخ ، غير أن الباحثة الأمريكية S.Miller ، انتقدت الصفار وقالت : انه شبّه جلساتهم بالعرض المسرحي ولم يفهم أية كلمة من لغتهم ، وإنما كان يستعين بما قدمه الطهطاوي (٣) من جزئيات عن قواعد الانتخابات بالهيئة المذكورة. على أن فهم الصفار للحكم السياسي مأخوذ عن ابن خلدون. غير أن هذه المقارنة في نظري غير عادلة بحكم أن الطهطاوي قد أرسل في

__________________

(١) هذا لا يعني أن المخزن المغربي كان يجهل تماما شكل الأنظمة السياسية الحديثة ، وهو على مرمى السهم منها ، فقد كانت تصله أصداء هذه التغييرات. انظر ما كتبه الكردودي الفاسي في مؤلفة «كشف الغمة ببيان حرب النظام حق على هذه الأمة» في عهد المولى عبد الرحمن عن قيام النظام البرلماني في أوربا وتركيا ص ٤٦.

(٢) الرحلة إلى باريس ، ص ١٢٣ و١٢٤ قامت بدراستها الأمريكية

Miller Susan," The" Rihla" of the Moroccan Mohammed al ـ Saffas 1976" A. Voyage to the land of Run" To France.

(٣) في رحلته يعطينا عرضا منهجيا لتطور الحياة السياسية في فرنسا منذ الثورة ومناقشة فصل السلطة ، ترجمة كاملة للدستور الفرنسي ، وكذلك اطلع على رحلته «تلخيص الإبريز في تلخيص باريس» الرحالة العمراوي كما جاء في رحلته «تحفة الملك العزيز بمملكة باريس». أما الرحالة الغسال «رحلة لأنجلترا» فيحكي زيارته لقبة البرلمان الأنجليزي ص ٢٢ و٢٣ سنة ١٣٢٠ ه‍. تم مخطوط مجهول المؤلف «الابتسام عن دولة ابن هشام» الذي يتناول ما استحدثه محمد علي بمصر من تقنيات مستوردة من الغرب حوالي ١٨١٥ م. خ. م. بالرباط. رقم ١٢٤٩٠ م. ز.

٤٩

مهمة ثقافية ودينية لمدة خمسة أعوام تعلم خلالها اللغة الفرنسية وأتقنها وقد أسس عند عودته (١) لمصر مدرسة الألسن وترجم العديد من الكتب. أما الصفار فلم تتعد مدة إقامته بفرنسا أربعة أشهر ، بالإضافة إلى أن حركة الإصلاح في المغرب كانت تخطو خطواتها الأولى. فقنوات التواصل كانت ممتدة مع أوربا ، إلا أن المؤثرات الخارجية المتسربة عن هذه القنوات كانت (٢) محدودة وغير قادرة على تغيير الإديولوجية القديمة. فنظام الملكية المطلقة كانت متجذرة في العقلية الشعبية والمخزنية المغربية ، حتى مطلع القرن ٢٠ م. نجد مولاي عبد العزيز قد جالت في رأسه فكرة الشورى فأيده سفراؤه بهذه الأفكار ، فعجل بإقامة (٣) مجلس الشورى أو الأعيان سنة ١٩٠٥ م في ظروف سياسية خاصة.

فالرحلات السفارية المغربية تبدو كأنها تعكس رغبة دفينة في إدراج هذه الإصلاحات في النظام السياسي المغربي (٤) ، غير أنها لا تبقى سوى بوادر أولية لتوجه ديمقراطي ساد لدى النخبة المثقفة في مغرب ق ١٩ م.

عسكريا

قد يعتقد البعض أن مهمة السفارة المغربية كانت مقتصرة على الجانب السياسي فقط ، لكن أبعاد سفارة الزبيدي كانت متعددة وهذا راجع إلى تنوع المشاكل التي كان

__________________

(١) طبعت رحلة الطهطاوي إلى فرنسا سنة ١٨٣٤ م (بولاق) وهي محاولة للتعرف على كيفية قراءة العرب للمجتمع الأوربي عصرئد ويعتبر أول مؤلف شرقي عن أوربا في العصر الحديث أنه يأخذ بفكرة التطور الحضاري ويفتح باب البحث في أسباب الرقي والتأخر.

(٢)

Laroui, Les origines sociales et culturelles du nationalisme marocain, MasPe ? ro,1977

(٣) المؤلفات التي أرخت لهذه الفترة سكتت عن تحديد أصول أهمية هذا المجلس وبالتالي نتائج أعماله باستثناء محمد بن الحسن الحجوي في رحلته الوجدية. مخطوط ب خ. ع. بالرباط تحت رقم ١٢٣.

(٤) انظر إشارة علال الفاسي إلى هذا ضمن «حفريات عن الحركة الدستورية في المغرب قبل الحماية» ، ص ٨.

٥٠

يواجهها المخزن المغربي وإلى كثرة حاجياته لإصلاح هياكله العتيقة وتقويتها ، علما منه أن المواجهة السياسية تتطلب دعما عسكريا ، وذلك بتحديث الجيش المخزني الذي انهزم مرتين أمام الجيوش الأوربية ، وتزويده بالمعدات الحربية المتطورة وتدريبه عليها ، وإرسال البعثات الطلابية إلى أوربا قصد التكوين والدراسة. وغير ذلك من التجديدات التي يتطلبها العصر ، والتي عزم الحسن الأول على القيام بها منذ توليه حكم المغرب سنة ١٨٧٣ م ، غير أن العروض كثيرة وتتداخل معها المساومات والمراهنات. لهذا كلف السلطان (١) الزبيدي بمهمة التعرف على المعامل الحربية الأوربية والبحث والتقصي عن المعدات وكتابة تقارير حولها ، ونبهه على الاهتمام والتركيز على بعض العينات بل طالبه بجلبها إذا أمكن.

في إطار هذه المهمة العسكرية الصعبة ، شرع الجعيدي في تسجيل تقاريره وارتساماته بأسلوب علمي ناقد. أولى الأشياء التي عالجها في رحلته هي وصفه لأكبر الاستعراضات العسكرية التي شهدتها باريس برآسة المارشال ماك ماهون الذي تولى السلطة سنة ١٨٧٣ م. مهتما بإعادة تنظيم الجيش الفرنسي الذي انهزم أمام ابروسيا (٧٠ ـ ١٨٧١ م) ، متجاوزا بذلك معاهدة (٢) فرانكفورت ، وذلك قصد إعادة الاعتبار والثقة لسمعة فرنسا الدولية ، ومرهبا بطريقة غير مباشرة السفارة المغربية الممثلة للإمبراطورية المغربية والجارة للجزائر. وقد ركز الجعيدي في رحلته على

__________________

(١) المخزن كان يحتكر مبدئيا تجارة السلاح ، لأسباب أمنية وسياسية وعسكرية ، لكن فساد الإدارة وتعذر المراقبة ، فعرفت تجارة تهريب الأسلحة تطورا كبيرا فالأوربيون وجدوا في بيع الأسلحة للقبائل تجارة رائجة. انظر دراسة برادة ثريا «الجيش المغربي وتطوره في ق ١٩ م» ..

(٢) تاريخ العلاقات الدولية القرن التاسع عشر ١٨١٥ ـ ١٩١٤ ، تأليف بيير نوفان ، تعريب د. جلال يحيى ، سنة ١٩٨٠ ، دار المعارف ، ص ٤٤٧.

٥١

الجانب التنظيمي (١) لهذه القوات ، وكيفية سير طوابره ، لما كان يعلمه من أحوال بلاده التي تعتمد على الأساليب القديمة والإمدادات الطفيفة والأسلحة العتيقة ، التي لا ترقى لمستوى التنظيمات العسكرية للجيش الفرنسي الحديث. غير أن المهمة السياسية قد طغت في المرحلة الأولى من زيارتهم لفرنسا ، على المهمة العسكرية التي أخذت حصة الأسد عند زيارتهم لبلجيكا بالتعرف على الأسلحة الحديثة ، والتي تتميز بخفض الوزن وذات فعالية حربية كبيرة من بينها نجد مدفعا صغيرا متعدد الطلقات المعروف (٢) باسم المدفع الرشاش Mitrailleux والذي يمكن حمله بسهولة على ظهر الدواب ونقله بسرعة إلى الأماكن البعيدة أو المناطق الجبلية بدون عناء كبير ، لقمع الفتن والثورات الداخلية ، خاصة أن هذا السلاح أثبت فاعلية كبيرة في القضاء على جماعات بشرية والخيالة في الحرب الأهلية الأمريكية (٦١ ـ ١٨٦٥ م) وحرب ابروسيا مع فرنسا (٧٠ ـ ١٨٧١ م) وغير ذلك. وتتضح لنا هذه المهمة من خلال المراسلات التي كانت قائمة بين الحاجب السلطاني والسفير الزبيدي (٣) ، الذي كان يخبره بتفاصيل عن هذا السلاح الفتاك الذي تعرفوا عليه بمعامل السلاح ببروكسيل ، وقد خصه الجعيدي (٤) بالبحث والتدقيق والتجريب مع رسم شكل فوهته تقريبا للفهم بما كانوا يعتقدونه أنه يتوفر على جعبة واحدة.

__________________

(١) الرحالة محمد الفاسي الذي أذهلته الاستعراضات والمناورات العسكرية بأنجلترا يرد ذلك التفوق إلى أن حظ الكفار من الطيبات يعجل لهم في الدنيا «الرحلة الإبريزية» الصفحة. ١٩ أما الرحالة أحمد الغزال بعد مشاهدته لعرض عسكري إسباني ضخم فقال : «... إن جنود الإسلام لا يلتفتون للمدافع ولا للبنب حال القتال ..». أما الصفار فيقول بعد مشاهدته لمناورات عسكرية بفرنسا «... ومن طبعهم أن يوروا ما عندهم ، ولا يتركون عندهم شيئا جليا أو خفيا إلا أطلعونا عليه ... مما هو في الظاهر فرحة وفي الباطن تخويف وفرحة ، مع أنا والحمد لله لا نخافهم ، وإنما نخاف الله ...» في رحلته إلى فرنسا ، ص ٥٢ و٥٣ و٥٤.

(٢) الموسوعة العسكرية ج ١ : ٨٣ إلى ٨٥.

(٣) انظر «الإتحاف» لابن زيدان ، ج ٢ : ٢٩١.

(٤) انظر رحلة الجعيدي ، ص ٢١٦.

٥٢

كان يساعدهم في هذه المهمة سفير بلجيكا بطنجة السيد دالوان الذي سبق له أن أخبر المخزن عن هذا الرشاش ، كما أقنع الحسن الأول بإيفاد (١) بعثة طلابية إلى بلجيكا سنة ١٨٧٥ م وضرورة مرور سفارة الزبيدي على بلاده. غير أن دالوان عمل جهده على احتكار كل صفقات الأسلحة التي اشتراها المغرب من بلجيكا بمساعدة السفير الأنجليزي د. هاي. وقد ربح أموالا طائلة من هذه التجارة. كما أوضح ذلك الجعيدي في رحلته (٢) ، «لما استفسر الزبيدي عن ثمنها قيل له إن ذلك عند الباشدور الذي لهم بطنجة» ، غير أن الجعيدي نظرا لخبرته في هذا الميدان أخذ إحدى البنادق البلجيكية في ميدان الرماية الوطنية ببروكسيل وجربها وتفطن لبعض عيوبها ، فوجد نيشان الخزنة ضعيفا جدا لا ينحصر به المرمى وظهر له أن فورمة المكحلة أعظم من المرمى ، وحينما أخرج الطلقة لم يصب الهدف ، لهذا فضل عليها المكاحيل التقليدية المعروفة بالمغرب ، وأشاد بمهارة المغاربة في الرمي بها ، غير أن المخزن لم يعط لملاحظاته هذه أية أهمية وقام بشراء كميات كبيرة (٣) من هذه الأسلحة التي

__________________

(١) مظاهر يقظة المغرب الحديث ، المنوني ، ج ١.

(٢) الرحلة ، ص ٢١٨.

(٣) بعد عودة الزبيدي سنة ١٨٧٦ م جلب معه بعض النماذج من البنادق من نوع Wrendl التي تتميز بتعميرها من أسفلها عكس الأصناف المغربية التقليدية ، فاستشار السلطان د. هاي قبل جلب هذا الصنف. بعد ذلك وافق على جلب عدد هائل من بنادق Wrendl من بلجيكا. إلا أنه ما لبث أن اكتشف حقيقة أمر تلك المكاحل فأجاب د. هاي بواسطة حاجبه موسى بن أحمد «... العدة البلجيكية التي جلب الأمين الزبيدي عربونا استحسنتها أنت (هاي) فإن سيدنا أيده الله لما رءاها بديهة استحسنها ، واقتضى نظره السديد أولا جلب ٠٠٠ ، ١٠ منها للرجلي (المشاة) ثم لما أمعن النظر فيها وتأملها وجدها مرقعة ومصلوحة وأن جعبتها من الجعاب القديمة ، قطعت من أسفلها وألصقت بها برمة جديدة ، وكذا سريرها كان بالزناد فأزيل ورقع محله ، ولما رءاها مولانا على هذه الحالة رجع عما كان عليه من جلب العدد المذكور منها لما فيها من الترقيع ، خوفا من ظهور العيب فيها عند استخدامها ...» ، غير أن د. هاي تراجع عن أقواله السابقة ، وأكد للمخزن بأن المكاحل البلجيكية الصنع التي نصح هو بشرائها هي غير التي جلبها الزبيدي ، وتأجل ذلك لعام ١٨٧٨ م ، وثائق المحفوظات البريطانية ٣٢ / ٤٧١ / F.O يناير ١٨٧٧ م.

٥٣

كانت عاجزة وفاسدة. كما أشار إلى ذلك المؤرخ الناصري «.. إنهم لا يبيعون منها إلا ما انعدمت فائدته عندهم ، لكونهم ترقوا عنها إلى ما هو أجود منها ، واستنبطوا ما هو أتقن وأنفع ..» (١) رغم أن السلطان كان يتتبع بنفسه هذه العمليات ويوجهها حسب رغبته وحاجياته ، فقد طلب من الزبيدي في رسالة أخرى (٢) أن يحضر معه عند عودته كل عينة من العينات المعتبرة الجديدة والتي لم تصل إلى المغرب ، ولا جلبها أحد للآن خاصة من مدينة الياج (٣) المشهورة بمعاملها الحربية. وقد اجتهد الجعيدي على التعرف على طرقهم التقنية لصناعة هذه العدة ولم ينبهر منها بل اكتشف بعض عيوبها.

كما أشار إلى أهمية تخزين الأسلحة بكميات وافرة مع تعهدها بالمسح والصيانة ، كاحتياط حربي يستغل عند وقت الحاجة ، وقد تعجبوا أمام تراكم أكثر من ٠٠٠ ، ٨٠ بندقية داخل إحدى الثكنات العسكرية بمدينة أنفيرس ، رغم ذلك كان الجعيدي يتشكك في ما (٤) يقوله الأجانب ، ويخضع ذلك إلى تجربته الخاصة بالمعاينة

__________________

(١) الاستقصا د ٩ : ١٨٤.

(٢) الإتحاف لابن زيدان ج ٢ : ٢٩١.

(٣) ما أرسلت بعثة للتدريب في معمل السلاح بلييج ببلجيكا انظر «مظاهر يقظة المغرب» للمنوني ج ١ :١٢٨ ـ ١٣١.

(٤) وجه د. هاي صحبة الضابط ماكلين Maclean نموذجا مصحوبا بشهادة صاحب المصنع بجودتها وثمنها فوافق السلطان على تنفيذ اقتراح د. هاي. وطلبها من السفير البلجيكي ، حوالي ١٠٠٠ بندقية. وبمجرد معاينة ماكلين لها اكتشف عيوبها فأخبر المخزن بذلك فكان جواب السلطان «... هذه المكاحيل عيبها أصلي وليس بطارئ والمعيب لا يحل فيه البيع ولا الشراء وأعظم عيب فيها لا دواء له ... مع أن جعابها من عينات شتى ...». ٨٩ / ٧٤ / ٨٢F.O ماي ١٨٧٨ م .. وعاتب الحاجب موسى بن أحمد على ذلك ورفض المخزن رفضا باتا شراء المزيد منها ، فدعي د. هاي المخزن لجلب المعدات الأمريكية المتينة. من أصناف Winchestes فجلبت منها خلال سنة ١٨٨٥ م ألف بندقية ، وكان الثمن الإجمالي لتلك الصفقة أزيد من عشرين ألف ريال. ١٤٤ / ١٧٤F.O. هاي إلى بركاش بتاريخ ٩ مارس ١٨٨٥ م.

٥٤

والتجريب ويخبر الزبيدي بذلك ليكون على بال. وتعرض لأهمية تموين الجيوش ليس فقط بالأسلحة والذخيرة بل بالمواد الغذائية الضرورية لتحركها وزيادة قدراتها ، فتطرق لكيفية تحضير (١) الخبز لحوالي ثمانين ألف جندي بواسطة آلات ضخمة لطحن الزرع وعجنه وطهيه خلال يوم واحد فقط ، وذلك استعدادا لأيام الحرب.

وبأنجلترا دولة السفير د. هاي الذي كان يدعو المخزن إلى القيام بإصلاحات عسكرية في النصف الثاني من القرن ١٩ م ، والذي تحول إلى سمسار لبيع الأسلحة لفائدة بلاده ودول أخرى ، والذي بعث ابنه روبرت كترجمان رسمي مرافق لأعضاء السفارة المغربية ، توجه بهم إلى ترسانة ولويش Woolwich الشهيرة بصناعة الأسلحة بمختلف أنواعها ، جعلت الجعيدي يهتم بما يراه مناسبا لبلاده وتحدث بإسهاب عن كيفية صناعة رويضات العود أي العجلات (٢) التي تركب في العربات والكراريط التي تحمل العدة والمدافع ، ولا تخفى علينا أهمية العجلات ودورها في العمل على نقل البضائع والمسافرين ، خاصة أن المغرب لم يكن يتوفر على طرق معبدة بمعناها الأوربي ، ولا على قناطر وجسور متينة لربط مدنه وأقاليمه لإخراجها من العزلة ، لأن الحمل كان في الغالب على البغال والجمال ، ولم يكن يخطر بالبال أن الطرق ووسائل الجر التي تستعمل العجلات ذات منافع اقتصادية واستراتيجية ، فلم تكن تعرف العجلة إلا لجر المدافع السلطانية أثناء الحركات العسكرية ، لهذا اهتم الجعيدي بكيفية صناعتها ودقق في الأمر وتتبع جميع المراحل بمهارة نادرة.

كما اهتم بالسلاح البحري (٣) الخطير الذي استنبطه المهندس البريطاني Robert Whitehead المعروف باسم الطوبيدTorPedo سنة ١٨٦٦ م وهو صاروخ بحري يخضع لتوجيه مسافي بدفع ذاتي يحمل كمية كبيرة من المتفجرات يمكن القذف به من البر

__________________

(١) الرحلة ، ص ٢٦٠.

(٢) انظر رحلة الجعيدي : ٣١٨ و٣١٩ و٣٢٠.

(٣) كان اهتمام المغاربة كبيرا بعلم أو فن المدفعية (تاطبجيت) بحكم موقعه الجغرافي وامتداد شواطئه المفتوحة على المتوسط والمحيط. هذه الترسانة زارها كذلك محمد الفاسي «الرحلة الإبريزية ..» : ٢٣. حققها محمد الفاسي.

٥٥

أو من باخرة إلى باخرة أخرى قصد تفجيرها.

ومن اهتمامات الحسن الأول كذلك معرفة كيفية صناعة الذخيرة الحربية لهذا تطرق الجعيدي لأسلوبهم التقني لصناعة الخفيف أي الرصاص والكور أي القذائف والقنابل داخل أوراش كبيرة تحوى حوالي ستة آلاف من العمال ، جعلت السلطان يقتنع بضرورة إنشاء (١) معمل صنع القرطوش بأكدال مراكش بمساعدة فرنسا أواخر عام ١٣٠٤ ه‍ ومعمل آخر بدار السلاح بفاس قصد توفير الذخيرة الحربية بكمية كبيرة محليا ، بدل جلبها من الخارج بأثمنة مرتفعة وتنازلات سياسية. وكذلك الحال بالنسبة للمدافع التي اشتراها (٢) الزبيدي من أنجلترا نظرا لما اكتسبته من فعالية عسكرية خلال القرن ١٩ م ، بفضل المدفعية استطاع الحسن الأول أن يخرج منتصرا في كل حركات الجنوب ويركز السلطة المركزية في الأطلس والريف وإرهاب القبائل بها دون حرب ، غير أن مسطرة الشراء كانت معقدة بالإضافة إلى عدم وجود جهاز إداري مغربي مختص للقيام بهذه العمليات جعل المغرب يواجه عدة مشاكل من جراء ذلك ، لهذا تتبع الجعيدي معظم المراحل التقنية بدار صناعة المدافع (٣) فوصفها ونقل صورا حية عن عمل صناعها ، كل فئة على حدة ، وكان في وصفه دقيقا ومستقصيا وكأنه يكتب تقريرا مفصلا من أجل بناء مثيلة لها لكثرة التفاصيل التي يوردها.

__________________

(١) «الإتحاف» لابن زيدان ج ٢ : ٤٩٩.

(٢) انظر رسالة الحسن الأول ب «الجيش المغربي وتطوره في القرن ١٩ م» ، (د. د. ع برادة ثريا ، ص ٢٨١ ، كلية الآداب بالرباط). الذي قام أواخر سنة ١٨٧٦ م ، بتزويد طنجة بستة مدافع كبيرة وطلب من السفير دراموندهاي تدريب المغاربة عليها وإصلاح أبراج طنجة من طرف بعض الضباط البريطانيين إلا أن المشروع قد تأخر بسبب تماطل المهندسين البريطانيين فعوضهم المغاربة ولم يتم وضع المدافع الثقيلة فوق أبراج طنجة حتى عام ١٨٨٩ م. بعد أن كلف مالية المخزن مصاريف ثقيلة. (الإتحاف ، ج ٢ : ٤٧٤ ـ ٤٨٤ ظهائر سلطانية إلى الزبيدي كلها مؤرخة سنة ١٨٨١ م في موضوع أثمان وتكاليف المدافع الستة البريطانية الصنع).

(٣) رحلة الجعيدي ، ٣١٤ ـ ٣١٥.

٥٦

وأثناء عودتهم مرة ثانية إلى التراب الفرنسي ، خصصت لهم الحكومة الفرنسية عدة زيارات إلى منشآتها العسكرية بعدما علمت أن المغاربة خلال إقامتهم ببلجيكا وأنجلترا اطلعوا على الكثير من الصناعات الحربية ، بينما أثناء إقامتهم الأولى بفرنسا اقتصرت زياراتهم على المرافق الثقافية والاقتصادية والعمرانية فقط ، لهذا ركزت على هذا الجانب لإظهار عظمتها في هذا الميدان وذلك في إطار المنافسة الشديدة بين باعة الأسلحة. فأخذتهم إلى فابريكة صنع رويضة الكراريط من العود ، وفابريكات صنع الخفيف والكور وخزائن العدة مثل ما تقدم بيانه أثناء إقامتهم بلندن ، وقد تجنب الجعيدي تكرار الخوض في ذلك واختصر ذلك في سطرين (١) فقط ، وتطرق فقط لخاصية متميزة تعرف عليه بفرنسا ، هي أنهم يتوفرون على مختبر خاص به (٢) عدد من المعلمين المهندسين يوتى لهم بعدد من العينات الجديدة من المكاحيل التي تظهر عند كل جنس من الأجناس الأخرى ، ليختبروها ويقلبوها ويخبروهم بما يظهر لهم منها ، وذلك لمسايرة التطور التقني الحربي ، بدل الاكتفاء بشراء الأسلحة الجديدة جاهزة فقط ، حتى لو كانت عاجزة إن فاسدة كما سبق القول. وأكد أن سبب هذا التفوق راجع إلى مدارسهم المتعددة ، لتكوين أبنائهم تكوينا ثقافيا عسكريا منذ الصبا ، عند زيارتهم «لسكويلة» أي المدرسة العسكرية بباريس. وذكر «أنهم (٣) يأتون إلى هذه الدار في الساعة الخامسة من صباح كل يوم ، ولا يخرجون منها حتى تصل الساعة الحادية عشرة ليلا ، وتبقى لهم من اليوم بليلته ست سوائع للنوم والاستراحة ...» وهي إشارة ضمنية لأهمية الدراسة المتخصصة والمكثفة.

أما الحكومة الإيطالية فقد توصلت هي الأخرى بعدة تقارير من سفرائها بعواصم الدول المعنية عن أنشطة السفارة المغربية بها ، بالإضافة إلى تواجد سفيرهم بطنجة السيد ستيفانو سكوفاصو الذي سبق وصول السفارة إلى طورين ، كان يغازل المخزن

__________________

(١) انظر رحلة الجعيدي : ص ٣٢١.

(٢) نفس الرحلة : ص ٣٢٢.

(٣) نفس الرحلة : ص ٣٢٣.

٥٧

المغربي بتزويده بالأسلحة الإيطالية (١) من أجل كسب ثقته ، لهذا أقيمت مناورات حربية بالذخيرة الحية على شرف المغاربة ، وقد استحسن الجعيدي المدفعية الإيطالية الحديثة التي تعمر من الخلف ، وقد وصفها بشكل علمي دقيق ساعدني على إدراك شكلها فرسمتها بطرة الصفحة تقريبا للفهم ، خاصة أنه تشكك في أقوال الطبجية الإيطاليين الذين أخبروهم أن القذيفة قد أصابت الهدف البعيد عن أنظارهم ، فحين رأوهم على ذلك الحال طلبوا منهم التوجه إلى مكان سقوط القذيفة لمعاينة الإصابة ، ثم أعادوا الكرة بضربها مرة ثانية ، حينئذ تأكدوا من جودة ودقة وقوة هذه المدافع الكبيرة ، ثم بين كيف تتم عملية مسامتة الهدف مع نيشان المدفع بتفصيل ساعدني على تصور ذلك فرسمته بطرة الصفحة كذلك. وهذا راجع لمعرفته الكييرة بقواعد الحساب والهندسة التي كان يلقنها لبعض أصدقائه الذين يتدربون على فن المدفعية بسلا ، لهذا أعجب بهذه المدافع فتمنى لو كانت في مراسي المغرب شيء في أبراجها «.. (٢) لكان ذلك من الاستعداد بالقوة الظاهرة في الوقت بحسب الاستطاعة ، لا بحسب العناد بحيث تكون العدة التي عندنا مماثلة للعدة التي عند النصارى كيفية وعددا ، لأن في ذلك حرجا ومشقة والمولى جل علاه سلك بهذه الأمة المحمدية مسلك اللطف والفرج فقال عز وجل: ﴿ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وإنما أمرنا سبحانه بالاستعداد بحسب الاستطاعة فقال تعالى : ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ

__________________

(١) سلما وجه مولاي عبد العزيز العساكر لقتل الثائر أبي حمارة أعطاهم السلاح الذي صنع في معامل فاس الذي بناه والده وأنفق فيه الملايين الكثيرة في شراء معمل من إيطاليا وبنائه مع المواد التي كانت تصنع البنادق ، وكانت تلك البنادق بيضاء مفضضة فأطلقوا عليها اسم «البويضة» فلما ضربوا بها الفتان صارت تتكسر في أيديهم ، فكم من واحد كسرت يده ، وكم من واحد قتلته ، وأنا بنفسي رأيت بعض البنادق مكسرة في أيدي العساكر الذين رجعوا منكسرين يوم دخولهم لفاس في يوم مشهود. فهذه نصيحة إيطاليا للمغرب». هذه شهادة يقدمها محمد بن الحسن الحجوي في رسالته الطويلة إلى الوزير الأول الجباص (مخطوط خ. ع. الرباط ج ٢٠٤ ص ٢٤) انظر مجلة كلية الآداب ، الرباط ، عدد ١٠ ، ١٩٨٤ ، ص ٥٢ سعيد بنسعيد «المثقف المخزني ...».

(٢) رحلة الجعيدي : ص ٣٧٧.

٥٨

مِنْ قُوَّةٍ (١) ولم يقل : مثل استعدادهم لطفا بهذه الأمة ورحمة بها ...».

من خلال هذا المجهود الذي بذلته السفارة المغربية في المجال العسكرية طبقا لتعليمات السلطان الحسن الأول تظهر لنا الآمال التي كانت تعقد من وراء هذه الرحلة السفارية.

غير أن تعدد أنواع الأسلحة ومصادرها ، كان يخلق مشكل تعدد أنواع العدة وأنواع قطع الغيار مما كان يجعل إصلاحها مشكلا صعبا ، خاصة أن الكثير منها غير صالح للاستعمال لأدنى عطب ويجعل تدريب العسكر على استعمالها صعبا.

فالإصلاحات العسكرية التي قام بها الحسن الأول طوال فترة حكمه ورغم المجهودات التي قامت بها سفارة الزبيدي وغيره لتمهد له الطريق في التعرف على المعامل الحربية بأوربا وأجود العينات ، لم تكلل مجهوداته بالنجاح المطلوب لتستجيب إلى حاجيات المغرب بقدر ما كانت فرصة للسماسرة وتجار الأسلحة والمهندسين الأجانب للإثراء السريع على حساب مالية الدولة المغربية. وبهذا تكون الإصلاحات قد فشلت في تحقيق الأهداف المرجوة ، لأنها كانت نابعة ومرتبطة بمصالح الدول الأجنبية أكثر من كونها نابعة من رغبة محلية هادفة إلى إصلاح حقيقي.

الجانب العلمي والفني في الرحلة :

البحث العلمي

بحكم الثقافة العلمية التي يتميز بها الجعيدي عن باقي رفاقه في ميدان الهندسة والحساب وعلم الفلك والاستكشاف ، اهتم كثيرا بالبحث العلمي في شتى الميادين ، محاولا تسليط الضوء على أهم المنجزات العلمية التي توصل إليها الغرب ، وقد سخر لبلوغ هذه الغاية كل قدراته العقلية والمعرفية قصد الوصول إلى الهدف. (كما رأينا في الجانب العسكري) خاصة أنهم تعرفوا على الكثير من الدور العلمية والثقافية ، كحدائق الحيوان والمتاحف المتنوعة والمعارض العلمية ، وغيرها.

__________________

(١) سورة الأنفال : الآية ٦٠.

٥٩

علم الحيوان ، (١)

اهتم به كثيرا وتتبع في دراسته أنواعها وأشكالها ، وخاصة الحيوانات النادرة أو المجهولة منها في بلاده سواء منها البرية أو البحرية فيكثر من وصف شكلها الخارجي ، كالحمار الوحشي أو الزرد والقنقر الأسترالي والكركدن وغيرها ، أما البحرية فقد تعرف عليها وهي تعيش داخل أحواض السمك (٢) Aquariums في بيئة مصطنعة مصغرة توفر لها شروط الحياة التي نجدها في المحيطات والبحار.

أما في متاحف التاريخ الطبيعي فقد تعرف على بعض الحيوانات المنقرضة ، كالماموث الذي وصف شكل هيكله العظمي وتساءل (٣) هل انقرض قبل أو بعد الطوفان الذي أصاب الأرض كما جاء في القرآن الكريم.

متاحف التاريخ الطبيعي (٤)

التي تحفظ وتصنف وتدرس وتحلل عالم الطبيعة بتعاون مع الجامعات المتخصصة. فقد تعرف هناك على بعض (٥) العينات من المعادن (علم المناجم) والنباتات الطبيعية أو المجففة (٦) (علم النبات) والبقايا البشرية (٧) (علم الأجناس البشرية) ، إلا أنه تعامل

__________________

(١) رحلة الجعيدي ، ص ١٧٨ ـ ١٨٢.

(٢) رحلة الجعيدي ، ص ١٨٢.

(٣) هذا التساؤل طرح نوعا من الجدال بين ابنه عبد القادر الجعيدي والمؤرخ بن علي الدكالي في الهوامش التي كتبوها بطرر بعض صفحات الرحلة قصد الشرح أو التعليق على أحداث أو ظواهر واردة في النص.

(٤) نفس الرحلة : ص ٢٢٧.

(٥) رحلة الجعيدي : ص ٢٢٨ ـ ٢٢٩.

(٦) رحلة الجعيدي : ص ٢٢٩.

(٧) رحلة الجعيدي : ص ٢٣٠.

٦٠