وضح البرهان في مشكلات القرآن - ج ١

محمود بن أبي الحسن بن الحسين النيسابوري الغزنوي [ بيان الحق النيسابوري ]

وضح البرهان في مشكلات القرآن - ج ١

المؤلف:

محمود بن أبي الحسن بن الحسين النيسابوري الغزنوي [ بيان الحق النيسابوري ]


المحقق: صفوان عدنان داوودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القلم ـ دمشق
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٨
الجزء ١ الجزء ٢

وقال قطرب (١) : كانت العرب تعاهدوا أن لا يسمعوا القرآن ، ويلغوا فيه ، فافتتح بما لا يعلم تطرّقا إلى استماع ما يعلم.

ـ وقال ثعلب (٢) : إنّ الافتتاح بما لا يعلم صحيح على مذهبهم ، كقولهم : ألا إنك كذا.

ولا معنى في «ألا» سوى استحضار قلب السامع ، فكذلك أمر هذه الحروف. وأكثر هذه الأقاويل مدخولة ، لأنها ليست على نهج كلام العرب ، ولأنه لا يجوز في كلام الحكيم الأصوات الخالية من المعنى ، وإنما الصواب في أحد الأقوال الثلاثة :

ـ أحدها : أنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله ، وهو قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، قال : إنّ لكلّ كتاب سرا ، وسرّ الله في القرآن أوائل السور (٣) ، ولأنّها سميت معجمة لإعجام بيانها وإبهام أمرها.

__________________

(١) اسمه محمد بن المستنير ، وسمي قطربا لقول سيبويه له ـ وكان يخرج بالأسحار فيجده على بابه حريصا على التعلم ـ : ما أنت إلا قطرب ليل ، وهو مولى سلم بن زياد ، ومن تلامذته أبو القاسم المهلبي ، توفي سنة ٢٠٦ ه‍ له كتاب «معاني القرآن» وكتاب «إعراب القرآن» لم يطبعا.

(٢) هو أحمد بن يحيى إمام الكوفيين في عصره في اللغة والنحو ، وكان له علم كثير ورواية واسعة وأمال جيدة له كتاب «الفصيح» وقد طبع. وكتاب «مجالس ثعلب» وقد طبع. توفي سنة ٢٩١ ه‍.

(٣) روي هذا عن الشعبي فقد أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن داود بن هند قال : كنت أسأل الشعبي عن فواتح السور قال : يا داود ، إن لكل كتاب سرا ، وإن سر هذا القرآن فواتح السور ، فدعها وسل عما بدا لك. راجع الدر المنثور ١ / ٥٩. وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب ، وذكر أبو الليث السمرقندي عن عمر وعثمان وابن مسعود أنهم قالوا : الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر. اه. راجع تفسير القرطبي ١ / ١٥٤ وبحر العلوم ١ / ٢٤٩.

١٠١

ـ والقول الثاني : ما قاله الحسن أنها أسماء للسّور (١) ، لأنّ الله أشار بها ههنا إلى الكتاب. فإمّا أن تكون اسما للمشار إليه أو صفة ، وليس الموضع موضع الصفة لأنها لتحلية الموصوف بالمعاني المخصصة ، ولا معاني لهذه الحروف فتعيّنت أسماء أعلاما.

ـ فإن قيل : فلم لم يعمّ جميع السور بالتسمية؟

قلنا : كما خصّ بعضها بتشريف في المعنى.

فإن قيل : اشتركت سورتان وثلاث في تسمية؟

قلنا : كما يشترك جماعة من الناس في اسم واحد.

فإن قيل : فيجب أن يكون غير السورة ، من حيث كان الاسم غير المسمى؟

قلنا : من يقول ذلك فإنما يقوله في الأشخاص التي حكمها حكم الألفاظ.

ـ والقول الثالث : أنها إشارة إلى أنّ ذلك الكتاب يتألّف من هذه الحروف ، كتأليف كلامهم ، فلو كان من عند غير الله لأتيتم بمثله.

ومعنى الإشارة في (ذلِكَ الْكِتابُ) الموعود إنزاله في الكتب السالفة ، من هذه الحروف.

وقيل : معناه : ذلك الكتاب الموعود بقوله : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً).(٢)

__________________

(١) أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن قال : الم ، * وطسم* فواتح يفتتح الله بها السور. وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم قال : الم* ونحوها أسماء السور. اه. الدر المنثور ١ / ٥٧ ؛ وتفسير الطبري ١ / ٨٧.

(٢) سورة المزمل : آية ٥ ، وذكر هذا القول القرطبي في تفسيره ١ / ١٥٨.

١٠٢

وقال الأصمّ (١) : يعني ب (ذلِكَ) : ما تقدّم من القرآن ، فقد سبق البقرة سور كثيرة.

ـ قال المبرد (٢) : وأمثال هذا التقدير الذي يقرّ (ذلِكَ) على وضعه أولى من التحول إلى أنّ (ذلِكَ) بمعنى هذا (٣) ، وهما غيران حاضر وغائب.

إلا أنّه جاء أنّ (ذلِكَ) معناه : هذا عن الضحاك (٤) وغيره في الكتاب المونق (٥).

ـ قال أبو عبيدة (٦) : لقيني ملحد مرة فقال : يا أبا عبيدة (الم ذلِكَ الْكِتابُ) ، وهو هذا الكتاب ، فأي شيء ذلك من هذا؟

فقلت : إن قبلت الحجة العربية؟ قال : هات.

__________________

(١) عبد الرحمن بن كيسان ، أبو بكر الأصم ، كان من أفصح الناس وأورعهم ، وله تفسير عجيب ، ومن تلامذته : إبراهيم بن إسماعيل بن عليّة ، وله «المقالات في الأصول» راجع طبقات الداوودي ١ / ٢٧٤ ؛ ولسان الميزان ٣ / ٤٢٧.

(٢) محمد بن يزيد شيخ البصريين في العربية قرأ الكتاب على الجرمي وكمّله على المازني ، أخذ عنه الزجاج ، له كتاب الكامل والمقتضب ، وهما مطبوعان. توفي في الكوفة سنة ٢٨٦ ه‍.

(٣) وقال أبو حيان : ويصح أن يكون في قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ) على بابه فيحمل عليه ، ولا حاجة إلى إطلاقه بمعنى هذا كما ذهب إليه بعضهم. وقال : سمعت الأستاذ أبا جعفر بن إبراهيم بن الزبير شيخنا يقول : (ذلِكَ) إشارة إلى الصراط في قوله : اهدنا الصراط ، كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم : ذلك الصراط الذي سألتم الهداية له هو هذا الكتاب. اه. راجع البحر المحيط ١ / ٣٥ ـ ٣٦.

(٤) الضحاك بن مزاحم كان من أئمة التفسير وسادات التابعين ، حدث عن ابن عباس وسعيد بن جبير ، وكان من أوعية العلم ، توفي سنة ١٠٢ ه‍.

(٥) أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ) قال : هذا الكتاب.

(٦) اسمه معمر بن المثنى كان من أوسع الناس علما بأخبار العرب وأيامها ، له كتاب «مجاز القرآن» مطبوع ، توفي سنة ٢١٠ ه‍ وقد جاوز التسعين.

١٠٣

قلت : قول خفاف بن ندبة (١) :

٣ ـ فإن تك خيلي قد أصيب صميمها

فعمدا على عين تيممّت مالكا

٤ ـ وقلت له والرمح يأطر متنه

تأمّل خفافا إنني أنا ذلكا

(لا رَيْبَ فِيهِ). (١)

إخبار عن كون القرآن حقا وصدقا ، إذ أسباب الشك عنه زائلة ، وصفات التعقيد والتناقض منه بعيدة. والإعجاز واقع ، والهدي حاصل.

والشيء إذا بلغ هذا المبلغ اتصف بأنّه لا ريب فيه ، فيبطل بهذا سؤال من يقول : إنّ المنكرين لا يقال ريبهم بالقول : إنّه لا ريب فيه.

واختصاص المتقين بهداهم على هذا الطريق. وقيل : إنّه على جهة التعظيم لقدرهم ، والإشادة بذكرهم.

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ). (٣)

أي : بما يغيب عن الحواس ولا يدرك إلا بالعقول ، وقيل : بل المراد أنّهم يؤمنون بالله ورسوله بظهر الغيب لا كالمنافقين الذين (إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا).(٢)

وهذا كقوله تعالى : (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) ، (٣) وقوله : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ). (٤)

__________________

(١) خفاف بن عمير ، وندبة هي أمه كانت سوداء حبشية ، وهو من الشعراء المخضرمين ، شهد فتح مكة وحنينا وثبت على إسلامه في الردة وبقي إلى زمن عمر بن الخطاب. وهو أحد فرسان قيس وشعرائها المذكورين. والبيتان في مجاز القرآن لأبي عبيدة ١ / ٢٩ ؛ والخزانة ٥ / ٤٤٠ ؛ وتفسير الطبري ١ / ٧٤ ؛ وراجع القرطبي ١ / ١٥٧ ؛ وتفسير الماوردي ١ / ٦٤ ؛ وروح المعاني ١ / ١٠٥ ؛ والعقد الفريد ٦ / ٢٥ وقوله : يأطر متنه : يلوي بدنه.

(٢) سورة البقرة : آية ٧٦.

(٣) سورة ق : آية ٣٣.

(٤) سورة يوسف : آية ٥٢.

١٠٤

قال الهذلي (١) :

٥ ـ أخالد ما راعيت من ذي قرابة

فتحفظني بالغيب أو بعض ما يتذكر

والجار والمجرور في (بِالْغَيْبِ) من البيت والآية في موضع حال ، أي : تحفظني غائبا ، ويؤمنون غائبين عن مراءاة الناس ومخافتهم.

وعلى القول الأول في موضع المفعول به.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ). (٦)

في قوم من الكفار أخبر الله بعلمه فيهم ، كما أخبر نوحا فقال : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ). (٢)

والحكمة في الإنذار مع العلم بالإصرار إقامة الحجة.

وقيل : ليكون الإرسال عاما. وقيل : لثبات الرسول على محاجّة المعاندين.

وإنما جرى لفظ الاستفهام في (أَأَنْذَرْتَهُمْ) ومعناه الخبر ؛ لأنّ فيه التسوية التي في الاستفهام.

ألا ترى أنّك إذا استفهمت فقلت : أخرج زيد أم أقام؟ فقد استوى الأمران عندك في الإبهام وعدمه على أحدهما بعينه ، كما إذا قلت في الخبر : سواء عليّ أخرجت أم قمت كان الأمر في التسوية كذلك. قال حسان :

__________________

(١) أبو ذؤيب الهذلي واسمه خويلد بن محرّث ، كان أشعر هذيل من غير مدافعة شاعر مخضرم أسلم ولم ير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه قرّ في باديته ، وأراد أن يرى النبي فوصل والناس يبايعون أبا بكر في السقيفة وشهد الصلاة على الرسول ورجع ، وقد تقدم ذكره والبيت يروى عجزه «فتحفظني بالغيب أو بعض ما تبدي» وهو في معجم الشعراء ص ٣٧١ ؛ وديوان الهذليين ١ / ١٥٦ ؛ وشعر الهذليين في العصرين الجاهلي والإسلامي ص ٣٣٣ ؛ وخزانة الأدب ٨ / ٥١٤ ؛ وفصل المقال ص ٣٩٤.

(٢) سورة هود : آية ٣٦.

١٠٥

٦ ـ ما أبالي أنّب بالحزن تيس

أم لحاني بظهر غيب لئيم (١)

(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ). (٧)

بسمة تعرفها الملائكة ، وفائدتها الوضع منهم والتبكيت ، كما أنّه لما كتب الإيمان في قلوب المؤمنين كان تحلية لهم بما يرفعهم.

آية على التشبيه لحالهم بحال المطبوع على قلبه ، المضروب على سمعه وبصره كمال قال :

٧ ـ لقد أسمعت لو ناديت حيّا

ولكن لا حياة لمن تنادي (٢)

قال مجاهد (٣) : الشيء إذا ختم ضمّ ، فالقلب إذا ران عليه المعاصي انضم ولم ينبسط بالإنذار ولم ينشرح بالإيمان.

وقيل : إنّ المراد حفظ ما في قلوبهم للمجازاة ، إذ كلّ شيء يحفظ فإنّه يختم.

__________________

(١) البيت لحسان بن ثابت ، وقيل لابنه عبد الرحمن في أبيات هجا بها مسكينا الدارمي ، وهو في شواهد سيبويه ، وذكره ابن السيرافي في شرح الأبيات ٢ / ١٤٧ ؛ والمبرد في المقتضب ٣ / ٢٩٨ ؛ والبغدادي في خزانة الأدب ١١ / ١٥٥.

(٢) البيت في المفردات للأصبهاني ص ١٣٩ ، وقيل : هو لدريد بن الصمة ، وقيل : لعمرو بن معديكرب والصحيح أنّه لكثّير يرثي صديقه خندقا الأسدي وقبله :

وكلّ ذخيرة لا بدّ يوما

وإن بقيت تصير إلى نفاد

فلو فوديت من حدث المنايا

وقيتك بالطريف وبالتلاد

يعزّ عليّ أن نغدو جميعا

وتصبح بعدنا رهنا بوادي

وهو في ديوان دريد ص ٢٩ ؛ ومعجم البلدان ٥ / ٤٢٩ ؛ والبحر المحيط ١ / ٣٧٢ ؛ وديوان كثيّر ص ٢٢٢.

(٣) مجاهد بن جبر ، أبو الحجاج المكي ، أحد الأعلام من التابعين والأئمة المفسرين ، قال عن نفسه : عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحة إلى خاتمة ، أوقفته عند كل آية منها ، وأسأله عنها. توفي سنة ١٠٠ ه‍ وهو ساجد.

١٠٦

وقيل : إنّه على الدّعاء عليهم لا الخبر عنهم ، وقيل : بل المراد ظاهره ، وهو المنع ، ولكن المنع منعان : منع بسلب القدرة ، ومنع بالخذلان ، والذي يجوز على الله منهما الخذلان ، وحبس التوفيق عقوبة لهم على كفرهم ، وإنما لم يجمع السمع لأنّه أجري مجرى المصدر ، أو لأنّه توسط الجمعين فكان جمعا بدلالة القرينة مثل : السموات والأرض ، والظلمات والنور.

(يُخادِعُونَ اللهَ). (٩)

قد يكون المفاعلة من الواحد ، مثل : عافاه الله ، وقاتله ، وعاقبت اللص ، وطارقت النعل.

ومعناه : يعملون عمل المخادع ، وقيل : إنّ المراد مخادعة الرسول والمؤمنين حين يساترونهم ما في قلوبهم ، لأنّ الله لا يخفى عليه السرائر ، ولا يحتجب دونه الضمائر.

وهذا كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) ، (١) أي : يؤذون أولياء الله.

وأصل الخداع : الإخفاء ، ومنه الحديث : «بين يدي الساعة سنون خدّاعة» (٢) لأنّ أمرها يخفى ، يظنّ بها الخصب فتجدب ، والدّهر يقال له : الخدّاع ، لخفاء صروفه وتلوّن خطوبه ، كما قال الأنصاري :

__________________

(١) سورة الأحزاب : آية ٥٧.

(٢) الحديث أخرجه ابن الأثير في النهاية ٢ / ١٤ بلفظ : «تكون قبل الساعة سنون خدّاعة» أي : تكثر فيها الأمطار ويقل الريع ، فذلك خداعها ؛ لأنها تطمعهم في الخصب بالمطر ثم تخلف. وقيل : الخداعة : القليلة المطر ، من خدع الريق إذا جفّ. اه. وقال الفارسي : وأما الحديث فيرون أنّ معناه ناقصة الزكاة قليلة المطر ، وقيل : قليلة الزكاء والريع ، من قولهم : خدع الزمان : قلّ مطره. راجع لسان العرب مادة : خدع ٨ / ٦٦. والحديث أخرجه أحمد في مسنده ٢ / ٣٣٨ ، وانظر الدر المنثور ٧ / ٤٧٥ والفتن والملاحم لابن كثير ١ / ٥٧ ، وقال ابن كثير : إسناده جيد قوي.

١٠٧

٨ ـ ذات أساهيج جماليّة

حشّت بحاريّ وأقطاع

٩ ـ أقضّي بها الحاجات إنّ الفتى

رهن بذي لونين خدّاع (١)

وقيل : معنى مخادعتهم إفسادهم ما بينهم وبين الله ، خدع الشيء : فسد.

قال سويد :

١٠ ـ حرّة تجلو شتيتا واضحا

كشعاع الشّمس في الغيم سطع

١١ ـ أبيض اللون لذيذا طعمه

طيّب الرّيق إذا الرّيق خدع (٢)

وعلى هذا يطّرد معنى :

(وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ).

لأنّ الإنسان يفسد نفسه ، ولكن لا يخفي عن نفسه شيئا يعلمه.

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ). (١٠)

أي : شك.

__________________

(١) في المخطوطة «ذات أساجيح» وهو تصحيف ، وحبب بدل «حشت». وأساهيج : فنون في السير ، والحاريّ : منسوب إلى الحيرة ، والأقطاع جمع قطع ، وهي طنفسة تكون على الرحل. والخداع مأخوذ من الخدع وهو الاختباء والتستر. راجع شرح اختيارات المفضل الضّبي للتبريزي ، والمفضليات ص ٢٨٣ ؛ والبيتان لأبي قيس بن الأسلت الأنصاري من مفضليته ٣ / ١٢٤٣ ـ ١٢٤٥.

(٢) البيتان لسويد بن أبي كاهل يصف ثغر امرأة ، وهو شاعر مخضرم مات بعد سنة ٦٠ ه‍ والبيتان في المفضليات ص ١٩١ ؛ وشرح المفضليات للتبريزي ٢ / ٨٦٨ ؛ وسمط اللآلىء ص ٩٦٢ ؛ والثاني في تفسير القرطبي ١ / ١٩٦ ؛ والمجمل لابن فارس ٢ / ٢٧٩ ؛ وبصائر ذوي التمييز ٢ / ٥٣١. والأول في العين ٦ / ٢١٤ قال المحققان د. مخزومي ود. السامرائي : لم نهتد إليه وفي المخطوطة «شيئا» بدل «شتيتا» وهو تصحيف. والشتيت : المتفرق ، يعني : الأسنان. والواضح : الأبيض.

١٠٨

قال البعيث (١) :

١٢ ـ وقلت لبشر إذ تبيّنت : إنّما

يراد بنا في الأمر صمّاء صيلم

١٣ ـ تيقّن فإنّ الشكّ داء وإنّما

ينجيك مصروم من الأمر مبرم

 ـ وقيل : غمّ وحزن ، كما قال حارثة بن بدر الغدّاني :

١٤ ـ إذ الهمّ أمسى وهو داء فأمضه

ولست بممضيه وأنت تعادله

١٥ ـ وقل للفؤاد إن نزا بك نزوة

من الرّوع : أفرخ ، أكثر الرّوع باطله (٢)

 ـ وقيل : مداجاة ونفاق (٣) ، كما قال :

١٦ ـ أجامل أقواما حياء وقد أرى

صدورهم تغلي عليّ مراضها (٤)

__________________

(١) اسمه خداش بن بشر ، عدّه ابن سلام في الطبقة الثانية من شعراء الإسلام ، وكان يتهاجى مع جرير ثم استنجد بالفرزدق عليه. والصماء : الداهية ، والصيلم : الشديدة.

(٢) البيتان في البيان والتبيين ٣ / ١٨٠ ؛ والحيوان ٣ / ٧٧. والأول في مجمل اللغة مادة عدل ، ولم ينسبه المحقق ، واللسان مادة : عدل. والثاني في اللسان مادة فرخ. يقال : أفرخ روعك : أي : خلا قلبك من الهم خلوّ البيضة من الفرخ. ـ وفي المخطوطة : حارثة بن بلد العدواني وهو تصحيف.

(٣) أخرج الطستي عن ابن عباس أنّ نافع بن الأزرق قال له : أخبرني عن قوله تعالى : فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ؟ قال : النفاق. قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم ، أما سمعت قول الشاعر :

أجامل أقواما حياء وقد أرى

صدورهم تغلي عليّ مراضها.

ا ه

(٤) ـ والبيت للشماخ بن ضرار الصحابي المخضرم ، وهو في ديوانه ص ٢١٥ ؛ وتفسير [استدراك] الماوردي ١ / ٦٨ ، ولم ينسبه المحقق ؛ والعقد الفريد ٢ / ٢٢٧ ؛ ولباب الآداب ص ٢٨٥ ؛ والمنصف ٢ / ١١٤.

١٠٩

ـ وقيل : معناه : ظلمة وغمّة ، كما قال :

١٧ ـ وليلة مرضت من كلّ ناحية

فلا يضيء لها نجم ولا قمر (١)

ولو أجري المرض على ظاهره لكان أيضا قريبا ، فإنّ القلب جارحة من الجوارح ، يكون سليما وسقيما ، وسويّا وناقصا ، وإنّما داؤه الجهل والفساد ، ودواؤه التعليم والإرشاد ، وأطباؤه الأنبياء ومن بعدهم العلماء.

(فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً). (١٠)

قال السّدي (٢) : وزادهم عداوة الله مرضا ، فحذف المضاف كقوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) ، (٣) أي : من ترك ذكر الله.

وقيل : زادهم الله شرا بما فاتهم من حدود الشريعة وفروضها ؛ لأن من دعي إلى خير فلم يصلحه ازداد شرا إلى شر.

ولهذا قيل : إن القلب الغير التقي كلما هديته للمراشد زدته فسادا ، كالبدن الغير النقي ، كلما غذوته الأطايب زدته سقاما.

وقيل : زادهم مرضا زيادة تأييد الرسول.

وعلى القولين إضافة مرض قلوبهم إلى الله على طريق تسمية المسبب باسم السبب ، إذ الله لما كان هو الذي شرع الدين ، ونصر الرسول ، وهما

__________________

(١) البيت لأبي حيّة النميري ، وهو في البحر المحيط ١ / ٥٣ ؛ والدر المصون ١ / ١٢٩ ؛ وقال محققه : لم أهتد إلى قائله. وهو في بصائر ذوي التمييز ٤ / ٤٩٣ ؛ وروح المعاني ١ / ١٤٩ ؛ واللسان مادة : مرض.

(٢) اسمه إسماعيل بن عبد الرحمن ، أبو محمد الكوفي الأعور ، صاحب التفسير ، روى عن ابن عباس وأنس وغيرهما ، وعنه الثوري وغيره. أخرج له الجماعة إلا البخاري ، توفي سنة ١٢٧ ه‍.

(٣) سورة الزمر : آية ٢٢.

١١٠

سبب مرضاهم ، جازت إضافة زيادة المرض إلى الله بسبب زيادة الآيات كما قال الفرزدق (١) :

١٨ ـ سقتها خروق في المسامع لم تكن

علاطا ولا موسومة في الملاغم

أي : لما سمعت السقاة أنها إبل فلان سقوها إبلا لا لهم ، فأضاف السقي إلى خروق آذانهم لأنّ الصوت هنالك حتى سمع فكان سبب السقي ، فعبّر بالسبب عن المسبب بهذه الفصاحة.

وأنشد ابن السراج (٢) في مثل هذا الموضع :

١٩ ـ ذر الآكلين الماء ظلما فما هم

ينالون خبزا بعد أكلهم الماء

والماء لا يؤكل. ولكنهم كانوا يبتغون شري الأرض من صاحبها ، فيشترون بثمنه ما يأكلونه ، فاكتفى بالمسبب. ومثله (٣) كثير.

__________________

(١) أبو فراس همام بن غالب الشاعر المشهور ، كان أبوه من جلة قومه وسراتهم ، وله مهاجاة كثيرة مع جرير ، وكلاهما من فحول الشعراء الأمويين ، توفي سنة ١١٠ ه‍. والبيت لم أجده في ديوانه ، وهو في الكامل للمبرد ١ / ٤٥. والعلاط : وسم في العنق ، والملاغم من كل شيء الفم والأنف والأشداق.

(٢) محمد بن السري ، يكنى أبا بكر ، أحد أئمة الأدب والعربية ، أخذ عن المبرّد ، وعنه السيرافي والرماني ، وكان يلثغ بالراء فيجعلها غينا ، له كتاب «الأصول في النحو» ، طبع مؤخرا ، من أنفس الكتب ، توفي سنة ٣١٦ ه‍. والبيت لم ينسب ، وهو في سفر السعادة للسخاوي ٢ / ٦٦٥ ؛ والخصائص ١ / ١٥٢ ؛ واللسان مادة أكل. وفيهم : «خيرا» بدل «خبزا». يريد قوما كانوا يبيعون الماء فيشترون بثمنه ما يأكلونه ، فاكتفى بذكر الماء الذي هو سبب المأكول عن ذكر المأكول.

(٣) فمن ذلك قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) ، سمي عقوبة الاعتداء اعتداء لأنها سببته عن الاعتداء ، ومثله قوله تعالى : (فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) تجوّز بالعدوان عن مكافأة الظالمين ، ومثله قوله تعالى : (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) تجوّز بالابتلاء عن العرفان ، لأنه مسبب عن الابتلاء ، كأنّه قيل : ونعرف مخبراتكم. إلى غير ذلك. راجع الإشارة إلى الإيجاز ص ٥٢ ـ ٥٣.

١١١

(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ). (١٥)

أي : يجازيهم بالعقوبة على استهزائهم ، وقيل : يرجع وبال استهزائهم عليهم.

وحمله ابن عباس رضي الله عنهما على استدراجهم ، والاستدراج : زيادة النعم على التمادي في الخطيئات.

وقيل : إنهم عوملوا في الدّنيا بأحكام المسلمين ، وإذا دفعوا إلى أشد العذاب كان كاستهزاء بهم.

وروى عديّ بن حاتم في حديث طويل «أنه يفتح لهم باب الجنّة ثمّ يصرفون إلى النّار» (١).

وقيل : إنه على مزاوجة الكلام كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها).(٢) قال تميم بن مقبل (٣) :

٢٠ ـ لعمر أبيك لقد شاقني

خيال حزنت له أو حزن

__________________

(١) أخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : «وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا» وهم منافقوا أهل الكتاب فذكرهم وذكر استهزاءهم. (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) على دينكم. (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) بأصحاب محمد ، يقول الله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) في الآخرة يفتح لهم باب في جهنم من الجنة ثم يقال لهم : تعالوا ، فيقبلون يسبحون في النار ، والمؤمنون على الأرائك ـ وهي السرر في الحجال ـ ينظرون إليهم ، فإذا انتهوا إلى الباب سدّ عنهم فيضحك المؤمنون منهم ، فذلك قول الله عزوجل : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) في الآخرة ويضحك المؤمنون منهم حين غلقت دونهم الأبواب ، فذلك قوله : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ). راجع الأسماء والصفات ص ٦١٦ ؛ والدر المنثور ١ / ٧٨.

(٢) سورة الشورى : آية ٤٠.

(٣) تميم بن أبيّ بن مقبل شاعر مجيد ، وكان يتهاجى مع النجاشي الحارثي ، فغلبه النجاشي. وكان ابن مقبل جافيا في الدين ، وكان يبكي أهل الجاهلية وهو مسلم ، والبيت في ديوانه ص ٢٩٢ ، وأمالي المرتضى ١ / ٥٣.

١١٢

وقال مزاحم العقيلي :

٢١ ـ بكت دارهم من نأيهم فتسرعت

دموعي فأيّ الباكيّين ألوم

٢٢ ـ أمستعبر يبكي من الهون والبلى

أم آخر يبكي شجوه ويهيم (١)

وليس ثمّ حزن ولا بكاء ، ولكنهما مزاوجة ومكافأة.

(وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ).

يملي لهم ويعمّر ، عن ابن مسعود (٢) رضي الله عنه ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : يكلهم إلى نفوسهم ، ويخذلهم واختيارهم.

وقيل : إنه على حذف المضاف ، أي : يمدهم في جزاء طغيانهم.

ومدّ وأمدّ واحد. وقيل : مدّ في الأمد ، وأمدّ في العدد.

ـ وقال الفراء (٣) : مدّ في الشيء له : جاذب وفاعل ، وأمدّ من غيره.

والطغيان : تعدي الطور ، وتجاوز القدر والهمة والحيرة.

__________________

(١) البيتان لقيس بن ذريح صاحب لبنى ، وأحد العشاق المشهورين ، وليسا لمزاحم العقيلي [استدراك] كما ذكر المؤلف ، وقبلهما :

إلى الله أشكو فقد لبنى كما شكى

إلى الله فقد الوالدين يتيم

يتيم جفاه الأقربون فجسمه

نحيل وعهد الوالدين قديم

بكت دارهم من نأيهم فتهللت

دموعي فأيّ الجازعين ألوم

أمستعبرا يبكي من الشوق والهوى

أم آخر يبكي شجوه ويهيم

راجع الأغاني ٨ / ١١٧ ، وأمالي المرتضى ١ / ٥٣.

(٢) عبد الله بن مسعود بن السابقين الأولين ، شهد بدرا وهاجر الهجرتين ، حدث عنه ابن عباس وابن عمر وأبو هريرة ، كان قصيرا شديد الأدمة ، اتفقا له في الصحيحين على أربعة وستين حديثا ، توفي سنة ٣٢ ه‍.

(٣) أبو زكريا ، يحيى بن زياد ، كان أوسع الكوفيين علما ، أخذ عن الكسائي وله كتب عديدة في العربية يقال لها الحدود ، وله معاني القرآن مطبوع. توفي سنة ٢٠٧ ه‍ بطريق مكة.

١١٣

(فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ). (١٦)

جاءت على سجاعة العربية وإن كان الرابح هو التاجر ، كما قال جرير (١) :

٢٣ ـ تعجّب إذ فاجأني الشيب وارتقى

إلى الرأس حتى ابيضّ مني المسائح

٢٤ ـ فقد جعل المفروك لا نام ليله

يحبّ حديثي والغيور المشايح

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً). (١٧)

ـ قال السدي : نزلت في قوم أسلموا ثم نافقوا.

وقال سعيد بن جبير (٢) : نزلت في اليهود ، كانوا ينتظرون مبعث النبي عليه‌السلام ، ويستفتحون به ، فذلك استضاءتهم ثم كفرهم به ذهاب نورهم.

ويندفع على التأويلين قول الطاعن : كيف تمثّل المنافق الذي لا نور له بمن أعطي نورا ثم سلب (٣)؟

__________________

(١) جرير بن عطية الخطفي يكنى أبا حرزة أحد فحول الشعراء الأمويين وبينه وبين الفرزدق والأخطل مهاجاة ، وكان هو أشعرهم ، توفي سنة ١١٠ ه‍. وفي المخطوطة [المسالخ] بدل [المسائح] و [العيون] بدل [الغيور]. والبيتان في ديوان جرير ص ٧٩ ، ويروى [أن ناصى بي الشيب]. وناصاه : نزل في ناصيته ، والمسائح : ما بين المصدغين إلى الجبهة ، والمفروك : من فركته النساء ، أي : أبغضته.

(٢) سعيد بن جبير من كبار أئمة التابعين ومتقدميهم في التفسير والحديث والعبادة والورع أخذ عن ابن عباس وابن عمر وأخذ عنه جماعة من التابعين ، قتله الحجاج لما خرج مع ابن الأشعث على عبد الملك بن مروان سنة ٩٥ ه‍.

(٣) أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) قال : ضربه الله مثلا للمنافق. وقوله : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) أمّا النور فهو إيمانهم الذي يتكلمون به ، وأمّا الظلمة فهي ضلالهم وكفرهم. انظر تفسير الطبري ١ / ١٤٣.

١١٤

(أَوْ كَصَيِّبٍ). (١٩)

الصّيّب (١) : فيعل من : صاب يصوب ، كسيّد من : ساد يسود ، ومعناه : ذو صوب. فيجوز مطرا ويجوز سحابا ، والرعد : صوت الملك الذي يسوق السحاب ، والبرق : ضربة السحاب بمخراق (٢).

عن عليّ وعن ابن عباس رضي الله عنهم أن الرعد ريح تختنق في السحاب ، يسقط السحاب إذا انقدحت بالريح ، وقد جاء كثّير (٣) بمثل هذا في شعره فقال :

٢٥ ـ تألّق واحمومى وخيّم بالرّبى

أحمّ الذرى ذو هيدب متراكب

٢٦ ـ إذا زعزعته الريح أرزم جانب

بلا هزق منه وأومض جانب

وأمّا الذي جرى له التمثيل بالصيّب فهو القرآن عند ابن عباس.

فإنّ ما فيه من القصص والمواعظ والتسلية ، والبشارة وأسباب الهداية كالمطر الذي ينفع حيث يقع ، وما فيه من الوعيد والتخسير ، والذم للكافرين كالظلمات والصواعق.

__________________

(١) الصيّب : فيعل من : صاب يصوب إذا نزل ، ويقال لكل واحد من المطر والسحاب صيب لوجود معنى النزول فيهما. راجع حاشية الشيخ زاده على تفسير البيضاوي ١ / ١٦٥.

(٢) أخرج الترمذي عن ابن عباس قال : «سألت اليهود النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الرعد ما هو؟ قال : ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله ، قالوا : فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال : زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر الله ، قالوا : صدقت». راجع تفسير القرطبي ١ / ٢١٧ ؛ وعارضة الأحوذي ١١ / ٢٨٤.

(٣) كثير بن عبد الرحمن ، أحد عشاق العرب المشهورين ، وهو صاحب عزة ، وله معها حكايات ونوادر ، كان رافضيا شديد التعصب لآل أبي طالب ، توفي سنة ١٠٧ ه‍. والبيتان في أمالي القالي ١ / ١٧٨ وديوانه ص ١٥١ ، في خ [احمرّ الذري] وهو تصحيف ، و [بلا خلف] بدل [بلا هزق] وهو تصحيف. الإرزام : صوت الرعد ، وهما في الموشح ٢٤٦ ؛ والثاني في اللسان مادة هزق ١٠ / ٣٦٨. والهزق : شدة صوت الرعد.

١١٥

وعن الحسن : هو الإسلام. وتقريب المماثلة بينهما أنّ المطر لا يتم منافعه إلا ومعه الرعد والبرق والظلمات ، فكذلك الإسلام تمامه باحتمال المتاعب في العبادات ، وتعريض النفس للقتل في الجهاد ، والمؤمنون يصبرون عليها ، والمنافقون يحذرون منها.

وتقريب آخر : إنّ المطر ـ وإن كان حياة الأرض ـ فإذا وقع على هذه الأعراض راع المسافر وحيّره ، فكذلك إيمان المنافق مع إسراره الكفر.

وقال في قوله تعالى :

(يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ). (٢٠)

إنّ من لم يكن له ضوء إلا لمع بارق فالضوء عنه بعيد.

وقد كثر هذا المعنى في أشعارهم ، قال جرير :

٢٧ ـ منعت شفاء النفس ممّن تركته

به كالجوى مما تجنّ الجوانح

٢٨ ـ وجدتك مثل البرق تحسب أنّه

قريب وأدنى ضوئه عنك نازح (١)

وقال كثير :

٢٩ ـ وإني وتهيامي بعزّة بعدما

تخلّيت مما بيننا وتخلّت

٣٠ ـ لكالمرتجي ظلّ الغمامة كلّما

تبوّأ منها للمقيل اضمحلّت (٢)

وقال ابن حطان (٣) :

__________________

(١) البيتان في ديوان جرير ص ٧٩.

(٢) البيتان في دلائل الإعجاز للجرجاني ص ٩٤ ؛ وخزانة الأدب ٥ / ٢١٤ ؛ وسر صناعة الإعراب ١ / ١٥٥ ؛ والشعر والشعراء ص ٣٤٣ ؛ والخصائص ١ / ٣٤٠ ؛ وديوانه ١٠٣.

(٣) عمران بن حطان ، كان تابعيا وأحد رؤوس الخوارج القعدية ، وله أبيات يمدح فيها ابن ملجم قاتل عليّ بن أبي طالب. وقد أخرج له البخاري وأبو داود ، قال ابن حجر : واعتذر عنه بأنه إنما خرّج عنه ما حدّث به قبل أن يبتدع. والبيتان في خزانة الأدب ٥ / ٣٦١ ؛ وكان يتمثل بهما سفيان الثوري ، وهما في تاريخ الإسلام للذهبي ١ / ٢٨٥. والثاني في عيون الأخبار ١ / ٨١ ؛ وربيع الأبرار ٤ / ٢١٦.

١١٦

٣١ ـ أرى أشقياء الناس لا يسأمونها

على أنّهم فيها عراة وجوّع

٣٢ ـ أراها ـ وإن كانت تحبّ فإنّها ـ

سحابة صيف عن قليل تقشّع

(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). (٢١)

لكي تتقوا ، وهو معنى كل «لعلّ» في القرآن ، لأنّ الله تعالى عن معاني الشك.

وقال المبرّد : بل هو على أصلها في الشكّ والرجاء من المخاطب ، أي : اعبدوه على رجاء أن يتم لكم التقوى. والترجية في مثل هذا أبلغ ؛ لأنّه ترقيق للموعظة ، وتلطيف في العبادة.

وفائدة أخرى : وهي أن لا يكون العبد كالا من المدلّ بتقواه ، بل حريصا على العمل حذرا من الزلل.

(فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ). (٢٣)

أي : مثل ما نزلنا. وقيل : من مثل عبدنا ، رجل لا يقرأ ولا يكتب.

والشهداء : الآلهة. وقيل : الأعوان.

(وَلَنْ تَفْعَلُوا) : اعتراض بين الشرط والجزاء ، مثل : «وأنت منهم» في بيت كثّير :

٣٣ ـ لو أنّ المخلّفين ـ وأنت منهم ـ

رأوك تعلّموا منك المطالا (١)

وقال عبيد الله بن الحر : (٢)

__________________

(١) البيت في الغيث المسجم ٢ / ١٠١ ؛ وكشف المشكل في النحو ٢ / ٤٧٤ ؛ وديوانه ص ١٥٨ ؛ والصناعتين ص ٦٠. وفي الديوان [الباخلين] بدل [المخلفين] وهو في إعجاز القرآن للباقلاني ص ١٠٠.

(٢) في المخطوطة : عبد الله ، وهو تصحيف. كان من خيار قومه وكان من أصحاب عثمان بن عفان ، فلما قتل انحاز إلى معاوية وشهد معه صفين مات غريقا سنة ٦٩ ه‍. والبيت في لسان العرب : مادة كتم ١٢ / ٥٠٦ ، وفي الخصائص ١ / ٣٣٦ ، قال : وكاتمه إياه ككتمه.

١١٧

٣٤ ـ تعلّم ـ ولو كاتمته الناس ـ أنّني

عليك ـ ولم أظلم بذلك ـ عاتب

فقوله : «ولو كاتمته الناس» اعتراض بين الفعل ومفعوله ، «ولم أظلم بذلك» اعتراض بين اسم إنّ وخبرها.

ـ والاعتراض في أشعار العرب كثير ، لأنّه يجري مجرى التوكيد.

ولنا فيه كتاب اسمه «قطع الرياض في بدع الاعتراض» (١).

(وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ). (٢٤)

قيل : إنها حجارة الكبريت ، فهي أشد توقدا.

وقيل : إنها الأصنام المعبودة ، فهي أشد تحسرا.

وقال الجاحظ (٢) : كأنه حذّرهم نارا تشتعل لشدتها وعظم مادتها في الحجارة ، كما قال القطامي (٣) :

٣٥ ـ يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة

ولا الصدور على الأعجاز تتكل

٣٦ ـ حتى وردن ركيات العوير وقد

كاد الملاء من الكتان يشتعل

__________________

(١) الكتاب لم نجد عنه خبرا.

(٢) عمرو بن بحر أحد أئمة الأدب ، كان معتزليا في عقائده ، وله ٣٦٠ مؤلّفا في شتى العلوم. منها : «البيان والتبيين» و «الحيوان» و «البخلاء» وكتبه تعلّم العقل أولا والأدب ثانيا ، توفي سنة ٢٥٠ ه‍ ، وسقطت كتبه عليه فمات. أخذ عن القاضي أبي يوسف والنظام.

(٣) اسمه عمير بن شييم ، عدّه ابن سلام في الطبقة الثانية من الإسلاميين. كان شاعرا فحلا رقيق الحواشي حلو الشعر. والبيتان في ديوانه ص ٢٦ من وصف مشية الإبل ، وهما في لسان العرب مادة : عور ، وجمهرة أشعار العرب ٢ / ٨٠٧. والأول في شرح المفضليات للتبريزي ١ / ٤٦٥ ؛ والموشح ص ٢٣٣ ؛ والأغاني ٩ / ٣٠ ؛ وأمالي القالي ٢ / ٧٠٨. قال المرزباني : ولو أنّ القطامي قال بيته الذي في وصف مشية الإبل في النساء لكان أشعر الناس. والبيت الثاني في الحيوان ٥ / ٧٩.

١١٨

فوصف الحر باشتعال الكتان منه مع نداوته وطراوته.

(وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً). (٢٥)

أي : التذاذهم بجميع المطاعم والمشارب متساو ، ولا يتناقص ولا يتفاضل.

وعن ابن عباس : متشابها في المنظر وإن اختلف في المطعم ، فيقولون ـ ما لم يطعموه ـ : هذا الذي رزقنا من قبل.

ولا يحمل على تشابهه بثمار الدنيا ؛ لأنّه روي عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا : «إنه ليس في الجنة شيء مما في الدّنيا إلا الأسماء» (١).

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما). (٢٦)

أي : لا يدع ولا يمتنع. والاستحياء : عارض في الإنسان يمتنع عنده عن ما يعاب عليه.

وذلك لا يجوز على الله ، ولكن ضرب المثل بالحقير إذا تضمن جليل الحكمة لا يستحيى منه. فقارب جلّ اسمه الخطاب في التفهيم باللفظ المعتاد.

(مَثَلاً ما بَعُوضَةً). (٢٦)

تقديره : أن يضرب مثلا ما ، أي : من الأمثال ، فيتمّ الكلام على (ما) ، ثم (بَعُوضَةً) نصب على البدل ، وهذا هو الصواب تنزيها للقرآن من لفظ خال عن معنى.

ـ وقال الكسائي : نصب بعوضة بمعنى : ما بين بعوضة فما فوقها ،

__________________

(١) الحديث أخرجه البيهقي في البعث ، وابن جرير ١ / ١٧٤ وابن أبي حاتم ١ / ٨٩ عن ابن عباس قال : «ليس في الدنيا مما في الجنة شيء إلا الأسماء». راجع ابن جرير ١ / ١٧٤ ، وتفسير ابن أبي حاتم ١ / ٨٩.

١١٩

فلما ألقيت «بين» نصبت ، كما تقول العرب : «هي أحسن الناس قرنا فقدما» (١) ، أي : ما بين قرن فقدم.

(فَما فَوْقَها).

أي : في الكبر من الذباب والعنكبوت ؛ لأنّ إنكار اليهود كان لضرب الله المثل لمهانتها.

وقيل : فما فوقها في الصغر ؛ لأنّ القصد هو التمثيل بالحقير ، فما كان أصغر كان إلى القصد أقرب بل لا تتجاوز فيما زاد به التحقير إلا الى ما هو أحقر وأصغر ، فلا يقال : ما له عليّ درهم ولا عشرة ، ولكن : درهم ولا دانق.

ـ فإن قيل : فكذلك لا يقال : «فوق» والمراد به ما هو دونه؟

قلنا : يقال ، كقولك : فلان قليل العقل ، فيقال : وفوق ذلك.

(يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً).

حيث يحكم عنده بالضلال ، وقيل : حيث أضلّهم عن جنته وثوابه (٢).

وقيل : إضافة الإضلال إلى الله ، وإلى المثل المضروب ـ وإن كان

__________________

(١) وقال الشاعر :

يا أحسن الناس ما قرنا إلى قدم

ولا حبال محبّ واصل تصل

أراد : ما بين قرن ، فلما أسقط «بين» نصب «قرنا» على التمييز لنسبة «أحسن». راجع القرطبي ١ / ٢٤٣ ؛ ومعاني الفراء ١ / ٢٢.

(٢) يتهرب المؤلف من نسبة الإضلال إلى الله تعالى ، تأثرا بمذهب المعتزلة ، الذين ينزّهم الله عن ذلك ، ويؤولون الآيات الكثيرة الواردة في ذلك. والمعنى عند أهل السنة والجماعة : يخذلهم ولا يوفقهم للهدى.

١٢٠