التيسير في التفسير للقرآن - ج ٨

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي

التيسير في التفسير للقرآن - ج ٨

المؤلف:

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

وكان الناس يكهنون بما خبّروهم الجنّ ، قوله : (فَزادُوهُمْ رَهَقاً) أي خسرانا (١).

* س ٤ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩)) [سورة الجنّ : ٧ ـ ٩]؟!

الجواب / قال الشيخ الطوسي : ثم حكى تعالى (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ) معاشر الإنس (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) أي لا يحشره يوم القيامة ولا يحاسبه. وقال الحسن : ظن المشركون من الجن ، كما ظن المشركون من الإنس (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) لجحدهم بالبعث والنشور ، واستبعدوا ذلك مع اعترافهم بالنشأة الأولى ، لأنهم رأوا إمارة مستمرة في النشأة الأولى ، ولم يروها في النشأة الثانية ، ولم ينعموا النظر فيعلموا أن من قدر على النشأة الأولى يقدر على النشأة الأخرى. وقال قتادة : ظنوا أن لا يبعث الله أحدا رسولا. ثم حكى أن الجن قالت (أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) أي مسسناها بأيدينا. وقال الجبائي : معناه إنا طلبنا الصعود إلى السماء ، فعبر عن ذلك باللمس مجازا ، وإنما جاز من الجن تطلب الصعود مع علمهم بأنهم يرمون بالشهب لتجويزهم أن يصادفوا موضعا يصعدون منه ليس فيه ملك يرميهم بالشهب ، أو اعتقدوا أن ذلك غير صحيح ، ولم يصدقوا من أخبرهم بأنهم رموا حين أرادوا الصعود (فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) نصب (حَرَساً) على التمييز و (شَدِيداً) نعته و (شُهُباً) عطف على (حَرَساً) فهو نصب أيضا على التمييز. وتقديره ملئت من الحرس. والشهب جمع شهاب ، وهو نور يمتد من

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٨٩.

٢٤١

السماء من النجم كالنار. قال الله تعالى (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ)(١) والحرس جمع حارس. وقيل : إن السماء لم تحرس قط إلا لنبوة أو عقوبة عاجلة عامة. ثم حكى أنهم قالوا أيضا (أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) أي لم يكن فيما مضى منع من الصعود في المواضع التي يسمع منها صوت الملائكة وكلامهم ، ويسمع ذلك ، فالآن من يستمع منا ذلك يجد له شهابا يرمي به ويرصد و (شِهاباً) نصب على أنه مفعول به و (رَصَداً) نعته (٢).

* س ٥ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠)) [سورة الجنّ : ١٠]؟!

الجواب / أقول : ثم قالوا الجن : مع كل هذا فإننا لا ندري أكان هذا المنع من استراق السمع دليل على أنّه شر قد نزل على أهل الأرض ، أم أراد الله بذلك المنع أن يهديهم ، وبعبارة أخرى أننا لا ندري هل هذا هو مقدمة لنزول البلاء والعذاب من الله ، أم مقدمة لهدايتهم ، ولكن لا يخفى على مؤمني الجن أنّ المنع من استراق السمع الذي تزامن مع ظهور نبينا الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو مقدمة لهداية البشرية. وانحلال جهاز الكهانة والخرافات الأخرى ، وليس هذا إلا انتهاءا لعصر الظلام ، وابتداء عصر النور.

ومع هذا ، فإنّ الجن ولعلاقتهم الخاصة بمسألة استراق السمع كادوا يصدقون ما في ذلك المنع من خير وبركة ، وإلا فهو واضح ما اعتمد عليه الكهنة في عصر الجاهلية في هذا العمل من استراق السمع في تضليل الناس.

وقد صرحوا بالفاعل لإرادة الهداية فنسبوه إلى الله ، وجعلوا فاعل الشر

__________________

(١) الملك : ٥.

(٢) التبيان : ج ١٠ ، ص ١٤٩.

٢٤٢

مجهولا ، وهذا إشارة إلى أنّ ما يأتي من الله فهو خير ، وما يصدر من الناس فهو شر وفساد إذا ما أساءوا التصرف بالنعم الإلهية ، ومع أنّ المفروض أن يذكر الخير في مقابل الشرّ إلا أن لفظة الخير هنا تعني الرشد.

لهذا قال الإمام الصادق عليه‌السلام ـ لمن بايع معاوية ـ بعدما ذكر هذه الآية ، فقال : «لا ، بل والله شرّ أريد بهم حين بايعوا معاوية وتركوا الحسن بن علي عليهما‌السلام» (١).

* س ٦ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣)) [سورة الجنّ : ١١ ـ ١٣]؟!

الجواب / ١ ـ قال علي بن إبراهيم القمي : قوله : (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) أي على مذاهب مختلفة (٢).

٢ ـ أقول : وفي إدامة حديث الجن يحذرون الآخرين فيقولون (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) إذ كنتم تتصورون أنكم تستطيعون الفرار من جزاء الله وتلتجئون إلى زاوية من زوايا الأرض أو نقطة من نقاط السماوات فإنكم في غاية الخطأ.

وعلى هذا الأساس فإن الجملة الأولى إشارة إلى الفرار من قبضة القدرة الإلهية في الأرض ، والجملة الثانية إشارة إلى الفرار المطلق ، الأرض والسماء.

ويحتمل أن يكون تفسير الآية هو أنّ الجملة الأولى إشارة إلى أنّه لا يمكن الغلبة على الله ، والجملة الثانية إشارة إلى أنّه لا يمكن الفرار من قبضة العدالة ، فإذا لم يكن هناك طريق للغلبة ولا للفرار فلا علاج إلّا التسليم لأمر

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٩١ ، ٣٨٩.

(٢) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٨٩.

٢٤٣

عدالة الله تعالى.

٣ ـ قال محمد بن الفضيل : قلت لأبي الحسن الماضي عليه‌السلام : قوله : (أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ) قال : «الهدى : الولاية ، آمنّا بمولانا فمن آمن بولاية مولاه فلا يخاف بخسا ولا رهقا». قلت : تنزيل؟ قال : «لا ، تأويل».

قلت : قوله : (لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً). قال : «إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا الناس إلى ولاية علي عليه‌السلام ، فاجتمعت إليه قريش ، فقالوا : يا محمد ، أعفنا من هذا. فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذا إلى الله ليس إليّ. فاتّهموه وخرجوا من عنده ، فأنزل الله : (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ) ـ إن عصيته ـ (أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ) في عليّ».

قلت هذا تنزيل؟ ، قال : «نعم ، ثمّ قال توكيدا : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في ولاية علي (فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً).

قلت : (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً)(١) : «يعني بذلك القائم عليه‌السلام وأنصاره» (٢).

وقال الصادق عليه‌السلام : قوله : (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) : «البخس : النقصان ، والترهق : العذاب» (٣).

* س ٧ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧) وَأَنَّ

__________________

(١) الجن : ٢١ ـ ٢٤.

(٢) الكافي : ج ١ ، ص ٣٥٩ ، ح ٩١.

(٣) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٩١ ، ٣٨٩.

٢٤٤

الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨)) [سورة الجنّ : ١٤ ـ ٢٨]؟!

الجواب / قال جعفر بن محمد ، عن أبيه عليهما‌السلام ، في قول الله عزوجل : (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) : «أي الذين أقرّوا بولايتنا (فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) معاوية وأصحابه (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) فالطريقة : الولاية لعلي عليه‌السلام (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) قتل الحسين عليه‌السلام (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) أي الأحد مع آل محمد ، فلا تتخذوا من غيرهم إماما.

(وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ) يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعوهم إلى ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام (كادُوا) قريش (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) أي يتعادون عليه ، قال : (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي) ، قال : إنما أدعو أمر ربّي (لا أَمْلِكُ لَكُمْ) إن تولّيتم عن ولاية علي (ضَرًّا وَلا رَشَداً).

(قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ) إن كتمت ما أمرت به (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) يعني مأوى (إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ) أبلغكم ما أمرني الله به من ولاية علي بن أبي طالب عليه‌السلام (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في ولاية

٢٤٥

علي عليه‌السلام (فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً).

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا علي ، أنت قسيم النار ، تقول : هذا لي وهذا لك قالت قريش : فمتى يكون ما تعدنا به من أمر علي والنار؟ فأنزل الله (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) يعني الموت والقيامة (فَسَيَعْلَمُونَ) يعني فلانا وفلانا وفلانا ومعاوية وعمرو بن العاص وأصحاب الضّغائن من قريش (مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً).

قالوا : فمتى يكون ذلك؟ قال الله لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) قال : أجلا (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) يعني عليا المرتضى من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو منه ، قال الله : (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) قال : في قلبه العلم ، ومن خلفه الرّصد يعلمه علمه ، ويزقه العلم زقا ، ويعلّمه الله إلهاما ، والرّصد : التعليم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لِيَعْلَمَ) النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ) علي عليه‌السلام بما لدى الرسول من العلم (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) ما كان أو يكون منذ يوم خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة من فتنة أو زلزلة أو خسف أو قذف ، أو أمة هلكت فيما مضى أو تهلك فيما بقي ، وكم من إمام جائر أو عادل يعرفه باسمه ونسبه ، ومن يموت موتا أو يقتل قتلا ، وكم من إمام مخذول لا يضرّه خذلان من خذله ، وكم من إمام منصور لا ينفعه نصر من نصره» (١).

وقال بريد العجلي : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) قال : «لأذقناهم علما كثيرا يتعلّمونه من الأئمة عليهم‌السلام».

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٨٩.

٢٤٦

قلت : قوله : (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ)؟ قال : «إنما هؤلاء يفتنهم فيه ، يعني المنافقين» (١).

وقال أبو جعفر عليه‌السلام : «قال الله : لجعلنا أظلّتهم في الماء العذب (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ).

وفتنهم في علي عليه‌السلام وما فتنوا فيه وكفروا إلا بما أنزل في ولايته» (٢).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «يعني استقاموا على الولاية في الأصل عند الأظلّة حين أخذ الله الميثاق على ذريّة آدم (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) يعني لكنّا أسقيناهم من الماء الفرات العذب» (٣).

وقال علي بن إبراهيم : قال ابن عباس في قوله : (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) ، ذكر ربه : ولاية علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، قوله : (فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) أي طلبوا الحقّ (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ) الآية ، قال : القاسط : الحائد عن الطريق (٤).

وقال أبو جعفر عليه‌السلام : «من أعرض عن علي عليه‌السلام يسلكه العذاب الصعد ، وهو أشد العذاب» (٥).

وقال حماد بن عيسى : قال أبو عبد الله عليه‌السلام لي يوما : «يا حمّاد ، تحسن أن تصلّي؟». فقلت : يا سيدي ، إني أحفظ كتاب حريز في الصلاة ، فقال : «لا بأس عليك يا حمّاد ، قم فصلّ» قال : فقمت بين يديه متوجها إلى

__________________

(١) تأويل الآيات : ج ٢ ، ص ٧٢٨ ، ح ٣.

(٢) نفس المصدر السابق : ج ٢ ، ص ٧٢٨ ، ح ٤.

(٣) نفس المصدر : ج ٢ ، ص ٧٢٧ ، ح ١.

(٤) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٩٠.

(٥) تأويل الآيات : ج ٢ ، ص ٧٢٩ ، ح ٦.

٢٤٧

القبلة ، فاستفتحت الصلاة ، فركعت وسجدت ، فقال : «يا حمّاد ، لا تحسن أن تصلي ، ما أقبح بالرجل منكم يأتي عليه ستون سنة أو سبعون سنة فلا يقيم صلاة واحدة بحدودها تامّة؟!».

قال حمّاد : فأصابني في نفسي الذّل ، فقلت : جعلت فداك ، فعلّمني الصلاة ، فقام أبو عبد الله عليه‌السلام مستقبل القبلة منتصبا ، فأرسل يديه جميعا على فخذيه ، قد ضم أصابعه وقرب بين قدميه حتى كان بينهما قدر ثلاث أصابع منفرجات ، واستقبل بأصابع رجليه جميعا القبلة ، لم يحرفهما عن القبلة ، وقال بخشوع : «الله أكبر» ثم قرأ الحمد بترتيل ، وقل هو الله أحد ، ثم صبر هنيئة بقدر ما يتنفس وهو قائم ، ثم رفع يديه حيال وجهه ، وقال : «الله أكبر» وهو قائم ، ثم ركع وملأ كفيه من ركبتيه مفرّجات ، ورد ركبتيه إلى خلفه حتى استوى ظهره ، حتى لو صب عليه قطرة من ماء أو دهن لم تزل لاستواء ظهره ، ومدّ عنقه وغمض عينيه ، ثم سبح ثلاثا بترتيل ، فقال : «سبحان ربي العظيم وبحمده» ثم استوى قائما ، فلما استمكن من القيام قال : «سمع الله لمن حمده» ثم كبّر وهو قائم ، ورفع يديه حيال وجهه.

ثم سجد وبسط كفّيه مضمومتي الأصابع بين يدي ركبتيه حيال وجهه ، فقال : «سبحان ربي الأعلى وبحمده» ثلاث مرات ، ولم يضع شيئا من جسده على شيء منه ، وسجد على ثمانية أعظم : الكفين والركبتين وأنامل إبهامي الرجلين والجبهة والأنف ، وقال : «سبعة منها فرض يسجد عليها ، وهي التي ذكرها الله في كتابه فقال : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) وهي الجبهة والكفّان والركبتان والإبهامان ، ووضع الأنف على الأرض سنّة». ثم رفع رأسه من السجود ، فلما استوى جالسا قال : «الله أكبر» ثم قعد على فخذه الأيسر ، وقد وقع ظاهر قدمه الأيمن على بطن قدمه الأيسر ، وقال : «أستغفر الله ربي وأتوب إليه» ثم كبر وهو جالس ، وسجد السجدة الثانية ، وقال كما قال في الأولى ، ولم يضع شيئا من بدنه على شيء منه في ركوع ولا سجود ،

٢٤٨

وكان مجنّحا ، ولم يضع ذراعيه على الأرض ، فصلّى ركعتين على هذا ، ويداه مضمومتا الأصابع وهو جالس في التشهد ، فلمّا فرغ من التشهّد سلّم ، فقال : «يا حمّاد ، هكذا صلّ» (١).

وقال الإمام موسى بن جعفر عليهما‌السلام ، في قول الله عزوجل : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) : «سمعت أبي جعفر بن محمد عليهما‌السلام يقول : هم الأوصياء الأئمّة منّا واحد فواحد ، فلا تدعوا إلى غيرهم فتكونوا كمن دعا مع الله أحدا ، هكذا نزلت» (٢).

وقال علي بن إبراهيم : قوله تعالى : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) ، يعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (يَدْعُوهُ) كناية عن الله (كادُوا) يعني قريشا (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) أي أيدا. قوله تعالى : (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) ، قال : القائم وأمير المؤمنين عليهما‌السلام في الرجعة (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) قال : هو قول أمير المؤمنين لزفر : «والله يا بن صهّاك ، لو لا عهد من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعهد من الله سبق ، لعلمت أينا أضعف ناصرا وأقل عددا». قال : فلمّا أخبرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يكون من الرجعة قالوا : متى يكون هذا؟ قال الله : (قُلْ) يا محمد : (إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً).

قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) قال : يخبر الله رسوله الذي يرتضيه بما كان قبله من الأخبار ، وما يكون بعده من أخبار القائم عليه‌السلام والرجعة والقيامة» (٣).

ومن طريق المخالفين : ما ذكره ابن أبي الحديد في (شرح نهج

__________________

(١) الكافي : ج ٣ ، ص ٣١١ ، ح ٨. ومن لا يحضره الفقيه : ج ١ ، ص ١٩٦ ، ح ٩١٦. وأمالي الصدوق : ص ٣٣٧ ، ح ١٣.

(٢) تأويل الآيات : ج ٢ ، ص ٧٢٩ ، ح ٨.

(٣) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٩٠.

٢٤٩

البلاغة) ، قال : روي أن بعض أصحاب أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه‌السلام سأله عن قول الله عزوجل : (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) فقال عليه‌السلام : «يوكّل الله بأنبيائه ملائكة يحصون أعمالهم ويؤدون إليه بتبليغهم الرسالة ، ووكّل بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملكا عظيما منذ فصل عن الرّضاع يرشده إلى الخيرات ومكارم الأخلاق ، ويصده عن الشر ومساوىء الأخلاق ، وهو الذي كان يناديه : السّلام عليكم يا محمد يا رسول الله ، وهو شاب لم يبلغ درجة الرسالة بعد ، فيظن أن ذلك من الحجر والأرض ، فيتأمل فلا يرى شيئا» (١).

وقال سدير الصيرفي : سمعت حمران بن أعين يسأل أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٢) ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : «إن الله عزوجل ابتدع الأشياء كلها بعلمه على غير مثال كان قبله ، فابتدع السماوات والأرضين ، ولم يكن قبلهن سماوات ولا أرضون ، أما تسمع لقوله تعالى : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ)(٣)؟».

فقال له حمران : أرأيت قوله جلّ ذكره : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً)؟ فقال أبو جعفر عليه‌السلام : (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) وكان والله محمد ممن ارتضاه ، وأما قوله : (عالِمُ الْغَيْبِ) فإن الله عزوجل عالم بما غاب عن خلقه فيما يقدر من شيء ويقضيه في علمه قبل أن يخلقه وقبل أن يفضيه إلى الملائكة ، فذلك ـ يا حمران ـ علم موقوف عنده ، إليه فيه المشيئة ، فيقضيه إذا أراد ، ويبدو له فيه فلا يمضيه ، فأما [العلم] الذي يقدره [الله] عزوجل ويقضيه ويمضيه فهو العلم الذي انتهى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ إلينا» (٤).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١٣ ، ص ٢٠٧.

(٢) الأنعام : ١٠١.

(٣) هود : ٧.

(٤) الكافي : ج ١ ، ص ٢٠٠ ، ح ٢.

٢٥٠

تفسير سورة

المزّمل ـ المدثر

القيامة

رقم السورة

ـ ٧٣ ـ ٧٤ ـ ٧٥ ـ

٢٥١
٢٥٢

سورة المزّمل

* س ١ : ما هو سورة المزّمّل؟!

الجواب / قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «من قرأ سورة المزّمّل في العشاء الآخرة ، أو في آخر الليل ، كان له الليل والنهار شاهدين مع سورة المزّمّل ، وأحياه الله حياة طيّبة ، وأماته ميتة طيّبة» (١).

ومن (خواص القرآن) : روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من قرأ هذه السورة كان له من الأجر كمن أعتق رقابا في سبيل الله بعدد الجنّ والشياطين ، ورفع الله عنه العسر في الدنيا والآخرة ، ومن أدمن قراءتها ورأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام فليطلب منه ما يشتهي فؤاده» (٢).

وقال الصادق عليه‌السلام : «من أدمن في قراءتها ورأى النبيّ وسأله ما يريده من الخير ، ومن قرأها في ليلة الجمعة مائة مرّة غفر الله له مائة ذنب ، وكتب له مائة حسنة بعشر أمثالها ، كما قال الله تعالى» (٣).

* س ٢ : ما هو سبب نزول سورة المزّمّل؟!

الجواب / قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «أن السبب في نزول هذه السورة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقوم هو وأصحابه الليل كلّه للصلاة حتّى تورّمت أقدامهم من كثرة قيامهم ، فشقّ ذلك عليه وعليهم ، فنزلت السورة بالتخفيف عنه وعنهم في قوله تعالى : (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) أي لن

__________________

(١) ثواب الأعمال : ص ١٢٠.

(٢) خواص القرآن : ص ١٢ «مخطوط».

(٣) خواص القرآن : ص ١٢ «مخطوط».

٢٥٣

تطيقوه» (١).

وقال ابن عباس في قوله تعالى : (وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) : علي وأبو ذرّ (٢).

* س ٣ : ما هو معنى قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣)) [سورة المزّمّل : ١ ـ ٤]؟!

الجواب / قال الصادق عليه‌السلام : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) اسم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

وقال علي بن إبراهيم : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً) قال : هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كان يتزمّل بثوبه وينام ، فقال الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً) قال : انقص من الليل أو زد عليه ، أي على القليل قليلا (٣).

وقال محمد بن مسلم : سألت أبا جعفر عليه‌السلام ، عن قول الله تعالى : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) ، قال : «أمره الله أن يصلّي كل ليلة ، إلا أن يأتي عليه ليلة من الليالي لا يصلّي فيها شيئا» (٤).

* س ٤ : ما هو معنى قوله تعالى :

(أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧)) [سورة المزّمّل : ٤ ـ ٧]؟!

الجواب / قال عبد الله بن سليمان : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، عن قول

__________________

(١) نهج البيان : ج ٣ ، ص ٣٠٣ «مخطوط».

(٢) مجمع البيان : ج ١٠ ، ص ٥٧٥ ، شواهد التنزيل : ج ٢ ، ص ٢٩١ ، ح ١٠٣٦.

(٣) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٩٠.

(٤) التهذيب : ج ٢ ، ص ٣٣٥ ، ح ١٣٨٠.

٢٥٤

الله عزوجل : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) قال : «قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ؛ بيّنه تبيانا ولا تهذّه هذّ (١) الشعر ، ولا تنثره نثر الرمل ، ولكن أفزعوا قلوبكم القاسية ، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة» (٢).

وقال علي بن إبراهيم ، قوله تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) ، قال : قيام الليل ، وهو قوله : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) ، قال : أصدق (٣).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «يعني بقوله : (وَأَقْوَمُ قِيلاً) قيام الرجل من فراشه يريد به الله لا يريد به غيره» (٤).

أقول : ويضيف في الآية الأخيرة : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً). المعنى أنك مشغول بهداية الخلق وإبلاغ الرسالة وحل المشالك المتنوعة ، ولا مجال لك بالتوجه التام إلى ربك والانقطاع إليه بالذكر فعليك بالليل والعبادة فيه.

وأعطي لذلك معنى أدق وتفسير يناسب الآيات السابقة أيضا هو : أنك تتحمل في النهار مشاغل ثقيلة ومساعي كثيرة ، فعليك بعبادة الليل لتقوي بها روحك وتستعد لقضاء حوائج وأمور الحياة.

سبح : على وزن مدح ، وتعني في الأصل الحركة والذهاب والإيّاب ويطلق على السباحة لما فيها من الحركة المستمرة.

وقال أبو جعفر عليه‌السلام في هذه الآية : يقول : فراغا طويلا لنومك

__________________

(١) الهذّ : سرعة القراءة. «لسان العرب : ج ٣ ، ص ٥١٧».

(٢) الكافي : ج ٢ ، ص ٤٤٩ ، ح ١.

(٣) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٩٢.

(٤) الكافي : ج ٣ ، ص ٤٤٦ ، ح ١٧.

٢٥٥

وحاجتك (١).

* س ٥ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩)) [سورة المزّمّل : ٨ ـ ٩]؟!

الجواب / ١ ـ قال أبو جعفر عليه‌السلام : قوله : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) ، يقول : أخلص إليه إخلاصا» (٢).

أقول : وهناك مظاهر عديدة من مظاهر الإخلاص والانقطاع إلى الله نذكر منها :

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «الرغبة أن تستقبل بباطن كفيك إلى السماء ، والرهبة أن تجعل ظهر كفّيك إلى السماء».

وقوله تعالى : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) ، قال : «الدعاء : بإصبع واحدة تشير بها ، والتضرع ، تشير بإصبعيك وتحركهما ، والابتهال : رفع اليدين تمدهما ، وذلك عند الدمعة ، ثمّ ادع» (٣).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «ذكر الرغبة وأبرز [باطن] راحتيه إلى السماء ، وهكذا الرهبة : وجعل ظهر كفيه إلى السماء ، وهكذا التضرّع : وحرك أصابعه يمينا وشمالا ، وهكذا التبتّل : ويرفع أصابعه مرّة ويضعها مرّة ، وهكذا الابتهال ومدّ يده تلقاء وجهه إلى القبلة ، ولا يبتهل حتى تجري الدمعة» (٤).

وقال محمد بن مسلم : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «مر بي رجل وأنا أدعو في صلاتي بيساري ، فقال : يا أبا عبد الله بيمينك ، فقلت : يا عبد الله ، إن الله تبارك وتعالى حقّه على هذه كحقّه على هذه».

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٩٢.

(٢) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٩٢.

(٣) الكافي : ج ٢ ، ص ٣٤٧ ، ح ١.

(٤) الكافي : ج ٢ ، ص ٣٤٨ ، ح ٣.

٢٥٦

وقال : «الرغبة : تبسط يديك [وتظهر] باطنهما ، والرهبة : [تبسط يديك و] تظهر ظاهرهما ، والتضرّع : تحريك السبّابة اليمنى يمينا وشمالا ، والتبتّل : تحريك السبابة اليسرى ترفعها إلى السماء رسلا (١) وتضعها ، والابتهال : تبسط يديك وذراعيك إلى السماء حين ترى أسباب البكاء» (٢).

وقال أبو بصير : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، عن الدعاء ورفع اليدين. فقال : «[على] أربعة أوجه : أمّا التعوّذ فتستقبل القبلة بباطن كفّيك ، وأما الدّعاء في الرزق فتبسط كفيك وتفضي بباطنهما إلى السماء ، وأمّا التبتل فإيماء بإصبعك السبابة ، وأما الابتهال فرفع يديك تجاوز بهما رأسك ، ودعاء التضرّع أن تحرك إصبعك السبابة مما يلي وجهك ، وهو دعاء الخيفة» (٣).

أقول : قوله : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) وهنا تأتي مسألة إيداع الأمور إلى الله ، وذلك بعد مرحلة ذكر الله والإخلاص ، إيداع الأمور للربّ الذي بيده الحاكمية والربوبية على المشرق والمغرب والمعبود الوحيد المستحق للعبادة ، وهذا التعبير في الحقيقة هو بمنزلة الدليل على موضوع التوكل على الله ، فكيف لا يتوكل الإنسان عليه ، ولا يودعه أعماله ، وليس في العالم الواسع من حاكم وآمر ومنعم ومولى ومعبود غيره.

* س ٦ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١)) [سورة المزّمّل : ١٠ ـ ١١]؟!

الجواب / قال محمد بن الفضيل : قلت لأبي الحسن الماضي عليه‌السلام :

__________________

(١) الرّسل : الرفق والتؤدة ، والرّسل : الذي فيه لين واسترخاء.

(٢) الكافي : ج ٢ ، ص ٣٤٨ ، ح ٤.

(٣) الكافي : ج ٢ ، ص ٣٤٨ ، ح ٥.

٢٥٧

(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ)؟ قال : «يقولون فيك (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً وَذَرْنِي) ـ يا محمّد ـ (وَالْمُكَذِّبِينَ) بوصيك (أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً). قلت : إنّ هذا تنزيل؟ ، قال : «نعم» (١).

وقال أبو جعفر عليه‌السلام ، في قوله تعالى : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) الآية : «هو وعيد توعّد الله عزوجل [به] من كذّب بولاية عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام» (٢).

وقال المرحوم الطبرسي في مجمع البيان في ذيل الآية الأولى : وفي هذا دلالة على وجوب الصبر على الأذى لمن يدعو إلى الدين والمعاشرة بأحسن الأخلاق ، واستعمال الرفق ليكونوا أقرب إلى الإجابة (٣).

* س ٧ : ما هو معنى قوله تعالى :

(إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤)) [سورة المزّمّل : ١٢ ـ ١٤]؟!

الجواب / ١ ـ أقول : يقول ـ تعالى ـ مصرحا : (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً). الأنكال جمع نكل على وزن (فكر) وهي السلاسل الثقال ، وأصلها من نكول الضعف والعجز ، أي أن الإنسان يفقد الحركة بتقييد أعضائه بالسلاسل.

٢ ـ قال علي بن إبراهيم القمّي ، في قوله تعالى : (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) [أي] لا يقدر أن يبلعه (٤).

وأقول : ثم يستتبع ذلك بذكر العذاب الأليم على انفراد ، وهذا يشير إلى أن أبعاد العذاب الأخروي الأليم لا يعلم شدته وعظمته إلا الله تعالى ، ولذا

__________________

(١) الكافي : ج ١ ، ص ٣٦٠ ، ح ٩١.

(٢) المناقب : ج ٣ ، ص ٢٠٣.

(٣) مجمع البيان : ج ١٠ ، ص ٣٧٩.

(٤) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٩٢.

٢٥٨

ورد في حديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمع قارئا يقرأ هذه فصعق (١).

وجاء في حديث آخر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي كان يتلو الآية فصعق بها (٢).

٣ ـ قال علي بن إبراهيم : قوله : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) أي تخسف ، وقوله تعالى : (وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) قال : مثل الرّمل ينحدر (٣).

* س ٨ : ما هو معنى قوله تعالى :

(إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦)) [سورة المزّمّل : ١٥ ـ ١٦]؟!

الجواب / قال الشيخ الطبرسي (رحمه‌الله) : ثم أكد سبحانه الحجة على أهل مكة فقال : (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (شاهِداً عَلَيْكُمْ) أي : يشهد عليكم في الآخرة بما يكون منكم ، لا في الدنيا (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ) بمصر (رَسُولاً) يعني موسى بن عمران. (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) ولم يقبل منه ما دعاه إليه (فَأَخَذْناهُ) بالعذاب (أَخْذاً وَبِيلاً) أي شديدا ثقيلا مع كثرة جنوده ، وسعة ملكه ، يعني الغرق (٤).

* س ٩ : ما هو معنى قوله تعالى :

(فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧)) [سورة المزّمّل : ١٧]؟!

الجواب / قال أبو جعفر عليه‌السلام ـ في هذه الآية ـ «كيف إن كفرتم تتّقون ذلك اليوم الذي يجعل الولدان شيبا؟» (٥).

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١٠ ، ص ٣٨٠.

(٢) روح المعاني : ج ٢٩ ، ص ١٠٧.

(٣) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٩٢.

(٤) مجمع البيان : ج ١٠ ، ص ١٦٦.

(٥) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٩٢ ـ ٣٩٣.

٢٥٩

وقال علي بن إبراهيم القمي ، في قوله : (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ) الآية تشيب الولدان من الفزع حيث يسمعون الصيحة (١).

* س ١٠ : ما هو معنى قوله تعالى :

(السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩)) [سورة المزّمّل : ١٨ ـ ١٩]؟!

الجواب / قال الشيخ الطبرسي : ثم زاد سبحانه في وصف شدة ذلك اليوم فقال : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) الهاء تعود إلى اليوم ، وهذا كما يقال فلان بالكوفة أي هو فيها. والمعنى : إن السماء تنفطر وتنشق في ذلك اليوم من هوله. وقيل : بسبب ذلك اليوم وهوله وشدته. وقيل : بأمر الله وقدرته. ولم يقل منفطرة لأن لفظة السماء مذكر ، فيجوز أن يذكر ويؤنث. ومن ذكر أراد السقف. وقيل : معناه ذات انفطار ، كما يقال امرأة مطفل أي : ذات أطفال ، ومرضع ذات رضاع ، فيكون على طريق النسبة. (كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) أي كائنا لا خلف فيه ، ولا تبديل (إِنَّ هذِهِ) الصفة التي ذكرناها ، وبيناها (تَذْكِرَةٌ) أي عظة لمن أنصف من نفسه ، التذكرة الموعظة التي يذكر بها ما يعمل عليه. (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أي فمن شاء من المكلفين ، اتخذ إلى ثواب ربه سبيلا ، لأنه قادر على الطاعة التي لو فعلها وصل إلى الثواب ، وقد رغبه الله تعالى فيه ، ودعاه إلى فعل ما يوصله إليه ، وبعث رسولا يدعوه إليه ، فمن لم يصل إليه ، فبسوء اختياره انصرف عنه (٢).

* س ١١ : ما هو معنى قوله تعالى :

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٩٢ ـ ٣٩٣.

(٢) مجمع البيان : ج ١٠ ، ص ١٦٧.

٢٦٠