نصر بن مزاحم المنقري
المحقق: عبد السلام محمّد هارون
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٨٩
إن يك عمرو قد علاه الأشتر |
|
بأسمر فيه سنان أزهر |
فذاك والله لعمري مفخـر |
|
يا عمرو هيهات الجناب الأخضر (١) |
يا عمرو يكفيك الطعان حمير |
|
واليحصبي بالطعـان أمهر |
* دون اللواء اليوم موت أحمر *
فنادى الأشتر إبراهيم ابنه : خذ اللواء ، فغلام لغلام. فتقدم وهو يقول :
يا أيها السائل عني لا ترع |
|
أقدم فإني من عرانين النخع |
كيف ترى طعن العراقي الجذع |
|
أطير في يوم الوغى ولا أقع |
ما ساءكم سر وما ضر نفـع (٢) |
|
أعددت ذا اليوم لهول المطلع |
ويحمل على الحميري فالتقاه الحميري بلوائه ورمحه ، ولم يبرحا يطعن كل منهما صاحبه حتى سقط الحميري قتيلا ، وشمت مروان بعمرو ، وغضب القحطانيون على معاوية فقالوا : تولى علينا من لا يقاتل معنا؟! ول رجلا منا ، وإلا فلا حاجة لنا فيك. فقال المزعف اليحصبي ـ وكان شاعرا ـ أيها الأمير ، اسمع :
معاوي إما تدعنا لعظيمة |
|
يلبس من نكرائها الغرض بالحقب (٣) |
فول علينا من يحوط ذمارنا |
|
من الحميريين الملوك على العرب |
__________________
(١) يشير إلى مصر.
(٢) أي ما ساءكم سرنا وما ضركم نفعنا. في الأصل : « ولا ضر » صوابه في ح.
(٣) الغرض : حزام الرحل. وفي الأصل : « العرض » صوابه في ح. والحقب ، بالتحريك : حبل يشد به الرحل في بطن البعير مما يلي ثيله لئلا يؤذيه التصدير.
ولا تأمرنا بالتي لا نريدهـا |
|
ولا تجعلنا للهوى موضع الذنب |
ولا تغضبنا ، والحوادث جمة |
|
عليك ، فيفشو اليوم في يحصب الغضب |
فإن لنا حقا عظيما وطاعة |
|
وحبـا دخيلا في المشاشة والعصب (١) |
فقال لهم معاوية : [ والله ] لا أولى عليكم بعد موقفي هذا (٢) إلا رجلا منكم.
[ قال نصر ] : و [ حدثنا عمر بن سعد قال ] : إن معاوية لما أسرع أهل العراق في أهل الشام قال : هذا يوم تمحيص ، [ وإن لهذا اليوم ما بعده ]. إن القوم قد أسرع فيهم كما أسرع فيكم ، فاصبروا وكونوا كراما (٣).
قال : وحرض علي بن أبي طالب أصحابه ، فقام إليه الأصبغ بن نباتة فقال : يا أمير المؤمنين ، قدمني في البقية من الناس ، فإنك لا تفقد لي اليوم صبرا ولا نصرا. أما أهل الشام فقد أصبنا منهم ، وأما نحن ففينا بعض البقية ، ائذن لي فأتقدم. فقال علي : تقدم باسم الله والبركة. فتقدم وأخذ رايته ، فمضى وهو يقول :
حتى متى ترجو البقايا أصبغ |
|
إن الرجاء بالقنوط يدمـغ |
أما ترى أحداث دهـر تنبغ |
|
فادبغ هواك ، والأديم يدبـغ |
__________________
(١) المشاشة : واحدة المشاش ، وهي رءوس العظام. ح : « في المشاش وفي العصب ».
(٢) ح : « بعد هذا اليوم ».
(٣) ح : « وموتوا كراما ».
والرفق فيما قد تريـد (١) أبلغ |
|
اليوم شغل وغدا لا تفرغ |
فرجع الأصبغ وقد خصب سيفه دما ورمحه ، وكان شيخا ناسكا عابدا ، وكان إذا لقى القوم بعضهم بعضا يغمد سيفه ، وكان من ذخائر على ممن قد بايعه على الموت ، وكان من فرسان أهل العراق ، وكان علي عليهالسلام يضن به على الحرب والقتال.
وقال : وكانوا قد ثقلوا عن البراز حين عضتهم الحرب ، فقال الأشتر : يا أهل العراق ، أما من رجل يشري نفسه [ لله ]؟! فخرج أثال بن حجل فنادى بين العسكرين : هل من مبارز؟ فدعا معاوية حجلا فقال : دونك الرجل. وكانا مستبصرين في رأيهما ، فبرز كل واحد منهما إلى صاحبه فبدره الشيخ بطعنة فطعنه الغلام ، وانتمى (٢) فإذا هو ابنه ، فنزلا فاعتنق كل وأحد منهما صاحبه وبكيا ، فقال له الأب : أي أثال ، هلم إلى الدنيا. فقال له الغلام : يا أبه ، هلم إلى الآخرة ، والله : يا أبه ، لو كان من رأيي الانصراف إلى أهل الشام لوجب عليك أن يكون من رأيك لي أن تنهاني. واسوأتاه (٣) ، فماذا أقول لعلي وللمؤمنين الصالحين؟! كن على ما أنت عليه ، وأنا أكون على ما أنا عليه. وانصرف حجل إلى أهل الشام ، وانصرف أثال إلى أهل العراق ، فخبر كل واحد منهما أصحابه. وقال في ذلك حجل :
أن حجـل بن عامر وأثالا |
|
أصبحا يضربان في الأمثال |
أقبل الفارس المدجـج في النق |
|
ع أثـال يدعو يريد نزالـي |
دون أهل العراق يخطـر كالفح |
|
ل علـى ظهـر هيكـل ذيال |
__________________
(١) في الأصل : « قديدين » صوابه في ح ( ٢ : ٢٩٦ ).
(٢) انتمى : انتسب. وفي ح : « وانتسبا ».
(٣) في الآصل : « واسوأتنا » وأثبت ما في ح.
فدعاني له ابن هنـد وما زا |
|
ل قليلا في صحبه أمثالي (١) |
فتناولته ببادرة الرمـ |
|
ح وأهوى بأسمر عسال |
فاطعنا وذاك من حدث الدهر |
|
عظيم ، فتـى لشيـخ بجال (٢) |
شاجرا بالقنـاة صدر أبيه |
|
وعظيم علي طعـن أثـال |
لا أبالي حين اعترضـت أثالا |
|
وأثال كذاك ليس يبالي |
فافترقنا على السلامـة والنفـ |
|
س يقيها مؤخر الآجال |
لا يراني على الهدى وأراه |
|
من هداي على سبيل ضلال |
فلما انتهى شعره إلى أهل العراق قال أثال ـ وكان مجتهدا مستبصرا :
إن طعني وسط العجاجة حجلا |
|
لم يكن في الذي نويـت عقوقا |
كنت أرجو به الثواب من اللـ |
|
ـه وكوني مع النبي رفيقا |
لم أزل أنصر العراق على الشـا |
|
م (٣) أراني بفعـل ذاك حقيقا |
قال أهل العراق إذ عظم الخط |
|
ب ونق المبارزون نقيقا |
من فتى يـأخذ الطريق إلـى اللـ |
|
ـه فكنـت الذي أخذت الطريقـا (٤) |
حاسر الرأس لا أريد سوى المـو |
|
ت أرى كل ما يرون دقيقا (٥) |
فإذا فارس تقحم فـي النقـ |
|
ع خدبا مثل السحوق عتيقـا (٦) |
فبداني حجل ببادرة الطعـ |
|
ن وما كنت قبلها مسبوقا |
__________________
(١) في الأصل : « وما ذاك قليلا » صوابه في ح.
(٢) البجال ، بالفتح : الكبير العظيم. ح : « بشيخ بجال ».
(٣) في الأصل : « من الشام » وأثبت ما في ح.
(٤) ح : « يسلك الطريق » و « سلكت الطريق ».
(٥) ح : « أرى الأعظم الجليل دقيقا ».
(٦) الخدب : الضخم العظيم. والسحوق : النخلة الطويلة.
فتلافيته بعالية الرمـ |
|
ح ، كلانا يطـاول العيوقا (١) |
أحمد الله ذا الجلالة والقـد |
|
رة حمدا يزيدنـي توفيقا |
لم أنل قتله ببادرة الطعـ |
|
نـة مني ولم أنـل ثفروقـا (٢) |
قلت للشيخ لست أكفرك الدهـ |
|
ر لطيف الغذاء والتفنيقـا (٣) |
غير أني أخاف أن تدخل النا |
|
ر فلا تعصني وكن لـي رفيقا |
وكذا قال لي ، فغـرب تغري |
|
با وشرقت راجعا تشريقا |
وإن معاوية دعا النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري ، ومسلمة بن مخلد الأنصاري ، ولم يكن معه من الأنصار غيرهما ، فقال : يا هذان ، لقد غمني ما لقيت من الأوس والخزرج ، صاروا واضعي سيوفهم على عواتقهم يدعون إلى النزال ، حتى والله جبنوا أصحابي ، الشجاع والجبان ، وحتى والله ما أسأل عن فارس من أهل الشام إلا قالوا قتلته الأنصار. أما والله لألقينهم بحدي وحديدي ، ولأعبين لكل فارس منهم فارسا ينشب في حلقه ، ثم لأرمينهم بأعدادهم من قريش ، رجال لم يغذهم التمر والطفيشل (٤) ، يقولون نحن الأنصار ، قد والله آووا ونصروا ولكن أفسدوا حقهم بباطلهم.
__________________
(١) التلافي : التدارك. وعالية الرمح : أعلاه. وفي الأصل : « ببادرة الرمح » صوابه في ح. وفي ح أيضا : « فتلقيته ».
(٢) الثفروق : قمع البسرة والتمرة ، يقول : لم أنل منه أقل شئ. وفي الأصل : « لم أكن مفروقا » وفي ح :
إذا كففت السنان
عند ولم أد |
|
ن فتيلا أبي ولا
ثفروقا |
وصواب إنشاد هذا : « منه ولا ثفروقا ».
(٣) التفنيق : التنعيم. ح : « لست أكفر نعماك ».
(٤) الطفيشل ، بوزن سميدع ، كما في القاموس ، ويقال له أيضا « طفشيل ». ولفظه فارسي معرب ، وهو بالفارسية « تفشله » أو « تفشيله » وقد فسره استينجاس في ٣١٣ بأنه ضرب من اللحم يعالج بالبيض والجزر والعسل ، وفسر في القاموس بأنه نوع من المرق. وجعله البغدادي في كتاب الطبيخ ضربا من التنوريات ، أي الأطعمة التي تنضج في التنور. وفي منهاج الدكان ٢٢٠ : « طفشيل كل طعام يعمل من القطاني ، أعتى الحبوب كالعدس والجلبان وما أشبه ذلك ». انظر حواشي الحيوان ( ٣ : ٢٤ / ٥ : ٢٢٦ ).
فغضب النعمان فقال : يا معاوية ، لا تلومن الأنصار بسرعتهم في الحرب فإنهم كذلك كانوا في الجاهلية. فأما دعاؤهم الله فقد رأيتهم مع رسول الله صلى الله عليه [ يفعلون ذلك كثيرا ]. وأما لقاؤك إياهم في أعدادهم من قريش فقد علمت ما لقيت قريش منهم [ قديما ] ، فإن أحببت أن ترى فيهم مثل ذلك آنفا فافعل. وأما التمر والطفيشل فإن التمر كان لنا ، فلما أن ذقتموه شاركتمونا فيه. وأما الطفيشل فكان لليهود ، فلما أكلناه غلبناهم عليه ، كما غلبت قريش على السخينة (١).
ثم تكلم مسلمة بن مخلد فقال : يا معاوية ، إن الأنصار لا تعاب أحسابها ولا نجداتها. وأما غمهم إياك فقد والله غمونا ، ولو رضينا ما فارقونا وما فارقنا جماعتهم ، وإن في ذلك لما فيه من مباينة العشيرة ، ومباعدة الحجاز وحرب العراق ، ولكن حملنا ذلك لك ، ورجونا منك عوضه. وأما التمر والطفيشل فإنهما يجران (٢) عليك نسب السخينة والخرنوب.
وانتهى الكلام إلى الأنصار ، فجمع قيس بن سعد الأنصاري ، الأنصار ثم قام خطيبا فيهم فقال : إن معاوية قد قال ما بلغكم ، وأجاب عنكم صاحباكم (٣) ، فلعمري لئن غظتم معاوية اليوم لقد غظتموه بالأمس ، وإن وترتموه في الإسلام فقد وترتموه في الشرك ، ومالكم إليه من ذنب [ أعظم ] من نصر هذا الدين الذي أنتم عليه ، فجدوا اليوم جدا تنسونه [ به ] ما كان أمس ، وجدوا غدا [ جدا ] تنسونه (٤) [ به ] ما كان اليوم ، وأنتم مع هذا
__________________
(١) السخينة : طعام يتخذ من دقيق وسمن ـ وقيل من دقيق وتمر ـ أغلظ من الحساء وأرق من العصيدة. وكانت قريش تكثر من أكلها فعيرت بها حتى سموا سخينة.
(٢) في الأصل : « يجبران » وأثبت ما في ح ( ٤ : ٢٩٧ ).
(٣) أي النعمان ومسلمة. وفي الأصل : « صاحبكم » صوابه في ح.
(٤) في الأصل : « فتنسونه » وأثبت ما في ح.
اللواء الذي كان يقاتل عن يمينه جبرائيل وعن يساره ميكائيل ، والقوم مع لواء أبي جهل والأحزاب. وأما التمر فإنا لم نغرسه ، ولكن غلبنا عليه من غرسه. وأما الطفيشل فلو كان طعامنا لسمينا به اسما كما سميت قريش السخينة. ثم قال قيس بن سعد في ذلك :
يا ابن هند دع التوثب في الحر |
|
ب إذا نحن في البلاد نأينا (١) |
نحن من قد رأيت فـادن (٢) إذ شئـ |
|
ت بمن شئت في العجاج إلينا |
إن برزنا بالجمع نلقك فـي الجمـ |
|
ع وإن شئت محضـة أسرينا |
فالقنا في اللفيف نلقك في الخـز |
|
رج ندعو في حربنا أبوينـا |
أي هذين ما أردت فخذه |
|
ليس منا وليس منك الهوينـا |
ثم لا تنزع العجاجة حتـى |
|
تنجلي حربنا لنا أو علينا (٣) |
ليت ما تطلب الغـداة أتانا |
|
أنعم الله بالشهادة عينا |
إننا إننا الذين إذا الفتـ |
|
ح شهدنا وخيبرا وحنينا |
بعد بدر وتلك قاصمة الظهر |
|
وأحد وبالنضير ثنينـا |
يوم الاحزاب ، قد علم النا |
|
س ، شفينـا من قبلكـم واشتفينـا (٤) |
فلما بلغ شعره معاوية دعا عمرو بن العاص فقال : ما ترى في شتم الأنصار؟ قال : أرى أن توعد ولا تشتم ، ما عسى أن نقول لهم؟ إذا أردت ذمهم فذم أبدانهم ولا تذم أحسابهم. قال معاوية : إن خطيب الأنصار قيس بن سعد يقوم كل يوم خطيبا ، وهو والله يريد أن يفنينا غدا إن لم يحبسه عنا حابس الفيل ، فما الرأي؟ قال : الرأي التوكل والصبر. فأرسل معاوية إلى رجال
__________________
(١) ح : « بالجياد سرينا ».
(٢) في الأصل : « فأذن » صوابه في ح ( ٢ : ٢٩٧ ).
(٣) العجاجة : واحدة العجاج ، وهو ما ثورته الريح. تنزع : تكف. وفي الأصل : « ينزع » وفي ح : « لا نسلخ ».
(٤) لعلها : « وبيوم الأحزاب ».
من الأنصار فعاتبهم ، منهم عقبة بن عمرو ، وأبو مسعود ، والبراء بن عازب ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، وخزيمة بن ثابت ، وزيد بن أرقم ، وعمرو بن عمير (١) والحجاج بن غزية ، وكان هؤلاء يلقون في تلك الحرب ، فبعث معاوية بقوله : لتأتوا قيس بن سعد. فمشوا بأجمعهم إلى قيس ، فقالوا : إن معاوية لا يريد شتما فكف عن شتمه. فقال : إن مثلي لا يشتم ، ولكني لا أكف عن حربه حتى ألقى الله. وتحركت الخيل غدوة فظن قيس بن سعد أن فيها معاوية ، فحمل على رجل يشبهه فقنعه بالسيف فإذا غير معاوية ، وحمل الثانية [ على آخر ] يشبهه أيضا فضربه ، ثم انصرف وهو يقول :
قولوا لهذا الشاتمي معاويه |
|
إن كل ما أوعدت ريـح هاويـه |
خوفتنا أكلب قوم عاويه |
|
إلى يا بن الخاطئين الماضيـة |
ترقل إرقال العجوز الجارية (٢) |
|
في أثـر الساري ليالـى الشاتيـه (٣) |
فقال معاوية : يا أهل الشام ؛ إذا لقيتم هذا الرجل فأخبروه بمساويه. وغضب النعمان ومسلمة على معاوية فأرضاهما بعد ما هما أن ينصرفا إلى قومهما ، ولم يكن مع معاوية من الأنصار غيرهما. ثم إن معاوية سأل النعمان أن يخرج إلى قيس فيعاتبه ويسأله السلم. فخرج النعمان حتى وقف بين الصفين فقال : يا قيس ، أنا النعمان بن بشير. فقال قيس : هيه يا ابن بشير فما حاجتك؟ فقال النعمان : يا قيس ، إنه قد أنصفكم من دعاكم إلى ما رضى لنفسه ، ألستم معشر الأنصار ،
__________________
(١) عمرو بن عمير الأنصاري ، أحد الصحابة ، وقد اختلف في اسمه فقيل عمرو بن عمرو ، وقيل عامر بن عمير أيضا. وفي الأصل : « عمير بن عمر » تحريف. الإصابة ٤٤٠٤ ، ٥٩١٤.
(٢) العجوز : الكلبة. وفي الأصل : « العجوز الحاوية ».
(٣) الساري : السحاب الذي يسري ليلا. والكلاب تنبح السحاب. انظر الحيوان ( ٢ : ٧٣ ).
تعلمون أنكم أخطأتم في خذل عثمان يوم الدار ، وقتلتم أنصاره يوم الجمل وأقحمتم خيولكم على أهل الشام بصفين ، فلو كنتم إذ خذلتم عثمان خذلتم عليا لكانت واحدة بواحدة ، ولكنكم خذلتم حقا ونصرتم باطلا ، ثم لم ترضوا أن تكونوا كالناس حتى أعلمتم في الحرب ودعوتم إلى البراز ، ثم لم ينزل بعلي أمر قط إلا هونتم عليه المصيبة ، ووعدتموه الظفر. وقد أخذت الحرب منا ومنكم ما قد رأيتم. فاتقوا الله في البقية.
فضحك قيس ثم قال : ما كنت أراك يا نعمان تجترئ على هذه المقالة ، إنه لا ينصح أخاه من غش نفسه ، وأنت والله الغاش الضال المضل. أما ذكرك عثمان فإن كانت الأخبار تكفيك فخذها مني ، واحدة قتل عثمان من لست خيرا منه ، وخذله من هو خير منك. وأما أصحاب الجمل فقاتلناهم على النكث. وأما معاوية فو الله أن لو اجتمعت عليه العرب [ قاطبة ] لقاتلته الأنصار. وأما قولك إنا لسنا كالناس ، فنحن في هذه الحرب كما كنا مع رسول الله ، نتقي السيوف بوجوهنا ، والرماح بنحورنا ، حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ، ولكن انظر يا نعمان هل ترى مع معاوية إلا طليقا أو أعرابيا أو يمانيا مستدرجا بغرور. انظر أين المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان ، الذين رضي الله عنهم ، ثم انظر هل ترى مع معاوية غيرك وصويحبك ، ولستما والله ببدريين [ ولا عقبيين ] ولا أحديين ، ولا لكما سابقة في الإسلام ولا آية في القرآن. ولعمري لئن شغبت علينا لقد شغب علينا أبوك ».
وقال قيس في ذلك :
والراقصات بكل أشعث أغبر |
|
خوص العيون تحثها الركبان |
ما ابن المخلد ناسيا أسيافنا |
|
في من نحاربه ولا النعمـان (١) |
__________________
(١) ابن المخلد يعني به مسلمة بن مخلد الآنصاري. وفي الأصل : « عمن تحاربه » والوجه ما أثبت. والمقطوعة لم ترد في مظنها من ح.
تركا البيان وفي العيان كفايـة |
|
لو كان ينفع صاحبيه عيان |
[ قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد ، عن مالك بن أعين ، عن زيد بن وهب قال ] : (١) كان فارس أهل الكوفة الذي لا ينازع رجل كان يقال له العكبر ابن جدير الأسدي ، وكان فارس أهل الشام الذي لا ينازع عوف بن مجزأة الكوفي [ المرادي ] المكنى أبا أحمر ، وهو أبو الذي استنقذ الحجاج بن يوسف يوم صرع في المسجد بمكة. وكان العكبر له عبادة ولسان لا يطاق ، فقام إلى علي فقال : « يا أمير المؤمنين ، إن في أيدينا عهدا من الله لا نحتاج فيه إلى الناس ، وقد ظننا بأهل الشام الصبر وظنوه بنا فصبرنا وصبروا. وقد عجبت من صبر أهل الدنيا لأهل الآخرة ، وصبر أهل الحق على أهل الباطل ، ورغبة أهل الدنيا ، ثم نظرت فإذا أعجب ما يعجبني جهلي بآية من كتاب الله : ( الم. أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ). وأثنى عليه على خيرا ، وقال خيرا.
وخرج الناس إلى مصافهم وخرج [ عوف بن مجزأة ] المرادي نادرا من الناس ، وكذلك كان يصنع. وقد كان قتل قبل ذلك نفرا [ من أهل العراق ] مبارزة ، فنادى : يا أهل العراق ، هل من رجل عصاه سيفه يبارزني ، ولا أغركم من نفسي ، فأنا فارس زوف (٢). فصاح الناس بالعكبر ، فخرج إليه منقطعا من أصحابه والناس وقوف ، ووقف المرادي وهو يقول :
بالشام أمن ليس فيه خوف |
|
بالشام عدل ليس فيه حيف |
__________________
(١) قبل هذا الأصل : « وذكروا أنه » ، وضعت مكان السند المتقدم.
(٢) زوف ، بفتح الزاي : أبو قبيلة ، وهو زوف بن زاهر ـ أو أزهر ـ بن عامر بن عويثان. انظر القاموس ( زوف ). وفي الأصل : « دوف » تحريف.
بالشام جود ليس فيه سـوف (١) |
|
أنا المرادي ورهطي زوف (٢) |
أنا ابن مجزاة واسمـي عوف |
|
هل من عراقي عصاه سيف |
* يبرز لي وكيف لي وكيف *
فبرز إليه العكبر وهو يقول :
الشام محل والعراق تمطر |
|
بها الإمـام والإمام معـذر (٣) |
والشام فيها للإمام معور (٤) |
|
أنا العراقـي واسمـي العكبـر |
ابن جدير وأبوه المنذر |
|
ادن فإني للكمى مصحر (٥) |
فاطعنا فصرعه العكبر فقتله ، ومعاوية على التل في أناس من قريش (٦) ونفر من الناس قليل (٧) ، فوجه العكبر فرسه فملأ فروجه ركضا يضربه بالسوط ، مسرعا نحو التل ، فنظر إليه معاوية فقال : إن هذا الرجل مغلوب على عقله أو مستأمن ، فاسألوه. فأتاه رجل وهو في حمى فرسه (٨) فناداه فلم يجبه ، فمضى [ مبادرا ] حتى انتهى إلى معاوية وجعل يطعن في أعراض الخيل ، ورجا العكبر أن يفردوا له معاوية ، فقتل رجالا (٩) ، وقام القوم دون معاوية بالسيوف والرماح ، فلما لم يصل إلى معاوية نادى : أولى لك يا ابن هند ، أنا الغلام الأسدي. فرجع إلى علي (١٠) فقال له : ماذا دعاك إلى ما صنعت
__________________
(١) يقال فلان يقتات السوف أي يعيش بالأماني.
(٢) في الأصل : « روف » وانظر التحقيق فيما قبل.
(٣) المعذر : المنصف. ح : « بها إمام طاهر مطهر ».
(٤) المعور : القبيح السريرة. ح : « فيها أعور ومعور ».
(٥) مصحر ، أي هو من أمره على أمر واضح منكشف. ح : « فإني في البراز قسور ».
(٦) ح ( ٢ : ٢٩٧ ) : « في وجوه قريش ».
(٧) في الأصل : « وأناس من الناس قليل » وفي ح : « ونفر قليل من الناس ».
(٨) الحمى : اشتداد العدو. وفي الأصل : « حمو » والوجه ما أثبت. قال الأعشى :
كأن احتدام الجوف
من حمى شده |
|
وما بعده من شده
غلى قمقم |
(٩) ح : « فاستقبله رجال قتل منهم قوما ».
(١٠) ح : « ورجع إلى صف العراق ولم يكلم ».
يا عكبر؟ [ لا تلق نفسك إلى التهلكة ] قال : أردت غرة ابن هند.
وكان شاعرا فقال :
قتلت المرادي الذي جاء باغيا |
|
ينادي وقد ثـار العجـاج : نزال |
يقول أنا عوف بن مجزاة ، والمنى |
|
لقاء ابن مجزاة بيـوم قتال |
فقلت له لما علا القوم صوتـه |
|
منيت بمشبوح الذراع طوال |
فأوجرته في معظم النقع صعدة |
|
ملأت بها رعبا قلوب رجال |
فغادرته يكبو صريعا لوجهه |
|
ينادي مرارا في مكر مجـال |
فقدمت مهري آخذا حد جريـه |
|
فأضربه في حومة بشمالي (١) |
أريد به التل الذي فوق رأسـه |
|
معاوية الجاني لكـل خبال |
يقول ومهري يغرف الجرى جامحا |
|
بفارسه قد بان كـل ضلال (٢) |
فلما رأوني أصدق الطعن فيهـم |
|
جلا عنهم رجم الغيوب فعـالي |
فقام رجال دونه بسيوفهـم |
|
وقال رجال دونه بعوالي |
فلو نلته نلت التي ليس بعدها |
|
من الأمر شئ غير قيـل وقال (٣) |
ولو مت في نيل المنى ألف ميتـة |
|
لقلت إذا ما مت لست أبالي |
وانكسر أهل الشام لقتل [ عوف ] المرادي ، وهدر معاوية دم العكبر ، فقال العكبر : يد الله فوق يد معاوية ، فأين دفاع الله عن المؤمنين (٤).
وقال نصر : حيث شرك الناس عليا في الرأي.
__________________
(١) ح ( ٢ : ٢٩٩ ) : « أصرفه في جريه بشمالي ».
(٢) في الأصل : « يعرف الجرى » تحريف. وفي القاموس : « وخيل مغارف كأنها تغرف الجرى ».
(٣) ح : « وفزت بذكر صالح وفعال ».
(٤) في الأصل : « من المؤمنين ». وفي ح : « فأين الله جل جلاله ودفاعه عن المؤمنين ».
فجزع النجاشي من ذلك وقال :
كفى حزنا أنا عصينا إمامنا |
|
عليا وأن القوم طاعوا معاويه (١) |
وإن لأهل الشام في ذاك فضلهم |
|
علينا بما قالوه فالعين باكيه |
فسبحان من أرسـى ثبيرا مكانه |
|
ومن أمسك السبع الطباق كماهيه |
أيعصى إمام أوجب الله حقه |
|
علينا وأهل الشام طوع لطاغيـه (٢) |
ثم إن عليا عليهالسلام دعا قيس بن سعد فأثنى عليه خيرا ، وسوده على الأنصار ، وكانت طلائع أهل الشام وأهل العراق يلتقون فيما بين ذلك ويتناشدون الأشعار ، ويفخر بعضهم على بعض ، ويحدث بعضهم بعضا على أمان ، فالتقوا يوما وفيهم النجاشي ، فتذاكر القوم رجراجة على وخضرية معاوية ، فافتخر كل بكتيبتهم فقال أهل الشام : إن الخضرية مثل الرجراجة. وكان مع علي أربعة آلاف مجفف (٣) من همدان ، مع سعيد بن قيس رجراجة ، وكان عليهم البيض والسلاح والدروع ، وكان الخضرية مع عبيد الله بن عمر بن الخطاب أربعة آلاف عليهم الخضرة ، فقال فتى من جذام من أهل الشام ممن كان في طليعة معاوية :
ألا قل لفجار أهل العراق |
|
ولين الكلام لهم سيـه (٤) |
__________________
(١) اللسان : « الطوع نقيض الكره ـ أي بفتح الكاف ـ طاعه يطوعه وطاوعه ».
(٢) في الأصل وح : « طوعا لطاغيه ».
(٣) المجفف : لابس التجفاف ، وأصله ما يوضع على الخيل من حديد وغيره. وفي الأصل : « مجفجف » تحريف.
(٤) السية هي مخفف السيئة ، ثم سهلت همزتها وقلبت ياء وأدغمت في أختها ، كما أن السي مخفف السيء ، ومنه قول أفنون التغلبي ( انظر اللسان ١ : ٩١ والقصيدة ٦٦ من المفضليات ) :
أني جزوا عامرا سيئا بفعلهم |
|
أم كيف يجزونني السوأى من
الحسن |
متى ما تجيئوا برجراجة |
|
نجئكم بجأواء (١) خضرية |
فوارسها كأسود الضراب |
|
طوال الرماح يمـانيه |
قصـار السيوف بأيديهم |
|
يطولها الخطو والنيه (٢) |
يقول ابن هند إذا أقبلت |
|
جزى الله خيرا جذاميه |
فقال اليوم للنجاشي : أنت شاعر أهل العراق وفارسهم ، فأجب الرجل فتنحى ساعة ثم أقبل يهدر مزبدا يقول :
معاوي إن تأتنا مزبدا |
|
بخضرية تلق رجراجه |
أسنتها من دماء الرجال |
|
إذا جالت الخيل مجاجه |
فوارسها كأسود الضـراب |
|
إلى الله في القتـل محتاجه |
وليست لدى المـوت وقافة |
|
وليسـت لدى الخـوف فجفاجـه (٣) |
وليس بهم غير جـد اللقاء |
|
إلى طول أسيافهم حاجه |
خطاهم مقدم أسيـافهم |
|
وأذرعهم غير خداجه |
وعنـدك مـن وقعهم مصـدق |
|
وقد أخرجت أمس إخراجـه |
فشنـت عليهم ببيـض السيـوف |
|
بها فقع لجاجه (٤) |
فقال أهل الشام : يا أخا بني الحارث أروناها فإنها جيدة. فأعادها عليهم حتى رووها. وكانت الطلائع تلتقي ، يستأمن بعضهم بعضا فيتحدثون.
[ قال نصر : وروى عمر بن سعد ، عن الحارث بن حصيرة ، عن ابن أبي
__________________
(١) الجأواء : الكتيبة التي علاها الصدأ. وفي الأصل : « بجا » فقط ، وهذه المقطوعة وتاليتها لم تردا في مظنهما من ح.
(٢) ينظر إلى قول الأخنس بن شهاب في المفضلية ٤١ :
وإن قصرت أسيافنا
كان وصلها |
|
خطانا إلى القوم
الذين نضارب |
(٣) الفجفاج : الكثير الصياح والجلبة. وفي الأصل : « فجاجة » تحريف.
(٤) كذا ورد هذا الشطر.
الكنود ] ، قال : جزع أهل الشام (١) على قتلاهم جزعا شديدا ، فقال معاوية ابن خديج :
يا أهل الشام ، قبح الله ملكا يملكه المرء بعد حوشب وذي الكلاع و [ الله ] لو ظفرنا بأهل العراق بعد قتلهما بغير مؤونة ما كان ظفرا. وقال يزيد بن أنس لمعاوية : لا خير في أمر لا يشبه أوله آخره ، لا يدمل جريح (٢) ، ولا يبكي على قتيل حتى تنجلي هذه الفتنة ، فإن يكن الأمر لك دملت (٣) وبكيت على قرار ، وإن كان الأمر لغيرك فما أصبت فيه أعظم. فقال معاوية : « يا أهل الشام ، ما جعلكم أحق بالجزع على قتلاكم من أهل العراق على قتلاهم ، فوالله ما ذو الكلاع فيكم بأعظم من عمار بن ياسر فيهم ، ولا حوشب فيكم بأعظم من هاشم فيهم ، وما عبيد الله بن عمر فيكم بأعظم من ابن بديل فيهم ، وما الرجال إلا أشباه ، وما التمحيص إلا من عند الله. فأبشروا فإن الله قد قتل من القوم ثلاثة ، قتل عمار بن ياسر وهو كان فتاهم ، وقتل هاشما وكان جمرتهم ، وقتل ابن بديل وهو فاعل الأفاعيل ، وبقى الأشعث والأشتر وعدي ابن حاتم. فأما الأشعث فحماه مصره ، وأما الأشتر وعدي فغضبا للفتنة ، والله قاتلهما غدا إن شاء الله فقال ابن خديج : إن يكن الرجال عندك أشباها فليست عندنا كذلك. وغضب معاوية [ من ] ابن خديج. وقال الحضرمي في ذلك شعرا (٤) :
__________________
(١) بدل ما بعد التكملة في الأصل : « ثم ذكروا أن أهل الشام جزعوا » وأثبت ما في ح.
(٢) يدمل : يصلح ويعالج. وفي الأصل : « لا يدمن على جريح ». ح ( ٢ : ٢٩٩ ) : « لا يدمى جريح » ، ووجههما ما أثبت.
(٣) في الأصل : « أدمنت » وفي ح : « أدميت » وانظر التحقيق السالف.
(٤) ح : « وقال شاعر اليمن يرثى ذا الكلاع وحوشبا ».
معاوي قـد نلنا ونيلت سراتنا |
|
وجدع أحياء الكلاع ويحصب |
بـذي كلع لا يبعد الله داره |
|
وكل يمان قد أصيب بحوشـب |
هما ما هما كانا ، معاوي ، عصمـة |
|
متى ما أقله جهرة لا أكذب |
ولو قبلت في هالك بذل فدية |
|
فديناهما بالنفس والأم والأب |
وقد علقت أرماحنا بفوارس |
|
مني قومهـم منا بجـدع موعـب (١) |
وليس ابن قيس أو عدي بن حاتـم |
|
والأشتـر إن ذاقوا فنـا بتحـوب (٢) |
ثم رجع إلى حديث عمر بن سعد.
نصر ، عن عمر ، عن عبد الرحمن بن عبد الله (٣) ، أن عبد الله بن كعب (٤) قتل يوم صفين ، فمر به الأسود بن قيس (٥) بآخر رمق فقال : عز على والله مصرعك. أما والله لو شهدتك لآسيتك ولدافعت عنك ، ولو رأيت الذي أشعرك (٦) لأحببت ألا يزايلني حتي [ أقتله أو ] يلحقني بك. ثم نزل إليه فقال : [ رحمك الله يا عبد الله ] ، والله إن كان جارك ليأمن بوائقك ، وإن كنت لمن الذاكرين الله كثيرا. أوصني رحمك الله. قال : « أوصيك
__________________
(١) في الأصل : « وقد علقت أرحامنا » والوجه ما أثبت ، والبيت لم يرو في ح. أراد أخذت أرماحنا هؤلاء الفوارس الذين يتمنى قومهم لنا الجدع الموعب. وهذا البيت ترتيبه الثالث في الأصل ، كما أن تاليه كان ترتيبه الخامس في الأصل ، ولم يرويا في ح ، وقد رددتهما إلى هذا الوضع الذي يتساوق به الشعر.
(٢) فنا : مقصور فناء ، قصره للشعر. وفي الأصل : « فلا ».
(٣) ح : « عن عبيد الرحمن بن كعب ».
(٤) عبد الله بن كعب المرادي قتل يوم صفين ، وكان من أعيان أصحاب علي. الإصابة ٤٩٠٩. وفي ح : « عبد الله بن بديل ». وعبد الله بن بديل ، وأخوه عبد الرحمن بن بديل ، قتلا أيضا بصفين.
(٥) ح : « الأسود بن طهمان الخزاعي ».
(٦) في اللسان : « أشعره سنانا : خالطه به ». وأنشد قول أبي عازب الكلابي :
فأشعرته تحت الظلام وبيننا |
|
من الخطر المنضود في العين
واقع |
قال : « يريد أشعرت الذئب بالسهم ». وفي الأصل : « ولو أعرف » وأثبت ما في ح.
بتقوى الله ، وأن تناصح أمير المؤمنين وأن تقاتل معه المحلين ، حتى يظهر الحق أو تلحق بالله. وأبلغه عني السلام وقل له : قاتل على المعركة حتى تجعلها خلف ظهرك ، فإنه من أصبح والمعركة خلف ظهره كان الغالب ». ثم لم يلبث أن مات ، فأقبل الأسود إلى علي فأخبره فقال : « رحمه الله ، جاهد معنا عدونا في الحياة ، ونصح لنا في الوفاة ». ثم إن عليا غلس بالناس بصلاة الفجر ، ثم زحف بهم فخرج الناس على راياتهم وأعلامهم ، وزحف إليهم أهل الشام.
قال : فحدثني عمرو بن شمر ، عن جابر عن عامر ، عن صعصعة بن صوحان والحارث بن أدهم ، أن أبرهة بن الصباح بن أبرهة الحميري قام فقال : ويلكم يا معشر أهل اليمن ، والله إني لأظن أن قد أذن بفنائكم ، ويحكم خلوا بين هذين الرجلين فليقتتلا ، فأيهما قتل صاحبه ملنا معه جميعا. وكان [ أبرهة ] من رؤساء أصحاب معاوية. فبلغ ذلك عليا فقال : صدق أبرهة بن الصباح ، والله ما سمعت بخطبة منذ وردت الشام أنا بها أشد سرورا مني بهذه. وبلغ معاوية كلام أبرهة فتأخر آخر الصفوف وقال لمن حوله : إني لأظن أبرهة مصابا في عقله. فأقبل أهل الشام يقولون : والله إن أبرهة لأفضلنا دينا ورأيا وبأسا ، ولكن معاوية كره مبارزة علي. فقال أبرهة في ذلك :
لقد قال ابن أبرهة مقالا |
|
وخالفه معاوية بن حرب |
لأن الحق أوضح مـن غرور |
|
ملبسة غرائضه بحقب (١) |
رمى بالفيلقين به جهارا |
|
وأنتم ولد قحطان بحرب |
فخلوا عنهما ليثي عراك |
|
فإن الحق يدفع كـل كذب |
وما إن يعتصم يوما بقول |
|
ذوو الأرحام إنهم لصحبـي |
__________________
(١) كذا ورد هذا الشطر. وانظر أواخر ص ٤٤١.
وكم بين المنادي من بعيد |
|
ومـن يغشى الحروب بكل عضب |
ومن يرد البقاء ومن يلاقي |
|
بإسماح الطعان وصفح ضرب |
أيهجرني معاوية بن حرب |
|
ومـا هجرانه سخطـا لربي |
وعمرو إن يفارقني بقـول |
|
فإن ذراعـه بـالغدر رحـب (١) |
وإني إن أفارقهم بديني |
|
لفي سعة إلى شرق وغـرب |
وبرز يومئذ عروة بن داود الدمشقي (٢) فقال : إن كان معاوية كره مبارزتك يا أبا الحسن فهلم إلى. فتقدم إليه علي فقال له أصحابه : ذر هذا الكلب فإنه ليس لك بخطر (٣). فقال : والله ما معاوية اليوم بأغيظ لي منه. دعوني وإياه. ثم حمل عليه فضربه فقطعه قطعتين ، سقطة إحداهما يمنة والأخرى يسرة ، فارتج العسكران لهول الضربة ، ثم قال : اذهب يا عروة فأخبر قومك. أما والذي بعث محمدا بالحق لقد عاينت النار وأصبحت من النادمين. وقال ابن عم لعروة : واسوء صباحاه ، قبح الله البقاء بعد أبي داود. ثم أنشأ يقول في ذلك :
فقدت عروة الأرامـل والأيـ |
|
تـام يوم الكريهة الشنعاء (٤) |
كـان لا يشتم الجليس ولا ين |
|
كل يوم العظيمة النكباء (٥) |
آمن الله مـن عدي ومن ابـ |
|
ن أبي طالـب ومـن عليا |
يالعيني ألا بكت عروة [ الأقـ |
|
وام ] يوم العجـاج والترباء (٦) |
__________________
(١) الذراع أنثى ، وقد تذكر. وفي البيت إقواء.
(٢) ح ( ٢ : ٣٠٠ ) : « أبو داود عروة بن داود العامري ».
(٣) في اللسان : « وهذا خطير لهذا وخطر له ، أي مثل له في القدر ».
(٤) في الأصل : « الشغباء » تحريف. والمقطوعة لم ترد في ح.
(٥) نكل ، كضرب ونصر وعلم ، نكولا : نكص وجبن.
(٦) كلمة « الأقوام » بمثلها يتم البيت ، وليست في الأصل. والترباء ، إحدى لغات التراب ، وهي إحدى عشرة لغة.
فليبكيه نسوة من بني عا |
|
مر من يثرب وأهـل قباء |
رحم الله عروة الخيـر ذا النجـ |
|
دة وابن القماقم النجباء |
أرهقته المنون في قاع صفين |
|
صريعا قد غاب في الجـرباء (١) |
غادرته الكمـاة من أهل بدر |
|
ومن التابعين والنقباء |
وقال عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري :
عرو يا عرو قد لقيت حماما |
|
إذ تقحمت في حمى اللهـوات |
أعليا ، لـك الهوان ، تنادي |
|
ضيغما في أياطل الحومـات |
إن لله فارسا كأبي الشبـ |
|
لمين ما إن يهوله المتلفات (٢) |
مؤمنا بالقضاء محتسبـا بالـ |
|
خير يرجو الثواب بالسابقـات |
ليس يخشى كريهة في لقاء |
|
لا ولا ما يجي بـه الآفات |
فلقد ذقت في الجحيم نـكالا |
|
وضراب المقامع المحميات |
يا ابن داود قد وقيت ابن هند |
|
أن يكون القتيل بالمقفـرات |
قال : وحمل ابن عم أبي داود على علي فطعنه فضرب الرمح فبراه ، ثم قنعه ضربة فألحقه بأبي داود ، ومعاوية واقف على التل يبصر ويشاهد ، فقال : تبا لهذه الرجال وقبحا ، أما فيهم من يقتل هذا مبارزة أو غيلة ، أو في اختلاط الفيلق وثوران النقع. فقال الوليد بن عقبة : ابرز إليه أنت فإنك أولى الناس بمبارزته. فقال : والله لقد دعاني إلى البراز حتى استحييت من قريش ، وإني والله لا أبرز إليه ، ما جعل العسكر بين يدي الرئيس إلا وقاية له. فقال عتبة ابن أبي سفيان : الهوا عن هذا كأنكم لم تسمعوا نداءه ، فقد علمتم أنه قتل حريثا وفضح عمرا ، ولا أرى أحدا يتحكك به إلا قتله. فقال معاوية لبسر
__________________
(١) الجرباء : الأرض الممحلة المقحوطة. وفي الأصل : « قد عاين الحوباء ».
(٢) في الأصل : « ليس لله فارس ».
ابن أرطاة أتقوم لمبارزته؟ فقال : ما أحد أحق بها منك ، وإذا أبيتموه فأنا له. فقال له معاوية : أما إنك ستلقاه في العجاجة غدا في أول الخيل. وكان عند بسر بن أرطاة ابن عم له قد قدم من الحجاز يخطب ابنته فأتى بسرا فقال له : إني سمعت أنك وعدت من نفسك أن تبارز عليا. أما تعلم أن الوالي من بعد معاوية عتبة ، ثم بعده محمد أخوه ، وكل من هؤلاء قرن لعلي (١) ، فما يدعوك إلى ما أرى. قال : الحياء ، خرج مني كلام (٢) فأنا أستحيي أن أرجع عنه. فضحك الغلام وقال في ذلك :
تنازله يا بسـر إن كنـت مثله |
|
وإلا فإن الليث للضبع آكل (٣) |
كأنك يا بسر بن أرطاة جاهـل |
|
بآثاره في الحرب أو متجاهل |
معاوية الوالـي وصنواه بعده |
|
وليس سواء مستعار وثاكل |
أولئك هـم أولى به منك إنـه |
|
على فلا تقربه ، أمـك هابـل |
متى تلقه فالموت في رأس رمحه |
|
وفي سيفه شغل لنفسك شاغـل |
وما بعده في آخـر الحرب عاطف |
|
ولا قبله في أول الخيل حامل (٤) |
فقال بسر : هل هو إلا الموت ، لابد والله من لقاء الله تعالى.
فغدا على [ عليهالسلام ] منقطعا من خيله ومعه الأشتر ، وهو يريد التل وهو يقول :
إني علـي فاسألوا لتخبروا |
|
ثم ابرزوا إلى الوغى أو أدبـروا |
سيفي حسام وسناني أزهر |
|
منا النبي الطيب المطهر |
__________________
(١) في الأصل : « وكل هؤلاء من قرن لعلي » صوابه في ح.
(٢) في الأصل : « شيء » والوجه ما أثبت من ح ( ٢ : ٣٠٠ ).
(٣) ح : « للشاة آكل ».
(٤) عاطف ، أراد به الذي يحمي المنهزمين. وفي اللسان : « ورجل عطوف وعطاف ، يحمي المنهزمين ». وفي الأصل : « خاطف » موضع « عاطف » صوابه في ح.