وقعة صفّين

نصر بن مزاحم المنقري

وقعة صفّين

المؤلف:

نصر بن مزاحم المنقري


المحقق: عبد السلام محمّد هارون
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٨٩

قال : وقد كان حريث بن جابر نازلا بين العسكرين في قبة له حمراء ، وكان إذا التقى الناس للقتال أمدهم بالشراب من اللبن والسويق والماء ، [ ويطعمهم اللحم والثريد ] ، فمن شاء أكل أو شرب (١). وفي ذلك يقول الشاعر :

لو كان بالدهنا حريث بن جابر

لأصبح بحرا بالمفازة جاريا (٢)

نصر ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر قال : سمعت الشعبي يذكر [ أن (٣) ] صعصعة قال : عبأ لمذحج ولبكر بن وائل ذو الكلاع وعبيد الله ، فأصابوا ذا الكلاع وعبيد الله ، فاقتتلوا قتالا شديدا. قال : وشدت عك ولخم وجذام والأشعرون من أهل الشام ، على مذحج وبكر بن وائل. فقال العكي في ذلك :

ويل لام مذحج من عك

لنتركن أمهم تبكي

نقتلهم بالطعن ثم الصك

فلا رجال كرجال عك

لكل قرن باسل مصك

قال : ونادى منادي مذحج : يال مذحج ، خدموا (٤). فاعترضت مذحج لسوق القوم فكان بوار عامة القوم. وذلك أن مذحج حميت من قول العكي. وقال العكي حين طحنت رحى القوم ، وخاضت الخيل والرجال في الدماء. قال : فنادى : « يال مذحج : الله الله : في عك وجذام ،

__________________

(١) ح ( ١ : ٥٠٠ ) : « فمن شاء أكل ومن شاء شرب ».

(٢) قال ابن أبي الحديد : « قلت : هذا حريث الذي كتب معاوية إلى زياد في أمره بعد عام الجماعة ـ وحريث عامل لزياد على همدان ـ : أما بعد فاعزل حريث بن جابر عن عمله فما ذكرت مواقفه بصفين إلا كانت حزازة في صدري. وكتب إليه زياد : خفض عليك يا أمير المؤمنين ، فإن حريثا قد بلغ من الشرف مبلغا لا تزيده الولاية ولا ينقصه العزل ».

(٣) ليست في الأصل.

(٤) انظر ما سبق ص ٢٥٧.

٣٠١

ألا تذكرون الأرحام ، أفنيتم لخم الكرام ، والأشعرين وآل ذي حمام (١) ، أين النهى والأحلام ، هذه النساء تبكي الأعلام ».

وقال العكي (٢) : « يا عك أين المفر ، اليوم تعلم ما الخبر ، إنكم قوم صبر ، كونوا كمجتمع المدر (٣) ، لا تشمتن بكم مضر ، حتى يحول الحكر (٤) ، فيرى عدوكم الغير ».

وقال الأشعري (٥) : « يال مذحج من للنساء غدا إذا أفناكم الردى ، الله الله في الحرمات ، أما تذكرون نساءكم والبنات ، أما تذكرون أهل فارس والروم والأتراك ، لقد أذن الله فيكم بالهلاك » : والقوم ينحر بعضهم بعضا ، ويتكادمون بالأفواه. وقال : نادى أبو شجاع الحميري وكان من ذوي البصائر مع علي فقال : يا معشر حمير [ تبت أيديكم ] ، أترون معاوية خيرا من علي؟ أضل الله سعيكم. ثم أنت يا ذا الكلاع فوالله إن كنا نرى أن لك نية في الدين. فقال ذو الكلاع : إيها يا أبا شجاع ، والله فاعلمن ما معاوية بأفضل من علي ، ولكن إنما أقاتل على دم عثمان. قال : وأصيب ذو الكلاع بعده (٦) ، قتله خندف [ بن بكر ] البكري في المعركة.

نصر : عمر ، عن الحارث بن حصيرة ، أن ابن ذي الكلاع أرسل إلى الأشعث بن قيس رسولا ، فقال له : « إن ابن عمك ذي الكلاع (٧) يقرئك

__________________

(١) في القاموس : « وذو الحمام بن مالك حميري ».

(٢) ح : « ونادى منادي عك ».

(٣) في الأصل : « كمفترق المدر » صوابه في ح ( ١ : ٥٠٠ ).

(٤) الحكر في لغة أهل عك هو « الحجر » بقلب الجيم كافا. انظر ما سبق ص ٢٢٨. ح : « حتى يحول ذا الخبر » تحريف.

(٥) في الأصل : « الأشعرون » وفي ح : « ونادى منادي الأشعريين ».

(٦) ح : « حينئذ ».

(٧) في الأصل : « ذا الكلاع » تحريف.

٣٠٢

السلام ورحمة الله ، وإن كان ذو الكلاع قد أصيب وهو في الميسرة فتأذن لنا فيه ». فقال له الأشعث : أقرئ صاحبك السلام ورحمة الله وقل له : إني أخاف أن يتهمني علي ، فاطلبه (١) إلى سعيد بن قيس فإنه في الميمنة. فذهب إلى معاوية فأخبره وكان منع ذلك منهم ، وكانوا في اليوم والأيام يتراسلون ، فقال له معاوية : فما عسيت أن أصنع؟ وذلك لأنهم منعوا أهل الشام أن يدخلوا عسكر علي لشيء ، خافوا أن يفسدوا أهل العسكر (٢). وقال (٣) معاوية : لأنا أشد فرحا بقتل ذي الكلاع منى بفتح مصر لو فتحتها. لأن ذا الكلاع كان يحجر على معاوية في أشياء كان يأمر بها. فخرج ابن ذي الكلاع إلى سعيد بن قيس فاستأذنه في ذلك فإذن له ؛ فقال سعد الإسكاف (٤) والحارث بن حصيرة قالا : قال سعيد بن قيس لابن ذي الكلاع. كذبت أن يمنعوك ، إن أمير المؤمنين لا يبالي من دخل بهذا الأمر ، ولا يمنع أحدا من ذلك فادخل. فدخل من قبل الميمنة فطاف في العسكر فلم يجده ، ثم أتى الميسرة فطاف في العسكر فوجده قد ربط رجله بطنب من أطناب بعض فساطيط العسكر ، فوقف على باب الفسطاط ؛ فقال : السلام عليكم يا أهل البيت. فقيل له : وعليك السلام. وكان معه عبد له أسود لم يكن معه غيره ، فقال : تأذنون لنا في طنب من أطناب فسطاطكم؟ قالوا : قد أذنا لكم. ثم قالوا : معذرة إلى ربنا عز وجل وإليكم ، أما إنه لو لا بغيه علينا ما صنعنا به ما ترون. فنزل ابنه إليه ـ وكان من أعظم الناس خلقا وقد انتفخ شيئا ـ فلم يستطيعا

__________________

(١) في الأصل : « فاطلبوا » وأثبت ما في ح.

(٢) ح : « فقال له إن عليا عليه‌السلام قد منع أن يدخل أحد منا إلى معسكره ، يخاف أن يفسد عليه جنده ».

(٣) في الأصل : « فقال ».

(٤) هو سعد بن طريف الحنظلي ، مولاهم ، الإسكاف الكوفي ، ويقال له أيضا سعد الخفاف. روى عن الأصبغ بن نباتة وأبي جعفر وأبي عبد الله. قال ابن حجر : متروك ، ورماه ابن حبان بالوضع. انظر تهذيب التهذيب ومنتهى المقال ١٤٤.

٣٠٣

احتماله ، فقال ابنه. هل من فتى معوان؟ فخرج إليه خندف البكري فقال : تنحوا [ عنه ]. فقال له ابن ذي الكلاع : ومن يحمله إذا تنحينا؟ قال : يحمله الذي قتله. فاحتمله خندف ثم رمى به على ظهر البغل ، ثم شده بالحبال فانطلقوا به.

ثم تمادى الناس في القتال فاضطربوا بالسيوف حتى تعطفت (١) وصارت كالمناجل ، وتطاعنوا بالرماح حتى تكسرت [ وتناثرت أسنتها ] ، ثم جثوا على الركبات فتحاثوا بالتراب ، يحثو بعضهم في وجوه بعض التراب ، ثم تعانقوا وتكادموا [ بالأفواه ] ، وتراموا بالصخر والحجارة ، ثم تحاجزوا فجعل الرجل من أهل العراق يمر على أهل الشام فيقول : من أين آخذ (٢) إلى رايات بني فلان؟ فيقولون : هاهنا لا هداك الله. ويمر الرجل من أهل الشام على أهل العراق فيقول : كيف آخذ إلى رايات بني فلان؟ فيقولون : هاهنا لا حفظك الله ولا عافاك.

وكان من أمراء النمر بن قاسط عبد الله بن عمرو ، من بني تميم. وقتل يومئذ فلان بن مرة بن شرحبيل ، والحارث بن عمرو بن شرحبيل.

نصر ، عن عمر بن سعد ، عن البراء بن حيان الذهلي أن أبا عرفاء جبلة بن عطية الذهلي قال للحضين (٣) يوم صفين : هل لك أن تعطيني رايتك أحملها فيكون لك ذكرها ويكون لي أجرها ، فقال له الحضين (٤) : وما غناي [ يا عم ] عن أجرها مع ذكرها؟ قال له : لا غنى بك عن ذلك ، أعرها عمك ساعة (٥)

__________________

(١) تعطفت : تثنت وتلوت. وفي الأصل وح : « تقطعت » والوجه ما أثبت.

(٢) ح ( ١ : ٥٠١ ) : « كيف آخذ ».

(٣) في الأصل : « للحصين » وانظر ما سبق ص ٢٨٧.

(٤) في الأصل : « الحصين » بالصاد المهملة ، تحريف.

(٥) في الأصل : « أعيرها عنك ساعة » صوابه في ح ( ١ : ٥٠٠ ).

٣٠٤

فما أسرع ما ترجع إليك. فعلم أنه يريد أن يستقتل ، قال : فما شئت. فأخذ الراية أبو عرفاء فقال : يا أهل هذه الراية ، إن عمل الجنة كره كله [ وثقيل ] ، وإن عمل النار خف كله [ وحبيب (١) ] ، وإن الجنة لا يدخلها إلا الصابرون ، الذين صبروا أنفسهم على فرائض الله وأمره ، وليس شيء مما افترض الله على العباد أشد من الجهاد ، هو أفضل الأعمال ثوابا. فإذا رأيتموني قد شددت فشدوا. ويحكم ، أما تشتاقون إلى الجنة ، أما تحبون أن يغفر الله لكم. فشد وشدوا معه فاقتتلوا اقتتالا شديدا ، وأخذ الحضين (٢) يقول :

شدوا إذا ما شد باللواء

ذاك الرقاشي أبو عرفاء

فقاتل أبو عرفاء حتى قتل ، [ وشدت ربيعة بعده شدة عظيمة على صفوف أهل الشام فنقضتها ]. وفي ذلك قال مجزأة بن ثور (٢) :

أضربهم ولا أرى معاويه

الأبرج العين العظيم الحاويه (٣)

هوت به في النار أم هاويه

جاوره فيها كلاب عاويه

أغوى طغاما لا هدته هادبه

قال : وقال معاوية لعمرو : أما ترى يا أبا عبد الله ما قد دفعنا فيه؟ كيف ترى أهل العراق غدا صانعين؟ إنا لبمعرض خطر عظيم. فقال له عمرو : إن أصبحت ربيعة متعطفين حول على تعطف الإبل حول فحلها لقيت منهم جلادا

__________________

(١) هذه التكملة التي أثبت من ح هي في أصلها : « وخبيث » ، والمقابلة تقتضي ما أثبت.

(٢) هو مجزأة بن ثور بن عفير بن زهير بن عمرو بن كعب بن سدوس السدوسي ، أحد الصحابة ، وكان رئيسا. انظر الإصابة ٧٧٢٤. وفي ح : « محرز بن ثور » تحريف. والرجز يروي لبديل بن ورقاء كما في مروج الذهب ( ٢ : ٢٥ ) ولعلي رضي الله عنه كما في اللسان ( ١٨ : ٢٢٩ ) ومروج الذهب. وللأخنس ، كما في الاشتقاق ١٤٨.

(٣) البرج : سعة العين. والحاوية : واحدة الحوايا ، وهي الأمعاء.

٣٠٥

صادقا وبأسا شديدا ، [ وكانت التي لا يتعزى لها ]. فقال له معاوية : أبخؤولتك تخوفني يا أبا عبد الله؟ قال : إنك سألتني فأجبتك. فلما أصبحوا في اليوم العاشر أصبحوا وربيعة محدقة بعلي عليه‌السلام إحداق بياض العين بسوادها ، وقام خالد بن المعمر فنادى : من يبايع نفسه على الموت ويشرى نفسه لله؟ فبايعه سبعة آلاف على ألا ينظر رجل منهم خلفه حتى يرد سرادق معاوية. فاقتتلوا قتالا شديدا وقد كسروا جفون سيوفهم.

نصر ، قال عمر : حدثني ابن أخي عتاب بن لقيط البكري من بني قيس ابن ثعلبة أن عليا حيث انتهى إلى رايات ربيعة قال ابن لقيط : إن أصيب على فيكم افتضحتم ، وقد لجأ إلى راياتكم. وقال لهم شقيق بن ثور : يا معشر ربيعة ، ليس لكم عذر في العرب إن أصيب على (١) فيكم ومنكم رجل حي ، إن منعتموه فحمد الحياة ألبستموه. فقاتلوا قتالا شديدا لم يكن قبله [ مثله ] حين جاءهم علي. ففي ذلك تعاقدوا وتواصوا ألا ينظر رجل منهم خلفه حتى يرد سرادق معاوية. فلما نظر إليهم معاوية قد أقبلوا قال :

إذا قلت قد ولت ربيعة أقبلت

كتائب منهم كالجبال تجالد

ثم قال معاوية لعمرو : ماذا ترى؟ قال : أرى ألا تحنث أخوالي اليوم. فخلى معاوية عنهم وعن سرادقه وخرج فارا عنه لائذا إلى بعض مضارب العسكر ، فدخل فيه. وبعث معاوية إلى خالد بن المعمر : إنك قد ظفرت ولك إمرة خراسان إن لم تتم. فطمع خالد في ذلك ولم يتم (٢) ، فأمره معاوية ـ حين بايعه الناس ـ على خراسان ، فمات قبل أن يصل إليها.

__________________

(١) ح ( ١ : ٥٠١ ) « إن وصل إلى علي ».

(٢) ح : « فقطع خالد القتال ولم يتمه ».

٣٠٦

وفي ذلك قال النجاشي :

لو شهدت هند لعمري مقامنا

بصفين فدتنا بكعب بن عامر

فياليت أن الأرض تنشر عنهم

فيخبرهم أنباءنا كل خابر

بصفين إذ قمنا كأنا سحابة

سحاب ولى صوبه متبادر

فأقسم لو لاقيت عمرو بن وائل

بصفين الفاني بعهدة غادر

فولوا سراعا موجفين كأنهم

نعام تلاقي خلفهن زواجر

وفر ابن حرب عفر الله وجهه

وأراده خزيا ، إن ربي قادر

معاوي لولا أن فقدناك فيهم

لغودرت مطروحا بها مع معاشر

معاشر قوم ضلل الله سعيهم

وأخزاهم ربي كخزي السواحر

قال : وقال مرة بن جنادة العليمي ، من بني عليم من كلب (١) :

ألا سألت بنا غداة تبعثرت

بكر العراق بكل عضب مقصل (٢)

برزوا إلينا بالرماح تهزها

بين الخنادق مثل هز الصيقل

والخيل تضبر في الحديد كأنها

أسد أصابتها بليل شمأل (٣)

وفي حديث عمر بن سعد قال : ثم إن عليا صلى الغداة ثم زحف إليهم ، فلما أبصروه قد خرج استقبلوه بزحوفهم فاقتتلوا قتالا شديدا ، ثم إن خيل أهل الشام حملت على خيل أهل العراق فاقتطعوا من أصحاب على ألف رجل أو أكثر ، فأحاطوا بهم وحالوا بينهم وبين أصحابهم فلم يروهم ، فنادى علي

__________________

(١) هم بنو عليم بن جناب بن هبل ، إحدى قبائل كلب بن وبرة ، من قضاعة. انظر الاشتقاق ٣١٦ ثم ٣١٤.

(٢) مقصل ، بالقاف : قطاع. وفي الأصل : « مفصل ».

(٣) تضبر : تثب. وفي الأصل : « تصبر » تحريف. والحديد ، هنا : السلاح. والبليل : الريح الندية. وفي هذا البيت إقواء.

٣٠٧

يومئذ : ألا رجل يشري نفسه لله ويبيع دنياه بآخرته؟ فأتاه رجل من جعف يقال له عبد العزيز بن الحارث ، على فرس أدهم كأنه غراب ، مقنعا في الحديد ، لا يرى منه إلا عيناه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، مرني بأمر ، فوالله ما تأمرني بشئ إلا صنعته. فقال علي :

سمحت بأمر لا يطاق حفيظة

وصدقا ، وإخوان الحفاظ قليل (١)

جزاك إله الناس خيرا فقد وفت

يداك بفضل ما هناك جزيل (٢)

أبا الحارث ، شد الله ركنك ، احمل لي أهل الشام حتى تأتي أصحابك فتقول لهم : أمير المؤمنين يقرأ عليكم السلام ويقول لكم : هللوا وكبروا من ناحيتكم ، ونهلل نحن ونكبر من هاهنا ، واحملوا من جانبكم ونحمل من جانبنا على أهل الشام. فضرب الجعفي فرسه حتى إذا قام على السنابك (٣) ، حمل على أهل الشام المحيطين بأصحاب علي فطاعنهم ساعة وقاتلهم فانفرجوا له حتى أتى أصحابه ، فلما رأوا استبشروا به وفرحوا وقالوا : ما فعل أمير المؤمنين؟ قال : صالح يقرئكم السلام ويقول لكم : هللوا وكبروا واحملوا حملة رجل واحد من ذلك الجانب. وحملوا على أهل الشام من ثم ، وحمل على من هاهنا في أصحابه ، فانفرج أهل الشام عنهم فخرجوا وما أصيب منهم رجل واحد. ولقد قتل من فرسان أهل الشام يومئذ زهاء سبعمائة رجل. قال : وقال علي : من أعظم الناس غناء؟ فقالوا : أنت يا أمير المؤمنين ، قال : كلا ، ولكنه الجعفي.

وذكروا أن عليا كان لا يعدل بربيعة أحدا من الناس ، فشق ذلك على

__________________

(١) ح ( ١. ٥٠١ ) : « وإخوان الصفاء ».

(٢) في البيت إقواء. وفي ح : « خيرا فإنه * لعمرك فضل ».

(٣) ح : « على أطراف سنابكه ».

٣٠٨

مضر وأظهروا لهم القبيح ، وأبدوا ذات أنفسهم ، فقال حضين بن المنذر [ الرقاشي ] شعرا أغضبهم ، فيه :

رأت مضر صارت ربيعة دونهم

شعار أمير المؤمنين ، وذا الفضل

فأبدوا إلينا ما تجن صدورهم

علينا من البغضا وذاك له أصل (١)

فقلت لهم لما رأيت رجالهم

بدت بهم قطو كأن بهم ثقل

إليكم أهيبوا لا أبا لأبيكم

فإن لكم شكلا وإن لنا شكل

ونحن أناس خصنا الله بالتي

رآنا لها أهلا وأنتم لها أهل

فأبلوا بلانا أو أقروا بفضلنا

ولن تلحقونا الدهر ما حنت الإبل

فغضبوا من شعر حضين ، فقام أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني (٢) ، وعمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة التميمي ، ووجوه بني تميم ، وقبيصة ابن جابر الأسدي في وجوه بني أسد ، وعبد الله بن الطفيل العامري (٣) في وجوه هوازن ، فأتوا عليا فتكلم أبو الطفيل فقال يا أمير المؤمنين ، إنا والله ما نحسد قوما خصهم الله منك بخير إن أحمدوه وشكروه ، وإن هذا الحي من ربيعة قد ظنوا أنهم أولى بك منا ، وأنك لهم دوننا ، فأعفهم عن القتال أياما ، واجعل لكل امرئ منا يوما يقاتل فيه ، فإنا إذا اجتمعنا (٤) اشتبه عليك بلاؤنا. فقال علي : أعطيتم ما طلبتم يوم الأربعاء (٥) ، وأمر

__________________

(١) ح : فأبدوا لنا مما تجن صدورهم * هو السوء والبغضاء والحقد والغل »

(٢) هو عامر بن واثلة ـ بالثاء المثلثة ـ بن عبد الله بن عمرو بن جحش الليثي. ولد عام أحد ، ورأى الرسول ، وروى عن أبي بكر فمن بعده ، وعمر إلى أن مات سنة عشر ومائة. وهو آخر من مات من الصحابة. انظر الإصابة ٦٧٠ من باب الكني ، وتهذيب التهذيب. ح : « بن وائلة » تحريف.

(٣) هو عبد الله بن الطفيل بن ثور بن معاوية العامري ثم البكائي. انظر ما سبق ص ٢٠٦ والإصابة ٦٣٢٨. وفي الأصل : « عبيد الله بن عامر » صوابه في ح ( ١ : ٥٠٢ ). وسيأتي على الصواب أيضا ص ٣١١.

(٤) في الأصل : « إن اجتمعنا » وأثبت ما في ح.

(٥) يوم الأربعاء ، ليست في ح.

٣٠٩

ربيعة أن تكف عن القتال ، وكانت بإزاء اليمن من صفوف أهل الشام.

فغدا [ أبو الطفيل ] عامر بن واثلة في قومه من كنانة وهم جماعة عظيمة ، فتقدم أمام الخيل وهو يقول : طاعنوا وضاربوا. ثم حمل وهو يقول :

قد صابرت في حربها كنانه (١)

والله يجزيها بها جنانه

من أفرغ الصبر عليه زانه

أو غلب الجبن عليه شانه

أو كفر الله فقد أهانه

غدا يعض من عصى بنانه

فاقتتلوا قتالا شديدا ثم انصرف أبو الطفيل إلى علي فقال : « يا أمير المؤمنين ، إنك نبأتنا أن أشرف القتل الشهادة ، وأحظى الأمر الصبر ، وقد والله صبرنا حتى أصبنا ، فقتيلنا شهيد ، وحينا ثائر (٢) ، فاطلب بمن بقى ثأر من مضى ، فإنا وإن كان قد ذهب صفونا (٣) وبقى كدرنا فإن لنا دينا لا يميل به الهوى ، ويقينا لا يزحمه الشبهة ».

فأثنى علي عليه خيرا ، ثم غدا يوم الجمعة عمير بن عطارد بجماعة من بني تميم ، وهو يومئذ سيد مضر من أهل الكوفة ، فقال : يا قوم ، إني أتبع آثار أبي الطفيل وتتبعون آثار كنانة. فتقدم برايته وهو يقول :

قد ضاربت في حربها تميم

إن تميما خطبها عظيم

لها حديث ولها قديم

إن الكريم نسله كريم

إن لم تزرهم رايتي فلوموا (٤)

دين قويم وهوى سليم

فطعن برايته حتى خضبها دما ، وقاتل أصحابه قتالا شديدا حتى أمسوا ،

__________________

(١) ح : « ضاربت ».

(٢) ثائر ، من الثأر. ح : « سعيد ».

(٣) في الأصل : « عفونا » صوابه في ح.

(٤) في الأصل : « إن لم تزدهم » تحريف. وفي ح : « إن لم تردهم ».

٣١٠

وانصرف عمير إلى علي وعليه سلاحه فقال : يا أمير المؤمنين ، قد كان ظني بالناس حسنا ، وقد رأيت منهم فوق ظني بهم ، قاتلوا من كل جهة ، وبلغوا من عفوهم جهد عدوهم (١) ، وهم لهم إن شاء الله.

ثم غدا يوم السبت قبيصة بن جابر الأسدي في بني أسد ، وهم حي الكوفة بعد همدان ، فقال : « يا معشر بني أسد ، أما أنا فلا أقصر دون صاحبي ، وأما أنتم فذاك إليكم » ثم تقدم برايته وهو يقول :

قد حافظت في حربها بنو أسد

ما مثلها تحت العجاج من أحد

أقرب من يمن وأنأي من نكد

كأننا ركنا ثبير أو أحد (٢)

لسنا بأوباش ولا بيض البلد (٣)

لكننا المحة من ولد معد (٤)

كنت ترانا في العجاج كالأسد

ياليت روحي قد نأي عن الجسد

فقاتل القوم ولم يكونوا على ما يريد (٥) في الجهد ، فعذلهم علي ما يجب فظفر ، ثم أتى عليا فقال : « يا أمير المؤمنين ، إن استهانة النفوس في الحرب أبقى لها (٦) ، والقتل خير لها في الآخرة ».

ثم غدا يوم الأحد عبد الله بن الطفيل العامري (٧) ـ وكان سيد بني عامر ، فغدا بجماعة هوازن وهو يقول :

__________________

(١) العفو : ما جاء في يسر لا كلفة معه.

(٢) في الأصل : « ركن ثبير » وأثبت ما في ح.

(٣) بيضة البلد ، مثل في الذلة والقلة ، وهي بيضة النعام التي يتركها.

(٤) الولد ، بالضم : جمع ولد ، كأسد وأسد. وفي الأصل : « من ولد سعد » صوابه في ح ( ١ : ٥٠٢ ). وكأنه ينظر إلى قول عبد الله بن الزبعري :

كانت قريش بيضة فتفلقت

فالمح خالصة لعبد مناف

(٥) في الأصل : « يزيد ».

(٦) ينظر إلى قول الحنساء :

نهين النفوس وهون النفو

س يوم الكريهة أبقى لها

(٧) سبقت ترجمته في ص ٣٠٩.

٣١١

قد ضاربت في حربها هوازن

أولاك قوم لهم محاسن

حبي لهم حزم وجأشي ساكن

طعن مداريك وضرب واهن (١)

هذا وهذا كل يوم كائن

لم يخبروا عنا ولكن عاينوا

واشتد القتال بينهم حتي الليل ، ثم انصرف عبد الله بن الطفيل فقال : يا أمير المؤمنين ، أبشر ، فإن الناس نقمة ، لقيت والله بقومي أعدادهم من عدوهم ، فما ثنوا أعنتهم حتى طعنوا في عدوهم ، ثم رجعوا إلى فاستكرهوني على الرجوع إليهم ، واستكرهتهم على الانصراف إليك ، فأبوا ثم عادوا فاقتتلوا. فأثنى على عليهم خيرا ، وفخرت المصرية بما كان منهم على الربعية ، وانتصفوا من الربعية. وقال عامر بن واثلة :

حامت كنانة في حربها

وحامت تميم وحامت أسد

وحامت هوازن يوم اللقا

فما خام منا ومنهم أحد

لقينا قبائل أنسابهم

إلى حضر موت وأهل الجند (٢)

لقينا الفوارس يوم الخميـ

س والعيد والسبت ثم الأحد (٣)

وأمدادهم خلف آذانهم

وليس لنا من سوانا مدد (٤)

فلما تنادوا بآبائهم

دعونا معدا ونعم المعد

فظلنا نفلق هاماتهم

ولم نك فيها ببيض البلد

ونعم الفوارس يوم اللقاء

فقل في عديد وقل في عدد

وقل في طعان كفرغ الدلاء

وضرب عظيم كنار الوقد (٥)

__________________

(١) الضرب الواهن : الموهن. يقال وهنه وأوهنه ، أي أضعفه.

(٢) الجند ، بالتحريك : قسم من أقسام اليمن ، وهي من أرض السكاسك ، بينها وبين صنعاء ثمانية وخمسون فرسخا. وفي الأصل : « جند » صوابه في ح ( ١ : ٥٠٣ ).

(٣) يعني بيوم العيد يوم الجمعة.

(٤) خلف آذانهم ، أي هم من القرب إليهم بذلك المكان. وفي الأصل : « أذنابهم » والوجه ما أثبت من ح.

(٥) فرغ بضم الراء : جمع فراغ ككتاب ، وهو مصب الدلو. وسكن الراء للشعر.

٣١٢

ولكن عصفنا بهم عصفة

وفي الحرب يمن وفيها نكد

طحنا الفوارس وسط العجاج

وسقنا الزعانف سوق النقد

وقلنا ، علي لنا والد

ونحن له طاعة كالولد

قال : وبلغ أبا الطفيل أن مروان وعمرو بن العاص يشتمون أبا الطفيل ، فقال أبو الطفيل الكناني :

أيشتمني عمرو ومروان ضلة

بحكم ابن هند والشقي سعيد

وحول ابن هند شائعون كأنهم

إذا ما استقاموا في الحديث قرود

يعضون من غيظ علي أكفهم

وذلك غم لا أجب شديد

وما سبني إلا ابن هند وإنني

لتلك التي يشجى بها لرصود

وما بلغت أيام صفين نفسه

تراقيه والشامتون شهود

وطارت لعمرو في الفجاج شظية

ومروان من وقع الرماح يحيد

نصر عن عمرو ، عن الأشعث بن سويد ، عن كردوس قال : كتب عقبة ـ وهو ابن مسعود ، عامل علي على الكوفة ـ إلى سليمان بن صرد [ الخزاعي ] ، وهو مع علي بصفين : « أما بعد فإنهم ( إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا ). فعليك بالجهاد والصبر مع أمير المؤمنين. والسلام عليك ».

نصر ، عن عمر [ بن سعد ] وعمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر قال : قام علي فخطب الناس بصفين يومئذ فقال :

« الحمد لله على نعمه الفاضلة على جميع من خلق من البر والفاجر ، وعلى حججه البالغة على خلقه من أطاعه فيهم ومن عصاه. إن رحم فبفضله ومنه ، وإن عذب فبما كسبت أيديهم وأن الله ليس بظلام للعبيد. أحمده على حسن

٣١٣

البلاء ، وتظاهر النعماء ، وأستعينه على ما نابنا من أمر دنيا أو آخرة ، وأومن به وأتوكل عليه وكفى بالله وكيلا. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ، ارتضاه لذلك ، وكان أهله ، [ و ] اصطفاه على جميع العباد لتبليغ رسالته ، وجعله رحمة منه على خلقه ، فكان كعلمه فيه رؤوفا رحيما ، أكرم خلق الله حسبا (١) ، وأجمله (٢) منظرا وأسخاه نفسا ، وأبره بوالد ، وأوصله لرحم ، وأفضله علما ، وأثقله حلما ، وأوفاه بعهد ، وآمنه علي عقد ، لم يتعلق عليه مسلم ولا كافر بمظلمة قط ، بل كان يظلم فيغفر ، ويقدر (٣) فيصفح ويعفو ، حتى مضى صلى الله عليه مطيعا لله صابرا على ما أصابه ، مجاهدا في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين ، صلى الله عليه [ وآله ] فكان ذهابه أعظم المصيبة على جميع أهل الأرض والبر والفاجر. ثم ترك كتاب الله فيكم يأمر بطاعة الله وينهى عن معصيته. وقد عهد إلى رسول الله صلى الله عليه عهدا فلست أحيد عنه ، وقد حضرتم عدوكم وقد علمتم من رئيسهم ، منافق ابن منافق يدعوهم إلى النار ، وابن عم نبيكم معكم بين أظهركم يدعوكم إلى [ الجنة وإلى ] طاعة ربكم ، ويعمل بسنة نبيكم صلى الله عليه. فلا سواء من صلى قبل كل ذكر. لم يسبقني بصلاتي مع رسول الله صلى الله عليه حد ، وأنا من أهل بدر ، ومعاوية طليق ابن طليق. والله إنكم لعلى حق وإنهم لعلى باطل ، فلا يكونن القوم على باطلهم اجتمعوا عليه وتفرقون عن حقكم حتى يغلب باطلهم حقكم. ( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ). فإن لم تفعلوا يعذبهم بأيدي غيركم ».

__________________

(١) في الأصل : « حسنا » وأثبت ما في ح.

(٢) في ح : « وأجملهم » وكذا سائر ضمائر العبارة إلى قوله : « وآمنه على عقد » أي بضمير الجمع.

(٣) في الأصل : « ويغدر » صوابه في ح.

٣١٤

فأجابه أصحابه فقالوا : يا أمير المؤمنين ، انهض بنا إلى عدونا وعدوك إذا شئت ، فوالله ما نريد بك بدلا ، نموت معك ونحيا معك. فقام لهم علي مجيبا لهم : والذي نفسي بيده لنظر إلى رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] أضرب قدامه بسيفي فقال : « لا سيف إلا ذو الفقار (١) ، ولا فتى إلا علي ». وقال : « يا علي ، أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي ، وموتك وحياتك يا علي معي ». والله ما كذبت ولا كذبت ، ولا ضللت ولا ضل بي ، وما نسيت ما عهد إلى ، وإني لعلى بينة من ربي ، وإني لعلى الطريق الواضح. ألفظه لفظا.

ثم نهض إلى القوم ، فاقتتلوا من حين طلعت الشمس حتى غاب الشفق ، وما كانت صلاة القوم إلا تكبيرا.

نصر ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن الشعبي ، عن صعصعة بن صوحان ذكر أن علي بن أبي طالب صاف أهل الشام ، حتى برز رجل من حمير من آل ذي يزن ، اسمه كريب بن الصباح ، ليس في أهل الشام يومئذ رجل أشهر شدة بالبأس منه. ثم نادى : من يبارز؟ فبرز إليه المرتفع بن الوضاح الزبيدي ، فقتل المرتفع. ثم نادى : من يبارز؟ فبرز إليه الحارث بن الجلاح (٢) فقتل؟ ثم نادى : من يبارز؟ فبرز إليه عائذ بن مسروق الهمداني (٣) فقتل عائذا ثم رمى بأجسادهم بعضها فوق بعض ، ثم قام عليها بغيا واعتداء ، ثم نادى : هل بقي من مبارز؟ فبرز إليه على ثم ناداه : ويحك يا كريب ، إني أحذرك [ الله وبأسه ونقمته ] ، وأدعوك إلى سنة الله وسنة رسوله ، ويحك لا يدخلنك

__________________

(١) ذو الفقار : اسم سيف النبي صلى الله عليه ، سمى بذلك لحفر صغار حسان كانت به. وكان للعاص بن منبه ، ثم صار إلى الرسول ، ثم صار إلى علي. انظر اللسان ، وما يعول عليه.

(٢) ح : « بن اللجلاج ».

(٣) ح : « عابد » بالباء الموحدة.

٣١٥

ابن آكلة الأكباد النار. فكان جوابه أن قال : ما أكثر ما قد سمعنا هذه المقالة منك ، فلا حاجة لنا فيها. أقدم إذا شئت. من يشتري سيفي وهذا أثره؟ فقال عليه عليه‌السلام : لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم مشى إليه فلم يمهله أن ضربه ضربة خر منها قتيلا يتشحط في دمه.

ثم نادى : من يبارز؟ فبرز إليه الحارث بن وداعة الحميري فقتل الحارث. ثم نادى : من يبارز؟ فبرز إليه المطاع بن المطلب القيني (١) ، فقتل مطاعا ثم نادى : من يبرز؟ فلم يبرز إليه أحد.

ثم إن عليا نادى : يا معشر المسلمين ، ( الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين (٢) ). ويحك يا معاوية هلم إلى فبارزني ولا يقتلن الناس فيما بيننا. فقال عمرو : اغتنمه منتهزا ، قد قتل ثلاثة من أبطال العرب ، وإني أطمع أن يظفرك الله به. فقال معاوية : ويحك يا عمرو ، والله إن تريد إلا أن أقتل فتصيب الخلافة بعدي ، اذهب إليك ، فليس مثلي يخدع.

وقال المخارق بن الصباح الحميري في ذلك ، وقد قتل إخوة له ثلاثة وقتل أبوه وكان من أعلام العرب. فقال وهو يبكي على العرب :

أعوذ بالله الذي قد احتجب

بالنور والسبع الطباق والحجب

أمن ذوات الدين منا والحسب

لا تبكين عين على من قد ذهب

ليس كمثل الله شيء يرتهب

يا رب لا تهلك أعلام العرب (٣)

__________________

(١) ح ( ١ : ٥٠٤ ) : « العبسي ».

(٢) في الأصل : « مع الصابرين » تحريف. والآية هي ال‍ ١٩٤ من البقرة.

(٣) أراد لا تهلكن ، فحذف نون التوكيد الحقيقة ، وأبقى الفتحة قبلها تدل عليها. انظر ما سبق ص ١٧٧ في التنبيه الثالث.

٣١٦

القائلين الفاعلين في التعب

والمطعمين الصالحين في السغب

أفناهم يوم الخميس المعتصب (١)

قال : فأرسل إليه معاوية بألف درهم.

نصر ، قال عمر : حدثني خالد بن عبد الواحد الجزري (٢) قال : حدثني من سمع عمرو بن العاص قبل الوقعة العظمى بصفين ، وهو يحرض أصحابه بصفين ، فقام محنيا على قوس فقال :

الحمد لله العظيم [ في ] شأنه ، القوى في سلطانه ، العلي في مكانه ، الواضح [ في ] برهانه. أحمده على حسن البلاء ، وتظاهر النعماء ، وفي كل لزبة من بلاء (٣) أو شدة أو رخاء. وأشهد ألا إله الا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله. ثم إنا نحتسب عند الله رب العالمين ما أصبح في أمة محمد صلى الله عليه من اشتعال نيرانها ، وظلام جنباتها ، واضطراب حبلها ، ووقوع بأسها بينها ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، والحمد لله رب العالمين. أولا تعلمون أن صلاتنا وصلاتهم ، وصيامنا وصيامهم ، وحجنا وحجهم ، وقبلتنا وقبلتهم ، وديننا ودينهم واحد ، ولكن الأهواء متشتتة (٤). اللهم أصلح هذه الأمة بما أصلحت به أولها ، واحفظ فيها بنيها (٥). مع أن القوم قد وضئوا بلادكم ، وبغوا عليكم فجدوا في قتال عدوكم ، واستعينوا بالله ربكم ، وحافظوا على حرماتكم ».

ثم إنه جلس ، ثم قام عبد الله بن العباس خطيبا فقال :

__________________

(١) المعتصب ، وصف من قولهم يوم عصيب أي شديد. وفي الأصل : « المغتصب ».

(٢) ح : « الجريري ».

(٣) اللزبة : الشدة. ح : « رزية ».

(٤) ح : « مختلفة ».

(٥) ح : « واحفظ فيما بيننا ».

٣١٧

« الحمد لله رب العالمين ، الذي دحا تحتنا سبعا ، وسمك فوقنا سبعا (١) ، ثم خلق فيما بينهن خلقا ، وأنزل لنا منهن رزقا (٢) ، ثم جعل كل شئ يبلى ويفنى غير وجهه ، الحي القيوم الذي يحيا ويبقى. ثم إن الله بعث أنبياء ورسلا فجعلهم حججا على عباده ، عذرا أو نذرا ، لا يطاع إلا بعلمه وإذنه ، يمن بالطاعة على من يشاء من عباده ثم يثيب عليها ، ويعصي [ بعلم منه ] فيعفو ويغفر بحلمه ، لا يقدر قدره ، ولا يبلغ شئ مكانه ، أحصى كل شيء عددا ، وأحاط بكل شئ علما. ثم إني أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه ، إمام الهدى والنبي المصطفى. وقد ساقنا قدر الله إلى ما قد ترون ، حتي كان فيما اضطرب من حبل هذه الأمة وانتشر من أمرها ، أن ابن آكلة الأكباد قد وجد من طغام أهل الشام أعوانا على علي بن أبي طالب ، ابن عم رسول الله وصهره ، وأول ذكر صلى معه ، بدري قد شهد مع رسول الله صلى الله عليه كل مشاهده التي فيها الفضل ، ومعاوية وأبو سفيان مشركان يعبدان الأصنام. واعلموا والله الذي ملك الملك وحده فبان به وكان أهله ، لقد قاتل علي بن أبي طالب مع رسول الله صلى الله عليه ، وعلي يقول : صدق الله ورسوله ، ومعاوية وأبو سفيان يقولان : كذب الله ورسوله. فما معاوية في هذه بأبر ولا أتقى ولا أرشد ولا أصوب منه في قتالكم. فعليكم بتقوى الله والجد والحزم والصبر ، وإنكم لعلى الحق وإن القوم لعلى الباطل. فلا يكونن أولى بالجد في باطلهم منكم في حقكم. أما والله إنا لنعلم أن الله سيعذبهم بأيديكم أو بأيدي غيركم. اللهم ربنا أعنا ولا تخذلنا ، وانصرنا على عدونا ولا تخل عنا (٣) ، وافتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين. والسلام

__________________

(١) سمك : رفع. ويقال سمكته فسمك ، أي رفعته فارتفع.

(٢) في الأصل : « وأنزل لهم فيها رزقا » وأثبت ما في ح :

(٣) ح : « ولا تحل عنا » من حال يحول.

٣١٨

عليكم ورحمة الله وبركاته. أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم ».

نصر ، عن عمر قال : حدثني عبد الرحمن بن جندب ، عن جندب بن عبد الله قال : قام عمار بن ياسر بصفين فقال : « امضوا (١) [ معي ] عباد الله إلى قوم يطلبون ـ فيما يزعمون بدم الظالم لنفسه ، الحاكم على عباد الله بغير ما في كتاب الله ، إنما قتله الصالحون المنكرون للعدوان ، الآمرون بالإحسان. فقال هؤلاء الذين لا يبالون إذا سلمت لهم دنياهم [ و ] لو درس هذا الدين : لم قتلتموه؟ فقلنا : لإحداثه. فقالوا : إنه ما أحدث شيئا. وذلك لأنه مكنهم من الدنيا فيهم يأكلونها ويرعونها ولا يبالون لو انهدت عليهم الجبال. والله ما أظنهم يطلبون دمه (٢) إنهم ليعلمون أنه لظالم ، ولكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحبوها واستمروها ، وعلموا لو أن [ صاحب ] الحق لزمهم لحال بينهم وبين ما [ يأكلون و ] يرعون فيه منها. ولم يكن للقوم سابقة في الإسلام يستحقون بها الطاعة والولاية ، فخدعوا أتباعهم بأن قالوا : قتل إمامنا مظلوما. ليكونوا بذلك جبابرة وملوكا. وتلك مكيدة قد بلغوا بها ما ترون ، ولولا هي (٣) ما بايعهم من الناس رجلان (٤). اللهم إن تنصرنا فطالما نصرت ، وإن تجعل لهم الأمر فادخر لهم بما أحدثوا لعبادك العذاب الأليم.

__________________

(١) ح : « انهضوا ».

(٢) ح ( ١ : ٥٠٥ ) : « بدم ».

(٣) هذا هو المعتمد في مثل هذا التعبير ، كما جاء في الطبري ( ٦ : ٢٢ ) بل ذهب المبرد إلى أن « لولا » لا يليها من المضمرات إلا المنفصل المرفوع ، واحتج بأنه لم يأت في القرآن غير ذلك. وفي قول الله : ( لولا أنتم لكنا مؤمنين ) انظر الخزانة ( ٢ : ٤٣٠ ـ ٤٣٣ ) وشرح الرضي للكافية ( ٢ : ١٨ ـ ١٩ ). وجاء في ح ( ١ : ٥٠٤ ) : « لولاها » وفي جواز هذا الوجه ـ وهو إيلاؤها الضمير المشترك بين النصب والجر ـ خلاف ، ومما سمع منه قوله :

* لولاك في ذا العام لم أحجج *

(٤) وكذا في الطبري ، لكن في ح : « رجل ».

٣١٩

ثم مضى ومضى معه أصحابه ، فلما دنا من عمرو بن العاص قال : يا عمرو : بعت دينك بمصر! تبا لك ، وطالما بغيت الإسلام عوجا! ثم حمل عمار وهو يقول :

صدق الله وهو للصدق أهل

وتعالى ربي وكان جليلا

رب عجل شهادة لي بقتل

في الذي قد أحب قتلا جميلا (١)

مقبلا غير مدبر إن للقت‍ـ

ل على كل ميتة تفضيلا

إنهم عند ربهم في جنان

يشربون الرحيق والسلسبيلا

من شراب الأبرار خالطه المس‍

ك ، وكأسا مزاجها زنجبيلا

ثم نادى عمار عبيد الله بن عمر ، وذلك قبل مقتله ، فقال يا ابن عمر ، صرعك الله! بعت دينك بالدنيا من عدو الله وعدو الإسلام. قال : كلا ، ولكن أطلب بدم عثمان الشهيد المظلوم. قال : كلا ، أشهد على علمي فيك أنك أصبحت لا تطلب بشئ من فعلك وجه الله ، وإنك إن لم تقتل اليوم فستموت غدا. فانظر إذا أعطى الله العباد على نياتهم ما نيتك؟

ثم قال عمار : اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلت. اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك أن أضع ظبة سيفي في بطني ثم أنحنى عليها حتى يخرج من ظهري لفعلت. اللهم وإني أعلم مما أعلمتني أني لا أعمل (٢) اليوم عملا هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين ، ولو أعلم اليوم عملا أرضى لك منه لفعلته.

نصر ، عن يحيى بن يعلى ، عن صباح المزني (٣) ، عن الحارث بن حصيرة

__________________

(١) في الذي ، أي مع الذين.

(٢) في الأصل : « لا أعلم » وأثبت ما في ح ( ١ : ٥٠٥ ).

(٣) هو صباح بن يحيى أبو محمد المزني ، يروى عن الحارث بن حصيرة. قال ابن عدي : هو من جملة الشيعة. انظر لسان الميزان ومنتهى المقال ١٦٤.

٣٢٠