وقعة صفّين

نصر بن مزاحم المنقري

وقعة صفّين

المؤلف:

نصر بن مزاحم المنقري


المحقق: عبد السلام محمّد هارون
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٨٩

النيات (١) » ، أفرغ الله علينا وعليكم الصبر ، وأعزلنا ولكم النصر ، وكان لنا ولكم في كل أمر. وأستغفر الله لي ولكم.

نصر ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن عامر (٢) ، عن صعصعة العبدي (٣) [ عن أبرهة بن الصباح ] قال : قام يزيد بن أسد البجلي [ في أهل الشام ] يخطب الناس بصفين ، وعليه يومئذ قباء خز ، وعمامة سوداء ، آخذا بقائم سيفه ، واضعا نعل السيف (٤) على الأرض متوكئا عليه. قال صعصعة : فذكر لي أبرهة (٥) أنه [ كان ] يومئذ من أجمل العرب وأكرمه وأبلغه (٦) فقال :

« الحمد لله الواحد القهار ، ذي الطول والجلال ، العزيز الجبار ، الحليم الغفار ، الكبير المتعال ، ذي العطاء والفعال ، والسخاء والنوال ، والبهاء والجمال ، والمن والإفضال. مالك اليوم الذي لا ينفع فيه بيع ولا خلال (٧). أحمده على حسن البلاء ، وتظاهر النعماء ، وفي كل حالة من شدة أو رخاء. أحمده على نعمه التؤام (٨) ، وآلائه العظام ، حمدا قد استنار ، بالليل والنهار. ثم

__________________

(١) ح : « على الثبات » تحريف. وانظر لسان الميزان ( ٤ : ٣٦٧ ). والحديث رواه السيوطي في الجامع الصغير ( ١ : ٣٥١ ) من رواية ابن عساكر عن عمر. وروى السيوطي أيضا نظيرا لهذا الحديث وهو : « إنما يبعث الناس على نياتهم ». رواه ابن ماجه عن أبي هريرة.

(٢) هو عامر بن شراحيل الشعبي ، المترجم في ص ٢٣.

(٣) هو صعصعة بن صوحان العبدي ، تابعي كبير مخضرم فصيح ثقة. مات في خلافه معاوية. وصوحان ، بضم الصاد. تهذيب التهذيب. وفي الأصل : « بن عامر بن صعصعة العبدي » ، والصواب : « عن عامر عن صعصعة » كما أثبت.

(٤) نعل السيف : حديدة في أسفل غمده. ح : « نصل السيف »تحريف.

(٥) هو أبرهة بن الصباح الحبشي ، أو الحميري. ذكره ابن حجر في الإصابة ١٥. وفي الأصل : « ابن أبرهة » صوابه في ح.

(٦) أي من أجمل من وجد من العرب ، فلذا وحد الضمير ذهابا إلى المعنى. انظر اللسان ( ١٨ : ٢٢١ س ٢١ ـ ٢٥ ). وفي ح : « وأكرمها وأبلغها ».

(٧) في الأصل : « يملك يوم لا ينفع فيه بيع ولا خلال » ، صوابه من ح.

(٨) التؤام ، كغراب : جمع توأم. ح : « التوام » : جمع تامة.

٢٤١

إني أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، كلمة النجاة في الحياة ، وعند الوفاة ، وفيها الخلاص ، يوم القصاص. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي المصطفى ، وإمام الهدى ، صلى الله عليه وسلم كثيرا. ثم قد كان مما قضى الله (١) أن جمعنا وأهل ديننا في هذه الرقعة من الأرض ، والله يعلم أني كنت لذلك كارها ، ولكنهم لم يبلعونا ريقنا ، ولم يتركونا نرتاد لأنفسنا ، وننظر لمعادنا حتى نزلوا بين أظهرنا ، وفي حريمنا وبيضتنا. وقد علمنا أن في القوم أحلاما وطغاما ، فلسنا نأمن طغامهم على ذرارينا ونسائنا. وقد كنا نحب ألا نقاتل أهل ديننا ، فأخرجونا حتى صارت الأمور إلى أن قاتلتاهم كراهية (٢) فإنا لله وإنا إليه راجعون ، والحمد لله رب العالمين. أما والله الذي بعث محمدا بالرسالة لوددت أني مت منذ سنة ؛ ولكن الله إذا أراد أمرا لم يستطع العباد رده. فنستعين بالله العظيم ؛ وأستغفر الله لي ولكم ». ثم انكفأ.

قال نصر : وفي حديث عمر ، عن مالك بن أعين ، عن زيد بن وهب ، أن عمرو بن العاص قال يومئذ :

لا تأمننا بعدها أبا حسن (٣)

إنا نمر الحرب إمرار الرسن (٤)

لتصبحن مثلها أم لبن (٥)

طاحنة تدقكم دق الحفن (٦)

فأجابه شاعر من شعراء أهل العراق :

__________________

(١) ح : « من قضاء الله ».

(٢) في الأصل وح ( ١ : ٤٨٥ ) : « غدا حمية » والوجه ما أثبت.

(٣) في الأصل : « بعده أبا الحسن » وأثبت ما في ح. وكتب ناسخ الأصل : « ويروي : خذها إليك فاعلمن أبا حسن ».

(٤) الرسن : الحبل. وإمراره : إحكام قتله. ح : « تمر الأمر ».

(٥) اللبن : جمع لبون ، وهي ذات اللبن من الإبل. عني كثرة ما بهذه الحرب من الإبل وركبانها.

(٦) الحفن : جمع حفنة ، بالفتح ، وهي ملء الكفين من طعام ، ولا يكون إلا من شيء يابس كالدقيق ونحوه.

٢٤٢

ألا احذروا في حربكم أبا الحسن

ليثا أبا شبلين محذورا فطن

يدقكم دق المهاريس الطحن (١)

لتغبنن يا جاهلا أي غبن (٢)

حتى تعض الكف أو تقرع سن

ندامة أن فاتكم عدل السنن (٣)

نصر : عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن الشعبي ، أن أول فارسين التقيا في هذا اليوم ـ وهو اليوم السابع من صفر ، وكان من الأيام العظيمة في صفين ، ذا أهوال شديدة ـ حجر الخير وحجر الشر. أما حجر الخير فهو حجر بن عدي صاحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. وحجر الشر ابن عمه. وذلك أن حجر الشر دعا حجر بن عدي (٤) إلى المبارزة ، وكلاهما من كندة ، فأجابه فاطعنا برمحيهما ، ثم حجز بينهما امرؤ من بني أسد ، وكان مع معاوية (٥) ، فضرب حجرا ضربة برمحه (٦) ، وحمل أصحاب علي فقتلوا الأسدي ، وأفلتهم حجر بن يزيد (٧) [ حجر (٨) ] الشر هاربا ، وكان اسم الأسدي خزيمة بن ثابت.

نصر : عمرو بن شمر ، عن عطاء بن السائب قال : أخبرني مروان بن الحكم أن حجرا يوم قتل الحكم بن أزهر جعل يرتجز ويقول :

__________________

(١) المهاريس : جمع مهراس ، وهو حجر مستطيل منقور يهرس به الحب.

(٢) في الأصل : « لتغبنن راكبا » صوابه في ح ( ١ : ٤٨٥ ).

(٣) عدل السنن ، أي الطريق العادل المستقيم. وهذا البيت لم يرو في ح. وفي الأصل : « إن فاته ».

(٤) هو حجر بن عدي بن معاوية بن جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية الأكرمين الكندي ، وفد على النبي فأسلم. وقتل سنة ٥١ أو ٥٣. انظر الإصابة ١٦٢٤.

(٥) ح ( ١ : ٤٨٦ ) : « من عسكر معاوية ».

(٦) في الأصل : « رمخه » صوابه في ح.

(٧) هو حجر بن يزيد بن سلمة بن مرة بن حجر بن عدي بن ربيعة بن معاوية الأكرمين الكندي. وفد على النبي فأسلم ، وكان شريفا ، وكان مع علي يوم الجمل ، واتصل بعد بمعاوية فاستعمله على أرمينية. انظر الإصابة ١٦٢٦. وقد ورد ذكره في حواشي الاشتقاق ص ٢١٩ أنه حجر بني زيد ، صوابه « بن يزيد ».

(٨) تكملة يقتضيها السياق.

٢٤٣

أنا الغلام اليمني الكندي

قد لبس الديباج والإفرندي (١)

أنا الشريف الأريحي المهدي

يا حكم بن أزهر بن فهد

لقد أصبت غارتي وحدي

وكرتي وشدتي وجدي

أثبت أقاتلك الغداة وحدي

فلما أن أصاب الحكم بن أزهر حمل عليه رفاعة بن ظالم الحميري وهو يقول :

أنا ابن عم الحكم بن أزهر

الماجد القمقام حين يذكر

في الذروتين من ملوك حمير

يا حجر الشر تعالى فانظر

أنا الغلام الملك المحبر

الواضح الوجه كريم العنصر

أقدم إذا شئت ولا تأخر

والله لا ترجع ولا تعثر

في قاع صفين بواد معفر

ثم إن رفاعة حمل على حجر الشر فقتله فقال علي : الحمد لله الذي قتل حجرا بالحكم بن أزهر.

نصر ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن تميم ، أن عليا قال : من يذهب بهذا المصحف إلى هؤلاء القوم فيدعوهم إلى ما فيه؟ فأقبل فتى اسمه سعيد فقال : أنا صاحبه. ثم أعادها فسكت الناس وأقبل الفتى (٢) فقال : أنا صاحبه. فقال علي دونك. فقبضه [ بيده ] ثم أتى معاوية فقرأه عليهم ودعاهم إلى

__________________

(١) في اللسان والقاموس أن « الفرند » ضرب من الثياب ، دخيل معرب. وفي المعرب ١٣٥ ، ٢٤٣ أن الفرند الحرير ، وأنشد للفرزدق :

ليسن الفرند الخسرواني فوقه

مشاعر من خز العراق المفوف

ولذي الرمة :

كأن الفرند الخسرواني لثنه

بأعطاف أنقاء العقوق العواتك

وأما الإفرندي ، فلم أجده إلا المنسوب إلى الإفرند ، لغة في فرند السيف.

(٢) ح : « وتقدم الفتى ».

٢٤٤

ما فيه فقتلوه. وزعم تميم (١) أنه سعيد بن قيس.

نصر ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر (٢) قال : سمعت الشعبي يقول : كان عبد الله بن بديل الخزاعي مع علي يومئذ ، وعليه سيفان ودرعان ، فجعل يضرب الناس بسيفه قدما وهو يقول :

لم يبق إلا الصبر والتوكل

وأخذك الترس وسيفا مقصل (٣)

ثم التمشي في الرعيل الأول (٤)

مشى الجمال في حياض المنهل (٥)

والله يقضي ما يشا ويفعل

فلم يزل يحمل حتى انتهى إلى معاوية [ والذين بايعوه على الموت ، فأمرهم أن يصمدوا لعبد الله بن بديل ، وبعث إلى حبيب بن مسلمة الفهري وهو في الميسرة أن يحمل عليه بجميع من معه ، واختلط الناس واضطرم الفيلقان : ميمنة أهل العراق ، وميسرة أهل الشام. وأقبل عبد الله بن بديل يضرب الناس بسيفه قدما ] حتى أزال معاوية عن موقفه (٦) ، وجعل ينادي : يا لثارات عثمان! ـ يعني أخا كان له قد قتل ـ وظن معاوية وأصحابه أنه إنما يعني

__________________

(١) هو تميم بن حذلم ـ بكسر المهملة وسكون المعجمة وفتح اللام ـ الضبي ، أبو سلمة الكوفي ، ثقة مات سنة ١٠٠. وقد اختلف في اسم أبيه فقيل « خزيم » و « حذيم » والصواب « حذلم ». انظر تقريب التهذيب ومنتهى المقال.

(٢) هو جابر بن يزيد الجعفي ، ثقة في نفسه ، ولكن جل من روى عنه ضعيف فمن أكثر عنه من الضعفاء عمرو بن شمر الجعفي ، ومفضل بن صالح السكوني. وفي الميزان أنه روى عن أبي الطفيل الصحابي. مات سنة ١٢٧ أو ١٣٢. تهذيب التهذيب ، وميزان الاعتدال ، ومنتهى المقال.

(٣) ح ( ١ : ٤٨٦ ) : « والترس والرمح » ، وفي الأصل وح : « وسيف مصقل » تحريف ، وإنما هو « مقصل » يقال سيف قاصل ومقصل وقصال : قطاع. وانظر للرجز الإصابة. ٤٥٥ في ترجمة عبد الله بن بديل حيث نقل الخبر عن وقعه صفين.

(٤) التمشي : المشي. وفي الأصل : « التمسني » صوابه في ح.

(٥) في الأصل : « في الحياض » صوابه في ح.

(٦) في الأصل : « فأزاله عن موقفه » وأثبت ما في ح لتلتئم التكملة السابقة بالكلام.

٢٤٥

عثمان بن عفان (١). [ وتراجع معاوية عن مكانه القهقري كثيرا ، وأشفق على نفسه ، وأرسل إلى حبيب بن مسلمة مرة ثانية وثالثة يستنجده ويستصرخه. ويحمل حبيب حملة شديدة بميسرة معاوية على ميمنة العراق فكشفها ، حتى لم يبق مع ابن بديل إلا نحو مائة إنسان من القراء ، فاستند بعضهم إلى بعض يحمون أنفسهم ، ولجج ابن بديل في الناس وصمم على قتل معاوية ، وجعل يطلب موقفه ويصمد نحوه حتى انتهى إليه ] عبد الله بن عامر واقفا ، [ فنادى معاوية بالناس : ويلكم! الصخر والحجارة إذا عجزتم عن السلاح ]. فأقبل أصحاب معاوية على عبد الله بن بديل يرضخونه بالصخر (٢) حتى أثخنوه وقتل الرجل ، وأقبل إليه معاوية وعبد الله بن عامر [ حتى وقفا عليه ]. فأما عبد الله ابن عامر فألقى عمامته على وجهه وترحم عليه ، وكان له [ من قبل ] أخا وصديقا ، فقال معاوية : اكشف عن وجهه. [ فقال : لا والله ، لا يمثل به وفي روح. فقال معاوية : اكشف عن وجهه ، فإنا لا نمثل به ] ، فقد وهبته لك (٣). فكشف [ ابن عامر ] عن وجهه فقال معاوية : هذا كبش القوم ورب الكعبة اللهم أظفرني بالأشتر النخعي والأشعث الكندي. والله ما مثل هذا إلا كما قال الشاعر (٤) :

أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها

وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا

__________________

(١) بعد هذا في الأصل : « حتى إذا أزال معاوية عن موقفه » وهي عبارة مقحمة.

(٢) ح : « فرضخه الناس بالصخر والحجارة ».

(٣) ح : « قد وهبناه لك ».

(٤) هو حاتم الطائي من قصيدة له في ديوانه ( خمسة دواوين العرب ١٢١ ـ ١٢٢ ).

٢٤٦

ويحمي ، إذا ما الموت كان لقاؤه

قدي الشبر ، يحمي الأنف أن يتأخرا (١)

كليث هزبر كان يحمي ذماره

رمته المنايا قصدها فتقطرا (٢)

مع أن نساء خزاعة لو قدرت على أن تقاتلني فضلا عن رجالها فعلت. نصر : عمرو ، عن أبي روق الهمداني أن يزيد بن قيس الأرحبي حرض الناس بصفين. قال : فقال :

« إن المسلم السليم (٣) من سلم دينه ورأيه. إن هؤلاء القوم والله ما إن يقاتلونا (٤) على إقامة دين رأونا ضيعناه ، ولا إحياء عدل رأونا أمتناه ، ولا يقاتلونا (٥) إلا على إقامة الدنيا ؛ ليكونوا جبابرة فيها ملوكا ، فلو ظهروا عليكم ـ لا أراهم الله ظهورا ولا سرورا ـ إذا ألزموكم (٦) مثل سعيد والوليد (٧)

__________________

(١) قدى الشبر ، بكسر القاف والقصر ، أي قدره ، كأنه مقلوب من قيد ، بالكسر. يقال قدى رمح وقد رمح وقاد رمح. وأنشد :

ولكن إقدامي إذا الخيل أحجمت

وصبري إذا ما الموت كان قدى الشبر

وقد نسب بيت حاتم هذا في اللسان ( ٢٠ : ٣٢ ) إلى هدبة بن الخشرم. وروايته فيه :

وإني إذا ما الموت لم يك دونه

قدى الشبر أحمي الأنف أن يتأخرا

وفي اللسان : « أتأخرا ». في الأصل : « لدى الشر » وفي ح : « قدى السير » صوابهما ما أثبت.

(٢) تقطر : سقط صريعا. وهذا البيت لم يرو في الديوان.

(٣) هذه الكلمة ليست في ح.

(٤) في الأصل : « يقاتلوا » صوابه في ح ( ١ : ٤٨٥ ).

(٥) في الأصل : « ولن يقاتلونا » وأثبت ما في ح.

(٦) ح ( ١ : ٤٨٥ ) : « إذا لوليكم » والعبارتان متقاربتان.

(٧) يعني سعيد بن العاص ، والوليد بن عقبة. أما سعيد فكان واليا لعثمان على الكوفة بعد الوليد بن عقبة ، وولاه معاوية المدينة وتوفى سنة ٥٣. وأما الوليد بن عقبة بن أبي معيط فكان أخا عثمان لأمه ، وولاه الكوفة ثم عزله عنها وجلده لشربه الخمر. وكان ممن يحرض معاوية على قتال علي. انظر ما سبق في ص ٥٢ ـ ٥٤.

٢٤٧

وعبد الله بن عامر (١) السفيه ، يحدث (٢) أحدهم في مجلسه بذيت وذيت ، ويأخذ مال الله ويقول : هذا لي ولا إثم علي فيه ، كأنما أعطى تراثه من أبيه ، وإنما هو مال الله أفاءه الله علينا بأسيافنا ورماحنا. قاتلوا ، عباد الله ، القوم الظالمين ، الحاكمين بغير ما أنزل الله ، ولا تأخذكم في جهادهم لومة لائم ، إنهم إن يظهروا عليكم يفسدوا دينكم ودنيا كم ، وهم من قد عرفتم وجربتم. والله ما أرادوا إلى هذا إلا شرا (٣). [ وأستغفر الله العظيم لي ولكم ] ».

فقاتلهم عبد الله بن بديل في الميمنة حتى انتهى إلى معاوية مع الذين بايعوه على الموت. فأقبلوا إلى معاوية فأمرهم أن يصمدوا لعبد الله بن بديل في الميمنة ، وبعث معاوية إلى حبيب بن مسلمة في الميسرة ، فحمل بمن كان معه على ميمنة الناس فهزمهم ، وكشف أهل العراق ميلا من قبل الميمنة ، حتى لم يبق مع ابن بديل إلا نحو مائة من القراء ، واستند بعضهم إلى بعض ، وانجفل الناس عليهم (٤) ، فأمر على سهل بن حنيف فاستقدم فيمن كان مع علي من أهل المدينة ، فاستقبلتهم جموع أهل الشام في خيل عظيمة ، فحملوا عليهم وألحقوهم بالميمنة ، وكانت الميمنة متصلة إلى موقف علي في القلب في أهل اليمن ، فلما انكشفوا انتهت الهزيمة إلى علي ؛ فانصرف علي يمشي نحو

__________________

(١) هو عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس ، ابن خال عثمان ابن عفان ، ولاه عثمان البصرة ثم وليها لمعاوية. وكان قد فتح خراسان في أيام عثمان ، فأحرم من نيسابور وقدم عليه ، فلامه على ما صنع وقال : « غررت بنسكك ». الإصابة ٦١٧٥ والمعارف ١٣٩ ـ ١٤٠.

(٢) في الأصل : « الذي يحدث » وكلمة : « الذي » مقحمة.

(٣) ح ( ١ : ٤٨٥ ) : « ما أرادوا باجتماعهم عليكم إلا شرا ».

(٤) انجفلوا عليهم : ذهبوا مسرعين نحوهم. وفي الحديث : « لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس قبله » ، أي ذهبوا مسرعين نحوه. وفي الأصل : « انحفل » صوابه بالجيم.

٢٤٨

الميسرة ، فانصرف عنه مضر من الميسرة ، وثبت ربيعة.

نصر : عن عمر بن سعد ، عن مالك بن أعين ، عن زيد بن وهب قال : مر علي يومئذ ومعه بنوه نحو الميسرة [ ومعه ربيعة وحدها ] وإني لأرى النبل بين عاتقه ومنكبيه ، وما من بنيه أحد إلا يقيه بنفسه ، فيكره علي ذلك ، فيتقدم (١) عليه فيحول بينه وبين أهل الشام ، ويأخذ بيده إذا فعل ذلك فيلقيه بين يديه ، أو من ورائه. فبصر به أحمر ـ مولى أبي سفيان ، أو عثمان ، أو بعض بني أمية ـ فقال علي : ورب الكعبة قتلني الله إن لم أقتلك أو تقتلني! فأقبل نحوه ، فخرج إليه كيسان مولى علي ، فاختلفا ضربتين ، فقتله مولى بني أمية وخالط عليا ليضربه بالسيف ، فانتهزه علي (٢) فتقع يده في حبيب درعه (٣) فجذبه ثم حمله على عاتقه ، فكأني أنظر إلى رجليه تختلفان على عنق علي ، ثم ضرب به الأرض فكسر منكبه وعضده ، وشد ابنا علي عليه : الحسين ومحمد ، فضرباه بأسيافهما [ حتى برد (٤) ] ، فكأني أنظر إلى علي قائما وشبلاه يضربان الرجل ، حتى إذا أتيا عليه (٥) أقبلا إلى أبيهما والحسن معه قائم ، قال : يا بني ، ما منعك أن تفعل كما فعل أخواك؟ قال : كفياني يا أمير المؤمنين.

ثم إن أهل الشام دنوا منه ـ والله ما يزيده قربهم منه [ ودنوهم إليه ] سرعة في مشية (٦) ـ فقال له الحسن : ما ضرك لو سعيت حتى تنتهى إلى هؤلاء

__________________

(١) في الأصل : « فيقدم » وأثبت ما في ح ( ١ : ٤٨٦ ).

(٢) انتهزه ، بالزاي : بادر إليه وأسرع. قال :

* وانتهز الحق إذا الحق وضح *

(٣) أي يد علي. في الأصل : « فوقع يده » وأثبت ما في ح.

(٤) برد : مات.

(٥) في الأصل : « قتلاه » وأثبت ما في ح.

(٦) في الأصل : « إلا سرعة في مشيه » والوجه حذف ( لا ) كما في ح ، وهو ما يقتضيه السياق.

٢٤٩

الذين صبروا لعدوك من أصحابك؟ ـ [ قال : يعني ربيعة الميسرة ] ـ قال : يا بني [ إن ] لأبيك يوما لن يعدوه ، ولا يبطئ به عنه السعي ، ولا يعجل به إليه المشي. إن أباك والله ما يبالي وقع على الموت أو وقع الموت عليه.

نصر ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي إسحاق ، قال : خرج علي يوم صفين وفي يده عنزة (١) ، فمر على سعيد بن قيس الهمداني ، فقال له سعيد : أما تخشى يا أمير المؤمنين أن يغتالك أحد وأنت قرب عدوك؟ فقال له علي : « إنه ليس من أحد إلا عليه من الله حفظة يحفظونه من أن يتردى في قليب ، أو يخر عليه حائط ، أو تصيبه آفة ، فإذا جاء القدر خلوا بينه وبينه ».

نصر ، عن عمر ، عن فضيل بن خديج ، عن مولى الأشتر قال : لما انهزمت ميمنة أهل العراق أقبل علي يركض نحو الميسرة يستثيب الناس (٢) ويستوقفهم ويأمرهم بالرجوع نحو الفزع ، حتى مر بالأشتر فقال له : يا مالك. قال : لبيك يا أمير المؤمنين ، قال : ائت [ هؤلاء ] القوم فقل لهم : أين فراركم من الموت الذي لن تعجزوه إلى الحياة التي لا تبقى لكم؟ فمضى الأشتر فاستقبل الناس منهزمين فقال لهم هؤلاء الكلمات التي أمره علي بهن (٣) وقال : أيها الناس ، أنا مالك بن الحارث ـ [ يكررها ـ فلم يلو أحد منهم عليه ]. ثم ظن أنه بالأشتر أعرف في الناس فقال : أيها الناس ، أنا الأشتر ، إلى أيها الناس. فأقبلت إليه طائفة وذهبت عنه طائفة فقال : عضضتم بهن أبيكم ،

__________________

(١) العنزة ، بالتحريك : رميح بين العصا والرمح في أسفله زج.

(٢) يستثيب الناس : يسترجعهم ؛ ثاب : رجع. وفي الأصل : « يستئيب » وفي ح : « يستتب » ووجههما ما أثبت.

(٣) ح : « فقال لهم الكلمات » وفي الطبري ( ٦ : ١١ ) : « هذه الكلمات التي قالها له علي ».

٢٥٠

ما أقبح [ والله ] ما قاتلتم اليوم (١) يأيها الناس ، غضوا الأبصار ، وعضوا على النواجذ ، واستقبلوا القوم بهامكم ، ثم شدوا شدة قوم موتورين بآبائهم وأبنائهم وإخوانهم ، حنقا على عدوهم ، وقد وطنوا على الموت أنفسهم ، كي لا يسبقوا بثأر. إن هؤلاء القوم والله لن يقارعوكم إلا عن دينكم ، ليطفئوا السنة ، ويحيوا البدعة ، ويدخلوكم في أمر قد أخرجكم الله منه بحسن البصيرة. فطيبوا عباد الله نفسا بدمائكم دون دينكم ؛ فإن الفرار فيه سلب العز ، والغلبة على الفيء ، وذل المحيا والممات ، وعار الدنيا والآخرة ، وسخط الله وأليم عقابه.

ثم قال : أيها الناس ، أخلصوا إلى مذحجا. فاجتمعت إليه مذحج ، فقال لهم : عضضتم بصم الجندل! والله ما أرضيتم اليوم ربكم ، ولا نصحتم له في عدوه ، فكيف بذلك وأنتم أبناء الحرب وأصحاب الغارات ، وفتيان الصباح (٢) ، وفرسان الطراد ، وحتوف الأقران ، ومذحج الطعان (٣) ، الذين لم يكونوا يسبقون بثأرهم ولا تطل دماؤهم ، ولا يعرفون في موطن من المواطن بخسف وأنتم أحد أهل مصركم (٤) ، وأعد حي في قومكم (٥) وما تفعلوا في في هذا اليوم فإنه مأثور بعد اليوم. فاتقوا مأثور الحديث في غد (٦) واصدقوا

__________________

(١) وسيأتي في ص ٢٥٢ قوله : « والله ما أحسنتم اليوم القراع ». في ح : « ما فعلتم ».

(٢) فتيان الصباح : فتيان الغارة ، وكانوا يسمون يوم الغارة يوم الصباح.

(٣) في المعارف ٤٩ والعمدة ( ٢ : ١٥٦ ) : « كان يقال : مازن غسان أرباب الملوك ، وحمير أرباب العرب ، وكندة كندة الملك ، ومذحج مذحج الطعان ، وهمدان أحلاس الخيل ».

(٤) ح : « وأنتم سادة مصركم ».

(٥) أعد : أكثر عددا. وفي الحديث : « يخرج جيش من المشرق آدى شيء وأعده » أي أكثره استعدادا وعددا. وفي ح : « وأعز حي » من العزة ، وما أثبت من الأصل يوافق ما في الطبري.

(٦) مأثور الحديث : ما يؤثر ويروى ويخبر الناس به بعضهم بعضا. وفي الأصل : « وأبقوا مآثر الحديث في غد » صوابه في ح والطبري.

٢٥١

عدوكم اللقاء ؛ فإن الله مع الصابرين. والذي نفس مالك بيده ما من هؤلاء ـ وأشار بيده إلى أهل الشام ـ رجل علي مثل جناح بعوضة من دين الله. والله ما أحسنتم اليوم القراع. اجلوا سواد وجهي يرجع في وجهي دمي. عليكم بهذا السواد الأعظم ، فإن الله لو [ قد ] فضه تبعه من بجانبيه كما يتبع [ مؤخر (١) ] السيل مقدمه.

قالوا : خذ بنا حيث أحببت. فصمد بهم نحو عظمهم مما نحو الميمنة ، وأخذ يزحف إليهم الأشتر ويردهم ، ويستقبله شباب من همدان (٢) وكانوا ثماني مائة مقاتل يومئذ وقد انهزموا آخر الناس ، وكانوا قد صبروا في ميمنة علي عليه‌السلام حتى أصيب منهم ثمانون ومائة رجل ، وقتل منهم أحد عشر رئيسا ، كلما قتل منهم رجل أخذ الراية آخر. فكان أولهم كريب بن شريح ، وشرحبيل بن شريح ، ومرثد بن شريح ، وهبيرة بن شريح ، ثم يريم بن شريح (٣) ، [ ثم شمر بن شريح (٤) ] ، قتل هؤلاء الإخوة الستة جميعا ، ثم أخذ الراية سفيان بن زيد ، ثم عبد بن زياد ، ثم كرب بن زيد (٥) فقتل هؤلاء الإخوة الثلاثة جميعا. ثم أخذ الراية عمير بن بشر (٦) ، والحارث بن بشر ، فقتلا. ثم أخذ الراية وهب بن كريب (٧) أبو القلوص ، فأراد أن يستقبل

__________________

(١) هذه من الطبري.

(٢) في الأصل : « واستقبله سنام من همدان ». ح ( ١ : ٤٨٧ ) : « واستقبله أشباههم من همدان ». وأثبت ما في الطبري.

(٣) في الأصل : « بريم » صوابه من الطبري. وفي ح : « هريم ».

(٤) التكملة من ح والطبري. لكن في الطبري : « سمير ».

(٥) الطبري : « كريب بن زيد » وفي ح : « سفيان بن زيد ، ثم كرب بن زيد ، ثم عبد الله بن زيد ».

(٦) في الأصل : « عميرة بن بشر » وأثبت ما في ح. وفي الطبري : « عمير بن بشير ».

(٧) في الأصل : « وهيب » وأثبت ما في ح والطبري.

٢٥٢

فقال له رجل من قومه : انصرف [ يرحمك الله ] بهذه الراية ترحها الله (١) من راية ، فقد قتل أشراف قومك حولها ، فلا تقتل نفسك ولا من بقي ممن معك. فانصرفوا وهم يقولون : ليت لنا عديدا من العرب يحالفوننا ثم نستقدم نحن وهم ، فلا ننصرف حتى نقتل أو نظهر (٢). فمروا بالأشتر وهم يقولون هذا القول ، فقال لهم الأشتر : إلى ، أنا أحالفكم وأعاقدكم على أن لا نرجع أبدا حتى نظهر أو نهلك (٣) فوقفوا معه [ على هذه النية والعزيمة ]. ففي هذا القول قال كعب ابن جعيل (٤) :

* وهمدان زرق تبتغي من تحالف (٥) *

وزحف الأشتر نحو الميمنة ، وثاب إليه أناس تراجعوا من أهل البصيرة والحياء والوفاء (٦) ، فأخذ لا يصمد لكتيبة إلا كشفها ، ولا لجمع إلا حازه ورده (٧). فإنه لكذلك إذ مر بزياد بن النضر يحمل إلى العسكر فقال : من هذا؟ قيل : « زياد بن النضر ، استلحم [ عبد الله بن بديل (٨) ] وهو وأصحابه في الميمنة ، فتقدم زياد فرفع لأهل الميمنة رايته فقاتل حتى صرع ». ثم لم

__________________

(١) ترحها الله ، دعاء عليها بالترح ، وهو الحزن والهم. وفي اللسان : « ترحه الأمر تتريحا : أي أحزنه ». وهذه الكلمة ليست في الطبري وفي ح : « نزحها الله » تحريف.

(٢) الظهور : الظفر ، ظهر عليه ظهورا وأظهره الله عليه ح : « حتى نظفر أو نقتل » الطبري : « حتى تقتل أو نظفر ».

(٣) ح والطبري : « حتى نظفر أو نهلك ».

(٤) في الأصل : « في هذا القول فقال كعب بن جعيل » وأثبت ما في الطبري. وفي ح : « فهذا معنى قول كعب بن جعيل ».

(٥) المراد بالزرق زرق العيون ، والعرب يتهاجون بذلك ، ويعدونه من اللؤم. انظر الحيوان ( ٣ : ١٧٥ و ٥ : ٣٣٠ ـ ٣٣١ ).

(٦) ح : « أهل الصبر والوفاء والحياء ».

(٧) في الأصل وح : « جازه » صوابه بالحاء كما في الطبري. انظر ما سبق ص ٢٣٤.

(٨) استلحم ، بالبناء للمفعول : احتوشه العدو في القتال. وهذه التكملة من الطبري ( ٦ : ١٢ ). والكلام في ح محرف مبتور.

٢٥٣

يمكثوا إلا كلا شئ حتى مروا بيزيد بن قيس محمولا إلى العسكر ، فقال الأشتر : من هذا؟ قالوا : « يزيد بن قيس ، لما صرع زياد بن النضر رفع لأهل الميمنة رايته فقاتل حتى صرع ». فقال الأشتر : « هذا والله الصبر الجميل ، والفعل الكريم. ألا يستحيي الرجل أن ينصرف لم يقتل ولم يقتل ولم يشف به على القتل؟ ».

نصر ، عن عمر ، عن الحر بن الصياح (١) [ النخعي (٢) ] أن الأشتر كان يومئذ يقاتل على فرس له ، في يده صفيحة [ له ] يمانية إذا طأطأها خلت فيها ماء منصبا ؛ فإذا رفعها كاد يغشي البصر (٣) شعاعها ، ويضرب بسيفه قدما وهو يقول :

* الغمرات ثم ينجلينا (٤) *

قال : فبصر به الحارث بن جمهان الجعفي ، والأشتر مقنع في الحديد ، فلم

__________________

(١) الحر ، بضم الحاء المهملة وتشديد الراء ، بن الصياح ، كشداد ، النخعي الكوفي ، ثقة من الثالثة ، وروى عن ابن عمر وأنس وعبد الرحمن بن الأخنس ، وعنه شعبة والثوري وأبو خيثمة وعمرو بن قيس الملائي. انظر تهذيب التهذيب والمشتبه ٣١٠. وفي الأصل : « الحر بن الصباح » وأثبت ما في التهذيب والمشتبه مطابقا ما في الطبري. وفي ح : « الحارث ابن الصباح » وهو رجل شيعي آخر ذكره ابن حجر في لسان الميزان ( ٦ : ١٥٣ ) وقال إنه تابعي روى عن علي.

(٢) هذه التكملة من الطبري ، وهي تعين أنه « الحر بن الصياح النخعي ».

(٣) يغشى البصر : يذهب به. وفي كتاب الله : ( فأغشيناهم فهم لا يبصرون ). وقد وردت هكذا بالغين المعجمة في الأصل وح والطبري. وهم يقولون كثيرا في نحو هذا المقام : « يعشى » بالعين المهملة ، والعشا : ضعف الإبصار.

(٤) هو للأغلب العجلي ، كما في أمثال الميداني. في الأصل : « غمرات » وفي أمثال الميداني : « غمرات ثم ينجلين » ويروى : « الغمرات ثم ينجلين ». وهذا الأخير هو الوجه في الإنشاد ، ففي جمهرة العسكري ١٥٠ عند الكلام على المثل : هو من قول الراجز :

الغمرات ثم ينجلين

عنا وينزلن بآخرين

شدائد يتبعهن لين

وانظر مقاييس اللغة ( غمر ).

٢٥٤

يعرفه ، فدنا منه وقال له : جزاك الله منذ اليوم عن أمير المؤمنين عليه‌السلام وجماعة المسلمين خيرا. فعرفه الأشتر فقال : يا ابن جمهان ، أمثلك يتخلف اليوم عن مثلى موطني هذا الذي أنا فيه؟ فتأمله ابن جمهان فعرفه ، وكان الأشتر من أعظم الرجال وأطوله (١) ، إلا أن في لحمه خفة قليلة ـ قال : جعلت فدك ، لا والله ما علمت مكانك حتى الساعة ، ولا أفارقك حتى أموت. قال : ورآه (٢) منقذ وحمير ابنا قيس الناعطيان (١) فقال منقذ لحمير : ما في العرب رجل مثل هذا إن كان ما أرى من قتاله على نيته. فقال له حمير : وهل النية إلا ما ترى؟ قال : إني أخاف أن يكون يحاول ملكا.

نصر ، عن عمر (٤) ، عن فضيل بن خديج ، عن مولي الأشتر قال : لما اجتمع إلى الأشتر عظم من كان انهزم من الميمنة حرضهم فقال لهم : « عضوا على النواجذ من الأضراس ، واستقبلوا القوم بهامكم ، فإن الفرار من الزحف فيه سلب العز ، والغلبة علي الفيء ، وذل المحيا والممات ، وعار الدنيا والآخرة (٥) ». ثم حمل عليهم حتى كشفهم فألحقهم بصفوف معاوية (٦) بين صلاة العصر والمغرب.

نصر ، عن عمر ، عن محمد بن إسحاق ، أن عمرو بن حمية الكلبي خرج يوم صفين وهو مع معاوية يدعو للبراز.

__________________

(١) في الأصل وح : « وأطولهم » وأثبت ما في الطبري. وانظر التنبيه السادس من ص ٢٤١.

(٢) في الأصل : « ورأى » وفي ح : « رأى الأشتر يومئذ منقذا وحميرا ابنا قيس » تحريف ، صوابه من الطبري.

(٣) بنو ناعط : قبيلة في اليمن. انظر الاشتقاق ٢٥١. وفي الأصل : « البعطبان » ح ( ١ : ٤٨٨ ) : « اليقظيان » والأشبه ما أثبت من الطبري.

(٤) ح : « عمرو ».

(٥) الخطبة في تاريخ الطبري ( ٦ : ١٢ ) مسهبة.

(٦) ح : « بمضارب معاوية ».

٢٥٥

نصر ، عن عمر (١) ، عن مالك بن أعين ، عن زيد بن وهب ، أن عليا لما رأى ميمنته قد عادت إلى موقفها ومصافها وكشف من بإزائها حتى ضاربوهم في مواقفهم ومراكزهم ، أقبل حتى انته إليهم فقال : إني قد رأيت جولتكم وانحيازكم عن صفوفكم ، يحوزكم (٢) الجفاة الطغام وأعراب أهل الشام ، وأنتم لهاميم العرب ، والسنام الأعظم ، وعمار الليل بتلاوة القرآن ، وأهل دعوة الحق إذ ضل الخاطئون (٣). فلولا إقبالكم بعد إدباركم وكركم بعد انحيازكم ، وجب عليكم ما وجب على المولى يوم الزحف دبره ، وكنتم فيما أرى من الهالكين. ولقد هون علي بعض وجدي ، وشفي بعض أحاح نفسي (٤) أني رأيتكم بأخرة حزتموهم كما حازوكم ، وأزلتموهم عن مصافهم كما أزالوكم ، تحوزونهم بالسيوف ليركب أولهم آخرهم ؛ كالإبل المطردة الهيم (٥). فالآن فاصبروا ، أنزلت عليكم السكينة ، وثبتكم الله باليقين. وليعلم المنهزم أنه مسخط لربه ، وموبق نفسه ؛ وفي الفرار موجدة الله عليه ، والذل اللازم [ له ، والعار الباقي ، واعتصار الفيء من يده (٦) ] ، وفساد العيش ، وإن الفار لا يزيد الفرار في عمره ، ولا يرضى ربه. فموت الرجل محقا قبل إتيان هذه الخصال خير من الرضا بالتلبس بها (٧) والإقرار عليها.

__________________

(١) ح ( ١ : ٤٨٨ ) : « عمرو ».

(٢) يحوزكم : ينحيكم عن مراكزكم. في الأصل : « وتحززكم » صوابه في ح والطبري ( ٦ : ١٤ ). وانظر ما مضى ص ٢٣٤.

(٣) في الأصل : « إذا ضل » وأثبت ما في ح والطبري.

(٤) الأحاح ، بالضم : اشتداد الحزن والغيظ. وفي الأصل : « حاج » صوابه في الطبري. وفي ح : « لاعج ».

(٥) الهيم : العطاش. في الأصل وح : « المطرودة » وأثبت ما في الطبري.

(٦) كلمة : « له » من ح. وباقي التكملة من الطبري.

(٧) الطبري : « بالتأنيس لها ».

٢٥٦

نصر ، عن عمر [ قال : حدثنا ] أبو علقمة الخثعمي ، أن عبد الله بن حنش الخثعمي رأس خثعم مع معاوية ، أرسل إلي أبي كعب رأس خثعم مع علي : أن لو شئت لتواقفنا فلم نقتتل ، فإن ظهر صاحبك كنا معكم ، وإن ظهر صاحبنا كنتم معنا ولم يقتل بعضنا بعضا ، فأبي أبو كعب ذلك ، فلما التقت خثعم وخثعم وزحف الناس بعضهم إلي بعض ، قال رأس خثعم الشام لقومه : يا معشر خثعم ، قد عرضنا (١) على قومنا من أهل العراق الموادعة صلة لأرحامهم ، وحفظا لحقهم ، فأبوا إلا قتالنا ، فقد بدءونا بالقطيعة فكفوا أيديكم عنهم حفظا لحقهم أبدا ما كفوا عنكم ؛ فإذا قاتلوكم فقاتلوهم. فخرج رجل من أصحابه فقال : [ إنهم ] قد ردوا عليك رأيك وأقبلوا يقاتلونك. ثم برز فنادى : رجل لرجل يا أهل العراق. فغضب رأس خثعم من أهل الشام ، فقال : اللهم قيض له وهب بن مسعود ـ رجلا من خثعم من أهل الكوفة ، وقد كانوا يعرفونه في الجاهلية ، لم يبارزه رجل قط إلا قتله ـ فخرج إليه وهب بن مسعود فحمل على الشامي فقتله ، ثم اضطربوا [ ساعة ] فاقتتلوا أشد القتال ، وأخذ أبو كعب يقول لأصحابه : يا معشر خثعم : خدموا (٢). وأخذ صاحب الشام يقول : يا أبا كعب ، [ الكل ] قومك فأنصف! فاشتد قتالهم ، فحمل شمر بن عبد الله الخثعمي من أهل الشام على أبي كعب رأس خثعم الكوفة فطعنه ، فقتله ، ثم انصرف يبكي ويقول : رحمك الله يا أبا كعب ، لقد قتلتك في طاعة قوم أنت أمس بي رحما منهم وأحب إلى نفسا منهم. ولكن والله ما أدرى ما أقول ، ولا أري (٣) الشيطان إلا قد فتننا ، ولا أرى قريشا إلا قد لعبت بنا. ووثب كعب بن أبي كعب

__________________

(١) في الأصل : « عرضت » ، وأثبت ما في ح.

(٢) فسره ابن أبي الحديد في ( ١ : ٤٨٩ ) بقوله : « أي اضربوا موضع الخدمة وهي الخلخال. يعني اضربوهم في سوقهم ».

(٣) في الأصل : « أدري » ، صوابه في ح.

٢٥٧

إلى راية أبيه فأخذها ، ففقئت عينه وصرع ، ثم أخذها شريح بن مالك فقاتل القوم تحتها ، حتى صرع منهم حول رايتهم ثمانون رجلا ، وأصيب من خثعم الشام نحو منهم. ثم إن شريح بن مالك ردها بعد ذلك إلى كعب بن أبي كعب.

نصر ، عن عمرو (١) ، عن عبد السلام بن عبد الله بن جابر (٢) ، أن راية بجيلة في صفين كانت في أحمس مع أبي شداد ـ وهو قيس بن مكشوح بن هلال بن الحارث بن عمرو بن عامر (٣) بن علي بن أسلم بن أحمس بن الغوث بن أنمار. فقالت له بجيلة : خذ رايتنا. فقال : غيري خير لكم مني. قالوا : ما نريد غيرك. قال : فوالله لئن أعطيتمونيها لا أنتهى (٤) بكم دون صاحب الترس المذهب ـ قال : وعلى رأس معاوية رجل قائم معه ترس مذهب ، يستره من الشمس ـ قالوا : اصنع ما شئت. فأخذها ثم زحف وهو يقول :

إن عليا ذو أناة صارم

جلد إذا ما حضر العزائم

لما رأى ما تفعل الأشائم

قام له الذروة والأكارم

الأشيبان مالك وهاشم

ثم زحف بالراية حتى انتهى إلى صاحب الترس المذهب ، وكان في خيل عظيمة من أصحاب معاوية ـ وذكروا أنه عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ـ قال : فاقتتل الناس هنالك قتالا شديدا. قال : وشد أبو شداد بسيفه نحو

__________________

(١) في الأصل : « عمر » ، وأثبت ما في ح.

(٢) هو عبد السلام بن عبد الله بن جابر الأحمسي ، كما في الطبري. ذكره في لسان الميزان ( ٤ : ١٣ ) وقال : إنه روي عن أبيه. وذكر في ترجمة أبيه أنه لم يرو عنه إلا ابنه. انظر ( ٣ : ٢٦٥ ). وفي الأصل : « عبد السلام بن عبد الله عن جابر » وكلمة « عن » محرفة.

(٣) في ح : « بن عمرو بن عوف بن عامر » ، وما أثبت من الأصل يطابق ما في الإصابة ٧٣٠٧. وفي تاريخ الطبري : « بن عمرو بن جابر ».

(٤) في الأصل : « لانتهى » صوابه في ح.

٢٥٨

صاحب الترس ، فتعرض له رومى من دونه لمعاوية ، فضرب قدم أبي شداد فقطعها وضربه أبو شداد فقتله ، وأشرعت إليه الأسنة فقتل ، وأخذ الراية عبد الله بن قلع الأحمسي وهو يقول :

لا يبعد الله أبا شداد

حيث أجاب دعوة المنادى

وشد بالسيف على الأعادي

نعم الفتى كان لدى الطراد

وفي طعان الخيل والجلاد

ثم قاتل حتى قتل ، ثم أخذ الراية أخوه عبد الرحمن بن قلع فقاتل فقتل ، ثم أخذها عفيف بن إياس [ الأحمسي ] ، فلم تزل بيده حتى تحاجز الناس.

[ قال نصر ] : و [ حدثنا عمرو قال : حدثنا عبد السلام قال ] : قتل حازم بن أبي حازم ، أخو قيس بن أبي حازم ، يومئذ ، وقتل نعيم بن صهيب بن العلية [ البجلي (١) ] ، فأتى ابن عمه وسميه نعيم بن الحارث بن العلية (٢) معاوية ـ وكان معه ـ فقال : إن هذا القتيل ابن عمى فهبه لي أدفنه. فقال : لا تدفنهم فليسوا أهلا لذلك ، فوالله ما قدرنا (٣) على دفن عثمان معهم إلا سرا. قال : والله لتأذنن لي في دفنه أو لا لحقن بهم ولأدعنك. فقال له معاوية : [ ويحك ] ترى أشياخ العرب لا نواريهم (٤) وأنت تسألني دفن ابن عمك؟ ثم قال له : ادفنه إن شئت أو دع (٥). فأتاه فدفنه.

نصر ، عن عمر (٦) ، عن أبي زهير العبسي ، عن النضر بن صالح أن راية

__________________

(١) في الأصل : « نعيم بن سهيل بن الثعلبة » وأثبت ما في الطبري مع هذه التكملة. وفي ح ( ١ : ٤٨٩ ) : « نعيم بن شهد بن التغلبية ».

(٢) في الأصل : « الثعلبة » وفي ح : « الثعلبية » وأثبت ما في الطبري.

(٣) في الأصل : « ما قدر » وأثبت ما في ح والطبري.

(٤) ح : « ترى أشياخ العرب قد أجالتهم أمورهم ».

(٥) في الأصل وح : « أودعه » وأثبت ما في الطبري.

(٦) ح : « عمرو ».

٢٥٩

غطفان العراق كانت مع عياش بن شريك بن حارثة بن جندب (١) بن زيد بن خلف بن رواحة ، قال : فخرج رجل من آل ذي الكلاع يسأل المبارزة فبرز إليه قائد بن بكير العبسي ، فبارزه فشد عليه الكلاعي فأوهطه (٢) ، فخرج إليه عياش بن شريك أبو سليم فقال لقومه : أنا مبارز الرجل ، فإن أصيب فرأسكم الأسود بن حبيب بن جمانة (٣) بن قيس بن زهير ، فإن قتل فرأسكم هرم بن شتير (٤) بن عمرو بن جندب ، فإن قتل فرأسكم عبد الله بن ضرار من بني حنظلة بن رواحة. ثم مشى نحو الكلاعي فلحقه هرم بن شتير (٤) فأخذ بظهره فقال : ليمسك رحم (٥) ، لا تبرز لهذا الطوال! قال : هبلتك الهبول (٦) ، وهل هو إلا الموت. قال : وهل يفر إلا منه؟! قال : وهل منه بد؟ قال : والله لأفتلنه أو ليلحقني (٧) بقائد بن بكير. فبرز له ومعه حجفة له من جلود الإبل ، فدنا منه فنظر عياش بن شريك فإذا الحديد عليه مفرغ لا يرى منه عورة (٨) إلا مثل شرائك النعل من عنقه بين بيضته ودرعه ، فضربه الكلاعي فقطع حجفته إلا نحوا من شبر ، ويضر به عياش على ذلك الموضع (٩) فقطع نخاعه ، وخرج ابن الكلاعي ثائرا بأبيه ، فقتله بكير بن وائل.

__________________

(١) في الأصل : « بن جارية بن جنيدب » وأثبت ما في ح.

(٢) أوهطه : صرعه صرعة لا يقوم منها.

(٣) في الأصل : « الأسعد بن حبيب بن حمامة » وأثبت ما في ح.

(٤) في الأصل : « هرم بن شبير » وأثبت ما في ح.

(٥) الرحم : القرابة ، كأنه يتوسل إليه بحق القرابة. ح : « لتمسك » بالتاء.

(٦) في اللسان : « وفي حديث علي : هبلتهم الهبول. أي ثكلتهم الثكول ، وهي بفتح الهاء من النساء التي لا يبقى لها ولد ».

(٧) في الأصل : « ليقتلني أو ليلحقن » صوابه في ح ( ١ : ٤٨٩ ).

(٨) ح : « لا يبين من نحره ».

(٩) أي في الموضع الذي كانا فيه. وفي الأصل : « وضربه عياش على ذلك المكان ».

٢٦٠