أضواء على عقائد الشيعة الإماميّة وتأريخهم

الشيخ جعفر السبحاني

أضواء على عقائد الشيعة الإماميّة وتأريخهم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6293-80-8
الصفحات: ٧٧٤

مأكولاً ولا ملبوساً اقتداءً بأئمّتهم ، على أنّ ما رواه أهل السنّة في المقام ، يدعم نظريّة الشيعة ، وسيظهر لك فيما سيأتي من سرد الأحاديث من طرقهم ، ويتّضح أنّ السنّة كانت هي السجود على الأرض ، ثمّ جاءت الرخصة في الحصر والبواري فقط ، ولم يثبت الترخيص الآخر بل ثبت المنع عنه كما سيوافيك.

٢ ـ الفرق بين المسجود له والمسجود عليه

كثيراً ما يتصوّر أنّ الالتزام بالسجود على الأرض أو ما أنبتت منها بدعة ، ويتخيّل الحجر المسجود عليه وثناً ، وهؤلاء هم الذين لا يفرّقون بين المسجود له ، والمسجود عليه ، ويزعمون أنّ الحجر أو التربة الموضوعة أمام المصلّي وثناً يعبده المصلّي بوضع الجبهة عليه. ولكن لا عتب على الشيعة إذا قصر فهم المخالف ، ولم يفرّق بين الأمرين ، وزعم المسجود عليه مسجوداً له ، وقاس أمر الموحّد بأمر المشرك بحجّة المشاركة في الظاهر ، فأخذ بالصور والظواهر ، مع أنّ الملاك هو الأخذ بالبواطن والضمائر ، فالوثن عند الوثني معبود ومسجود له يضعه أمامه ويركع ويسجد له ، ولكن الموحّد الذي يريد أن يصلّي في إظهار العبودية إلى نهاية مراتبها ، يخضع لله سبحانه ويسجد له ، ويضع جبهته ووجهه على التراب والحجر والرمال والحصى ، مظهراً بذلك مساواته معها عند التقييم قائلاً : أين التراب وربّ الأرباب.

نعم ؛ الساجد على التربة غير عابد لها ، بل يتذلّل إلى ربّه بالسجود عليها ، ومن توهّم عكس ذلك فهو من البلاهة بمكان ، وسيؤدّي إلى إرباك كلّ المصلين والحكم بإشراكهم ، فمن يسجد على الفرش والقماش وغيره لا بدّ أن يكون عابداً لها على هذا المنوال ، فيا للعجب العجاب!!

٥٠١

٣ ـ السنّة في السجود في عصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعده

إنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وصحبه كانوا ملتزمين بالسجود على الأرض مدّة لا يستهان بها ، متحمّلين شدّة الرمضاء ، وغبار التراب ، ورطوبة الطين ، طيلة أعوام. ولم يسجد أحد يوم ذاك على الثوب وكور العمامة ، بل ولا على الحصر والبواري والخمر ، وأقصى ما كان عندهم لرفع الأذى عن الجبهة ، هو تبريد الحصى بأكفّهم ثمّ السجود عليها ، وقد شكا بعضهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من شدّة الحرّ ، فلم يجبه ؛ إذ لم يكن له أن يبدل الأمر الإلهي من تلقاء نفسه ، إلى أن وردت الرخصة بالسجود على الخمر والحصر ، فوسع الأمر للمسلمين لكن في إطار محدود ، وعلى ضوء هذا فقد مرّت في ذلك الوقت على المسلمين مرحلتان لا غير :

١ ـ ما كان الواجب فيها على المسلمين السجود على الأرض بأنواعها المختلفة من التراب والرمل والحصى والطين ، ولم تكن هناك أيّة رخصة.

٢ ـ المرحلة التي ورد فيها الرخصة بالسجود على نبات الأرض من الحصى والبواري والخمر ، تسهيلاً للأمر ، ورفعاً للحرج والمشقّة ، ولم تكن هناك أيّة مرحلة أُخرى توسع الأمر للمسلمين أكثر من ذلك كما يدّعيه البعض ، وإليك البيان :

المرحلة الاولى : السجود على الأرض :

١ ـ روى الفريقان عن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» (١).

__________________

(١) صحيح البخاري ١ : ٩١ كتاب التيمّم الحديث ٢ ، سنن البيهقي ٢ : ٤٣٣ باب : أينما أدركتك الصلاة فصلّ فهو مسجد ، ورواه غيرهما من أصحاب الصحاح والسنن.

٥٠٢

والمتبادر من الحديث أنّ كلّ جزء من الأرض مسجد وطهور يُسجد عليه ويُقصد للتيمّم ، وعلى ذلك فالأرض تقصد للجهتين : للسجود تارةً ، وللتيمّم أُخرى.

وأمّا تفسير الرواية بأنّ العبادة والسجود لله سبحانه لا يختصّ بمكان دون مكان ، بل الأرض كلّها مسجد للمسلمين بخلاف غيرهم ؛ حيث خصّوا العبادة بالبِيَع والكنائس ، فهذا المعنى ليس مغايراً لما ذكرناه ؛ فإنّه إذا كانت الأرض على وجه الإطلاق مسجداً للمصلّي فيكون لازمه كون الأرض كلّها صالحة للعبادة ، فما ذكر معنى التزامي لما ذكرناه ، ويعرب عن كونه المراد ذكر «طهوراً» بعد «مسجداً» وجعلهما مفعولين ل «جُعلت» والنتيجة هو توصيف الأرض بوصفين : كونها مسجداً ، وكونها طهوراً ، وهذا هو الذي فهمه الجصّاص وقال : إنّ ما جعله من الأرض مسجداً هو الذي جعله طهوراً (١).

ومثله غيره من شرّاح الحديث.

تبريد الحصى للسجود عليها :

٢ ـ عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : كنت أُصلّي مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الظهر ، فآخذ قبضة من الحصى ، فأجعلها في كفّي ثمّ أُحوّلها إلى الكفّ الأُخرى حتّى تبرد ثمّ أضعها لجبيني ، حتّى أسجد عليها من شدّة الحرّ (٢).

وعلّق عليه البيهقي بقوله : قال الشيخ : ولو جاز السجود على ثوب متّصل به لكان ذلك أسهل من تبريد الحصى بالكفّ ووضعها للسجود (٣).

ونقول : ولو كان السجود على مطلق الثياب سواء كان متصلاً أم منفصلاً جائزاً

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص ٢ : ٣٨٩ ط بيروت.

(٢) مسند أحمد ٣ : ٣٢٧ عن جابر ، سنن البيهقي ١ : ٤٣٩ باب ما روي في التعجيل بها في شدّة الحرّ.

(٣) سنن البيهقي ٢ : ١٠٥.

٥٠٣

لكان أسهل من تبريد الحصى ، ولأمكن حمل منديل أو ما شابه للسجود عليه.

٣ ـ روى أنس قال : كنّا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في شدّة الحرّ فيأخذ أحدنا الحصباء في يده ، فإذا برد وضعه وسجد عليه (١).

٤ ـ عن خباب بن الأرت قال : شكونا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شدّة الرمضاء في جباهنا وأكفّنا ، فلم يشكّنا (٢).

قال ابن الأثير في معنى الحديث : إنّهم لمّا شكوا إليه ما يجدون من ذلك لم يفسح لهم أن يسجدوا على طرف ثيابهم (٣).

هذه المأثورات تعرب عن أنّ السنّة في الصلاة كانت جارية على السجود على الأرض فقط ، حتّى أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يفسح للمسلمين العدول عنها إلى الثياب المتّصلة أو المنفصلة ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله مع كونه بالمؤمنين رءوفاً رحيماً أوجب عليهم مسّ جباههم الأرض ، وإن آذتهم شدّة الحرّ.

والذي يعرب عن التزام المسلمين بالسجود على الأرض ، وعن إصرار النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بوضع الجبهة عليها لا على الثياب المتّصلة ككور العمامة أو المنفصلة كالمناديل والسجاجيد ، ما روي من حديث الأمر بالتتريب في غير واحد من الروايات.

الأمر بالتتريب :

٥ ـ عن خالد الجهني : قال : رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله صهيباً يسجد كأنّه يتّقي التراب فقال له : «ترّب وجهك يا صهيب» (٤).

__________________

(١) السنن الكبرى ٢ : ١٠٦.

(٢) سنن البيهقي ٢ : ١٠٥ باب الكشف عن الجبهة.

(٣) ابن الأثير ، النهاية ٢ : ٤٩٧ مادة «شكا».

(٤) المتّقي الهندي ، كنز العمال ٧ : ٤٦٥ / ١٩٨١٠.

٥٠٤

٦ ـ والظاهر أنّ صهيباً كان يتّقي عن التتريب بالسجود على الثوب المتّصل والمنفصل ، ولا أقلّ بالسجود على الحصر والبواري والأحجار الصافية ، وعلى كلّ تقدير ؛ فالحديث شاهد على أفضليّة السجود على التراب في مقابل السجود على الحصى ؛ لما دلّ من جواز السجدة على الحصى في مقابل السجود على غير الأرض.

٧ ـ روت أُمّ سلمة ـ رضي الله عنها ـ : رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله غلاماً لنا يقال له أفلح ينفخ إذا سجد ، فقال : «يا أفلح ترّب» (١).

٨ ـ وفي رواية : «يا رباح ترّب وجهك» (٢).

٩ ـ روى أبو صالح قال : دخلت على أُمّ سلمة ، فدخل عليها ابن أخ لها فصلّى في بيتها ركعتين ، فلمّا سجد نفخ التراب ، فقالت أُمّ سلمة : ابن أخي لا تنفخ ؛ فإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول لغلام له يقال له يسار ـ ونفخ ـ : «ترّب وجهك لله» (٣).

الأمر بحسر العمامة عن الجبهة :

١٠ ـ روي : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا سجد رفع العمامة عن جبهته (٤).

١١ ـ روي عن عليّ أمير المؤمنين أنّه قال : «إذا كان أحدكم يصلّي فليحسر العمامة عن وجهه» ، يعني حتّى لا يسجد على كور العمامة (٥).

١٢ ـ روي عن صالح بن حيوان السبائي : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى رجلاً يسجد بجنبه وقد اعتمّ على جبهته فحسر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن جبهته (٦).

__________________

(١) المتّقي الهندي ، كنز العمال ٧ : ٤٥٩ / ١٩٧٧٦.

(٢) المصدر نفسه / ١٩٧٧٧.

(٣) كنز العمال ٧ : ٤٦٥ / ١٩٨٠٩ ؛ مسند أحمد ٦ : ٣٠١.

(٤) ابن سعد ، الطبقات الكبرى ١ : ١٥١ كما في السجود على الأرض : ٤١.

(٥) منتخب كنز العمال المطبوع في هامش المسند ٣ : ١٩٤.

(٦) البيهقي ، السنن الكبرى ٢ : ١٠٥.

٥٠٥

١٣ ـ عن عياض بن عبد الله القرشي : رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رجلاً يسجد على كور عمامته فأومأ بيده : «ارفع عمامتك» وأومأ إلى جبهته (١).

هذه الروايات تكشف عن أنّه لم يكن للمسلمين يوم ذاك تكليف إلّا السجود على الأرض ، ولم يكن هناك أيّ رخصة سوى تبريد الحصى ، ولو كان هناك ترخيص لما فعلوا ذلك ، ولما أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتتريب ، وحسر العمامة عن الجبهة.

المرحلة الثانية : الترخيص في السجود على الخمر والحصر :

هذه الأحاديث والمأثورات المبثوثة في الصحاح والمسانيد وسائر كتب الحديث تعرب عن التزام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه بالسجود على الأرض بأنواعها ، وأنّهم كانوا لا يعدلون عنه ، وإن صعب الأمر واشتدّ الحرّ ، لكن هناك نصوصاً تعرب عن ترخيص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بإيحاء من الله سبحانه إليه ـ السجود على ما أنبتت الأرض ، فسهّل لهم بذلك أمر السجود ، ورفع عنهم الإصر والمشقّة في الحرّ والبرد ، وفيما إذا كانت الأرض مبتلّة ، وإليك تلك النصوص :

١ ـ عن أنس بن مالك قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلّي على الخمرة (٢).

٢ ـ عن ابن عباس : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلّي على الخمرة ، وفي لفظ : وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلّي على الخمرة (٣).

٣ ـ عن عائشة : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلّي على الخمرة (٤).

٤ ـ عن أُمّ سلمة : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلّي على الخمرة (٥).

__________________

(١) البيهقي ، السنن الكبرى ٢ : ١٠٥.

(٢) أبو نعيم الاصفهاني ، أخبار اصبهان ٢ : ١٤١.

(٣) مسند أحمد ١ : ٢٦٩ ، ٣٠٣ ، ٣٠٩ و ٣٥٨.

(٤) المصدر نفسه ٦ : ١٧٩ وفيه أيضاً قال للجارية وهو في المسجد : ناوليني الخمرة.

(٥) المصدر نفسه : ٣٠٢.

٥٠٦

٥ ـ عن ميمونة : ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلّي على الخمرة فيسجد (١).

٦ ـ عن أُمّ سليم قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلّي على الخمرة (٢).

٧ ـ عن عبد الله بن عمر : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلّي على الخمر (٣).

المرحلة الثالثة : السجود على الثياب لعذر :

قد عرفت المرحلتين الماضيتين ، ولو كان هناك مرحلة ثالثة فإنّما مرحلة جواز السجود على غير الأرض وما ينبت منها لعذر وضرورة. ويبدو أنّ هذا الترخيص جاء متأخّراً عن المرحلتين لما عرفت أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يُجب شكوى الأصحاب من شدّة الحرّ والرمضاء ، وراح هو وأصحابه يسجدون على الأرض متحمّلين الحرّ والأذى ، ولكنّ الباري عزّ اسمه رخّص لرفع الحرج السجود على الثياب لعذر وضرورة ، وإليك ما ورد في هذا المقام.

١ ـ عن أنس بن مالك : كنّا إذا صلّينا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يستطع أحدنا أن يمكّن جبهته من الأرض ، طرح ثوبه ثمّ سجد عليه.

٢ ـ وفي صحيح البخاري : كنّا نصلّي مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيضع أحدنا طرف الثوب من شدّة الحرّ ، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكّن جبهته من الأرض بسط ثوبه.

٣ ـ وفي لفظ ثالث : كنّا إذا صلّينا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيضع أحدنا طرف الثوب من شدّة الحرّ مكان السجود (٤).

وهذه الرواية التي نقلها أصحاب الصحاح والمسانيد تكشف حقيقة بعض ما روي في ذلك المجال الظاهر في جواز السجود على الثياب في حالة الاختيار أيضاً.

__________________

(١) مسند أحمد ١ : ٣٣١ ـ ٣٣٥.

(٢) المصدر نفسه : ٣٧٧.

(٣) المصدر نفسه ٢ : ٩٢ ـ ٩٨.

(٤) صحيح البخاري ١ : ١٠١ ، صحيح مسلم ٢ : ١٠٩ ، مسند أحمد ١ : ١٠٠ ، السنن الكبرى ٢ : ١٠٦.

٥٠٧

وذلك لأنّ رواية أنس نصّ في اختصاص الجواز على حالة الضرورة ، فتكون قرينة على المراد من هذه المطلقات ، وإليك بعض ما روي في هذا المجال :

١ ـ عبد الله بن محرز عن أبي هريرة : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلّي على كور عمامته (١).

إنّ هذه الرواية مع أنّها معارضة لما مرّ من نهي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن السجود عليه ، محمولة على العذر والضرورة ، وقد صرّح بذلك الشيخ البيهقي في سننه ، حيث قال : قال الشيخ : «وأمّا ما روي في ذلك عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من السجود على كور العمامة فلا يثبت شيء من ذلك ، وأصحّ ما روي في ذلك قول الحسن البصري حكاية عن أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

وقد روي عن ابن راشد قال : «رأيت مكحولاً يسجد على عمامته فقلت : لما تسجد عليها؟ قال أتّقي البرد على أسناني» (٣).

٢ ـ ما روي عن أنس : «كنّا نصلّي مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيسجد أحدنا على ثوبه» (٤).

والرواية محمولة على صورة العذر بقرينة ما رويناه عنه ، وبما رواه عنه البخاري : «كنّا نصلّي مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في شدّة الحرّ ، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكّن وجهه من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه» (٥).

ويؤيّده ما رواه النسائي أيضاً : «كنّا إذا صلّينا خلف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالظهائر سجدنا على ثيابنا اتّقاء الحرّ» (٦).

وهناك روايات قاصرة الدلالة حيث لا تدلّ إلّا على أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله صلّى على

__________________

(١) كنز العمال ٨ : ١٣٠ / ٢٢٢٣٨.

(٢) السنن الكبرى ٢ : ١٠٦.

(٣) المصنّف لعبد الرزاق ١ : ٤٠٠ كما في سيرتنا وسنّتنا ، والسجدة على التربة : ٩٣.

(٤) السنن الكبرى ٢ : ١٠٦ ، باب من بسط ثوباً فسجد عليه.

(٥) البخاري ٢ : ٦٤ كتاب الصلاة باب بسط الثوب في الصلاة للسجود.

(٦) ابن الأثير ، الجامع للأُصول ٥ : ٤٦٨ / ٣٦٦٠.

٥٠٨

الفرو. وأمّا أنّه سجد عليه فلا دلالة لها عليه.

٣ ـ عن المغيرة بن شعبة : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلّي على الحصير والفرو المدبوغة (١).

والرواية مع كونها ضعيفة بيونس بن الحرث ، ليست ظاهرة في السجود عليه. ولا ملازمة بين الصلاة على الفرو والسجدة عليه ، ولعلّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وضع جبهته على الأرض أو ما ينبت منها. وعلى فرض الملازمة لا تقاوم هي وما في معناها ما سردناه من الروايات في المرحلتين الماضيتين.

حصيلة البحث

إنّ المتأمّل في الروايات يجد وبدون لبس أنّ قضيّة السجود في الصلاة مرّت بمرحلتين أو ثلاث مراحل ؛ ففي المرحلة الأُولى كان الفرض السجود على الأرض ولم يرخّص للمسلمين السجود على غيرها ، وفي الثانية جاء الترخيص فيما تنبته الأرض ، وليست وراء هاتين المرحلتين مرحلة أُخرى إلّا جواز السجود على الثياب لعذر وضرورة ، فما يظهر من بعض الروايات من جواز السجود على الفرو وأمثاله مطلقاً فمحمولة على الضرورة ، أو لا دلالة لها على السجود عليها ، بل غايتها الصلاة عليها.

ومن هنا فإنّ ما يظهر بوضوح أنّ ما التزمت به الشيعة هو عين ما جاءت به السنّة النبويّة ، ولم تنحرف عنه قيد أُنملة ، ولعلّ الفقهاء هم أدرى بذلك من غيرهم ، لأنّهم الأُمناء على الرسالة والأدلّاء في طريق الشريعة ، ونحن ندعو إلى برهة من التأمّل لإحقاق الحقّ وتجاوز البدع.

__________________

(١) أبو داود ، السنن باب ما جاء في الصلاة على الخمرة / ٣٣١.

٥٠٩

ما هو السرّ في اتّخاذ تربة طاهرة؟

بقي هنا سؤال يطرحه كثيراً إخواننا أهل السنّة حول سبب اتّخاذ الشيعة تربة طاهرة في السفر والحضر والسجود عليها دون غيرها. وربّما يتخيّل البسطاء ـ كما ذكرنا سابقاً ـ أنّ الشيعة يسجدون لها لا عليها ، ويعبدون الحجر والتربة ، وذلك لأنّ هؤلاء المساكين لا يفرّقون بين السجود على التربة ، والسجود لها.

وعلى أيّ تقدير فالإجابة عنها واضحة ، فإنّ المستحسن عند الشيعة هو اتّخاذ تربة طاهرة طيّبة ليتيقن من طهارتها ، من أيّ أرض أُخذت ، ومن أيّ صقع من أرجاء العالم كانت ، وهي كلّها في ذلك سواء.

وليس هذا الالتزام إلّا مثل التزام المصلّي بطهارة جسده وملبسه ومصلّاه ، وأمّا سرّ الالتزام في اتّخاذ التربة هو أنّ الثقة بطهارة كلّ أرض يحلّ بها ، ويتّخذها مسجداً ، لا تتأتّى له في كلّ موضع من المواضع التي يرتادها المسلم في حلّه وترحاله ، بل وأنّى له ذلك وهذه الأماكن ترتادها أصناف مختلفة من البشر ، مسلمين كانوا أم غيرهم ، ملتزمين بأُصول الطهارة أم غير ذلك ، وفي ذلك محنة كبيرة تواجه المسلم في صلاته لا يجد مناصاً من أن يتّخذ لنفسه تربة طاهرة يطمئنّ بها وبطهارتها يسجد عليها لدى صلاته حذراً من السجدة على الرجاسة والنجاسة ، والأوساخ التي لا يتقرّب بها إلى الله قطّ ولا تجوّز السنّة السجود عليها ولا يقبله العقل السليم ، خصوصاً بعد ورود التأكيد التام البالغ في طهارة أعضاء المصلّي ولباسه والنهي عن الصلاة في مواطن منها :

١ ـ المزبلة ، والمجزرة ، وقارعة الطريق ، والحمّام ، ومعاطن الإبل ، بل والأمر بتطهير المساجد وتطييبها (١).

وهذه القاعدة كانت ثابتة عند السلف الصالح وإن غفل التاريخ عن نقلها ، فقد

__________________

(١) العلّامة الأميني ، سيرتنا وسنّتنا : ١٣٥ ، المطبعة الحيدريّة.

٥١٠

روي : أنّ التابعي الفقيه مسروق بن الأجدع (ت ٦٢ ه‍) كان يصحب في أسفاره لبنة من المدينة يسجد عليها. كما أخرجه ابن أبي شيبة في كتابه المصنّف ، باب من كان حمل في السفينة شيئاً يسجد عليه. فأخرج بإسنادين أنّ مسروقاً كان إذا سافر حمل معه في السفينة لبنة يسجد عليها (١).

إلى هنا تبيّن أنّ التزام الشيعة باتّخاذ التربة مسجداً ليس إلّا تسهيل الأمر للمصلّي في سفره وحضره خوفاً من أن لا يجد أرضاً طاهرة أو حصيراً طاهراً فيصعب الأمر عليه ، وهذا كادّخار المسلم تربة طاهرة لغاية التيمّم عليها.

وأمّا السرّ في التزام الشيعة استحباباً بالسجود على التربة الحسينية ، فإنّ من الأغراض العالية والمقاصد السامية منها ، أن يتذكّر المصلّي حين يضع جبهته على تلك التربة ، تضحية ذلك الإمام بنفسه وأهل بيته والصفوة من أصحابه في سبيل العقيدة والمبدأ ومقارعة الجور والفساد.

ولمّا كان السجود أعظم أركان الصلاة ، وفي الحديث «أقرب ما يكون العبد إلى ربّه حال سجوده» فيناسب أن يتذكّر بوضع جبهته على تلك التربة الزاكية ، أُولئك الذين جعلوا أجسامهم ضحايا للحقّ ، وارتفعت أرواحهم إلى الملأ الأعلى ، ليخشع ويخضع ويتلازم الوضع والرفع ، وتحتقر هذه الدنيا الزائفة ، وزخارفها الزائلة ، ولعلّ هذا هو المقصود من أنّ السجود عليها يخرق الحجب السبع كما في الخبر ، فيكون حينئذ في السجود سرّ الصعود والعروج من التراب إلى ربّ الأرباب (٢).

وقال العلّامة الأميني : نحن نتّخذ من تربة كربلاء قطعاً لمعاً ، وأقراصاً نسجد عليها كما كان فقيه السلف مسروق بن الأجدع يحمل معه لبنة من تربة المدينة المنوّرة يسجد عليها ، والرجل تلميذ الخلافة الراشدة ، فقيه المدينة ، ومعلّم السنّة

__________________

(١) أبو بكر بن أبي شيبة ، المصنف ١ : ٤٠٠ كما في السجدة على التربة : ٩٣.

(٢) الأرض والتربة الحسينية : ٢٤.

٥١١

بها ، وحاشاه من البدعة. فليس في ذلك أيّ حزازة وتعسّف أو شيء يضادّ نداء القرآن الكريم أو يخالف سنّة الله وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله أو خروج من حكم العقل والاعتبار.

وليس اتّخاذ تربة كربلاء مسجداً لدى الشيعة من الفرض المحتّم ، ولا من واجب الشرع والدين ، ولا ممّا ألزمه المذهب ، ولا يفرق أيّ أحد منهم منذ أوّل يومها بينها وبين غيرها من تراب جميع الأرض في جواز السجود عليها خلاف ما يزعمه الجاهل بهم وبآرائهم ، وإن هو عندهم إلّا استحسان عقلي ليس إلّا ، واختياراً لما هو الأولى بالسجود لدى العقل والمنطق والاعتبار فحسب كما سمعت ، وكثير من رجال المذهب يتّخذون معهم في أسفارهم غير تربة كربلاء ممّا يصحّ السجود عليه كحصير طاهر نظيف يوثق بطهارته أو خمرة مثله ويسجدون عليه في صلواتهم (١).

هذا إلمام إجمالي بهذه المسألة الفقهية والتفصيل موكول إلى محلّه ، وقد أغنانا عن ذلك ما سطّره أعلام العصر وأكابره ، وأخص بالذكر منهم.

١ ـ المصلح الكبير الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء (١٢٩٥ ـ ١٣٧٣ ه‍) في كتابه «الأرض والتربة الحسينية».

٢ ـ العلّامة الكبير الشيخ عبد الحسين الأميني مؤلّف الغدير (١٣٢٠ ـ ١٣٩٠ ه‍) فقد دوّن رسالة في هذا الموضوع طبعت في آخر كتابه «سيرتنا وسنّتنا».

٣ ـ السجود على الأرض للعلّامة الشيخ عليّ الأحمدي ـ دام عزّه ـ فقد أجاد في التتبّع والتحقيق.

وما ذكرنا في هذه المسألة اقتباس من أنوار علومهم. رحم الله الماضين من علمائنا وحفظ الله الباقين منهم.

__________________

(١) العلّامة الأميني ، سيرتنا وسنّتنا : ١٤٢ ، المطبعة الحيدرية.

٥١٢

المسألة الحادية عشرة :

عدالة الصحابة كلّهم

صحابة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هم المسلمون الأوائل الذين رأوا النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وتشرّفوا بكرامة الصحبة ، وتحمّلوا جانباً مهمّاً في عملية نشر الدعوة الإسلامية ، وبذل جمع منهم النفس والنفيس في نشر الإسلام ، حتّى امتدّ إلى أقاصي المعمورة فأقاموا أُسسه ، وشادوا بنيانه ، ورفعوا قواعده بجهادهم المتواصل ، وبلغوا ذروة المجد باستسهال المصاعب ، فلولا بريق سيوفهم ، وقوّة سواعدهم ، وخوضهم عباب المنايا ، لما قام للدين عمود ، ولا اخضرّ له عود.

ولمّا كان الكتاب والسنّة هما المصدرين الرئيسيين عند المسلمين جميعاً ، والشيعة منهم ، وبهدي نورهما يسترشد في استشراف الحقائق الثابتة التي لا غبار عليها ، فإنّ التأمل في هذين المصدرين الغدقين يبيّن مدى فضل أُولئك ومنزلتهم في الإسلام.

ولعلّ المتأمل في الكتاب والسنّة يجد مدى ما يحفى به الصحابة الصادقون من ثناء وتكريم ، ومن تلا آيات الذكر الحكيم حول المهاجرين والذين اتّبعوهم بإحسان ، لا يملك نفسه إلّا أن يغبط منزلتهم وعلوّ شأنهم ، بل ويتمنّى من صميم

٥١٣

قلبه أن يكون أحدهم ويدرك شأنهم ، ومن استمع للآيات النازلة في الذين بايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تحت الشجرة أو أصحاب سورة الفتح (١) فلا بد أن تفيض عيناه دمعاً ويرتعش قلبه شوقاً نحو تلك الثلّة المؤمنة التي صدقت ما عاهدت الله عليه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فإذا كان هذا حال الصحابة في الذكر الحكيم فكيف يتجرّأ مسلم على تكفير الصحابة ورميهم بالردّة والزندقة أو تفسيقهم جميعاً؟ (سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ).

وكيف يستطيع أن يصوّر دعوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ضئيلة الفائدة أو يتّهمه بعدم النجاح في هداية قومه وإرشاد أُمّته ، وأنّه لم يؤمن به إلّا شرذمة قليلة لا يتجاوزون عدد الأصابع ، وأنّ ما سواهم كانوا بين منافق ستر كفره بالتظاهر بالإيمان ، أو مرتدّ على عقبيه القهقرى بعد رحلة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

كيف يجوز لمسلم أن يصف دعوته ويقول : إنّه لم يهتد ولم يثبت على الإسلام بعد مرور (٢٣) عاماً من الدعوة إلّا ثلاثة أو سبعة أو عشرة. إنّ هذا ليس إلّا هراء وكذب رخيص لا تقبله العقول.

والأنكى من ذلك كلّه أن يُرمى الشيعة بهذا التقوّل الممجوج ، وأن تجد من يصدّق ذلك ويرتّب على أساسه مواقف وآراء ، وإنّا نسأل أُولئك عن هذا فنقول لهم : أيّ شيعي واع ادّعى ذلك؟ ومتى قال؟ وأين ذكره؟ إنّ الشيعة بريئة من هذه التخرّصات ، وما هذه الحكايات السقيمة إلّا جزءاً من الدعايات الفارغة ضدّ الشيعة والتي أثارها الأمويّون في أعصارهم ، ليسقطوا الشيعة من عيون المسلمين ، وتلقّفتها أقلام المستأجرين لتمزيق الوحدة الإسلامية ، وفصم عرى الأُخوّة. وترى تلك الفرية في هذه الأيام في كتيّب نشره الكاتب أبو الحسن الندوي أسماه

__________________

(١) لاحظ الآيتين ١٨ و ٢٩ من سورة الفتح ، ففيهما إشارة واضحة إلى ما تحدّثنا عنه.

٥١٤

ب «صورتان متعارضتان». وهو يجترّ ذلك مرّة بعد أُخرى ، وما يريد من ذلك إلّا زيادة الأُمّة فرقة وتمزيقاً.

نعم وردت روايات في ذلك ، ولكنّها لا تكون مصدراً للعقيدة ، ولا تتّخذ مقياساً لها ؛ لأنّها روايات آحاد لا تفيد علماً في مجال العقائد ، وستوافيك دراسة متونها وأسانيدها.

إنّا لو أحصينا المهتدين في عصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من بني هاشم لتجاوز عددهم العشرات ، بدءاً من عمّه أبي طالب ومروراً بصفيّة عمّته ، وفاطمة بنت أسد ، وبحمزة والعبّاس وجعفر وعقيل وطالب وعبيدة بن الحارث «شهيد بدر» وأبي سفيان بن الحارث ونوفل بن الحارث وجعدة بن أبي هبيرة وأولادهم وزوجاتهم ، وانتهاءً بعليّ عليه‌السلام وأولاده وبناته وزوجته فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين.

أمّا الذين استشهدوا في عهد النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فهم يتجاوزون المئات ، ولا يشكّ أيّ مسلم في أنّهم كانوا مثال المؤمنين الصادقين الذين حوّلهم الإسلام وأثّر فيهم ، فضربوا في حياتهم أروع الأمثلة في الإيمان والتوحيد والتضحية بالغالي والنفيس ، خدمة للمبدأ والعقيدة. ولعلّ الاستعراض المتعجّل لمجموع تلك الأسماء لا يملك إلّا أن يجزم بصحّة ما ذهبنا إليه من القول بمكانة أُولئك الصحابة ابتداءً بآل ياسر الذين كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول لهم وهو يسمع أنينهم تحت سياط التعذيب : «صبراً آل ياسر إنّ موعدكم الجنّة» (١) ، ومروراً بمن توفّي في مهجر الحبشة وشهداء بدر وأُحد ، وقد استشهد في معركة أُحد سبعون صحابياً كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يزورهم ويسلّم عليهم ، ثمّ شهداء سائر المعارك والغزوات ، حتّى قال النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّ سعد بن معاذ شهيد غزوة الخندق : «اهتزّ العرش لموته» ، وشهداء بئر معونة والتي يتراوح عدد الشهداء فيها بين (٤٠) حسب رواية أنس بن مالك و (٧٠)

__________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام ١ : ٣٢٠ طبعة الحلبي.

٥١٥

حسب رواية غيره ، إلى غير ذلك من الأصحاب الصادقين الأجلّاء الذين : (صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (١) ، (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (٢) ، (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) ... (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٣).

أو ليست هذه الآيات تثبت نجاح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في دعوته ، وأنّه اجتمع حوله رجال صالحون ومخلصون ، فكيف يمكن رمي مسلم يتلو الذكر الحكيم ليل نهار باعتقاده بخيبة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في دعوته وتهالكه في هداية أُمّته. إنّ الموقف الصحيح من الصحابة هو ما جاء في كلام الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام :

«أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحقّ؟ أين عمّار؟ وأين ابن التّيهان؟ وأين ذو الشهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنيّة وأُبرد برءوسهم إلى الفجرة؟ أوّه على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه وتدبّروا الفرض فأقاموه. أحيوا السنّة وأماتوا البدعة ، دُعوا للجهاد فأجابوا ، ووثقوا بالقائد فاتّبعوه» (٤).

وليس ما جاء في هذه الخطبة فريداً في كلامه ، فقد وصف أصحاب

__________________

(١) الأحزاب : ٢٣.

(٢) آل عمران : ١٧٣.

(٣) الحشر : ٨ ـ ٩.

(٤) نهج البلاغة ، الخطبة ١٨٢.

٥١٦

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم صفّين ، يوم فرض عليه الصلح بقوله :

«ولقد كنّا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا ، ما يزيدنا ذلك إلّا إيماناً وتسليماً ، ومضياً على اللقم ، وصبراً على مضض الألم ، وجدّاً في جهاد العدوّ ، ولقد كان الرجل منّا والآخر من عدوّنا يتصاولان تصاول الفحلين ، يتخالسان أنفسهما أيّهما يسقي صاحبه كأس المنون ، فمرّة لنا من عدوّنا ، ومرّة لعدوّنا منّا. فلمّا رأى الله صدقنا أنزل بعدوّنا الكبت ، وأنزل علينا النصر ، حتّى استقرّ الإسلام ملقياً جرانه ومتبوّئاً أوطانه ، ولعمري لو كنّا نأتي ما أتيتم ما قام للدين عمود ، ولا اخضرّ للإيمان عود» (١).

هذه كلمة الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام قائد الشيعة وإمامهم ، أفهل يجوز لمن يؤمن بإمامته أن يكفّر جميع صحابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو يفسّقهم أو ينسبهم إلى الزندقة والإلحاد أو الارتداد ، من دون أن يقسّمهم إلى أقسام ، ويصنّفهم أصنافاً ويذكر تقاسيم القرآن والسنّة في حقّهم!! كلّا وألف كلّا.

وهذا هو الإمام عليّ بن الحسين يذكر في بعض أدعيته صحابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقول : «اللهمّ وأصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله خاصّة الذين أحسنوا الصحبة ، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره ، وكانفوه وأسرعوا إلى وفادته ، وسابقوا إلى دعوته ، واستجابوا له حيث أسمعهم حجّة رسالاته ، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته ، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوّته ، وانتصروا به ، ومن كانوا منطوين على محبّته ، يرجون تجارة لن تبور في مودّته ، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلّقوا بعروته ، وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظلّ قرابته ، فلا تنس لهم اللهمّ ما تركوا لك وفيك ، وأرضهم من رضوانك ، وبما حاشوا الخلق عليك

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٥٦.

٥١٧

وكانوا مع رسولك دعاة لك إليك ، واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم ، وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه ، ومن كثرت في إعزاز دينك من مظلومهم.

اللهمّ وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا ...» (١).

فإذا كان الحال كذلك ، واتّفق الشيعي والسنّي على إطراء الذكر الحكيم للصحابة والثناء عليهم ، فما هو موضع الخلاف بين الطائفتين كي يعدّ ذلك من أعظم الخلاف بينهما؟

إنّ موضع الخلاف ليس إلّا في نقطة واحدة ، وهي أنّ أهل السنّة يقولون بأنّ كلّ من رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعاشره ولو يوماً أو يومين فهو محكوم بالعدالة منذ اللقاء إلى يوم أُدرج في كفنه ، ولو صدر منه قتل أو نهب أو زنا أو غير ذلك ، محتجّين بما نسب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أصحابي كالنجوم ، بأيّهم اقتديتم اهتديتم» وفي ذلك خلل كبير أعاذ الله المسلمين منه ، فالتاريخ بين أيدينا ، وصفحاته خير شاهد على ما نقول ، ونحن لا نقول كما قال الحسن البصري : «طهّر الله سيوفنا عن دمائهم ، فلنطهّر ألسنتنا» ، لأنّا لا نظنّ أنّ الحسن البصري يعتقد بما قال بل إنّه تدرّع بهذه الكلمة وصان بها نفسه عن هجمات الأمويين الذين كانوا يروّجون عدالة الصحابة في جميع الأزمنة ، بل يلبسونهم ثوب العصمة ، إلى حدّ كان القدح بالصحابي أشدّ من القدح برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنفي العصمة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله واتّهامه بالذنب قبل بعثه وبعده كان أمراً سهلاً يطرح بصورة عقيدة معقولة ولا يؤاخذ القائل به ، وأمّا من نسب صغيرة أو كبيرة إلى صحابي فأهون ما يواجهونه به هو الاستتابة وإلّا فالقتل ...

فإذا كان هذا هو محلّ النزاع ـ أي عدالة الكل بلا استثناء أو تصنيفهم إلى

__________________

(١) الصحيفة السجادية ، الدعاء ٤.

٥١٨

مؤمن أو فاسق ، ومثالي أو عادي ، إلى زاهد أو متوغّل في حبّ الدنيا ، إلى عالم بالشريعة وعامل بها أو جاهل لا يعرف منها إلّا شيئاً طفيفاً ـ فيجب تحليل المسألة على ضوء الكتاب والسنّة ، مجرّدين عن كلّ رأي مسبق ، لا يقودنا في ذلك إلّا الدليل الصحيح والحجّة الثابتة ، ولأجل إماطة الستر عن وجه الحقيقة نذكر أُموراً :

الصحابة في القرآن الكريم

١ ـ إنّ القرآن الكريم يصنّف الصحابة إلى أصناف مختلفة ؛ فهو يتكلّم عن السابقين الأوّلين ، والمبايعين تحت الشجرة ، والمهاجرين المهجّرين عن ديارهم وأموالهم ، وأصحاب الفتح ، إلى غير ذلك من الأصناف المثالية ، الذين يثني عليهم ويذكرهم بالفضل والفضيلة ، وفي مقابل ذلك يذكر أصنافاً أُخر يجب أن لا تغيب عن أذهاننا وتلك الأصناف هي التالية :

١ ـ المنافقون المعروفون (١).

٢ ـ المنافقون المتستّرون الذين لا يعرفهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

٣ ـ ضعفاء الإيمان ومرضى القلوب (٣).

٤ ـ السمّاعون لأهل الفتنة (٤).

٥ ـ المسلمون الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً (٥).

__________________

(١) المنافقون : ١.

(٢) التوبة : ١٠١.

(٣) الأحزاب : ١١.

(٤) التوبة : ٤٥ ـ ٤٧.

(٥) التوبة : ١٠٢.

٥١٩

٦ ـ المشرفون على الارتداد عند ما دارت عليهم الدوائر (١).

٧ ـ الفاسق أو الفسّاق الذين لا يصدق قولهم ولا فعلهم (٢).

٨ ـ المسلمون الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم (٣).

٩ ـ المؤلّفة قلوبهم الذين يظهرون الإسلام ويتآلفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم (٤).

١٠ ـ المولّون أمام الكفّار (٥).

هذه الأصناف إذا انضمّت إلى الأصناف المتقدّمة ، فإنّها تعرب عن أنّ صحابة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكونوا على نمط واحد ، بل كانوا مختلفين من حيث قوّة الإيمان وضعفه ، والقيام بالوظائف والتخلّي عنها ، فيجب إخضاعهم لميزان العدالة الذي توزن به أفعال جميع الناس ، وعندئذ يتحقّق أنّ الصحبة لا تعطي لصاحبها منقبة إلّا إذا كان أهلاً لها ، وتوضّح بجلاء أنّ محاولة المساواة في الفضل بين جميع الصحابة أمر فيه مجافاة صريحة للحقّ وكلمة الصدق ، وهذا ما ذهبت إليه الشيعة ، وهو نفس النتيجة التي يخرج بها الإنسان المتدبّر للقرآن الكريم.

٢ ـ إنّ الآيات التي تناولت المهاجرين والأنصار وغيرهم بالمدح والثناء ، لا تدلّ على أكثر من أنّهم كانوا حين نزول القرآن مُثلاً للفضل والفضيلة ، ولكن الأُمور إنّما تعتبر بخواتيمها ، فيحكم عليهم ـ بعد نزول الآيات ـ بالصلاح والفلاح إذا بقوا على ما كانوا عليه من الصفات ، وأمّا لو ثبت عن طريق السنّة أو التاريخ الصحيح أنّه صدر عن بعضهم ما لا تحمد عاقبته ، فحينئذ لا مندوحة لنا إلّا الحكم

__________________

(١) آل عمران : ١٥٤.

(٢) الحجرات : ٦ ، السجدة : ١٨.

(٣) الحجرات : ١٤.

(٤) التوبة : ٦٠.

(٥) الأنفال : ١٥ ـ ١٦.

٥٢٠